السبت، 19 أبريل 2014

رواية قبل وبعد - توفيق عبد الرحمن

رواية قبل وبعد
توفيق عبد الرحمن
*****
إهداء إلى أبي
(1)
الصباح

صباح كأي صباح آخر في أكتوبر.. من نافذتي، قبة السماء سوداء تماما، وفي أقصى الشرق، هناك خط رمادي. ليس على الرصيف المقابل عمارات، لكن يوجد ملعب كرة قدم للنادي النوبي العام، بابه يفتح على الشارع الجانبي، على ناصيته، المخبز الآلي، وخلفه مصنع شركة الملابس الجاهزة التي يرأسها محمد خضير، وقد كان ضابطاً في بلوكات نظام الإسماعيلية عندما حاصرها البريغادير اكسهام في يناير 52 قبل السبت الأسود.
أيامها، كنت تلميذاً في الزقازيق الثانوية، وكانت الهتافات تبح أصواتنا.. السكسون تحت النعال، السلاح السلاح يا نحاس.. رجل الساعة النحاس.. زعيم الأمة النحاس.. يسقط حلف الدول الأربع. يقف زكي خفاجي عند سلم خامسة ثالث أدبي وفي يده مدفع ستن يخطب.. "ليسكت صوت الكلام ونسمع صوت هذا"، ويطلق دفعة رصاص من مدفعه، تسري قشعريرة في جسدي يقف لها شعر رأسي.. تخرج المظاهرة من المدرسة.. جسم واحد كبير، له آلاف الأيدي الملوحة، وآلاف الحناجر التي تبح بالهتافات. عرفت في هذا الوقت المبكر أنني لن أكون بطلاً.. أخذونا للتدريب العسكري في تل بسطا، وعندما أمرنا المدرب بالانبطاح أرضاً والزحف فوق الحلفا، لم أطق خز أشواك الحلفا، فأمرني بالخروج من التشكيل ووصفني بكلمة بذيئة. الظلام يغرق أثاث الحجرة.. الدولاب البلاكار على اليمين، السرير على اليسار.. النافذة، ثم الكومودينو على يساري فوقه الراديو وعلبة الكلينكس الذي تفضل قدرية استخدامه. رائحتها في سريري.. أفكر فيها عارية تحت الدش، ورغاوي الشابو تنزلق على ثديها الأبيض الوردي وحلمتها الوردية، وتختلط بهذه الصورة صورتها وهي تفتح لي الباب ترتدي القميص الأسود بحمالات على اللحم، وثدياها الأبيضان الورديان حُرّان داخله. القميص الذي اشتريته من بورسعيد، من كشك في شارع النهضة أمام محل بنجوان، بخمسة وعشرين جنيها.
أفكر كثيراً في الجنس.. هل هذا لأني أقترب من الستين، أم لأن الشك يداخلني في قدراتي التي بِتُّ أخشى أن تخونني، رأيت قدرية في محيط عملي وتناولتها الألسنة. قال واحد إن والدها حِتة عامل في الهيئة وليس موظفاً. وقال آخر إنها هي التي تمشّي زوجها، وهو رجل ذو قرنين. وقالت واحدة إن إشاعات كانت تترد عنها، وإنه كانت تأتيها تليفونات، وزارني زوجها الذي يعمل في السياحة في جنوب سيناء للتعارف، حدثني في استمتاع كبير وزهوّ عن غيرة زميلاتها من "لبسها"، فاللبس يليق عليها ولا يليق عليهن، فأين هن من جمال الجسم والكسم الذي لزوجته. قالت لي قدرية فيما بعد إنها تزوجته عن طريق واحدة صديقة لأختها رآها وهي تشتري شروة السمك، وإنها لم تكن تعرفه قبل أن يتقدم لها. يتشاجران حول عملها ونقودها التي يقول إن البيت لا يستنفع بها وإنها تعطيها لأهلها، وإن بيتها أولى بالوقت الذي تقضيه في العمل، وإنه هو شخصياً لا تلزمه فلوسها، وإن فلوسها على الجزمة القديمة. وتقول هي إنه لا يكفيها، وعندما يكفيها الأول يتكلم. وتتدخل أختها أو أخته كحمامة سلام: البيوت أسرار، والمصارين في البطن تتخانق، وإنها نفس وهو ليس له بركة إلا زوجته، والواحدة ليس لها إلا بيتها. ويتصالحان لتعود ريما إلى عادتها القديمة بعد فترة. تفاجأ به فوقها، وقبل أن تفيق من المفاجأة، يكون قد وصل حدّ رغبته وقام عنها، ثم تكتشف بعد أيام أنها حامل. حدث لها هذا في حملها الأول في الولد، وفي حملها الثاني في البنت، فهي لا تستمتع معه بالممارسة الجنسية، لكنها لا تشعره بذلك ولا تظهره له.
قدرية هي التي أخذت المبادرة وحددت موعدا لزيارتي في الاستراحة بعد يوم صيف منذ أكثر من ثلاثة أعوام.. كانت منحنية على مكتبي وهي تقدم لي التحقيق الذي أعدته.. نهدان وافران راسخان في البلوزة القطنية الخضراء الفاتحة، وقد كشفت تقويرة الصدر الواسعة عن منبتهما، والبنطلون الجينز البيج محبوك على مؤخرتها المدملجة وفخذيها المصبوبين، وقالت وهي تنظر إليّ بعينيها العسليتين إن نفسها أن تنشر صورتها مع التحقيق كصورة غلاف، قلت لها: موافق.
قالت وقد استخفها الفرح: أبوسك، نفسي أبوسك.
قلت لها: ليس هنا.
قالت: اليوم بعد الظهر، محمد مسافر شرم الشيخ، وسأترك الولد والبنت عند جارتي.
انتظرتها في قلق، يساورني هاجس بفضيحة موشكة، كأن يفاجئنا أحد ونحن نتضاجع أو أن تصيبني أزمة قلبية وأنا عار معها في الفراش. طرقت الباب، فتحته، فدلفت إلى الداخل بسرعة. ترتدي جلباباً أسود مطرزاً صدره بالكانفاه وتلف رأسها بطرحة سوداء بإهمال وقد انزلقت عن مقدمة رأسها لتبرز قصة من شعرها في لون القمح الناضج وفي قدميها حذاء أسود صندال. أخذتها في حضني، تملصت من عناقي وهي تهمس: آخذ نَفَسي من السلم..
اتجهت إلى غرفة المعيشة، خلعت حذاءها وجلست على الكنبة المكسوة بقطيفة في لون القهوة باللبن، ووضعت ساقيها تحتها، طلبت مني أن أغلق الباب من الداخل، فهي قد اعتادت ذلك مع زوجها في البيت.. أغلقت الباب بالترباس من الداخل، ثم اتجهت إلى الثلاجة الآيديال العشرة قدم الموضوعة في ركن غرفة المعيشة، وأخرجت منها طبق الفاكهة الذي أعددته، وقدمته لها، فتناولته مني ووضعته على الترابيزة أمامها.. جلست إلى جوارها على الكنبة، قالت إنها شعرت بنظراتي وأدركت أنني أريد أن أنام معها واستهواها ذلك.. بدأت تحكي عن قصة حياتها وكأنها تعرفني من زمن.. قالت إنها ولدت في الثلاثيني، أبوها عامل في الهيئة، هاجر بعد النكسة إلى ريف الشرقية.


(2)


تذكرت أول مرة رأيت فيها مهاجرين من منطقة القناة بعد هزيمة يونيو.. كنا نتحلق، إحسان ونادية وأنا، حول الأستاذ نجيب محفوظ، الذي حضر في موعده، في السادسة تماما، إلى مقهى ريش، وطلب قهوته السكتو من فلفل، وكان الأستاذ نجيب يعطي أذنه لإحسان الذي كان يروي قصة استدعائه لخدمة الاحتياط في القوات المسلحة، وكيف سلموه بندقية بشحمها وملفوفة، ثم أخذوه في أتوبيس إلى أبو صوير، ويوم الثامن من يونيو، أعادوه في أتوبيس إلى القاهرة.. قال إحسان إن أهم حدث وقع له في أبو صوير هو اكتشافه الأدبي أن تشيخوف منافق كبير، بعد قراءته لكتاب تشيخوف بقلم معاصريه.. انفعل أحد الشبان الجالسين، واحتدّ على إحسان، واتهمه بالخيانة.. غضب إحسان وانفعل قائلاً إنه ليس من حق أحد أن يتهمه بالخيانة، لقد دفع سنوات من عمره من أجل مصر في المعتقل، وسقطت أسنانه من أجل مصر.. أخذنا، نادية وأنا، إحسان، بعيداً عن ترابيزة الأستاذ نجيب، ولم يتح لي أن أروي قصة العقيد عبد النبي الذي ترك وراءه 300 دبابة سليمة ومجهزة، وعند ممر متلا فقد السيطرة على قواته، وكلٌّ يهرب بجلده، وعندما أحصى خسائره، ذكر أنها حقيبة سفر اشتراها من لندن منذ شهر، وراديو ترانزستور، وجلسنا على ترابيزة على نهر شارع سليمان باشا مباشرة وطلبنا أوزو. قال إحسان، بعد أن مزج الأوزو بالماء فصار لونه حليبيا أبيض، إن والده مات وهو في المعتقل، ولم يتح له أن يودعه، عرف بوفاته عندما جاء شقيقه الأكبر لزيارته في المعتقل، وقال له إن جنازة الوالد كانت مهيبة -كأن ما يعنيه من موت والده هو الجنازة- ثم أردف، وهو ينظر إلى نادية، التي كنا نحبها نحن الاثنين، بعينيه، ويحاصرها بعواطفه، فقد كان يرجو، على نحو ما، أن تمنحه ما منحته ديدمونة إلى عطيل من أجل عذابات شبابه, أن أمله أن يكون موجوداً لحظة وفاة والدته المريضة بالسرطان، وأنه يريد أن يضع الطوبة الأخيرة في قبر عبد الناصر بيديه.
في هذه اللحظة الميلودرامية، وحتى يقطع جميل على إحسان سنتمنتاليته، لفت نظرنا إلى أسرة مهاجرة من منطقة القناة تمر أمام مقهى ريش، وقال جميل إن هؤلاء هم وقود الثورة القادمة.. وقد هاجر جميل بعد ذلك إلى جنيف وكتب روايات يؤرخ بها لثورة يوليو.


(3)


في الهجرة، نبت ثدياها واستدار ردفاها وجاءتها العادة الشهرية، وعندما عادت إلى الإسماعيلية بعد اتفاقية فض الاشتباك الثاني وبداية التعمير، كانت قد حصلت على دبلوم التجارة المتوسطة.
تقدمت للعمل لدى المقاول الكبير، واختارها سكرتيرة خاصة له.. اعترض أخوها الكبير، لكن أباها وقف إلى جوارها.. وعندما وضع المقاول يده على فخذها لأول مرة، شعرت بجسدها يسخن، وبآلاف من دبابيس النار تخز عروقها، فجَرَت، وهي ترتجف كالمحمومة، إلى التواليت الملحق بمكتبه، وساقاها تكادان تتخليان عنها. في المرة الثانية، قبلها في شفتيها ودفع لسانه يستكشف تجاويف فمها، فاشتعلت النار في جسدها من رأسها إلى ساسها وهو يضغطها إليه بقوة دون إحساس بالخجل أو العيب أو الحرام، مستثارة وهي ترتجف بالرغبة وتحس بالبلل، وباشرها وهي تلهث.
كان المقاول الكبير هو رجلها الأول، وركب فرس مراهقتها الفائرة، وأشعل في رحمها النار، وعندما انتشرت الشائعات عن علاقتهما، ولاكت الألسن قصتهما بعد أن خطبها منه أكثر من مهندس، سعى، مستخدما نفوذه القوي، إلى تعيينها في مكتب العلاقات العامة بالمحافظة، وحصل لها على منحة دراسية من جامعة الزقازيق لتستكمل دراستها الجامعية، وعندما كان الرئيس السادات يزور الإسماعيلية، كانوا في مكتب العلاقات العامة يختارونها، لأنها أجمل البنات، لتقديم القهوة إلى الرئيس وضيوفه.
عندما انتهت من قصتها، أجلستها على حجري، قبلتها في فمها، أخرجت ثديها الأبيض الوردي من السوتيان وفتحة الجلباب، ولقمت حلمته الوردية بفمي، دسست يدي بين فخذيها وأخذت أحركها صعوداً وهبوطاً وهي تتأوه.. قالت -وهي جيلي بين يدي- هيجتني.. ندخل جوه..
قمنا إلى الداخل ونحن متعانقان، وقد أمسكت في يديها بحذائها، ساعدتها في خلع جلبابها وألقينا به عند مربع الضوء الذي تصنعه الشمس الداخلة من النافذة عند طرف السرير، ثم قميصها الستان الأسود والسوتيان الأسود، وانطلق نهداها أبيضين ورديين، فأمسكت بهما بيديّ أستشعر ليونتهما واستدارتهما وأهصرهما، وهي تتأوه وتغنج، ثم مددت يدي أتحسس ردفيها وأنا أخلع عنها لباسها الأسود الصغير، وخلعت ملابسي بسرعة، ثم أنمتها على السرير، ثم أخذت أقبل جسمها الأبيض الوردي الحريري الساخن ويدي تستقر بين ردفيها، ويدي الأخرى تهصر ثديها، وفمي يطوف برقبتها ثم أذنها، ثم لقمت شفتيها الدسمتين ودفعت لساني داخل فمها أتذوق رضابها، ورفعت نفسها لي وأنا آخذها، وساقاها الملفوفتان مشبوكتان خلف ظهري، وهي تحرك جسدها صعوداً وهبوطاً وقد صار جسدي جزءاً منه.
رفعت حمى الشهوة سخونتنا وزادت ارتعاشتنا، ثم أحسست بماء الحياة يصعد من أعمق أعماقي لينبثق داخلها في اللحظة التي تسارعت فيها انقباضات رحمها وأناتها وهي تضغطني إليها بفخذيها وترجف.. خُذني.
ثم أطلقت آهة طويلة واهنة وأرخت يديها وساقيها، قبلتها في فمها ولم أخرج منها، وظلت ساقاها خلف ظهري. حكيت لها نادرة غريبة فاحشة عن الأم التي طلبت من بناتها الثلاث أن يحكين لها كيف يأتيهن رجالهن، وأن الصغرى استطاعت أن تشعل أمها العجوز كالتنور عندما قصّت عليها كيف يأتيها رجلها من الثقوب الثلاثة في نفس الوقت: الفم والفرج والإست.. كنت، أثناء ذلك، أقبل فمها ورقبتها وأمتص حلمة ثديها بفمي، ويدي تتحسس ردفيها، ويدها الرخصة الناعمة تجوس ظهري وأنا أدفع على مهل ثم بقوة كما جاء في خياط الحب.

وهمست في غنج: حلو..

بالأمس، رن تليفون مكتبي، كانت قدرية على الطرف الآخر، قالت، كأنها تتدلل عليّ: وحشتك؟

قلت لها: جداً.

قالت إنها تكلمني من شركة الملابس، اشترت تايير يضبطون مقاساته عليها، وبعد نصف ساعة، تكون في الاستراحة في انتظاري. بسرعة، كنت على باب الاستراحة أطرق الباب، سمعتها تجذب الترباس أولا، ثم فتحت الباب ترتدي فقط القميص الأسود الستان بحمالات على اللحم، وثدياها الأبيضان الورديان اللذان أحبهما جداً حران تحته، أبدت دهشتها من مجيئي بهذه السرعة.
قالت: يا دوبك واصلة وعرقي لسه ما نشفش.
أخذتها في حضني.
عندما فتحت عيني، كانت النافذة قد ابيضت تماماً، وسمعت صوت الديك الذي تربيه السيدة التي تسكن في الطابق الأرضي في الحديقة الخلفية الرثة.. لم تكن بي رغبة لأن أنهض من السرير. مددت يدي بجواري على الكومودينو. كان كتاباً عن البنيوية وما بعدها، نشرت ترجمته عالم المعرفة في الكويت. لم أجد بي أدنى رغبة لأن أقرأ. أرجعت الكتاب مكانه.
قمت إلى غرفة المعيشة أعد فطوري، لاحظت في الفترة الأخيرة زيادة في وزني، وأنه قد أصبح لي كرش صغير. انزعجت جداً وحاولت أن ألعب بعض التمرينات الرياضية لتقوية عضلات البطن، لكن أصابني السأم، ولم أستطع أن أواصل التمرينات. حافظت على نظام غذائي خاص نصحني به أستاذ في كلية الطب بعد إلحاح مني، لأنه لم يكن يرى أن هناك ما يستدعي ذلك، قشرت إصبع موز وأكلته، تناولت من الثلاجة ورقة زبادي وخفقت فيها ملعقة من عسل النحل وأكلتها بالملعقة.
على حائط غرفة المعيشة مسمار مرشوق، كان يعلق فيه المدير السابق صورة رفعتها من مكانها، وبقي المكان خالياً، مستطيلٌ رأسيٌّ فاتح اللون عن بقية الحائط الذي تراكم عليه غبار الزمن.


(4)


يذكرني هذا بطفولتي التي أمضيتها في محطات السكة الحديد حيث يعمل أبي ضابطاً للبوليس. كما تغيرت الوزارة، وما كان أكثر تغيير الوزارات. تصدر حركة تنقلات لضباط البوليس. في البيوت التي نتركها، نترك المسامير، التي كنا نعلق فيها الصور، مرشوقة في الحائط، وتترك الصورة مكانها على الحائط أفتح لوناً من بقية الحائط الذي تراكم عليه غبار الزمن. نرتب الملابس في الحقائب، ترتب أمي ملابسها بعناية فائقة، فملابسها غالية وشيك، وحاجاتها لا تخرج عاملات الريون في شيكوريل وصيدناوي وأوروزدي باك إلا للزبائن المخصوصة، فهي ليست لأي أحد، ولا يعرف أي أحد قيمتها.
يُلف طاقم الصيني في ورق جرائد، ثم يرص في صندوق خشبي أبلكاش، ويحبش حوله بقش الأرز، ثم يغلق الصندوق ويدق الغطاء بمسامير شيش رفيعة، ويكتب عليها بخط كبير "قابل للكسر". يأتي النجار يفك الدواليب والأسرّة، يكتب على الألواح الخشبية لمُلل الأسرة أرقامها بالترتيب، حتى لا يكون هناك خطأ عندما تفرش في البيت الجديد. المراتب والمخدات والألحفة والبطاطين توضع في أكياس من الخيش وتلضم مسلة كبيرة بخيط دوباره يخيط به الأكياس. طاقم الصالون يلبس في كسوة من الدمور نحتفظ بها دائماً لهذه المناسبة، أما حجرة السفرة والطاقم الأسيوطي، فيبقيان على حالهما، وتربط مرايات البوفيه والدولسوار معاً بالحبال.
على محطة سكة حديد البلد التي نغادرها، يقف نفر قليل من المودعين. على محطة سكة حديد البلد التي نقصدها، نجد في انتظارنا على الرصيف رهطاً من المستقبلين. لقد سافرنا من وإلى جميع محطات سكة حديد القطر المصري، من الشلال إلى الإسكندرية، في ديوان الدرجة الأولى، من الخشب المهوجني والكسوة جلد لونه زيتي غامق، وفوق الكنبتين، اللتين تنقسم كل منهما بمسندين إلى ثلاثة مقاعد، صور رمادية للحضارة المصرية القديمة مكتوب تحتها باللغة الإنجليزية: إنك لو لم تشاهدها، فأنت لم ترَ مصر، صور لمعبد الكرنك، معبد الأقصر، تمثالي ممنون، الدير البحري، العرابة المدفونة في أبيدوس، جزيرة إلفنتين ومعبد أنس الوجود أو عربة النوم، ويأتي مساعد القطار عند هبوط الليل لفرش الأسرة دورين.
أعرف من أبي أن القطار لا يمكن أن يتحرك إلا إذا جاء المقابل أو سلم ناظر المحطة سائق القطار الأسطوانة، فخطوط السكة الحديد في ذلك الوقت، كانت في أغلبها فردية، بعد أن يدق الجرس الأخير في المحطة، يطلق القطار صفيرة ويبدأ في التحرك على مهل. يتراجع الرصيف إلى الخلف ونجري إلى النافذة نرقب بيوت المدينة التي نغادرها، والشمس تنعكس على زجاج بعض النوافذ المفتوحة، وراءها أشباح رجال ونساء وأطفال يتحركون، ثم يأخذ القطار سرعته وتجري أعمدة التلغراف إلى الوراء، على أسلاكها، تقف بعض الطيور ترفّ بأجنحتها في الفضاء العريض ثم تعود لتقف على الأسلاك. القطار الآن وسط الريف. الحقول، أشجار النخل، شجر الجميز والتوت عند السواقي، طرق زراعية تظللها أشجار عبل وكافور وسنط وصفصاف وسسبان، وتجري عليها عربات نقل وملاكي وتاكسيات وأتوبيسات قديمة متهالكة وحناطير وعربات كارو تجرها حمير وبغال وأحصنة عجائز. عندما يقترب القطار من محطة، ينثني ذراع السمافور وتغلق بوابة المزلقان، إلى أن يمر القطار بالمحطات الصغيرة ولا يقف عندها. عند المحطات الكبيرة، يهدئ القطار من سرعته وتصرخ العجلات. عند التحويلة التي يتحكم في حركتها عامل تحت غراب الماء، يهبط ركاب، يصعد ركاب، يتسلم السائق الأسطوانة أو ينتظر المقابل. عندما يهبط الليل، يجري القطار في بحر أسود كحل، وتصبح النافذة مرآة لا نرى فيها إلا وجوهنا، وفي المدن التي يمر بها القطار، يضيء النور نوافذ بعض البيوت، وترسل أعمدة النور في الشارع الرئيسي أنوارا كابية، والبورصة، إذا كانت لم تشطب بعد، يجلس بعض الزبائن عليها يلعبون الطاولة، وعند المزلقان، تُضاء البوابة بفانوس.
في كل مدرسة ذهبت إليها، كنت ابن حضرة الضابط أو الأفندي المعاون أو البيه المأمور. الأولاد يتخذون مني موقفاً عدائياً، يتحرشون بي ويسخرون مني.
تقول صديقات أمي: ابنك حلو زي البنات.
تقول أمي: أوعى توسخ هدومك، أنت لابس صوف إنجليزي مش لابسه ناظر المدرسة بتاعتك.
كنت أعي دائماً أنني مختلف عن الآخرين.. أنني لست منهم.


(5)


صرخت فرامل السيارة أسفل الاستراحة، جاء سيد بالجرائد والمجلات، فتحت له الباب.
قال سيد، بوجهه البشوش، وهو يناولني الجرائد: صباح الخير.
قلت وأنا أتناول منه الجرائد، صباح الخير يا سيد، خش واقفل الباب وراك واعمل شاي.
قال سيد إنه تأخر اليوم لأن المتعهد كان رافضاً إعطاءه الجرائد والمجلات، لأن صراف الخزينة لم يسدد له الشهرية.
رن جرس التليفون، كانت زوجتي.
- صباح الخير.
- صباح الخير.
- إزي صحتك؟
- الحمد لله.
- البواسير عاملة إيه؟
- يعني، قرفاني..
- ما تشوف دكتور عندك.
- ربنا يسهل.
- مش عايز حاجة؟
- لأ، شكراً.. إزاي الولاد!
- كويسين، الحمد لله.
- مش عايز حاجة بجد؟
- شكراً.
لم تضع السماعة، وصمتت فترة.
قلت: خير، فيه حاجة؟
قالت: عبد الله نايم، ما عندوش كلية النهاردة، لكن بيقولك حياخد درس.
- طيب!
- وعايز حوالي 200 جنيه لسرفيس العربية بتاعته.
- إديله.
ونهى عايزة تكلمك..
- إديهالي.
- صباح الخير يا بابا.
- صباح الخير يا حبيبتي.
- بابا، أنا عايزة خمسين جنيه علشان أجيب هدية لصاحبتي في عيد ميلادها، قول لماما تديهم لي.
- حاضر يا حبيبتي.
أخذت زوجتي السماعة من نهى..
- أديلها؟
- إديلها، أنا قلت لك إديهم اللي همَّ عايزينه.
- علشان تبقى عارف، مش تقول الفلوس اللي كنت سايبها راحت فين؟
إوعى نكون صحيناك من النوم.
- إنت عارفة، أنا بصحى بدري.
- طيب سلام.
- سلام.
تزوجتها منذ أكثر من ربع قرن، عرفتني بها صديقة قديمة وسألتني: أزوجها لك؟
كانت فتاة جميلة. فكرت: لم لا؟ تزوجتها وأنجبت لي الولد والبنت، عبد الله في كلية الطب، ونهى في الإعدادية، رعت بيتي وأحبت أن تنتسب إلي، أصبح أبي عمي وأمي طنط. حافظت عليّ كشيء ثمين في حياتها، وحرصت في نفس الوقت على الطموح والنجاح، ولا أذكر متى انطفأت رغبتي فيها كامرأة.
أعد سيد الشاي وصبه في المغ الخاص بي والمرسوم عليه برج القوس، وضعه أمامي على الترابيزة والبخار يتصاعد منه، وبملعقة صغيرة، رفع منه الريم.
جلست أشرب الشاي سادة دون سكر وأقرأ جرائد الصباح. كان مانشيت الأهرام الرئيسي: "مصر مهيأة لاستقبال التدفقات الاستثمارية"، وكان المانشيت الفرعي: "تقدير عربي وعالمي جديد لمبارك مع بدء السنة السابعة للرئيس محمد حسني مبارك".. "أوبرا عايدة نقلت للعالم تراثنا وحضارتنا".
وكتب محمد صالح في الصفحة الأخيرة في باب "من غير عنوان" أن عايدة إبهار في الإخراج وتميز مصري في العرض. وفي أخبار الصباح، أقامت السيدة سوزان مبارك مساء أمس حفل غداء بفندق ونتر بالاس تكريما لقرينات رؤساء لبنان وبولندا والنيجر ونائب رئيس جنوب أفريقيا وقرينة السيد عبد الحليم خدام وعدد من المدعوات اللائي حضرن أوبرا عايدة بالأقصر.
وتحت عنوان "استشهاد 11 شخصاً بينهم 9 من رجال الشرطة"، كتبت الأهرام في الصفحة الأولى: "استشهد 11 شخصاً بينهم 9 من جنود ومساعدي الشرطة في هجومين إرهابيين منفصلين في أبو قرقاص وملوي، نفذتهما مجموعتان مسلحتان من أعضاء الجناح العسكري الهاربين لتنظيم ما يسمى الجماعة الإسلامية، وقرر الدكتور كمال الجنزوري، رئيس مجلس الوزراء، صرف إعانة عاجلة قدرها 3 آلاف جنيه لأسرة كل شهيد في الجريمتين، وطلب تقديم الرعاية الطبية اللازمة لمواطنة أصيبت في حادث، وكانت قيادات الأمن بمحافظة المنيا انتقلت إلى موقعي الجريمتين الغادرتين، وقد تم ضبط بعض المشتبه فيهم، بينما تقوم القوات بمحاصرة المنطقة لملاحقة الجناة الهاربين".
وفي الصفحة الأولى أيضاً للأهرام: "تعقد المحكمة العسكرية العليا أولى جلساتها اليوم لنظر قضية الاعتداء على الأتوبيس السياحي أمام المتحف المصري يوم 18 سبتمبر الماضي". وفي أسفل الصفحة، كتب سعيد اللاوندي من باريس تحت عنوان "عنف الصدمة خلع قلب ديانا": "للمرة الأولى منذ الحادث المفجع، خرج الدكتور فردريك مالييز، الطبيب الفرنسي الذي عالج الأميرة ديانا، وكان أول شخص فحصها بعد الحادث، عن صمته، وأكد أن قلب الأميرة ديانا انخلع من مكانه نتيجة لفظاعة الحادث وقوة الارتجاجات التي تعرضت لها على أثر اصطدام سيارتها بالعمود الإسمنتي أسفل كوبري إلما".. ومانشيت صغير في الصفحة الأولى: "30% زيادة في صادرات المناطق الحرة خلال عام 1997".
وفي صفحة الحوادث، بعد حادثي ملوي وأبو قرقاص، خبر تحت عنوان "مذبحة داخل شقة في مدينة نصر"، عن مقتل أم وطفليها على يد مجهولين دخلوا شقتها ظهراً، وخبر عن مواصلة مناقشة شاهد الإثبات الأول في قضية نواب القروض، المتهمون دأبوا على طلب تسهيلات من بنوك لتقديمها ضمانا لبنوك أخرى.
في جريدة الأخبار مقال عن دور مصر الرائد في الانتقال الشمولي إلى اقتصاد السوق والخصخصة مع مراعاة البعد الاجتماعي. وفي عمود صحفي: "الفساد جزء من الطبيعة البشرية والفاسدون موجودون في كل نظم الحكم والإدارة، والله لم يخلق البشر ملائكة". وفي جريدة الجمهورية عنوان "أوروبا وأمريكا تنقلان عن مصر الطريق الثالث".
في صفحة وفيات الأهرام، التي أقرأها بعناية، حتى لا يفوتني واجب العزاء، لم أجد أحداً أعرفه قد توفاه الله.
***
قمت إلى الحمام أغسل وجهي، أحلق ذقني، أنظف أسناني بالفرشاة والمعجون، وأركب الكوبري الأمامي.
تذكرت كيف كنت أخشى أن أبتسم حتى لا ترى سناء سنتي المكسورة.


(6)


كان يأخذني الدوار عندما أراها قادمة من بعيد ترتدي جيباً وبلوزة صوف في الشتاء، قطنية في الصيف، وحذاء فلات. تسند كتبها إلى صدرها وعلى شفتيها ابتسامة عذبة آسرة. نتصافح ونسير معاً باتجاه بوفيه كلية الآداب.. يملأني إحساس بالزهو وبأن الجميع يعرفون سري، يعرفون أنني أحب سناء.
كنا بعد حرب السويس 56، وكان الحديث يدور في مجموعتنا على بوفيه كلية الآداب عن آيزنهاور وفراغ الشرق الأوسط والاستعمار الجديد الذي يسعى إلى أن يرث الاستعمار القديم والتناقض الرئيسي والتناقض الثانوي وكتاب شهدي عطية الشافعي الذي قتلوه في أوردي أبو زعبل وهو يؤيد عبد الناصر فيما بعد، وكنا نقرأ الأدب الروسي ونقرأ سارتر وكامي ونعجب بهيمنغواي وشتاينبك ويدهشنا فوكنر ويشد اهتمامنا مسرح تنسي وليامز وآرثر ميلر وبرتولد بريخت.
وكنت أحب سناء جداً، وكل يوم، أقرر أن أعترف لها بحبي، لكن وجهي يحمرّ ويصفرّ ويخضرّ، وصوتي يرتجف، ولا تخرج الكلمات من فمي، كأنما يفصلنا حاجز زجاجي أراها خلاله ولا أنطق.
وعندما أعود إلى البيت، أحاول إعادة بناء المواقف في محاولة لتفسير إيماءات سناء أو كلماتها وتحميلها معاني لم تقصد إليها أبداً.
وجاءني خطاب من أبي:
عزيزي..
أرجو ألا تكون المذاكرة في حاجة إلى الوقت الذي تضيعه على بوفيه كلية الآداب، ولقد كتب لي القائم مقام حسن طلعت، مفتش المباحث العامة فرع الجيزة، أنه نما إلى علمه أنك تصادق مجموعة من الأولاد الشيوعيين، عشمي أن تقطع علاقتك بهذه المجموعة فوراً، وإلا فأنت لا ابني ولا أعرفك، والمثل يقول إن جاءك النيل طوفان، ضع ابنك تحت رجليك.
وكتبت لي أمي في نفس الخطاب:
مالك ومال السياسة، أنت لن تكون وزيراً أو رئيساً للوزراء.
ثم فجأة غابت سناء.
لم تعد تحضر إلى الجامعة.
ووجدت قدميّ تقودانني إلى شبرا حيث تسكن، أدور حول العمارات وأتطلع إلى النوافذ والشرفات، لعلها تنظر من نافذة أو تقف في شرفة.. لكنها لم تظهر.
انتظرت عند محطة الترام في شارع شبرا أمام سينما دوللي، كان على واجهة السينما إعلان كبير عن أقوى أفلام الواقعية الإيطالية وصورة سلفانا مانغانو وقد ارتدت الشورت وساقاها الملفوفتان تغوصان في حقول الأرز وفيتوريو جاسمان على رأسه قبعة، تظاهرت بأني أقرأ الإعلان، وعيناي تفتشان شارع شبرا من الاتجاه الذي يمكن أن تأتي منه سناء. جاء الترام، هبط ركاب، صعد ركاب، ووقعت سنجة الترام، فنزل الكمساري وركبها، ثم تعلق بالسلم وهو يطلق زمارته، تحرك الترام ولم أصعد إليه. عبرت الشارع إلى مدخل السينما أتظاهر بقراءة إعلان العرض القادم.
تمر الدقائق بطيئة ثقيلة، واليأس من ظهور سناء يدفعني إلى أن آخذ قرارا بأن أصعد الترام القادم، لكن الأمل يعاودني في أنها ربما تجيء، فأقرر ألا أصعد إلى هذا الترام القادم.
ولم تظهر سناء في هذا اليوم، ولا في الأيام التالية.
في الليل، أتقلّب على الجمر.
وغيرت سينما دوللي الأفيش الذي تعلقه وعلقت أفيشاً آخر لأضخم إنتاج أمريكي "شمشون ودليلة". وقفت أمام السينما أقتل الوقت بالنظر إلى صور بعض مناظر الفيلم الذي تلعب بطولته هيدي لامار وفيكتور ماتيور وعيناي تفتشان شارع شبرا عن سمراء لها ابتسامة عذبة وتسند كتبها إلى صدرها الذي نام عليه فرخا الحمام.
فجأة -كما يحدث في الروايات- رأيتها قادمة من بعيد، شعرت أنه نما لي جناحان أطير بهما وأحلق عاليا.
أحسست أني أريد أن أغني, أبكي، وأن أحتضن الناس والشارع والكون كله، وأنا أعبر لأكون في انتظارها على محطة الترام.
صافحتني وعلى شفتيها هذه البسمة العذبة، ووقفت خجولاً مرتبكاً لا أنطق. جاء الترام، صعدتْ وصعدتُ وراءها، جلسنا متجاورين، قالت إنها تتدرب الآن في أخبار اليوم، وقالت إن هذا هو السبب في عدم مواظبتها على الحضور إلى الجامعة. تحدثت عن مصطفى بيه وتاتا زكي المختبئة من زوجها في الهيلتون، لم أعرف ماذا أستطيع أن أقول ولا أغضبها، وكان الترام يقترب من محطة الإسعاف عندما قامت سناء وقالت إنها ستنزل في المحطة القادمة، فقلت، وأنا أقوم وراءها: إنني، أيضاً، سأنزل في نفس المحطة.
على المحطة، قالت بلا اكتراث: باي.. باي.. خليني أشوفك، اتجهت إلى شارع الصحافة ووقفت أرقبها وهي تسير في شمس الضحى من غير أن تلتفت إلى الخلف، وسحب الضحى الشتوي داخلي. أحياناً، كنت أجد نفسي واقفاً على محطة الإسعاف أترقب ظهورها، لكني لم ألتقِ بها بعد ذلك.. صارت بعيدة جداً عني.. أبعد من القمر، فأبعد مسافة بين اثنين هي الحلم. سمعت فقط أخبارها.. سمعت أنها تزوجت أستاذاً كبيراً هام بها، وصورها تتصدر صفحات المجتمع وموضوعاتها الصحفية تحتل صفحات صحف الدار ومجلاتها. بعد سنوات، قرأت خبر طلاقها وأنها عينت مراسلة صحفية متجولة في أوروبا، وبعد شهور من الطلاق، مات مطلقها في حادث سيارة وهو مخمور وإلى جواره ممثلة مغمورة لم تمت، ولكن أصابتها رضوض.
****
ثم تزوجت من أحد الضباط الأحرار، وكان قد أبعد عن القوات المسلحة إلى وزارة الخارجية، وأصبح سفيراً في عاصمة غربية، وعملت في الصحافة العربية المهاجرة إلى باريس ولندن بعد الحرب الأهلية اللبنانية، وحينما عادت إلى القاهرة، عينت في منصب هام في دار صحفية أخرى.


(7)


أسير في الشارع وحيداً بلا هدف، أتفرج على فتارين المحلات، أقرأ يفط أسماء المحامين والأطباء وإعلانات السينما، يخامرني إحساس بأنني خيال، وأن العالم حولي غير واقعي وغير حقيقي، في شارع سليمان باشا محل جورج، أخصائي ملابس الرجال، حمدي للموبيليا والديكور، أفيش ضخم لجينا لولو بريجيدا حافية القدمين وفي فستان ممزق يتفجر منه صدرها الوافر، وعيناها ترمقان الكارابينيري فيتوريودي سيكا، إسكاف للبصريات، لوكاندة الناشيونال، ملهى البيروكية الليلي، مطعم الإكسلسيور وفتارينه الزجاجية، سينما مترو وفيلم لآفا جاردنر، أجمل حيوان أنثوي في مايوه جلد النمر، وشفتاها منفرجتان كأنها تتوجع من ألم لذيذ، محل الحذاء الذهبي.. الحذاء الساكسون بثلاثة جنيهات وربع، محل أوريجينال أفخر الأقمشة الصوفية، مكتب استعلامات الهند، الذي استعرت منه مجموعة أعمال طاغور. على الرصيف الآخر بار روي, مكتب علي أيوب المحامي، مجوهرات عكاوي والساعات الأوميغا والرولكس، توفيق بشاي فاترينة مليئة بالكؤوس والدروع ورتب وشارات الضابط، صيدلية كاليسكر. أشعلت سيجارة ودخلت أمريكين سليمان باشا.. كان البارمان يصغي إلى حديث رجل أسمر نحيف شعره أبيض يرتدي بدلة رمادية مقلمة بأقلام بيضاء ويضع حول رقبته رباط عنق حريريا، وفي جيب الجاكتة منديل حريري أبيض على شكل أهرامات وفي يده كأس ويسكي.
الدنيا كانت رخيصة زمان، شربت زجاجة الويسكي الجوني ووكر الردلابل بأربعين قرشاً وأنا مهندس ري في السودان قبل الحرب الثانية. كنا نمز بخروف نشتريه ونشويه، التفت إليّ وقد لاحظ وجودي وهو يرفع كأسه.. أنتم غلابة، أيامكم غلاء.
طلبت كأس براندي نابليون، شربته في جرعة واحدة، حاسبت وخرجت من الباب الذي يفتح على شارع فؤاد، عبرت إلى الرصيف الآخر حيث مكتبة منجوتزي التي كنت اشتريت منها روايات مالبرت ويلوني، أخذت طريقي إلى محطة الأتوبيس رقم 6 أمام محل شملا، مررت أمام البن البرازيلي أسفل فندق جراند أوتيل، محل كازك.. الحذاء بتسعة وتسعين قرشاً، جاء الأتوبيس، صعدت ووجدت مقعداً خالياً بجوار النافذة، اخترق الأتوبيس الإسعاف، مستشفى الولادة، حي أبو العلا الفرنساوي، عبر كوبري أبو العلا، اخترق حي الزمالك، نادي الضباط، الضباط، السنترال، عبر كوبري الزمالك، نحرف إلى اليسار في اتجاه العجوزة.. عند محطة عمارات السعوديين هبطت من الأتوبيس.
في شارع النيل، كان الهواء يهب بارداً والسماء سوداء، بها نجوم قليلة وهلال كحاجب امرأة. قرأت هذا التعبير في قصة صينية نشرها لطف الله سليمان. عبرت بجواري سيارة ثم وقفت فجأة وأضاء الفانوسان الخلفيان للفرامل، فتح باب السيارة وهبطت امرأة وقد زججت حاجبيها وصبغت شفتيها بروج أحمر فاقع وترتدي فستانا فوق الركبتين وتكشف مساحة واسعة من صدرها، لاحقها سيل من بذاءات أصوات شابة غاضبة.
سألتني المرأة: عندك مكان؟
فكرت.. لم لا، قلت: آه.
سارت بجواري، قالت إنها أخت ممثلة الإغراء سميحة التي تلعب أحيانا دور المرأة اللعوب، وتأخذ دور البطولة النسائية الثانية، وهي تعمل الآن مع قوادة في حارة النصارى قرب فسقية شارع إبراهيم باشا، وقالت إن القوادة عندها عمارات وتاكسيات وتخفي نقودها كما يخفي الغراب حتة صابون، وإنها لا تعطي البنت التي تعمل إلا ثمن علبة سجائر، وأردفت: خرجت في طلب مع ولد تلميذ، أروح الشقة ألاقيهم أورطه لما موتوني.
وصلنا بيتي، دخلت إلى الحمام، اغتسلت، ثم جاءت إلى حجرتي، خلعت ملابسها ثم صعدت إلى السرير ووضعت يدها اليمنى تحت رأسها وتمددت عارية، حاولت أن أنام معها، لكنني أحسست بأعضائها تتشيأ, شفتيها، ثدييها، بطنها، فخذيها، أنطفأت رغبتي.
سألتني: إنت مالك؟
قلت لها: مش عارف.
قالت: إنت إيه اللي مضايقك؟ مفيش حاجة ناقصاك؟ باين عليك ابن ناس وقاعد في شقة حلوة، ولاّ تكونش بتحب؟
لم أرد عليها..
قالت: ولاّ أنا مش عاجباك؟
حاولت أن أشرح لها أنني عندما التقيت بها في شارع النيل، أحسست بالرغبة فيها، لكنني الآن أحس بها كامرأة من لحم ودم وأعصاب.
قالت أمال أنا إيه؟ أنا الأسبوع اللي فات خرجت في طلب مع واحد صحفي وقال لي إني أنفع أطلع في السينما.
مدت يدها تداعبني، وجلست فوقي منفرجة الساقين وهي تطلق صيحة انتصار.
وهي ترتدي ملابسها، قالت إنها هربت من بيتهم وهي صغيرة، وقالت إن إخوتها الآن، واحد وكيل نيابة والثاني ضابط، وإنها تريد أن تعود إلى البيت، لكن تتزوج الأول واحد من مقام إخوتها.
قبل أن تغادر شقتي، اتفقت معي على أنني عندما أريدها، ما علي إلا أن أكتب لها خطاب حب تباهي به البنات اللائي يعملن معها وتفاخرهن بأن هناك شابا ابن حكمدار ويحبها، وفكرت أنها في حاجة إلى هذا الوهم أكثر من أي شيء آخر كأنها إحدى مومسات دوستويفسكي.


(8)


في دايرة الباشا، التي تقع على يسارك بعد أن تعبر السكة الحديد، يقوم مبنى الدايرة التي أولم فيها الباشا للورد كتشنر السردار الإنجليزي للجيش المصري وكبار ضباط جيش الاحتلال، وقدم ولداه الكبيران للورد وكبار ضباطه شاي الساعة الخامسة في فنجانين من الذهب الخالص، وسعى اللورد كتشنر لدى الباب العالي في الاستانة فأنعم على الباشا بالباشوية، ولقد باع ورثة الباشا مبنى الدايرة في أوائل السبيعنيات لتاجر مخدرات يتخذ واجهة له أعمال المقاولات الصحية فهدمها وبنى مكانها عمارة من سبعة طوابق خصص دورها الأرضي معرضاً للأدوات الصحية.
تلي الدايرة سرايا الباشا التي استحضر مهندساً من إيطاليا خصيصاً لبنائها، ولقد تحولت إلى إدارة تعليمية بعد ثورة يوليو وبيت نينة من دور واحد شيده الباشا لابنته الكبرى جدتي لأمي، ولقد اعتادت أمي قضاء جزء من إجازاتها السنوية في بيت جدتي لأمي التي كنا نطلق عليها أم الباشا، وكانت أمي، فور وصولنا، تعهد بنا إلى آمال ابنة خالي عصمت، الذي خاب في المدارس وتزوج امرأة من حكر (أبو غنية). كنا نسمعه، على الرغم من أنه كان مريضاً بالسل يبصق دما وملازما للفراش، يضربها بالكرباج لشكه في سلوكها البطال، وكانت أمي تحرص عند وصولنا في بداية الإجازة أن تنادي على آمال وهي ترتب ملابسها في الدولاب وتنتقي لها فستانين قديمين وتنبهها إلى أن عليها أن تعرف قيمتهما وتحافظ عليهما ولا تلبسهما إلا وهي تلاعبنا حتى تكون نظيفة وحلوة.
ظهر يوم صيف حار، سحبتني آمال من يدي إلى حجرة خلفية فعرتني وعرت نفسها ثم نامت فوقي وأخذت تتحرك صعوداً وهبوطاً وأنفاسها تتلاحق في لهاث وهي تئن، وتضمني إليها بقوة ثم ارتعشت وأطلقت آهة طويلة متقطعة، وأوصتني آمال ابنة خالي أن يبقي هذا سراً بيننا.
في مراهقتي، تنبثق هذه الحادثة في خيالي وكأنها الحلم، وأتصور آمال بعين الوهم وأنا أعريها وأنام فوقها وأمسك بيدي صدرها وأتحسس أجزاء جسدها وأتقلب على فراشي كنبات يحاول أن يمد جذوره إلى الأرض.
وعندما جاءت فردوس إلى بيتنا في الزقازيق، لم أكن أعرف المرأة إلا من هذا الوهم الذي يرهق خيالي وأعصابي، وقد جاءت فردوس بعد زيارة قامت بها أمي لجدتي أم أبي في البلد، قالت أمي إنها في حاجة إلى خادمة، قالت جدتي، صغار فاطمة أم علي كصغار المماليك، وعندها بنت حلوة تنفع في الخدمة. قال أبو فاضل الخفير الخصوصي اسمها فردوس، وهي فردوس بحق من جهتها مانجة، وهي بيضاء كالجبن في علبها، لكن أمها لن تخدمها، استنكرت جدتي قائلة: وهي أمها عاملة لها الراتب؟ كان الحاج علوي جالساً، وهو قريب لأمي وأبي، كان أبي دائماً يدعو عليه أن يقعدها له في عينه وعافيته، عندما يتشاجر مع أمي، فهو الذي أشار على أبي بهذه الزيجة، وترد أمي أن نجوم السما كانت أقرب لأبي من الزواج بها لولا عقلها الخائب وبدلة الضابط والشريط الأحمر على البنطلون، ويرد أبي أنه تزوجها في عهد صدقي باشا، وكان ضابط البوليس فرخة بكشك، وأن جدها الباشا الطالعة به المئذنة، لم ترث منه إلا الفقر والقنزحة كأبي قردان، فقد نشفت البركة وبانت قراميطها.
تدخل الحاج علوي في الحوار حول فردوس، وقال إن شيخ الخفر سعد أبو الشناوي له تأثير على أم فردوس، فهو كخصاء الكلاب، لا يسلم من النجاسة، قالت أمي في اشمئزاز وقرف إن الفلاحين حيوانات وبهائم، قال  أبي لأمي: وهل جئت من باريس في علبة؟
قال الحاج علوي صلوا على النبي، ملعون أبو فردوس وفاطمة أم علي وسعد أبو الشناوي، وأرسل أبي أحمد أبو فاضل الخفير الخصوصي لإحضار شيخ الخفراء من قفاه.
بعد العشاء، حمل حنطور عبده الذي يسكن في عزبة الجران بجوار وابور النور ويشارك علي أبو طلبة وعوض أبو عريفة في تجارة البهائم. أمي، وبرفقتها البنت فردوس، إلى دايرة جدها الباشا في المحطة (وهو الاسم الذي يطلقونه في البلد على البندر، لأن به محطة السكة الحديد)، والقمر قريب من الأرض كأنه خرج من الأرض التي سقتها دماء الفلاحين وعرقهم، ويلقي بنوره على حقول القطن والذرة الصيفي، وأنوار المحطة تلمع من بعيد وكأنها عيون الجنية التي تخرج من بحر بلدنا وتأخذ الذي تغويه في حضنها إلى قاع البحر.
اشتهيت فردوس من أول لحظة وضعت رجلها فيها في شقتنا في الزقازيق، وشعرت هي بذلك، وكانت تطيل النظر إليّ بعيون شبقة وكأنها تمتص دمي، وكانت في نفس الوقت تشاغل البقال أحمد جبر ابن باشجاويش البندر على أمل أن يخطبها ويتزوجها، فهي تحلم بلمبة جاز، وعندما ترسل لإحضار طلب من عند البقال، وعلى الرغم من تنبيه أمي عليها أن لا تعلم رجلها على الأرض، فإنها دائماً تتأخر وتسألها أمي إن كانت ماشية على قشر بيض، وقبل أن تجيب، تجذبها أمي من شعر رأسها وتوقع بها على الأرض وتضربها حتى تكل يداها، وفي ليلة، وجدتني، وقد أرهقني التفكير في مضاجعتها، وإن كنت لا أعرف كيف تكون المضاجعة، ولكن عندي فكرة غائمة, أمام باب حجرة القعاد، حيث تنام فردوس على الكليم الأسيوطي، وذراعي مدلاة ثقيلة إلى جواري، رفعت ذراعي بصعوبة بالغة، وأدرت أكرة الباب وقلبي يدق بسرعة ثم دلفت إلى داخل الحجرة ورددت الباب خلفي محاذراً أن يصدر صوتاً، كانت نائمة على ظهرها، فارتميت فوقها وأخذت أدبدب فوقها كحيوان صغير وأهذي بكلمات لا رابط بينها عن برهان الحب الذي تقدمه لي وأنا أفكر في أنه ينبغي أن أعريها، ولكنني حائر لا أعرف كيف أبدأ، وهي تتظاهر بأنها نائمة ومستسلمة تماما دون أدنى مقاومة ومتاحة، ولا أدري ماذا أفعل بهذا الجسد الساخن اللين والمتاح والمطاوع، زفرت فردوس: الواحدة لا تعرف تنام في هذا البيت، وقامت مستندة إلى مرفقيها، ثم خلعت لباسها الدمور ودسته تحت المخدة وهي تتمدد على ظهرها وقالت تعالى، وجذبتني فوقها وفتحت زراير سفرة جلبابها المنقوش بالزهور، ووضعت يدي على ثديها، وأخذت تقبلني في تلهف، وشعرت بحلمة ثديها تنتصب في يدي، وقادتني بيدها صعوداً وهبوطاً فوقها وهي تلهث، وشعرت بنفسي أندس في لحمها الساخن اللين وأصل حد الرغبة وهي تضغطني إليها بشدة وتطلق آهة طويلة مكتومة ثم ارتميت إلى جوارها  هامداً ومفاصلي سائبة.
فتحت باب الشقة، وهبطت على السلالم إلى الشارع، سرت في اتجاه المدرسة الثانوية، وعند بستان الأطفال، حيث أقيم الآن مركز النيل للإعلام، انعطفت إلى كوبري المشروعات الخشبي الصغير المخصص لعبور المشاة، وقفت فوق الكوبري أنظر إلى مياه بحر مويس التي تجري تحته كزجاج أسود تتكسر عليه أضواء العربات المتجه من الزقازيق إلى ميت غمر وطنطا وبالعكس وإلى الدوامات حول العواميد التي يستند إليها الكوبري، يثقل صدري عذاب الضمير والندم ويتوعدني مدرس اللغة العربية الذي يهددنا ويتوعدنا كل يوم بجهنم وأصحاب النار التي هم فيها خالدون، والذين يردون يوم القيامة إلى أشد العذاب ولا يخفف عنهم العذاب ويحملون أوزارهم على ظهورهم ويسقون ماء صديدا، ولكن لماذا؟ إن الله يرى كل شيء ويعرف كل شيء ويطلع على كل شيء وهو غفور رحيم، واتخذت قراراً ألا أقترب من فردوس مرة أخرى ولا أتلصص بنظراتي على كنوز جسدها التي تغويني، فالنظرة الثانية عليك.
وأقسمت أن أبدأ في الصباح مع شروق شمس اليوم الجديد على حياة جديدة طاهرة وأن أتوب إلى الله وأن أندم على ما فعلت.
لكني وجدت نفسي أحنث بيميني وأتلصص بنظراتي عليها وهي على بسطة سلم الخدم الحديدي تهوي على الشالية بطرف جلبابها حتى تصفو النار ولا يعود ينبعث منها دخان، وأنتهز الفرصة عندما تقف إلى جوار مكتبي لأقرأ لها المكتوب تحت صور الممثلات في المجلات المصورة، فأمد يدي خلسة تحت جلبابها وأحس بعضلات فخذها ترتعش كفراش تضيق بالقيد، أتبعها إلى البلكونة التي تطل على الغيطان وهي تنشر الغسيل وألتصق بها من الخلف فتهيئ نفسها لي وهي تقول في غنج وقد أسقطت الحواجز.
- أوعى كده بلاش مياصة لاحسن ستي تشوفنا.
وأذهب إليها في الحمام وهي جالسة أمام طشت الغسيل وعلى يمينها الوابور فوقه حلة الغليّة وقد انحسر جلبابها عن فخذيها البيضاويين والتصقت سفرة الجلباب بثدييها وبرزا من تقويرة الصدر باستدارتهما، فأمد يدي أمسك بهما فتنثر الماء والصابون من يديها وتمنحُها لي وهي توارب باب الحمام، وفي الليل، أتسلل إلى حجرة القعاد حيث تنام..
وأتخذ كل يوم قراراً بألا أقترب من فردوس وأن أتوب إلى الله وأن أندم على ما فعلت، وأن أبدأ من الغد حياة جديدة طاهرة، لكنني دائما أنقض قراري، فلم أكن مالكاً جسدي، وكانت رغبتي فيها أقوى من تشوقي إلى الطهارة، ورآنا مرة العسكري المراسلة صابر فوشى بنا لأمي نادت أمي على فردوس، تخشبت فردوس في مكانها وامتقع وجهها وصار كالبفتة البيضاء ورفعت يديها تغطي بهما وجهها ورأسها خوفاً من أن تجذبها أمي من شعرها وتوقعها على الأرض لكن أمي لم تفعل.
سألتها: إيه اللي بينك وبين سيدك؟
حاولت فردوس أن تدافع عن نفسها لكن صوتها لم يخرج من فمها..
قالت أمي: مش عايزة أسمع حاجة، إنت ماعدش ليكي قعاد، لمي هدومك وحاجتك.
أمرت أمي العسكري المراسلة صابر أن يوصل فردوس إلى محطة السكة الحديد، رجله على رجلها حتى تركب قطار الساعة الثالثة إلا ربعا، لا يغير في أبو كبير، ويوصي بها الكمساري والمفتش ومباحث قسم قضائي الشرق.
رأيت فردوس بعد سنوات في البلد بعد أن تاب الله عليها من عيشة الفلاحين، وقد تزوجت من ولد تمرجي أصله من البلد ويعمل في السويس، وهو ابن عمها عبد العال الحشاش، وكان الأولاد الكبار يباشرونه وهو صغير في غيطان الذرة وفي جنينة قويطة.


(9)


كان السائق سيد فتح التلفزيون وتركه يوش ونام على الكرسى أمامه. غلقت التلفزيون وناديت على سيد أوقظه.
قال سيد وهو يدعك عينيه بيديه: الواحد بيحل عليه التعب  بينام من الشقا، قلت له إن عندي موعدا في إيتاب، وهو اسم الفندق قبل أن ينتقل إلى مجموعة آكور، في الساعة الحادية عشرة، مع المضيفة التي جاءت من القاهرة، قال سيد إن نوبته تنتهي في الساعة التاسعة وهو سيسلم السيارة في الجراج لكنه لن ينصرف إلا إذا تأكد من وصول عبد الحفيظ الذي تبدأ نوبة عمله في التاسعة، فهو يأتي في قطار من العباسة، وأحياناً كثيرة، يتأخر القطار لأن هناك إصلاحاً في الطريق، فإذا لم يحضر عبد الحفيظ لسبب أو لآخر، فإن سيد سيحضر في العاشرة والنصف، وقال إن قفص المانجو الكوبانية التي يسمونها هنا البربري، الذي أوصيته به سيكون جاهزاً آخر النهار، قلت له أن يفاصل الرجل، قال سيد إنه سيأخذ عدد مجلة أكتوبر الذي على الترابيزة والذي عليه صورة للرئيس السادات بملابسه العسكرية بمناسبة أعياد أكتوبر لأن بداخله صورة وخبرا عني.
وسيد يغلق باب الإستراحة خلفه، كان جرس التليفون يرن، كان مكتب محافظ الشرقية قال إنه سيوصلني بالسيد المحافظ، ناقشني المحافظ في ترتيبات احتفالية العرابيين، اتفقنا على أن أزوره غدا صباحاً في مكتبه بالزقازيق.
أخرجت حقيبة أوراقي القديمة من الرف السفلي للبلاكار. أتيت بها معي من القاهرة عندما جئت إلى هنا منذ خمس سنوات، احتفظت بهذه الأوراق التي كتبتها وأنا طالب في الجامعة، أحلم بأن أكتب أدباً جديداً مع بلوك نوت، والدي في المستشفى، ومذكرات شخصية كتبتها عن مرضه ووفاته في صيف 75، في حجرة مكتبي بمنزلي بالقاهرة والتي كان والدي قد اشتراها في الأساس من موبيليا مؤمن في دمياط ضمن جهاز أختي، ولكن العريس لم تعجبه الحجرة وطلب تغييرها، وثار أبي وقرر فسخ مشروع الزواج، لكن عمي تدخل بإيعاز من أمي واستطاع أن يقنع أبي أن الذي وقع يسد وأن الحجرة التي اشتريت لن تخسر.
قلت لقدرية وهي ترتدي ملابسها أمس إنه بعد أقل من شهرين سأخرج على المعاش ولن أراها بعد ذلك، قالت إنها ليست عديمة الأصل، وإنها ستأتي لي في القاهرة، وهل نسيت العام الماضي عندما كنت راقداً في المستشفى؟ طلبتني في التليفون يوم الثلاثاء بعد الظهر وهو الموعد الذي اعتادت أن تزورني فيه في الاستراحة، قالت: النهاردة التلات، واحشني.
سألتها متماجناً: ما الذي وحشها فيّ، جارتني في مجوني وقالت: إنت عارف، قلت لها إنها أيضاً وحشتني جداً، وسألتها أتعرف ما الذي وحشني فيها؟ قالت: عارفة، رمان الجناين، وكنت أسمي ثدييها رمان الجناين، وبطيخ  الجزاير، وكنت أسمي مؤخرتها بطيخ الجزاير، وكله.
ظهر اليوم التالي، جاءتني في المستشفى ومعها ابنها، سألتني عن المدام، قلت إنها في الشغل، همست لي أنها ستسرب ابنها، وأرسلته يشتري لها شيئاً من الأجزخانة على الرصيف المقابل، ثم قامت وأغلقت باب  الحجرة، ودخلت الحمام الملحق حيث خلعت السوتيان واللباس ثم جاءت إلي. كنت راقداً على ظهري، وساقي في جبيرة توماس، ممنوعاً من الحركة، نامت فوقي وقد فكت زراير بلوزتها وأطلقت ثدييها حرين ورفعت جيبتها إلى ما فوق وسطها.
عندما عاد ابنها، كنا قد انتهينا، أخذته في يدها وقالت لي بصوت عال، حتى تسمعه الممرضات، سلم على المدام.. باي باي.
بعد أن غادرتني قدرية بالأمس، وكنا قد وقفنا في البانيو تحت الدش نلهو ونحن نأخذ حماماً، ارتديت ملابسي، بذلة كتان أيرلندي بيضاء وقميص قطن فوج كحليا، ولم أعقد رباط العنق، ولكنني وضعت في جيب الجاكتة المنديل، كحلي حرير، كان هناك موعد في التلفزيون لتصوير برنامج عني بمناسبة قرب بلوغي سن الستين، سألتني المذيعة المحاورة عن الأحداث والشخصيات التي تركت بصمة واضحة على حياتي، بدا استرجاع الذكريات إحالة غير مبكرة على المعاش، وأحسست أن المراهق الذي عاش صيف 51 ما زال داخلي، لا شيء يموت داخلنا.
كتب أبي في البلوك نوت هذا الدعاء: لم تكتب على الذل لأحد في حياتي، وأدعوك يا أرحم الراحمين ألا تتركني لأحد.
عندما استيقظت هذا الصباح في سريري برغبة قوية في أن أضاجع قدرية، في أن أتحسس كل تدويرات وتكويرات جسمها وأنعم بالبوس والمص واللهاث والشهقات والغنج حتى أنبثق داخلها مع انقباضات بلوغها الذروة. لكنني الآن أريد أن أنسى ذلك وأستعد للخروج.
لاحظت أن أظافري قد طالت.. قصصت أظافري حرصا على أن تكون القصة هلالية، كنت أضع الأظافر المقصوصة في منفضة سجائر أمامي على الترابيزة، عندما انتهيت، قمت وأفرغتها في حوض الحمام وغسلت يدي بالماء والصابون، دهنت ظهري بمرهم الفولتارين ودلكته حتى تشربت مسام الجلد المرهم تماماً، ورثت عن أبى اللومباجو وملامح وجهه وكف اليد، ولم أرث بصره الحاد وقوة جسده.
كتب في البلوك نوت ليؤكد احتفاظه بقوته وهو على سرير المرض.. لو ضربتك "قلم"، أوقعك الأرض، كان في صباي يعاقبني بالضرب. في مكتبي صورة له، التقطت سنة 1932 وقد ترك الزمن عليها آثاره.. يرتدي فيها بذلته العسكرية.. أحتفظ بها لأنها تظهر التشابه الشديد بين ملامحي وملامحه.
عدت إلى حجرة النوم، فتحت الدولاب، أخرجت بدلة رمادية موهير، اشتريت قماشها من محلات سالم في بور سعيد وفصلتها عند إبراهيم أبو العينين في شارع شريف في القاهرة والذي يقع محله مكان مكتبة كورييل مؤسس تنظيم حدتو، أنا أحب الملابس الأنيقة الفاخرة، وأعطي اهتماما خاصاً لانتقاء الطاقم الذي أرتديه كل يوم. أخذت مع البدلة قميص قطن بلوسيل قطن مائة في المائة ميلنا إيطالي وجورب قطن إيطالي. كانت أمي تقول لي دائماً "إن أناقة الرجل تعتمد على ياقة قميصه وجوربه ولمعان حذائه"، بعد أن انتهيت من ارتداء القميص والبنطلون والجورب، انتقيت كرافته بيير كاردان حريرية لونها كحلي. جلست أقلب في أوراقي.

 

 

أوراق السيد  س القديم


(1)


(نواة عمل أرجأت كتابته...............)
على رأس الشارع الذي يؤدي إلى النادي الأهلي، والذي يدير البوفيه الخواجة مارينو وزوجته، وعند تقاطع هذا الشارع مع شارع سعد زغلول الموازي لبحر مويس، سكناّ في الزقازيق في عمارة الدكتور شعبان بمنشية أباظة، وكانت تمتد بعدها مباشرة الأراضي الزراعية حتى كفر الزند، وقد كان يسكن فيه التراينر علي مدرب التنس بالنادي والذي كان يدرب أخي الذي صمم على شراء مضرب ماكس بلاي بخمسة جنيهات دفعها أبي وهو يقول إنه لم يعد في رأسه شعرة تقبل أخي، وإنه دفع النقود كأنه يخلع ضرسا، كانت شقتنا في الدور الرابع تطل شرفتها الخلفية وهي التي تفتح عليها حجرة القعاد على الزراعات، وعلى عمارة من ثلاثة أدوار عند سور ملعب الكرة بالنادي، يسكن في الدور الثالث منها صديقي سمير الذي كنت أتبادل معه صور ممثلات إغراء في هوليوود للاستمناء عليها، في الوقت الذي كنت أطلق الزفير من فمي في الصباح بخار ماء وكأنه دخان سيجارة، وأقيس طول قامتي وأحلق شاربي خفية حتى ينبت، ولقد عثرت على صورة سمير في أشياء فردوس وقد كتب لها إهداء، وكان سمير ولدا وحيداً على بنتين، ولقد انتحر بعد أن التحق بكلية البوليس بأن شنق نفسه بأنشوطة علقها في سقف حجرته دونما أسئلة كثيرة عن ما بعد الموت، وهل الموت نوم هادئ طويل من دون أن تزعجه أحلام وكوابيس. وقال البعض إن سمير جبان، فالانتحار جبن عن مواجهة المواقف، وقال آخرون إنه أراد أن يعاقب والده مفتش الصحة، ولكن الآراء اتفقت على أن وراء الانتحار علاقة نسائية.
وفي حجرة القعاد، وعلى الطاقم الأسيوطي الذي صنعه أبي عمولة عند النجار في إدفو عندما كان معاونا لبوليس المركز، يجلس أبي بعد الظهر عندما تستطيل الظلال في الخارج وتصفر الشمس، يشرب الشاي بعد أن يفتح الراديو الفيلبس ذا العين السحرية الخضراء ليسمع نشرة أخبار الخامسة ثم أسعار إقفال بورصة القطن، تتخير أمي هذا الوقت الذي  يسبق إذاعة الأخبار، وعندما يكون خال أبي الطيب حاضراً، فتقول وكأنها تذكرت شيئاً إنها أحست بالأمس بسكين في قلبها وصديقة أختي تحكي لها عن الفساتين التي فصلتها عند أفكيميا، خياطة أمي الأرمنية، والتي تسكن في حي الصاغة وراء المديرية. والإسورة الجنيهات الذهب التي اشترتها من السرجاني من مصر، وأختي محرجة لأنها لم تشتر شيئاً.
يقول أبي هذا أجر كسوة، ليس لي بركة إلا سهى، بس لما أبيع القطن. ينادي أبي على أختي فتأتي وجهها محمر وقد تغضن كأنها موشكة على البكاء.
يكرر أبي: أنا ماليش بركة إلا أنت، كل اللي إنت عايزاه حييجي بس لما أبيع القطن.
كان حظها قليلاً في الحياة، تزوجت الرجل الخطأ الذي لم يكن لها، وأصابها السرطان وماتت بعد أبي بعامين.
تتابع أمي، وبهاء زعلان بيقول دي مش عيشة اللي إحنا عايشينها، إحنا ميتين بالحياة وخلفتونا ليه لما أنتم مش قد الخلفة؟
يقول أبي: عايز إيه هو راخر.
تقول أمي عايز بدلتين وقمصان لينو سويسري زي اللي جابهم صاحبه العريف من عند هانو.
يرد أبي أنا عارف رحلة الصيف والشتاء، أنا ما بازعقش إلا لما يكون ما معيش، لكن إن شاء الله أبيع القطن وكل طلباتكم تيجي.
وعندما يعلن المذيع في ختام النشرة أسعار إقفال بورصة القطن، يطبق الصمت على الحجرة فتلقي الإبرة ترن، تتغير سحنة أبي وهو يستمع إلى أسعار الكرنك والمنوفي ورتب الجود والفولي جود والأكسترا ويصرخ أبي وكأنه يصرخ في واحد واقف أمامه، والقطن سعره نازل وراح في داهية.. الله يخرب بيته النحاس، زينب الوكيل عاملة كورنر، داخل تشتري، يبقى هو يتجوز بنت من دور عياله، وإحنا اللي ندفع الثمن، ما كفاهوش فضايح الكتاب الأسود ديك السنة.
ثم يلتفت أبي إلى أمي، طيب حاجيب منين، أهو لا فيه رحلة صيف ولا رحلة شتاء، البركة في زينب الوكيل.
كانت الحياة في بيتنا دائماً معلّقة بالقطن.
ونحن نزرع القطن في عزبة الأفندي، نجهز الأرض بأن تحرث ثم تنهر خطوطاً من جسر البحر إلى جسر الجناينية ثم تقسم شققا، وبعد أن تروح  الشمس الصغيرة وقبل مجيء الشمس الكبيرة في شهري أمشير وبرمهات نزرع القطن بالنقر، وينمو شجر القطن، الجذر إلى أسفل والساق إلى أعلى تحمل الأوراق الخضراء.
وفي بؤونة ومارس، القطن بحر أخضر عميق الخضرة تضيئه آلاف الأزهار الصفراء، تهاجم الدودة ورق القطن ويبدأ موسم المقاومة.
في هذا الموسم، نصحت وزارة الزراعة باستخدام مبيد فعال ضد الدودة اسمه الكوتون دست، أخذني أبي معه، وأشرف بنفسه على أول رشة عند منتصف الليل على أضواء الكلوبات.
قال لي أبي والقطار يقطع بنا الطريق إلى الزقازيق إنه حرص أن يأخذني معه لأنني بلغت السن الذي ينبغي أن أعرف فيه الأرض والفلاحين والمعاملات، ثم أردف كمان تعرف الفلوس بتيجي إزاي؟ وتعرف قرايبك اللي في البلد، أخوك الثاني قنزوح.
في شهر مسري، عندما تفتح اللوز الأبيض، كلفني أبي أن أشرف على جني القطن ومعي تحت إمرتي الخفير الخصوصي أحمد أبو فاضل.
نصحني أبي: خلي بالك من الفلاحين وفتح عينك، إوعى يستكردوك، وحكى لي أنه عندما كان تلميذاً في كلية البوليس الملكية وكان يقضي  فترة التدريب الصيفي بالمركز، استبدل من شيخ بلد جنيهي ورق بجنهي ذهب، وأنه عندما قال لوالده في سعادة ما حدث، قال له جدي إنه ينبغي أن يخجل، فواحد فلاح ضحك على الأفندي الضابط المتعلم، فالجنيه الذهب بسبعة وتسعين قرشاً ونصف القرش، والجنيه الورق بمائة قرش.
وفي عزبة الأفندي، يغمر الصباح الندى، والشبورة البيضاء لا ترتفع إلا مع حمو شمس الضحى، يصطف الأنفار في الخطوط، كل نفر يمسك بخط وينحني على شجرة القطن ينبر اللوز الأبيض ويضعه في عبه حث حزام الوسط بعود من التيل الذي أخذه من صفي التيل المزروعين بموازاة الجسر كمصدر لغبار الطريق الذي تثير سحاباته السيارات المتجه إلى القاهرة عن طريق خط البحر فأبو حماد فبموازاة ترعة الوادى فطريق المعاهدة عن العباسة إلى بلبيس وأنشاص ومسطرد بموازاة الترعة الحلوة.
على هذا الطريق أوقفونا صفوفا متراصة ونحن تلاميذ في المدرسة الإبتدائية ووراءنا الأهالي يتدافعون لنهتف يعيش جلالة الملك وهو في سيارته ذات اللونين الأحمر والأسود إلى افتتاح مستشفى القصاقصين بعد حادث السيارة الذي أصيب فيه بكسور ومعه مجندة من الجيش الإنجليزي.
وعلى هذا الطريق، كان يقلنا نحن أبناء الموظفين أتوبيس تفتيش الوادي إلى مدارسنا ونصرخ في العساكر الإنجليز الذين نلقاهم بإنجليزية متعثرة يو سن أوف ذه بيتش يو كلفتي.
وذلك قبل أن نكبر ونعي ثقل الاحتلال على أرواحنا كالحجر.
وعلى الشاطئ الآخر أمام عزبة الأفندي سراي باهر بك، تحيطها الأسرار، يقولون في البلد إن باهر بك لا ينزل زجاجة الخمر من على فمه إلا عندما يعلن ثبوت الرؤية الشرعية لهلال شهر رمضان، عند ذاك، يقوم بتكسير جميع زجاجات الخمر في بانيو حمامه ويطرد المرأة كشكاية من السراي ولا تدخل الخمر ولا كشكاية السراي طوال شهر رمضان الذي يقضيه باهر بك صائماً نهاره قائماً ليله، ولم تكن الأقوال تستطيع أن تحدد وضع كشكاية في السراي، هل هي مجرد خادمة أم أنها كماريرة سرير، أيضاً وإن كانت كل الأقوال تجزم بأنها ربت ثروة من وراء باهر بك مثلها مثل ناظر زراعته الشيخ عبد الجواد الذي أدخل له باهر بك ابنه الكلية الحربية ولم يكن لباهر بك غير ابن واحد هو عزيز ويدرس الهندسة المدنية في جامعة الإسكندرية.
وفي الصيف الماضي، عثر على جثة كشكاية مخنوقة موضوعة في جوال ألقي في مصرف بحر البقر، وجاء البوليس وجاءت النيابة، وأشارت أصابع الإتهام إلى أحد الخفراء وإلى أنه قتلها بتحريض من عزيز، لكن التحقيق لم ينته إلى شيء، وقيدت الواقعة ضد مجهول.
وبعد شهور، مات باهر بك في سريره، وجاء ابنه عزيز الذي قصر العزاء على تشييع الجنازة وأغلق السراي وسافر إلى الإسكندرية، ويقولون في البلد إن عزيز قد وكل الشيخ عبد الجواد رسمياً لبيع الأرض، وإن الشيخ عبد الجواد من ذقْنه وفتل له واشترى هو الجزء الأكبر من الأرض، لكن السراي بقيت مغلقة ومهجورة وتقطع عفريتة كشكاية الرجل أمامها في الليل.
أقف وراء الأنفار والندى العالق بالزرع والحشائش والديس يبلل حذائي وساق بنطلوني، ويقف عبد المعبود الذي كنا نجني زراعته في هذا اليوم وراء أنفار في قميص دمور قصير يصل إلى ركبتيه وقد حزم وسطه هو أيضاً بالتيل وعلى رأسه طاقية صوف ويلف عليها شاش العمة الأبيض، وقد وشم على ذراعه اليمنى أسدا واسمه، وعلى صدغيه وشم حمامة، يزعق عبد الموجود في الأنفار وطي يا وله وطي يا بنت، النضافة، خلو بالكو من النضافة، ده مال ناس.
ويتقدم إلى خط زوجته محبوبة، يجني لها الترويسة حتى تسبق الأنفار وتحبسهم وراءها، وكانت أخته فاطمة تمسك بالخط المجاور لخط محبوبة، كنت أراها بعين خيالي كزينب بطلة رواية هيكل، وكنت أتخيل نفسي كحامد ابن البيك الثري، فكنت أحس أني أحب فاطمة أو كنت أتخيل ذلك. أغلب الظن كنت أحب الحب ذاته، فقد كنت أحب ثريا ابنة الجيران قبل أن أحضر إلى البلد، وكنت أنتظر إشراقها في النافذة وهي تشير إلي بأن تمرر كف يدها على خصلات شعرها الألاجرسون أو تتمدد على السرير المقابل للنافذة وقد أخذت الوسادة في حضنها تقبلها ونظراتها باتجاهي، وكنت أرسل لها خطابات حب أترجم لها فيها قصائد من الذخيرة الذهبية، كأن قلبي كان عوداً ينتظر من يداعب أوتاره.
سألتني فاطمة معابثة: ماذا أفعل مع بنات البندر؟
لم أجد جواباً واحمر وجهى خجلاً، قالت إنها كانت تجمع لجدتي لأبي وهي بنت صغيرة البامية الخضراء والرجلة والملوخية حتى تزوجها مني، لم تكن هذه الفكرة قد خطرت على بالي، إن فكرة كهذه تراها أمي قلبا لنواميس الكون والطبيعة، كأن تشرق الشمس من الغرب، أو لا يعقب الليل النهار، وكنت أفكر في نهاية مفجعة وحزينة لقصة حبي لفاطمة، كنهاية فرتر فأنتحر وينمو من تراب جسدي شجرة قطن تأتي فاطمة في العام القادم لتجني لوزها الأبيض فتحدثها روحي.
قالت محبوبة، امرأة عبد المعبود، لفاطمة وهي تنظر ناحيتي: خشي يا بت الإدرة وأبو البيه يخش وراكي.
وراح وجهي مائة لون والتهبت أذناي وحاولت فاطمة أن تغير الكلام فسألت محبوبة.
هو حقه الواد الأعرج لما نط على السطح، أبويا الإمام كان بإس مريم.
ردت محبوبة، يا اختي حدانا ولايا وربنا أمر بالستر. وكان عبده الأعرج ابن أحمد أبو فاضل الخفير الخصوصي قد قال لي إنه عندما صعد إلى سطح الإمام، كان هذا باتفاق مع مريم وإنها جاءته في الغيط في أول يوم لجني القطن في النجمة وإنه أوقفها في بطن القيد ووقف هو على البتم وباشرها من الخلف، في شرودي مع رواية الأعرج، استقرت نظراتي على إصبع لفاطمة قد شوهتها خبطة محشة (فأس صغيرة)، وقالت إن ظفرها هذا لا يعوقها في شيء، وارتفع صوتها يغني في الفضاء العريض..
يا رب كل اللي أحبه يصبح ضابط يقرأ ويكتب وييجي لي على الحصان راكب
مخدته ريش ناعم ومسندة قلبي
وأنيمه على جنبي
ارتفعت الشمس في سماء زرقاء تماماً، تكاد تصبح بيضاء تلهب الدنيا وتحيلها نار الله الموقدة مع طلوع الوش الأول وقد سبقت محبوبة الأنفار بشقة كاملة، ناداها عبد المعبود أن تفرغ القطن في عبها وتملأ الجرة من الجنابية وتسقي الأنفار، كان الحر شديدا والنخلة بنت عيشة، والنخلتان  الحياني سعف جريدهن الأخضر ثابت لا يتحرك، وشماريخ البلح بنت عيشة الرطب الصغير الأسمر والحياني الأحمر الناروز ثابتة لا تتحرك هي الأخرى، وشجرة الجميز الضخمة عند مدار الساقية ثابتة أيضاً لا تحرك أوراقها نسمة هواء كأنهما جميعاً لوحة مرسومة، أفرغت محبوبة القطن من عبها في قفة حملتها امرأة أخرى لتفريغها في كيس من أكياس القطن، وضعت محبوبة حواية على رأسها وقد أسندتها بكف يدها اليمنى واتجهت إلى شاطئ الجنابية لتملأها، عادت وقد ملأت الجرة تصب الماء في  كوز صفيح  معها وتسقي الأنفار.
ظهر عم علي قادما على ظهر حماره فوق الجسر، وعندما اقترب من رأس الغيط، نزل عن الحمار وسحبه وراءه وهو يهبط من على الجسر إلى بتم القيد الذي يفصل المارس الكبير عن المارس الصغير، كان عم علي يرتدي صديريا شاهيا قديماً مخططاً فوق قميص دمور وفوق رأسه الصغير النحيل طاقية صوفية قذرة لف عليها شاش عمة بيضاء تغير لونها من العرق والغبار، عيناه عليهما سحابة من أثر عماص مزمن ودائم، وذقنه قد نبتت فيها شعيرات بيضاء قليلة كأنها أرض مالحة، وفمه خال من الأسنان، كانت ساقاه رفيعتين وقدماه كبيرتين كخفي جمل.
قال عم على: البركة.
رد عليه عبد المعبود: حضرت.
ثم زعق لمحبوبة: خذي حمار أبويا وروحي هاتي الغدا  للأنفار.
نظر عم على إلى الوش الذي طلع وإلى أكياس القطن وقال: القطن مش صاحح السنة، الدودة كلته، قال عبد المعبود، ده إحنا طافحين فيه الكوتا  أني والمرة والصغار، وقالت محبوبة التي كانت قد أوقفت حمار عم علي في بطن القيد لتركب عليه، إحنا حنعمل إيه بس لربنا؟ حانطلع لربنا بسلم؟ ده الواحدة خلقتها ما تصرش حفان ملح.
زعق فيها عبد المعبود امشي روحي هاتي الغدا مشش في عينك، قال عم علي وكأنما يرد على محبوبة التي كانت في هذه اللحظة قد امتطت ظهر الحمار وغمزته في بطنه بقدميها المقشفتين، ده ملك ومنظمة صاحبه، يرزق من يشاء بغير حساب، قال أحمد أبو فاضل الخفير الخصوصي: هم أصلهم شافوا السنة النجمة أم ديل, والنجمة أم ديل لما يشوفوها يبقى لا الغلا لا الوبا، وافق عم علي كلامه وأمن عليه قائلاً: أصل الكوليرا كانت حتاخد الرجال والصغار والنسوان، قام قضا أخف من قضا، قام ربنا بعت الهلوك كل الفول والدودة كلت القطن والأداري أهي قدماك صملت زي ما تكون سهكتها نجمة.
وهو النبي آدم، بإيده حاجة يا ابني، إحنا بنحطها سودا زي العبد تطلع بيضا زي الفل، ناشفة زي الحجر الصوان، تطلع خضرة زي بنت  أربعتاشر.
قال عبد المعبود، طب وحنسد إزاي؟ ده القطن عليه شوية وشويات والأكادة سعره في النازل.
قال أحمد أبو فاضل الخفير الخصوصي البيه بيقول السعر في النازل علشان مرة النحاس، الأكادة مرة نتاية والنحاس راجل عجوز غلبان ما يقدرش عليها، دي عايزة لها راجل بخيره وياخد لها سنة أفيون.
قال عيد ابن عم علي المراهق الذي كان يستمع إلى الحديث، دي ولا بتاع حمار يكفيها.
حكي لي عيد بالأمس إنه كان يعمل في العام الماضي عند الخواجة سلفاجو تاجر القطن في المحطة، الذي كان يسكن في فيلا دورين على ترعة السماعنة، أصبحت في التسعينيات مقراً لبنك التسليف الزراعي، وإنه فوجئ بابنة الخواجا الكبيرة تمسك عضوه وتهيجه حتى بلل اللباس وهي تسأله ما هذا؟
شتم عم علي ولده عيد وقال له لن تُجلْمد يد مذاره وأنه فالح فقط في الكلام الفارغ.
تعجب عم علي من فراغة عين البني آدم التي لا يملأها إلا التراب، وحكى قصة رواها سيدنا في خطبة الجمعة، كانت عن رجل غني عنده مال قارون عندما جاؤوا يشيعون جنازته، أخرج يده من الخشبة فارغة.
قال عبد المعبود متعجباً، الأكادة الدودة ما حوقش فيها الرش اللي البيه جابه.
اتضح فيما بعد أن الذي استورد الكوتون دست كان سكرتيرا لمجلس النواب وأنه كان مغشوشاً، وأن سكرتير مجلس النواب قد ربح في هذه الصفقة ثمانية ملايين من الجنيهات، ولقد استقر في السعودية بعد ثورة 23 يوليو بعد أن عرف اتجاه الريح، وعاد أولاده في الثمنانينيات إلى مصر ليؤسسوا مجموعة اقتصادية تعمل في السياحة والصناعات الدوائية.
واصل عبد المعبود: احنا طافحين فيه زيت بَطِنا وملناش زرعة ولا قلعة غيرها، طب حنعمل إيه؟
قال  عم علي: ما هو البيه لازم يريّحنا، والله إن ماريّحنا البيه ما نخبط فيها ولا خبطة حتى لو طرحت زعفران.
فكر عم علي أنه يعرف هذه الأرض جيداً، يعرف كل خط، كل ريشة بطالة، كل قناة ربع. كل ترويسة، كل شقة يعرفها كما يعرف جسد امرأته وهو لا يعرف أرضا أخرى غيرها، وكأنما يعبر عن أفكاره بصوت عال: بس حنروح فين؟
بعد الغداء، أخرج عم علي من جيب الصديري علبة سجائر كرافن A  صفيح حمراء عليها قط أسود، فتحها وتناول منها ورقة بفرا وتناول الدخان من العلبة بسبابته وإبهامه ووضعه فيها، ثم لف الورقة بالدخان  بعد أن بللها بطرف لسانه وضغط عليها بإصبعه فتماسك قوام السيجارة. دبب طرفيها ثم وضعها في فمه، أخرج علبة الكبريت الخشب ستين عوداً من جيب الصديري، وأشعل السيجارة بعود الكبريت وجذب نفساً عميقاً أخرجه من فمه وفتحتي أنفه وسرح في الزمن الغابر.
أيام العز راحت خلاص يا أبو فاضل. ده زمن الأرض الهايفة والرجالة الهايفة، ده الزمن اللي قال عليه حسان اليماني، زمن اللي تمتطي فيه فروج النساء صهوات الخيل.. أيام سيدي الشيخ (وهو يعني جدي لأبي)، إحنا كنا نحصد الغلة وندرسها وندريها ونعرمها، نختم العرمة ونسيبها  في الغيط ما نروحهاش إلا لما نقطع الأدرة ونقشرها. كان سيدي الشيخ يا أحمد ما يفوتوش مولد، وعمر ما حد قدر يقف قدام سيدي الشيخ في الصابية، كان خيّال أمال إيه؟ شال العمة من على رأس خيّال الأباظية في مولد أبو مسلم ولف بها الصابية، شيل العمة دي حاجة كبيرة قوي، يومها كان يوم، سيدي الشيخ الله يرحمه ويفشفش الطوبة اللي تحت رأسه كان يقول لي يا علي الخيل معقود في نواصيها الخير، كان بيأكّل الخيل السكر بإيده، مرة كان حداه حصان أسود خدته منه السلطة الله لا يعيد أيامها وإحنا في مولد شيخ العرب لقي الحصان متعلق في عربية الكارو، الشيخ قال للعربجي بع لي الحصان ده وزي ما تقول، العربجي قال ولا خمسين جنيه ورق، سيدي الشيخ قال وأني موافق اشتري الحصان وفكه من العربة، وورا الخيمة بتاعتنا في المولد حفرنا حفرة ووقف فيها الحصان وضربه بالنار زي خيل  الحكومة . قلت له يا سيدى الشيخ أمال دفعت فيه خمسين جنيه ليه عاد؟، كان أحسن فدان في بلدنا وقتها، ما يحصلش خمسين جنيه اللي دلوقتي بقي بخمسمائة جنية رد علي الشيخ.
- علشان مش ينهان يا علي.
قاطعه أحمد أبو فاضل الخفير الخصوصي، أمال اشمعنى ساب الست منيرة تهينك؟
قال عم علي متذكراً، الشيطان وزّني، قام قلت لها إني بدي أعمل زي سيدي الشيخ، قام مسكتني بالشبشب يا أحمد وهات يا ضرب وهي بتقول عايز تحط بتاعك مطرح بتاع سيدك؟ ولما رجع الشيخ من الجامع، أصل عمره ما كان يفوته فرض، وكان يقول هذه نقرة وتلك نقرة. وقالت له الست منيرة، قعد يضحك، الله يرحمه، ياما التراب بيتاوي، الموت ما بيخدش غير الناس المنعازة. كانت الست أم البيه دايما تتخانق له إنت حتخربها وتقعد على تلها، أخرتها الخواجات حياخدوا الأرض وهو يضحك ولا يردش.
كان الأنفار قد قاموا بعد الغداء وأمسكوا بخطوطهم وكادوا ينتهون من الوش الثالث ونحن نسرح مع عم علي في مروج الماضي وأفقنا على صفير القطار من بعيد وهو يتجه إلى محطة البندر والشمس قد اصفرت  وارتفع صوت فاطمة والأنفار وراءها ما عدا محبوبة.
يا قطر خمسة شد الشمسة.
التفتت لها فاطمة بعد أن انتهت من أغنيتها:
أنت مالك مكتومة كتمة الفول الأخضر؟
ردت محبوبة، القطن يا أختي مش سادد، إيجار الأدرة عمنول انكسر علينا. وينكسر إيجار السنة كمان؟
قالت فاطمة وهي تفرغ القطن من عبها وتجلس على بتم القيد تطس وجهها بالماء: البيه لازم حيريحكوا، هو البيه حيعمل إيه بالفلوس دي كلها؟
كان الأنفار يتسابقون على إفراغ القطن ثم يقرفصون على بتم القيد ليطسوا وجوههم بالماء ويفكوا أحزمة التيل التي يتحزمون بها، وزعق عبد المعبود في محبوبة أن تفز وتعاون في تفريغ القفف في الأكياس ثم أتى بالحمير ونادى على شقيقة عيد والشبان ليعاونوه في تحميل الأكياس على الحمير، واحد يمسك بالحمار ويوقفه واثنان يرفعان الكيس معاً من على الأرض، والرابع يتلقاه على ظهر الحمار ويضع عبد المعبود ولدا أو بنتا من أولاده فوق الكيس ليسوقوا الحمار إلى البلدة.
*******
نحن نستغني بشجرة المستكة التي تصنع ظلالها وأشعة الشمس الضحى في فراندة بيتنا عن الشاليش ونعلق فيها سلبة ونعلق السيبية التي يزن بها سيدنا محمد أبو درار خادم الجامع وقباني البلدة بخطاف في السلبة.
أنزلت أكياس القطن من فوق ظهور الحمير على الماشية التي تنتهي عند سلم الفراندة وشجرة المستكة، وجاءت فاطمة وفوق رأسها لمبة صفيح ترسل لهبا أصفر ودخاناً كثيراً وتضيء جانبا من وجهها، وجلست فوق أحد الأكياس.
زعق فيها أبوها عم علي، إنت جايه تعملي إيه يا بت؟
قالت فاطمة: جاية في طلب لأم البيه.
زعق فيها عم علي: ما أنت طالعة شرموطة زي أمك.
كان عم علي قد تزوج أمها مريم أم محمد بعد أن مات أخوه الأكبر وزوجها الأول ليربي أولاد أخيه في حضنه، ويقول أحمد أبو فاضل الخفير الخصوصي إن مريم أم محمد كانت صبية وكانت على حل شعرها, أكثر من واحد من أولاد العائلة قد نام معها وإنه هو شخصيا قد نام معها وسحبها لخالي غير الشقيق العمدة في شبابه، لقد زوج عم علي البنت وهي محبوبة إلى ابنه البكري عبد المعبود، وعندما طلب الولد سيد أحمد للقرعة، صممت مريم أم محمد على أن تعزل في عيشة لوحدها هي وابنها سيد أحمد البكري وأولادها من عم علي عيد وفاطمة، ولقد اشترت مريم أم محمد والتي كانت ماشطة البلد في ذلك الوقت فدانا باسم ابنها البكري سيد أحمد من أحمد أبو حسن أحد أبناء عمومتي والذي كانت علاقته بوالده قد توترت بعد وفاة والدته، إذ إن والده أحضر زوجته الجديدة إلى البيت ليلة أربعين أم أحمد أبو حسن وبنى بها على فرش أم أحمد أبو حسن. انقطع أحمد أبو حسن عن المجيء إلى البلد ثم ذاعت الأخبار في البلد بأنه تزوج الأرملة التي كان يسكن في بيتها في شارع فاروق خلف مصانع الباشا الذي بدأ حياته شيالا على محطة سكة حديد الزقازيق وتاجرا في القطن. وأثرى ثراءً كثراء ألف ليلة وبنى قصراً يطل على النيل في القاهرة باعه الورثة في الثمانينيات مع الانفتاح، وقامت مكانه مجموعة من الأبراج. ولكنه احتفظ بنمرته كشيال وعلقها خلف مكتبه وترك أحمد أبو حسن المدرسة وعين كاتبا في القلم المالي بمديرية الشرقية.
زعق عم علي مرة أخرى على فاطمة، قومي اندهي على أخوكي عبد المعبود وأخوكي سيد أحمد يجيبوا الرجالة وييجوا علشان نوزن وننفض، وشوفي أخوكي عيد يشوف الشيخ محمد.
قال سيدنا وهو يشبك السيبيه بالخطاف في السلبة المعلقة بجذع شجرة المستكة، اتكلنا على الله، الفاتحة للنبي، قرأ الرجال في سرهم وأنا معهم الفاتحة ثم قلنا آمين بصوت مرتفع، دحرجوا أول كيس حتى أصبح تحت جذع شجرة المستكة فوقف عند كل طرف من طرفي الكيس رجلان متقابلان، يمسك كل رجلين متقابلين بفرع توت من الناحيتين، مرروا فرعي التوت وتلقى سيد أحمد الحبل الزوجي مع الرجال الأربعة الذين ما زالوا يرفعون الكيس بفرعي التوت حتى شبك الحبل الزوجي في الخطاف، وأحاط الحبل بالكيس من الناحيتين، وأصبح الكيس معلقا في الهواء تماما، حرك سيدنا الرمانة النحاس على السيبيه تماما فتناول اللمبة نمرة خمسة من على سور البلكونة وقربها من السيبيه وقرأ 310، دققت النظر كانت القراءة الصحيحة 360 وليس 310.
ما كدت أصحح لسيدنا القراءة حتى هبت زعابيب أمشير وهاجت الدنيا وماجت.
زعق عبد المعبود في سيدنا يا شيخ يا ضلالي، يا قليل الدين، ده زرعي، ده شقايا، ده عرقي.
وسمعت صوت فاطمة يأتي من حيث تجلس، ده عرق الرجاله.
اسود وجه سيدنا من الغضب ولكنه كظم غضبه وقال إن الله وكيل بينه وبينهم وبين البيه، وإن أمامه شبرا ضيقا، ولا أحد سيدخل معه قبره، وأقسم سيدنا أنه لن يزن القطن وأنه سيتصل بالبيه ليأتي ويجد له تصريفا ويتسلم منه مخزونه الذي ائتمنه عليه.
زعق عبد المعبود وقد أحس في كلمات سيدنا بتهديد مستتر، مش حياخد الروح إلا اللي خالقها.
زعق عم علي في ابنه عبد المعبود: إحنا طول عمرنا بنزرع مع البيه وما حدش بيسمع لنا حس ولا بيدرا بنا.
إكتم علاوله، احتج عبد المعبود على والده حيسخطوك يا قرد.
هم عم علي بخلع بلغته التي بها أكثر من لوزة ليضرب بها عبد المعبود، وحجز الرجال بينهما، وأخرجوا عبد المعبود من الجنينة وهو يبرطم.
ولم أنم في هذه الليلة.
صنع أحمد أبو فاضل الخفير الخصوصي دخنة من قطعة قماش ممزقة وقديمة ليطرد بدخانها الناموس ثم أدخل نفسه في كيس من الفوارغ هرباً من لسع الناموس القارص على الرغم من الدخان ونام، وجلست أنا على كيس قطن في الجنينة وقد سقط الليل على البلد كحجر ثقيل لا يجرحه إلا صوت ماكنة طحين أولاد جمعة التي في الخزان ونقيق الضفادع. كنت أفكر في الميزان وفي الكوليرا التي تحصد الرجال والنساء والصغار والدودة التي تأكل القطن والهلوك الذي يأتي على الفول والذرة التي كأنما سهكتها نجمة وخلقة محبوبة التي لا تصر حفان ملح.
وقفت في الصباح أنتظر أبي على جسر البحر. من فوق حافة قبعتي الفلينية الكاكي الشمس عالية في السما، وعلى بر الكفر الذي يسير عليه خط السنيكروفت شجرة صفصاف قد مال فرعها على ماء البحر الذي انعكس عليه ظل سراي باهر بك.
هبط أبي من السيارة الأجرة التي جاء بها من البندر يرتدي بذلته العسكرية البوشرت الصيفي بلا قميص أو كرافته، على كل كتف من كتفيه تاج ونجمتان، وعلى رأسه الكاب، وفوق عينيه نظارته الشمسية الري بان. خففت إليه، صافحني وأخذني على جنب، سألني: ماذا حدث؟ رويت له ما حدث، أصغى إلي في اهتمام شديد ثم أخرج علبة سجائره الكرافنA  الصفيح، وضع سيجارة بين شفتيه وأشعلها بولاعته الرونسون وأعطى عم علي سيجارة والخفير الخصوصي أحمد أبو فاضل سيجارة ولم يشعلاهما هما الاثنان، ووضع كل منهما سيجارته وراء أذنه.
سأل أبي عم علي وهو ينظر إلى مارس القطن أمامه:
الفدان يجيب كام يا شيخ علي؟
رد عم علي: دي حاجة بتاعة ربنا يا بيه.
وجه أبي سؤاله إلى أحمد أبو فاضل خفيره الخصوصي، الفدان حيجيب كام يا أحمد؟
رد، دي تبقى مقاطعة على الرزق يا بيه، دي حاجة في علم الغيب.
قال أبي وهو يهبط من على الجسر ويقف على بتم القيد الذي يفصل المارس الكبير عن المارس الصغير، بقي يا علي ابنك عبد المعبود يفوت غيطي..
قال عم علي: نفوت غيطك، نفوت غيطك ونروح فين؟
ده إحنا من أيام سيدك الأفندي وإحنا بنزرع في العزبة دي خدت منا رقات وملناش زرعة تانية غيرها، يقوم نفوتها ونروح فين، ده إنت لازم تريحنا يا بيه.
قال أبي أريحكوا؟ أريحكوا إزاي يعني؟ اللي أبوه حساب ما يموتش، والحساب على رأس الميت كي على اللبب.
التفت عم علي لأحمد أبو فاضل الخفير الخصوصي وكأنه يستجير به: ما تحكي يا أحمد للبيه على اللي حصل امبارح.
قاطعه أبي: اللي حصل أنا سمعته من ابني قدامكم، هي قصة أبو زيد حنقعد نحكي فيها، هي كلمة واحدة، ابنك عبد المعبود ما ينزلش غيطي.
قال عم علي ملاطفاً: يا بيه هو حد بيشارك حد في ماله يا بيه، احنا من غير الزرعة دي برضه رجالتك، وعمرنا ما نخرج عن طوعك. أني امبارح كنت حاضرب ابني بالبلغة.
قال أبي وكأنه أعد نفسه مسبقا لهذا الموقف: يعني يا علي، ابنك عبد المعبود ما ترباش، وغلط في الشيخ محمد، وده راجل حامل كتاب الله.
قال عم علي وقد أحس أن أبي بدأ يلين: يتربى يا بيه.
في هذه اللحظة، كان عبد المعبود قد جاء من وراء الأنفار وانحنى على يد أبي محاولا أن يبوسها، لكن أبي سحب يده بسرعة وتدخل عبد المعبود في الحديث:
غلط إيه في الشيخ محمد عاد؟ ده رجل ضلالي عمره ما حيورد على جنة.
احمر وجه أبي غاضباً: وبتعيد الكلام قدامي تاني يا ولد، أني مش لازم لي كباره والله والله ما عنت تقعد فيها ولا ساعة.
قال عم علي مداهنا أبي وهو يهجم على ابنه عبد المعبود وأحمد أبو فاضل الخفير الخصوصي يحجز بينهما: إنت إيه جابك يا ابن الشرموطة هنا، امشي انجر..
برطم عبد المعبود: أمشي أنجر إزاي، ده زرعي.
توعده أبي: والله لو طلع أبويا من التربة يجرجر في كفنه ما عنت زارع فيها.
عاد عم علي يتهجم على عبد المعبود، فحجز بينهما أحمد أبو فاضل الخفير الخصوصي وسحب عبد المعبود بعيداً.
زعق أبي في عم علي، اقعد يا علي خلينا نتكلم، بلاش شغل المزارقة ده. دلوقتي القطن ده بيتجمع الصبح على الندى، يبقى لازم الشيخ محمد يعمل حساب الندى علشان المخزن ما يعجزش معاه زي ما بيعمل حساب الفوارغ.
رد عم علي: يا بيه اللي حصل امبارح ده نفس ما إحنا كل سنة بندخل القطن المخزن وبنتحاسب ولا حد بيدرى بينا.
قال عبد المعبود الذي عاود الاقتراب من الدائرة التي نقف فيها: أني لازم أعرف لي بر من بحر والشيخ محمد مش حيوزن قطني.
وجه أبي كلامه إلى عم علي: بص يا علي، المستخبية بتكسر المحرات، أني ما عنديش حد بيوزن غير الشيخ محمد.
برطم عبد المعبود: شوف يا بيه، الشيخ محمد مش حيوزن قطني، إن شاء الله تيجي على عرف وينكسر.
تدخل أحمد أبو فاضل وسحب عبد المعبود بعيداً مرة أخرى وهو يقول له: إن الماء لا يطلع العالي، وبعدين لو سبت التلات فدن اللي أنت زارعهم عند البيه، حتروح فين؟
حتبقى لا نابك بلح الشام ولا عنب اليمن.
رأيت وجه عبد المعبود يظلم.
عاد أحمد أبو فاضل وقال لأبي الشيخ محمد هو اللي حيوزن يا بيه ما حدش يقدر يتني لك كلمة يا بيه.
اشترط أبي: ويرضوه.
قال عم علي: أني حا حق نفسي له يا بيه.
قال أبي وقد لان عبد المعبود: اللي يحق نفسه، ابعت حد ينده له يا أحمد من البلد.
نادي عم علي ولده عيد أن يأخذ ذيله في أسنانه ويجري يحضر الشيخ محمد من البلد.
لكن أبي استدرك، أحسن يا علي تروح إنت تجيبه أهي ترضية له برضك.
أمن عم علي على كلام أبي أمرك يا بيه، بس عشان شيبتي إعفي عن الواد عبد المعبود، هو واد خايب وغلبت فيه، الملافظ سعد.
زعق عم علي في ابنه عبد المعبود: قرب حب على إيد البيه، والله البيه خسارة فيكو يا ولاد الكلب، قرب يا ابن الشرموطة. وقال أحمد أبو فاضل إن عليهم أن يحمدوا ربنا، فالبيه قلبه أبيض وليس كغيره دغل وقلبه أسود تدخله بلمبة نمرة خمسة.
أحسست بشيء داخل عبد المعبود ينكسر وشعرت بالخواء يتمدد داخلي.


(2)


أعود دائما إلى بلدتي في الصيف، وقد ذكرها علي باشا مبارك في خططه التوفيقية باختصار مُخل، فقال: إنها قرية من مديرية الشرقية واقعة على الشاطئ الشرقي لبحر.. وكان بهذه القرية مكتب على طرف الميري، وهو أول مكتب دخلته، ثم انتقلت منه إلى مدرسة القصر العيني وإليها ينسب كما في خلاصة الأثر محمد بن يحيى الملقب صفي الدين المعزي المصري الشافعي المحدث الأديب الشاعر، ولعل السبب في تناول علي مبارك المخل لبلدتي هو موقفه من العرابيين، وأنه كتب خططه في عصري توفيق وعباس حلمي وأحداث العرابيين حيّة في الأذهان، وكان جدي الأفندي واحدا من زعامات العرابيين، ويرددون في البلد أن ثلاثة إخوة نزحوا من الحجاز في نهاية القرن الثامن عشر وهبطوا أرض مصر سالمين، استقر الصغير في بلدتنا وتزوج وأنجبت له زوجته خمسة أبناء ذكور اشتغلوا بالفلاحة.
ظهر يوم من أيام شهر بؤونة، عاد الابن الأصغر من الغيط ليجد أن الملتزم سليمان عبد العال قد قبض على أخيه الأكبر وأودعه السجن بأن أوقفه وسط دائرة رسمها على الأرض بعود من الحطب وجلس هو على بغلته بجوار التل الذي يعمل عليه الناس كالناس، يحرسه، غلى الدم في عروق سليمان وهذا هو اسم الابن الأصغر وأعماه الغضب واتجه مباشرة إلى سجن أخيه وحرره من سجنه بأن جذبه خارج الدائرة، شتمه الملتزم وعابه وحاول أن يضربه فرفع سليمان الملتزم من فوق بغلته وألقى به على التل.
طلب القبض على سليمان فأخذ في وجهه وهج من البلد، لم يكن يعرف جهة معينة أو بلداً يقصد إليها، لكنه كان عليه أن يترك البلد والغيط وإخوته الأربعة فرارا من القبض عليه، ولم يكن له أن ينتظر المساعدة من أحد، أو أن يعينه أحد.
مشى من بلد إلى بلد، يتعاقب عليه في رتابة النور والعتمة، النهار والليل، برد العجوز في طوبة وحر بؤونة، ويوم شرد ويوم برد، امتد به الطريق أكثر من عشر سنين قابل فيها فلاحين يواجهون الملتزمين بقولهم إنتم إيش بقالكم في البلاد، قد انقضت أيامكم، إحنا صرنا فلاحين الباشا.
وقابل فلاحين آخرين فارين مثله من الإهانة والضرب.
في هذا الزمن، كان مسيو جوميل بسبب خيانة زوجته الفرنسية قد هاجر من فرنسا واستقر في بولاق مديراً لمصانع الباشا واسترعت انتباه مسيو جوميل أثناء زيارته لضابط تركي اسمه محبوك شجرة تتفتح فيها لوزات القطن الأبيض.
وفي سنة ألف وثمانمائة وواحد وعشرين كان هذا القطن الطويل التيلة يباع في مرسيليا بسعر يزيد أربعة أضعاف عن سعر أفضل الأقطان في العالم ويستحسنه نساجو لانكشير.
وفي هذا الوقت، كان سليمان قد استقر في تغريبته عند أسرة تركية تعرف إليها ولها ابن يعمل خازندارا لأفندينا عزيز مصر.
توسط الابن الخازندار لجدي عند أفندينا محمد علي فعينه عزيز مصر حاكم خط وأمره بزراعة ثمانية أفدنة من القطن، فزرع جدي ثمانين فدانا مستعينا بالعدة والكرباج، رقاه محمد علي إلى وظيفة ناظر قسم، وعهد إليه بالعهد وحاز الأبعاديات وملك أملاكاً كثيرة كان يمشط عليها في دهبية، وهي أول دهبية جرت في بحر بلدنا، كما يقول محمود أفندي، في فخر، ويجرها زوج من الخيول يسوسهما اثنان من العبيد السودانيين هما سعيد وبشير، ولقد شيد جدي الأفندي، ولقد صار هذا هو اللقب الذي يعرف به جدي، والذي عرفت به عائلتنا بعد ذلك، بيتاً كبيراً من دورين، بناه بالحجر الأحمر يشبه قصور المحروسة. زجاج حمامه تركي ملون وله شبابيك عالية عليها حديد، أمامه جنينة صغيرة تفتح على ساحة أصغر منها، والدخول إلى هذه الساحة من بوابة كبيرة على يمينها حجرة أصبحت الآن حجرة تلفون العمدة والسلاحليك، وعلى يسارها حجرة العدة والكرباج. بحري الساحة شيد الأفندي الدوار، صحن واسع غير مسقوف، على يمينه ويساره جناحان من الغرف لها شبابيك عالية ومسقوفة بألواح ومراين خشب ويعتمد سقف الباكية على ستة عروق من الخشب تتفتح عند التقائها بالسقف على شكل كأس زهرة اللوتس وفي صدر الصحن الواسع وبطوله ينهض تختبوش على مستويين. المستوى الأول بعد أربع درجات وهو غير مسقوف وبلا أجناب، والمستوى الثاني تصعد إليه درجتين أخريين عرضه ثلاثة أمتار وارتفاعه خمسة أمتار، وقد بني الجانبان والصدر بالطوب الأحمر ودهن بالرمل والجير وهو مسقوف بالخشب المنقوش نقوشاً رائعة، تدعم هذا السقف الخشبي عند التقاء المستوى الأول للتختبوش بالمستوى الثاني ثمانية عروق من الخشب تتفتح عند التقائها بالسقف على شكل زهرة لوتس على يمين ويسار التختبوش المسقوف بنيت مصطبتان بالحجر.
من هذا الدوار، ظهر يوم حار رطب في يوليو سنة ألف وتسعمائة وخمسة وسبعين، شيعت جنازة أبي، كان لواءً حكمدار البوليس مديرية، تقدمت الجنازة جنود السواري على خيولهم المطهمة وطابور من البيادة وفرقة موسيقى نحاسية وصفوف من الضباط.
كتب أبي في البلك نوت الذي كان الكومودينو بجوار سريره في المستشفى بعد أن تم استئصال الحنجرة: "جدي الحاج عطية كان يحبني جداً وهو أول من تنبأ لي أني سأكون ضابطاً، كان يناديني يا جندي".
جرت مراسم تشييع الجنازة أمام الدوار وأشجار الجازورينا العملاقة التي تفصل بين البيت وساحة الدوار في مكانها بأوراقها الإبرية الخضراء المتربة، والبوابة الضخمة التي ليس لفرعنا من العائلة أخوال خارجها في مكانها ثابتة.
خارج البوابة الضخمة، شيد الأفندي الجامع الكبير الذي عرف باسم جامع عائلة الأفندي، ورداً لجميل الأسرة التركية التي كان توسط ابنهم الخازندار سببا في سعده، بنى بابنتهم الست فاطمة التركيبة وأقام لها فرحا استمر أربعين ليلة.
أنجبت له ولدا ذكرا سماه على اسم خازندار أفندينا، وهو رأس الفرع الذي ننتسب إليه من الأسرة ولقد سمي والدي على اسمه، يقولون في البلد، ويردد محمود أفندي بفخر في كل مناسبة، ما حدش شاف العز اللي شافه ابن الأفندي. كان بيلبس سبع جبب فوق بعض ويذكرون أن الوصي على عمتنا غير الشقيقة طالب عند موت ابن الأفندي وقبل دفنه بنصيب العمة غير الشقيقة في ملابس أبيها والذي قدر بخمسة وثمانين جنيهاً في ذلك الوقت وقبضها الوصي.
ولقد تزوج الأفندي بعد ذلك امرأة من نساء القرية فمنعته جدتي الست فاطمة التركية من الدخول إليها، وشيد بيتا آخر في القرية، سكن فيه مع زوجته الجديدة، وجعل البيت الكبير لجدتي التركية وابنها، ولم يدخله الأفندي أبداً حتى مات في السنة الأولى من القرن العشرين بعد أن عاش أكثر من مائة عام، وسمع بعودة أحمد عرابي، هذا الذي كان يوماً حامي حمى الديار المصرية والذي شارك الأفندي معه في حركته، وشهد يوم مظاهرة عابدين في التاسع من سبتمبر من سنة ألف وثمانمائة وواحد وثمانين وعرابي باشا يقسم للخديو الذي ارتج عليه.
لسنا تراثا ولا عقارا ولن نورث بعد اليوم.
وفي الثامن عشر من يونيو سنة ألف وتسعمائة وستة وخمسين، كتبت جريدة الأخبار القاهرية في صدر صفحاتها أنه في اليوم الذي يرفع فيه الرئيس جمال عبد الناصر علم مصر فوق مبنى البحرية في بورسعيد في لحظة هي لحظة العمر كله، تتجه مصر كلها بقلب شعب ووفاء جيل إلى زعماء العرابيين الذين واجهوا جحافل جنود الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس في التل الكبير.
وتنشر الأخبار قائمة الشرف بأسماء زعماء العرابيين بينهم اسم جدي الأفندي نقلاً عن جريدة الوقائع المصرية في الخامس والعشرين من ديسمبر من سنة ألف وثمانمائة واثنين وثمانين.
ينادي علينا والدي الذي كان يجلس في الصالة بعد أن أتم ارتداء ملابسه العسكرية ويطلعنا بفخر واعتزاز على ما جاء في جريدة الأخبار.
قال أخي، كسبنا صلاة النبي، لو ما كانش انضم للعرابيين كان زمان أغنيا.
شخط فيه أبي، إنت ما عندكش وطنية، ولد رقيع، بتاع الروك آند رول ومارلين مونرو.
عاد والدي يقرأ بصوت عال وقد وضع نظارة القراءة على عينيه وجذب نفسا من سيجارته الكرافن A وعيناه تغرورقان بالدموع نص الحكم على الأفندي بتجريده من الرتب والامتيازات والمناصب وعلامات الشرف، وقضي عليه بأن يقيم في بلدته تحت ملاحظة الضبطية مدة 3 سنوات ودفع تأمين مالي قدره 5000 جنيه.
وقد كتب برودلي محامي العرابيين في كتابه كيف دافعنا عن عرابي وصحبه أن الأفندي العجوز قد حارب أثناء الحرب وقد اختير مع غيره من التسعة عشر شخصا الذين كانوا قد لعبوا دورا بارزا في النضال من أجل الحرية والذي كان مسؤولاً عن الدفاع عنهم هو ومستر نابيير ليدفعوا جريرة وطنيتهم.
كلفني أبي أن اشتري كتاب برودلي، بحثت عنه ووجدته في مكتبة المستشرق بشارع قصر النيل في طبعة قديمة جلدها أسود مقوى متآكل بتسعين جنيها. اشتريت الكتاب لأبي واحتفظ به كحرز ثمين إلى جانب كتاب عبد الرحمن الرافعي "الثورة العرابية والاحتلال الإنجليزي"، الذي ورد فيه اسم الأفندي خامس اسم في القائمة التي تضمنت كبار الأعيان والذوات الذين قضي عليهم بأن يقيم كل منهم في بلده تحت الملاحظة الضبطية مع دفع تأمين مالي وتجريدهم من الرتب والامتيازات، انتقل الكتاب إلى مكتبتي بعد وفاة والدي، وما يزال اسم الأفندي على الخرائط الرسمية لمصلحة المساحة المصرية وهو يطلق على عزبة الأفندي في الخريطة الصادرة سنة ألف وتسعمائة وخمس، وهي الخريطة التي ما زال معمولا بها حتى الآن. وعزبة الأفندي هي العزبة التي تقع في زمامها الأرض التي يملكها والدي في البلد.


(3)


والصيف في بلدتي، الشمس تشرق، الشمس تغرب، وأشتاق أن أكون في القاهرة، لكنني أعرف أن اللحظة التي أضع فيها قدمي في القاهرة سأشعر كأنني لم أغادرها أبداً. الضحى تصنعه دانتيلا ظلال شجرة المستكة وضوء الشمس على أرض الفراندة التي تحيط بواجهة البيت الجديد الذي بناه أبي بعد أن هدم البيت القديم، وتفتح عليها حجرات المعيشة والاستقبال والصالة، وعمود من الغبار يتصاعد في ضوء الشمس في حجرتي والذباب يتجمع على السلك الأسود الذي يتدلى من السقف الخشبي ومعلق فيه الكلوب وقد تناثر على السلك براز الذباب الأبيض.
أحاول أن اقرأ رواية عشيق الليدي تشاترلاي طبعة هاينمان غلافها مقوى أحمر، رأيتها في فترينة مكتبة الأنجلو المصرية في شارع عماد الدين، أحسست بالنار تأكل قلبي، لا شيء تنفتح له روحي مثل قراءة الكتب ودخلت المكتبة وسألت عن سعر الرواية، سبعة وخمسون قرشاً، قلت للبائع: سآخذها. كتب الفاتورة وأخذ مني الكتاب وخرج معي حتى الكيس. دفعت النقود وسلمني الرواية دسستها في جيبي وكأنني أهرب مخدرات.
يقول أبي: اقرأ حاجة تنفعك، توفيق الحكيم الأول بقى وكيل نيابة.
أرد: أنا حر.
يقول أبي أنا ماعنديش حاجة اسمها أنا حر اللي مش عاجباه عيشتي الباب يفوت جمل.
أخرج غاضبا وأصفق الباب خلفي. يستقبلني شارع النيل أفكر أن أكون فرقة مسرحية مثل لوركا وأجوب بها البلاد وأن أبدأ بتأليف مسرحية عن العرابيين على نمط مسرحية ماريانا بينيدا. يرسل أبي العسكري المراسلة أحمد عبد العليم بلديات عبد اللطيف بك شاش مدير بنك مصر ورائي، يلحقني ليعيدني إلى البيت، أتمنى أن يمتد طريق العودة إلى ما لا نهاية، أمي تنتظر عودتي في النافذة، عندما أدخل من الباب، تسرع إلي تتحسسني كأنها عمياء تريد أن تتأكد أنني لم أنقص. تقول أمي إنها لا تعرف ماذا عملت حتى يعمل فيها ربنا ذلك، تدخلني لأبي لأعتذر له عن تطاولي، تدفعني أمي لأقبل يده، يسحب يده بسرعة حتى لا يقع عليها فمي وكأنه نار تلسع. في عينيه دموع لا تنسكب.
يقول: الواحد ما يحبش حد يكون أحسن منه إلا ابنه، أحسست بالذنب تجاه أبي ولم أستطع الاستمرار في مجابهته، وتجنباً لهذا الموقف من أن يتكرر، تعودت أن أهرب الكتب التي أشتريها وأحتفظ بها في دولاب فضية حجرة سفرة أمي القديمة والذي حولته إلى مكتبة بعد أن اشترى أبي حجرتي سفرة وصالون جديدتين وشحن حجرتي سفرة وصالون أمي القديمتين إلى البلد بعد أن قضى عليهما كثرة التنقل.
جاءني صوت امرأة العم. لقد اشتبكت مع سعاد زوجة ابنها الكبير واتهمتها أنها تخبز الفطير لزوجها بدم العذر، دم الدورة الشهرية، ليأتيها كل ليلة، وردت عليها سعاد بأنها تنام في فرشتها وابنها الذي يأتي. قالت امرأة العم إن ابنها الكبير أصفر وصار في لون الليمونة وإنها لم تكتف بزوجها فقط، فأغوت أيضا الابن الأصغر محمود أفندي الذي خاب في المدارس وقعد من التعليم والذي أعطاها بالأمس المناب الأكبر من الديك الذي ذبحوه للضيف، زوج أخته، ولم يعط أمه التي خلفته إلا الجناحين، فهو يحط يده على طيظها، وأخوه الأكبر في الغيط، وكان الحديث في البلد كالبارودة أن الست سعاد تعاشر الأخوين.
رد عليها محمود أفندي أنها امرأة خرفت وكلامها فارغ، وشمتت فيهم البلد الكافرة التي لا تقبلهم لأنهم من ماعون نظيف (وهو يعني جدتنا التركية)، وهي عندما توزع الزفر، لا تعطي سعاد، ويضطر زوجها لأن يقسم معها منابه، وهدد محمود أفندي أمه وقد أمسك بسكين بأن يذبحها ويذبح نفسه ليريحها ويستريح، فهي قد جعلت عرض الست شبكة في اليد.
أطلقت زوجة العم صرخة حادة فانزعجت جدتي لأبي ولفت شالها الأسود على رأسها وعبرت الحديقة الصغيرة التي تفصل بيتنا عن بيت أولاد العم، وارتفع صوت محمود أفندي أن ربنا يعمل طيب إذا شاركهم في هذه العجوزة المجنونة الخرفاء، وقال إن الجد إبراهيم له الجنة لأنه عاشر هذه المرأة، كأنما لسعتها النار عندما ذكر اسم أبيه، فردت عليه أنه سلسال نحس وأنه طالع لأبيه، وكان الجد إبراهيم قد عشق امرأة الغيط وتزوجها عليها، وقالت إن والده قد وجد أرضا ورثها فاقترض عليها من الخواجات جورج بناكي وجورج كولتش بالفايظ وضيعها وأضاعها على النسوان، أما هو، محمود أفندي، فيا قلة الندى، لم يرث إلا فدانا ونصف الفدان، ولم تجد جدتي لأبي من حل إلا أن تأتي بامرأة العم معها إلى بيتنا.
جلست جدتي وامرأة العم تتحدثان، قالت جدتي إن الأولاد كلهم لا فائدة فيهم، وإنها شخصياً قد خلفت أولادها لنسوانهم، وإنها قد غلبت في عمي تحايله بأن يأتي بالدكتور حسين الذي كان يسكن معه وهو تلميذ في الجامعة في شارع الزيني في الجيزة رقم 7 عريساً لعمتي الصغيرة، ورد عمي عليها أنه لا يمكن أن يقول لصديق له تعال تزوج أختي، وقال لها قراءة عتب إن شقيق زوجته يخطب عمتي على شرط أن تقيم في البلد، فثارت جدتي وقالت إن عمتي ليست أقل من زوجة عمي التي تسكن في المحطة، وإن عمتي لا يمكن أن تتزوج إلا في البندر. ردت امرأة العم على جدتي أن الحمد لله، فقد جاء لعمتي عدلها وتزوجت في البندر.
مصمصت جدتي شفتيها وقالت تشكو إن عمتي لا تدع زوجها يقربها مع أنها نصحتها أكثر من مرة أن تعرض نفسها على زوجها كل ليلة قبل أن تنام، وإلا فإن خطيته في رقبتها، قالت جدتي إنها قالت لعمي أن ينصح أخته بدلاً من أن تخرب بيتها بيدها، لكن عمي انفعل غاضبا وقال لها إنها هي التي زوجتها برأيها لولد صغير وارث ومتلاف عاطل بالوراثة ولم يفلح في المدارس وإنه يسمع أنه يسهر كل ليلة في حكر أبو غنية لوش الفجر يحشش، وإنه قد عارض هذه الزيجة قبل أن تصبح الأرجل في الركابات لكنها لم تستمع له.
قالت امرأة العم إنه لا بد من الشيخ لأبو جدايل، فهي معمول لها عمل، والشيخ أبو جدايل مجرب وعمله لا ينزل الأرض وهو يطبق الحائط على الحائط، فالرجل تزوج أختا من الجان تحت الأرض منذ وقع قلبه برجليه عندما فاجأه البوليس وهو ينشل أحد ركاب القطار، ثم صمتت امرأة العم لحظة ثم قالت إن الدنيا لا تريح أحداً ولكن ربنا سيعوض عليهما، هي وجدتي في الآخرة، فربنا شايف كل حاجة ومطلع عشان مظلومين، وقالت إن الجدة ملكة، الله يرحمها، جاءتها في الحلم لابسة أبيض في أبيض وقاعدة في الجنة على كرسي حرير أخضر وأمامها من كل ما لذ وطاب وما تشتهي الأنفس، وقالت لها الجدة ملكة إن مكانها في الجنة محجوز بجوارها.
جاءني محمود أفندي، قال إنه ينبهني إلى أن أحمد أبو فاضل الخفير الخصوصي يحرض الفلاحين على أن يزرعوا بالنصف وليس بالثلث والثلثين كما يزرعون، ويقول إنه جاء اليوم الذي يجيء فيه الحب القادوس، وقال له محمود أفندي إن لحم أكتافه من خير البيه، والذي ليس له كبير يشتري له كبير، فرد على محمود أفندي أن العبيد انفكوا وهذه أمور معاش ولن يضع محمود أفندي يده في سيالته ويعطيه. جادله محمود أفندي أن البيه مصاريفه كثيرة ولا يستطيع أن يتدارى، لكنه هو أحمد أبو فاضل، يستطيع أن يقضيها بأي حاجة فرد أحمد أبو فاضل سنرجع لعنب ديبه، وماذا يعمل البيه بهذه الفلوس كلها، لم أكن أرغب في أن أثير نقاشاً مع محمود أفندي، فقلت له إن الزراعة بالنصف هي ما نص عليه قانون الإصلاح الزراعي، فرد على إسماعيل أفندي يقول إن قانون الإصلاح الزراعي شيوعي وأن ربنا قد خلق الناس طبقات وفضل بعضها على بعض في الرزق، فقلت له، لأنهي النقاش، إن هذا قانون أصدرته حكومة الثورة، فرد بأن إسماعيل أفندي، زوج عمتي الكبيرة، قال لي ومحمود أفندي سمعه وهو يقول إن عبد الناصر حاقد على العائلات الكبيرة ويريد أن يهدمها، لكن أمريكا لن تتركه، بعد صفقة السلاح الشيوعي في الصيف الماضي، هاجمت عبد الناصر، لأن اتفاقية الجلاء كاتفاقية صدقي بيفن، والآن تتهمه بالشيوعية، تصدعني يا إسماعيل أفندي بتنويعات على لحن الشيوعية والدين. إن الله يبسط الرزق لمن يشاء بغير حساب فيمنحك عدس توكيل تموين الدمور مع شبح الحرب بعد تخاذل تشمبرلين في ميونيخ، لكل مجتهد نصيب، نصيب في السوق السوداء، شق المتر العرض عرضين وبيع متر الدمور الذي تسعيرته ثمانية مليمات بأربعة عشر قرشا. أم أنك يا إسماعيل أفندي من كثرة ترديد أكاذيبك على الناس، صدقت أنت نفسك هذه الأكاذيب. التدخل في توزيع الأرزاق كفر وفضيحتك مع فردوس تظنني لا أعرفها. ضبطتكما عمتي على سرير الزوجية وحاولت أن تعتذر لها بأن هذا مرض عندك، زواجك من عمتي نسخة من صفقة مسيو بوارييه، أضافت لك لقب وتاريخ عائلة حلمك القديم أن تكون أفنديا يا إسماعيل أفندي، فأنت ولدت في زمن أفندية ثورة 19، والذي أراد لك والدك مستقبلا آخر غيره فانتزعك من تختة الفصل في المدرسة إلى بنك الدكان المانيفاتورة والفرش في الأسواق بأثواب القماش، حلمك القديم تحاول أن تحققه الآن، تشتري بيت البن الأكبر للباشا المطل على البحر، تتسلل إلى عضوية مجلس المديرية، تغلق الدكان وتفتح مكتباً جديداً تدير منه أملاكك. تريد أن تمحو الذاكرة القديمة للناس وتصنع ذاكرة جديدة للناس، ذاكرة لا تذكرك كتاجر في السوق السوداء ومن أغنياء الحرب، ولكن كرجل من الأعيان، أصبح يمتلك ثلاثمائة فدان وتقود سيارة بلايموث.


(4)


تخايلني ذكرى فردوس ظهر يوم حار وقد أسندت ظهرها إلى حائط الحجرة الخلفية التي أخذتني آمال بنت خالي إليها في بيت جدتي لأمي وقد دسست نفسي بين فخذيها ألامسها ويداي على ردفيها يضغطانها إلي، وقد أخرجت ثديها الأيسر من جلبابها لألقمه بفمي وأمتص حلمته، تغنج وتئن وتتأوه. ذراعاها يلتفان بوسطي يشدانني إليها، أتوتر جنسيا، في عز النقراية أقف عند البوابة والكلب هول تيجر الذي صور مع أخي في صورة أمام مركز البوليس معلقة في صالون بيتنا والذي كان قد سرقه محمد ابن خالي غير الشقيق وشقيق آمال وباعه للخواجة جورج كولتش بعشرة جنيهات واسترده والدي من الخواجة وكانت فضيحة قد أقعى في ظل البوابة وأخرج لسانه تمر بي أم السيد علي أسألها عن دار عبد العال الحشاش. عبد العال هو حمو فردوس، وهي تقيم عنده في زيارتها إلى البلد، استغربت سؤالي: هو أنت متجوز يا أبو البيه؟ بتسأل عن دار عبد العال الحشاش ليه؟ أهي زيق دار رجلكم على أبو طلبه.
رحبت بي فردوس وهي ترتدي جلبابا مشجرا محبوكا على جسدها ويظهر استدارة عجيزتها وتكشف تقويرة صدره الواسعة عن منبت ثدييها واستدارتهما.
قلت لها وأنا آخذ يدها في يدي: إيدك ناعمة.
ردت علي في غنج: أمال فاكرها خشنة زي إيدين بقية الفلاحين والخدامين!!
سألتها عن سعد أبو الشناوي شيخ الخفراء، وادعيت أنني كنت أريده في مصلحة.
قالت إنه جاء وأخذ عبد العال الحشاش إلى ضابط المباحث فرشت قياس الحصير لي على أرض المندرة وأتت بمسند وضعته وراء ظهري،أتت بالشاليه ورصت فيها الكوالح، أتت بالوابور البريموس وفتحته من عند الكباس وقطرت بعض قطرات من الجاز على كولحة وأشعلتها ثم وضعتها في وسط رصة الكوالح وارتفع الدخان الأسود وأخذت تنفخ في الكوالح واحمرت عيناها ووجهها ثم هوت عليها بطرف جلبابها حتى رعت النار فدست فيها بكرج الشاي بعد أن لقمته بالشاي والسكر وحضرت كوباً زجاجياً غسلته بماء من القلة وردت باب المندرة سألتها إن كان عبد العال الحشاش سيغيب.
أجابت: داهية لا ترجعه راجل ناقص.
سألتها عن الحكاية؟ قالت إن الناقص لم يعمل حرمة لكونها امرأة وابنة أخيه، يعني مثل ابنته وإنه برك عليها بالأمس لولا أنها هددته: حاصوت وألم عليك البلد.
فتحت لي فردوس الباب، سألتها عن حكايتها مع زوج عمتي، فقالت إنها مظلومة في هذه الحكاية، كلها ظلم الحسن والحسين، وإن عمتي كانت تغار منها وتشيلها النار شيل عندما تناول إسماعيل أفندي طلب، وقد طلبت عمتي من أمينة الماشطة والخاطبة أن تكشف على فردوس وتأكد لها أن فردوس بنت بنوت وشتمت عمتي الماشطة وطردتها شر طردة لأنها قالت إن جسم فردوس كجسم العرسة ليس فيه عظم وقالت فردوس إن عمتي تعرف قبل أي أحد آخر أن إسماعيل أفندي لا ينفع الحريم، وأنه كان مربوطاً، وعمتي نفسها قد حكت ذلك للماشطة وهي تسألها تفسيراً لسلوك زوجها الذي كان قد بدأ يفرد شعره الأكرت في الأيام الأخيرة وقالت فردوس إنها هي نفسها التي زعقت على عمتي عندما حاول إسماعيل أفندي أن يبوسها، حوشي سيدي الأفندي يا ستي عني ثم أضافت أن ابن عمتي: تلميذ الثانوي كان يشتم أخته عندما تشتمها ويقول لها هي بنت تسعة زيك وإنه كان يلاحقها وإنها نامت معه مرة وفي إشارة إلى المرة الأولى التي نمت فيها معها، لكن كان متعلم جاهز.
كانت تجلس إلى جواري وفخذها يلامس فخذي وكتفي يضغط على ثديها، وأحسست بثمل لذيذ يسري في جسدي وتلاشت البلد والظهيرة والناس وجذبتها أقبلها في فمها ويد تمسك ثديها تهصره والأخرى تتحسس ظهرها وردفيها.
خلعت بسرعة البنطلون والشورت وهي في حضني وساعدتها على أن تسحب يديها وذراعيها من الكمين ثم خلعت جلبابها عنها بأن رفعته إلى أعلى بعد أن خلصته من خلال تقويرة الصدر من رقبتها ورأسها، مددت يدي أخلع لباسها الباتستا الأخضر الفاتح فرفعت ردفيها وجذعها لتيسر لي خلعه عنها.
حلفتني فردوس بصلاة محمد ألا أفضحها، فهذه أول مرة تعملها منذ زواجها.
قابلني على جسر البحر شكري ابن خالي غير الشقيق، يقولون في البلد إن الطوفة أخذته بسبب بخل أمه الميتة على الدنيا، وعلى الرغم من أنها ورثت أكثر من عشرين فدانا عن زوجها وأبيها الذي كان يعمل عند الخواجات وجمع فلوسه من الفايظ، فإنها تبيع حتى الجبنة القديمة وهي عندما تذهب إلى المحطة لتزور جدتي أم الباشا تذهب حافية ولا تلبس الكاتنلة في قدميها إلا على باب الدايرة.
سألني شكري وعيناه تبرقان الواحد لو أكل جوز حمام تفتكر يقدر على الست سعاد؟
لم أرد عليه.
تحت الجميزة الضخمة وهي الشجرة الوحيدة الباقية في أرض الجنينة والتي زحفت عليها البيوت من الناحيتين، وجدت أولاد العائلة الذين في الجامعة والمدارس الثانوي وقد فرشوا حصيرة، بعضهم يلعب كونكان خمسة أزواج ويشترط نزول خمسين عند السحب من الأرض والضرب بقرش تعريفة وليس المقصود بذلك القمار ولكنه مجرد إثارة الحماس في اللعب، والبعض يتحدث عن سداسيات كلية الزراعة في كرة القدم، وآخرون قد مددوا وفردوا أجسادهم. والشوادفي ابن ناظر الزراعة في وسية الأوقاف والتلميذ بالقسم الثانوي بالمدرسة الأميرية يعلو صوته على الأولاد الذين حوله بأنه يجب أن يرفع الفلاح رأسه، فقد مضى عهد الاستعباد. توجهت إلى الغيط وليس على الطريق صرّيخ ابن يومين، وظلي صغير إلى جانبي الأيمن.
في السبعينيات، بعت هذه الأرض بعد أن مرض أبي بسرطان الحنجرة ومات في أقل من عام على سريره، في حجرة نومه، ساعة مغرب يوم قائظ من يوليو بعد غيبوبة كاملة لمدة أسبوعين عاشهما تحت مظلة كاملة من التخدير.
***

 

مذكرات شخصية عن مرض الأب ووفاته



قال عمي:

أحسن أبوك يكشف في مصر عند أستاذ كبير.
كنت قد لاحظت بحة في صوت أبي واعتقدت أنها من أثر دور برد طفيف، لكن عمي قال إن هذه البحة الآن لها أكثر من أسبوعين، وأنه إذا لم يكشف أبي في مصر، من الذي يكشف؟
في صباح اليوم التالي، كنا نأخذ السيارة إلى القاهرة عن طريق البحر، وهو الطريق الذي يمر بالبلد، حيث ينتظر محمود أفندي والدي ليتلقى تعليماته. كان محمود أفندي ينتظر أمام فرع شجرة التوت المقطوع الذي يلف عليه الحلقات الحديدية لطرف جنزير الصال المثبت في بر البلد، مرت أمام السيارة بنت كبيرة لها قوام سرح ووجه مورد ترتدي جلبابا مشجرا وعلى رأسها شاش أسود وتسند بكف يدها المصبوغة بالحناء الجرة فوق رأسها وإلى جوارها بنت أصغر منها في جلباب أصفر ولم يبد للأتراب من ثديها حجم، وفوق رأسها جرة ماء. كانتا قد ملأتا الجرتين من الحمام حيث تصل مياه مشروع العباسه النقية، قال محمود أفندي: البنات ماليين حاجة حلوة قوي والبت العروسة زي ما يكون جوزها..
لكنه لم يكمل جملته، فقد تنبه إلى وجود أمي التي كانت تجلس في الكرسي الخلفي إلى جواري، بينما يجلس أبي في الكرسي الأمامي بجوار السائق.
قال أبي إن جدك كان يتفاءل ويتشاءم، كان إذا خرج وقابله أعور يعود إلى البيت ثم يخرج تاني.
أبي أيضا يتفاءل ويتشاءم، هو يتفاءل خصوصاً بأخي الذي يدرس الدكتوراة الآن في إنجلترا، وهو يحب أن يرى الهلال على وجهه عندما يولد، كان أبي معاوناً للبوليس في إدفوا مديرية أسوان عندما ولد أخي، وتغيرت الوزارة، وفور تغيير الوزارة، صدرت حركة تنقلات ضباط البوليس ونقل أبي من أسوان إلى الوجه البحري.
في المساء، كنا في عيادة الطبيب الذي أوصى به عمي، في عمارة الأوقاف في باب اللوق.
قدم أبي نفسه للطبيب لواء..
سأله الطبيب وهو يصافحه، سيادتك عندك أكثر من خمس وخمسين سنة.
قال أبي: طبعاً.
قال الطبيب وكأنه يطلق طلقات رصاص، وسيادتك تدخن السيجارة في يدك.. سيادتك عندك سرطان.
قال له أبي وكأنه قال له إن عندك دور برد: وما العمل؟
قال الطبيب: يوم السبت القادم، عندي مؤتمر لعمداء كليات الطب في بغداد، نأخذ بيبوسي ونحللها فقط للتأكد، هذه هي مجرد عملية صغيرة، يوم الجمعة إذا صدقت شكوكي نجري عملية استئصال الحنجرة قبل سفري.
وأعطانا عنوان المستشفى الذي نحجز فيه، كرهت هذا الطبيب الذي عامل أبي كحالة، اقترحت على أبي أن يعرض نفسه على طبيب آخر، حجزنا موعدا ودخلنا إليه، قابل أبي في بشاشة، أوجز له أبي ما حدث في عيادة الطبيب الأول.
قال: نكشف الأول يا سعادة اللواء.
بعد أن أجرى فحوصه الطبية، قال لأبي إن الأمر طفيف جداً هناك ورم صغير على أحد الأحبال الصوتية، وليس هناك داع للعجلة، وهو يستطيع عندما يقرر والدي وفي الموعد الذي يناسبه أن يستأصل الورم فقط، وقد لا نحتاج إلى شيء بعد ذلك.
سأله والدي كمن أمسك بقشة وهو يحاول الابتعاد عن حديث مرضه، وأن يعود إلى أحاديث حياته اليومية الإجتماعية وذكرياته كضابط بوليس من ملازم إلى لواء.
أنت من مركز...؟ عائلة...؟ أم أن هذا تشابه أسماء؟
كان الطبيب بشوشاً واجتماعيا، وأكد لأبي أنه من هذا المركز ومن هذه العائلة.
قال أبي، ضابط البوليس كشكول، وأردف أن بداية تعيينه عندما تخرج من كلية البوليس كانت في هذا المركز، كان يستحق أن يكون أول الدفعة وأن يعين في القاهرة، لكن كان زميل دفعته ابن قائد بوليس القصور الملكية، ففكروا له في سؤال حتى تطير منه الأولوية، سألوه كم جالونا من الماء يشرب الحصان؟ أول معاينة كانت لمسقى متنازع عليه بين أميرالاي جيش، عنده ثلاث بنات، وكان المدير الشاذلي باشا فلاتي وبين شيخ البلد، راجع بيتي، لقيت واحد بحمارته، سألته: واقف ليه؟ قال لي: الشيخ باعت لحضرتك ديك رومي علشان المعاينة، شتمته وطردته. ده فصل كان يدخلني فيه السجن، نظر أبي في ساعته، بدأ يستعد للانصراف، لكنه وجد نفسه بعد أن وقف ليصافح الطبيب وكأن هناك وسواسا داخليا عن حالته المرضية يزعجه ويريد أن يسكته.
سأل الطبيب: هل هو مطمئن إلى الحالة ولا يرى مبررا للانزعاج، وأنه يستطيع أن يزاول حياته العادية ويحدد براحته موعد هذه الجراحة البسيطة فيما بعد.
أكد له الطبيب ذلك بوجه بشوش.
في الليل، من فندق الجراند أوتيل الذي يقع على الرصيف المقابل لعيادة الطبيب في شارع فؤاد، اتصل أبي تليفونيا بعمي، حكى له ما حدث وقال إنه قرر أن يعود إلى البلد في الصباح ويرتب نفسه، ثم يعود بعد ذلك في الوقت الذي يدخل فيه المستشفى، فهمت من رد أبي أن عمي قادم في الغد، خلع أبي بدلته وارتدى جلابيته البيضاء وتمدد على الفراش، تذكر يوم وفاة والده.
كان الدكتور ديمتري خريج جامعات ألمانيا، والذي مات بعد ذلك بعشرين سنة في حادث سيارة غرقاً في البحر وهو عائد من برتيتة قمار، يعطيه حقنة وهو يموت، أغلق عليه باب المقعد في الدور الثاني ونزل إلى الدوار يرتب نفسه، قال له ابن عمة العمدة إنه أحسن ألا يعلم إخوته ويبقوا فلاحين، شتمه وطرده من الدوار.
اشعل أبي سيجارة، قال إنه يريد أن يحافظ علينا وإنه لا يخاف الموت، فالكل سيموت، لكنه خائف علينا لأننا غلابة، قال لي ألا أخبر شقيقي في إنجلترا بشيء وأن أدعه يكمل الدكتوراة، قال إنه خائف على أخي فمسز وات، حرم أستاذه المشرف على الدكتوراة والتي كانت في ضيافة أبي في الصيف، قالت لأبي إن أخي يكون أحياناً في حالة نفسية سيئة لأنه لا يلتقي إلا بالطبقات الشعبية في إنجلترا فيدخل إلى الـpub ويسكر ويصرخ في الناس إنه ابن جنرال كبير في البوليس المصري وأن والده عنده عزبة.
أشعل أبي سيجارة جديدة من سيجارته التي يدخنها، عاد يذكر والده (الله يرحمه أبي، كان شفوقاً علي وعلى إخوتي جداً، كان يحبنا جميعاً، أعتقد أن الخير الذي أنا فيه. من خير أبي، وأنا لم أحب أحداً كما أحببت أبي، ادفني معه، ليس هناك مال خلي من البيع، إذا كان لازم تبيع أرض عندك أرض المارس الصغير).
كان أبي قد اشتراها من الخواجة بسطا في الأربعينيات في سنة صح فيها القطن، وكانت قد آلت إلى الخواجة بسطا بحكم مرسى مزاد محكمة المنصورة المختلطة سنة 1934 ضد ورثة عبد المسيح بك الذي أصابه الشلل بعد أن أفلسته البورصة، وكان أهله يمنعون عنه الزيارة لأن الرجل كانت تصعب عليه نفسه فيبكي وينهنه كالطفل.
حكى أبي ذات مرة وهو يشرب الشاي مشهد التفاخر الذي حدث بين عبد المسيح بك والباشا جد أمي لأمها، قال الباشا لعبد المسيح بك إنه يجب أن يستصدر الخديو فرمانا بنظام الرتب وشارات التمييز، بمقتضاه، يكون لكل ألف فدان شريط، فمثلا، تضع أنت يا عبد المسيح بك على صدرك ستة أشرطة لأن عندك ستة آلاف فدان، وأضع أنا على صدري 14شريطاً لأن عندي 14 ألف فدان، حتى تعرف أقدار الناس ويعرف كل واحد مقامه، وكان عبد المسيح بك يعرف أن ثروة الباشا ليس سببها ما يقوله البعض من ظهور ليلة القدر لأمه التي عرت رأسها ودعت أن يصبح ابنها في مال لا يحصى ولا يعد ويعرف أيضا عدم صحة ما يذهب إليه البعض الآخر من أن سببها هو خرزة القبول التي في ذراعه، وما يذهب إليه كارهو الباشا وحاسدوه من أن السبب هو كارت مفتش الري الإنجليزي الذي كان بمثابة افتح يا سمسم له، والذي أعطته له حرم مفتش الري عندما أصر على ألا يأخذ مقابلا للسمك الذي أرسله لها، وقال للطباخ قل لا، إن النبي قبل الهدية، كان عبد المسيح بك يعرف أن سبب الثروة هو سوء التفاهم الذي كان مسرحا له قطار السوارس المتجه إلى المنصورة في هذا الصباح الخريفي، وكان أبطاله عائلة نزعت ملكية أراضيها ومعروضة في مزاد علني لصالح بنك الأراضي أمام محكمة المنصورة المختلطة والباشا الذي كان في هذا الوقت تاجراً للسمك في طريقه إلى المنصورة ليسدد مقابل حق امتياز صيد الأسماك في بحيرة المنزلة. وظن أفراد العائلة أن وجهة الباشا هي مزاد المحكمة المختلطة، فحاولوا أن يثنوه، لكنه كان ذكيا فاشترى منهم الكلام ولم يبع، ثم ساومهم على أن يشارك في المزاد صوريا ويعمل على أن يرسو عليهم في مقابل أن يكون له نصف الأرض وأذعنوا لشروطه.
حفظ الباشا مواعيد المحكمة المختلطة في المنصورة كل يوم إثنين وأربعاء، وبهذه الطريقة، استطاع أن يمتلك أربعة عشر ألف فدان، لكنها كانت محملة بحقوق الرهن لبنك الأراضي، وعبد المسيح بك يدرك ذلك، لذلك، رد على الباشا رداً أفحمه، فقال ليس كل ألف فدان بشريط يا باشا، لكن كل مائة ألف جنيه.
أحست أمي الإهانة التي لحقت بجدها الباشا بعد أن نفش ريشه كالديك الرومي، فقالت إن ابن عبد المسيح بك يعمل كمساريا في السكة الحديد.
رد أبي وقد بدا الأمر كأنه مبارزة بينه وبين أمي:
"هذا الكمساري استأجر والده جميع قطارات السلطنة المصرية لنقل المهنئين يوم تعميده في البطركخانه في كلوت بك الدور الباقي على أحفاد الباشا الذين انتهز أحدهم فرصة وجودي في المركز ليستولي على مصوغاتك وشبكتك".
قالت أمي، مهونة الأمر، تربية عز، واخد على المصاريف.
قال أبي وهو يحس أن له اليد العليا، يعني كنتم بتحدفوا الجمال من الطاقة؟ وبعدين اللي يصرف، من جيبه وليس من جيب غيره.
ردت أمي منسحبة، "طيش شباب والحمد لله ربنا تاب عليه".
وكان خالي ضابط الفرسان شابا ماجنا وفاسدا، وحدث أنه كان في وقت ما عشيقاً لإحدى الراقصات وانفجرت فضيحة عندما أطلق الرصاص على أحد منافسيه، يهبط خالي في الليالي على جدتي لأمي وخالتي الصغيرة في الدايرة كالقضاء المستعجل، تجري خالتي التي تضج صبى وحيوية كشعاع شمس الصباح الباكر، ويتفتح جمالها كالوردة بدراجتها إلى البلد التي تبعد عن المحطة حيث توجد الدايرة بأربعة كيلو مترات، يقابلها أخوها غير الشقيق، يقول إنه معذور وباطه والنجم والحال واقف وهو يلبس طاقية هذا لذاك، تلح عليه خالتي يقول لها، هو مش بيقبض ماهية؟ أمال بيوديها فين عاد، لما كل شهر والتاني ينط عايز فلوس؟ يكونش فاكر إنه فايت لي الأبعدية؟ ولا حاضرب الأرض تطلع بطيخ؟ يختنق صوت خالتي الصغيرة وهي تقول له إن نينة قالت لها ألا ترجع إلا ومعها الفلوس، يرد عليها إنه لا يقدر على غضب امرأة أبيه الست أم الباشا وأن عليها أن تنتظر يوما أو اثنين حتى يتصرف، وهي وبختها.
تنتظر خالتي الصغيرة في بيت انشته، تصعد إلى عمي الذي يدرس التوجيهية في المدرسة الفاروقية الثانوية في الزقازيق في المقعد في الدور الثاني، والليل قد هبط على البلد، لا يشعران بما حولهما، ينفقان شطراً كبيراً من الليل يتحدثان. جرأتها ووجدها الآسر يخرجانه من شرنقة خجله الريفي، ويحس بروحه ترف حولها كالفراشة، ينسج حولها أمسه وحاضره ومستقبله وقد غرق في حبها لشوشته. أهداها قلبا من ذهب، ولكم أشتاق أن يحدثها عن القلب ومفتاحه وعلمته تدخين السجائر مثل انشته كان حلما. لم تنتظر حتى يكمل تعليمه، فتزوجت من مهندس طارت به نينه أم الباشا إلى السما، وسافر بها إلى الصعيد لتعود في صندوق جثمانا قد بدأ تحلله الرمي، يتسلمه أخوها ضابط الفرسان في محطة سكة حديد مصر ويغرقه بالكولونيا حتى تختفي الرائحة، وترك هذا الموقف طابعه على روح خالي، فالكل باطل وقبض الريح ولا يبقى غير وجه ربك ذي الجلال والإكرام.
في الستينيات، عندما بدأ البث التلفزيوني في مصر، اشترى عمي جهاز تلفزيون، وعندما كنت أزوره أحيانا ويكون في التلفزيون مشهد عاطفي في فيلم، كان يمسح دموعه، أكان ما زال يذكر خالتي الصغيرة ويعصره الشجن؟
في الصباح، أتى عمي. قال لأبي إنه أودع لحسابه في بنك مصر مبلغ عشرة آلاف جنية وسلم أبي إيصال الإيداع، صمم أبي أن يوقع لعمي عقد بيع ابتدائيا على بياض، فلا أحد يضمن الحي من الميت.
بعد يومين، دخل أبي إلى المستشفى، كانت نافذة حجرته تطل على البيوت المجاورة، ازدحمت الحجرة الملحقة بها، فقد حجز أبي جناحا بالزوار، حرص الجميع على أن يكون الحديث في الشؤون العامة واستأثر الحديث الذي أجراه مصطفى الحسيني في روز اليوسف مع ياسر عرفات بالاهتمام، خصوصاً قوله إنه لا يرى تسوية ولكنه يرى حرباً خامسة وإن الاتفاق الأمريكي الإسرائيلي الأخير يسقط نظرية الأقنعة الأمريكية البديلة التي يتعلق بها، وللأسف، بعض العرب الذين يتصورون أن أمريكا تستغني بصداقتهم عن اعتمادها على إسرائيل، هذا إلى جانب كتاب عودة الوعي الذي كتبه الأستاذ توفيق الحكيم ونقده لعهد عبد الناصر ورد محمد عودة عليه.

في الصباح، أجرى أبي العملية.

 

أول شيء قاله بعد أن أفاق من البنج هو سؤال هل كان يتكلم ويخرف؟ وهل نام إلى أن زال تأثير المخدر؟
جاء الطبيب وعلى شفتيه ابتسامة كبيرة، قال لأبي وهو يسحب كرسياً يجلس عليه إلى جوار سريره إنه قد استأصل الورم الذي على الحبل الصوتي، وإن الحالة مطمئنة، وإن أبي لن يحتاج أن يمكث بالمستشفى أكثر من يوم أو اثنين، وإنه سيكتب له خروجاً صباح بعد باكر.
رد عليه أبي إنه لا يهمه طول الوقت ولا مقدار ما يصرف، بقدر ما يهمه أن يشفى على يديه الكريمتين.
قال الطبيب إن ما جرى هو في الحقيقة أخذ عينه بيوبسي وليس أكثر، وإن من حسن حظ أبي أن الورم كان طفيفاً جداً وفي بداياته، وإن أبي يستطيع أن يعتبر نفسه أصح من الأصحاء الذين لم يشتكوا قط، وإن له طلبا واحداً عند أبي وهو أن يمتنع عن التدخين، ثم قام مستأذناً في الانصراف، على وعد بأن يعود أبي صباح بعد باكر قبل الخروج.
أعاد أبي علينا، وكأنما ليؤكد لنفسه، قول الطبيب أنه الآن أصح من الأصحاء الذين لم يشتكوا قط، وأردف أبي، أعتقد أن عمري طويل.
بعد يومين، كنا نغادر المستشفى، وقد جاء الطبيب كوعده، وقال لأبي إنه يمكنه أن يسافر إلى البلد على أن يعود بعد أسبوع ليراه الطبيب بعد أن يكون قد اطلع على نتائج تحليلات العينة التي أرسلها إلى أكثر من معمل باثولوجي لإجراء التحاليل.
انتظرت أبي بعد أسبوع في صالة شاي جروبي سليمان باشا. في الساعة التاسعة صباحاً بالضبط، دخل أبي وخففت لاستقباله، أبدى أبي دهشته أن كل هذه الناس مفطرة رمضان، ثم تذكر أن الدنيا ليست رمضان، لكنه هو الممتنع عن التدخين بناء على نصيحة طبيبه.
قابلنا الطبيب مبتسما، وقال لأبي إن نتائج التحاليل، التي حرص على إجرائها في أكثر من معمل للتيقن من النتائج، مشجعة ومطمئنة، لكننا قد نحتاج، من باب الوقاية، إلى جلسات كوبالت. قال أبي للطبيب إنه مستعد لأي شيء وإن الذي يهمه هو الشفاء. قال الطبيب إنه كان يعرف أن رد أبي لن يختلف عن ذلك، وإنه قد حجز لأبي نفس الجناح الذي نزل فيه الأسبوع الماضي، ثم نادى الطبيب المقيم، وأعطاه التعليمات، ثلاث جلسات على الحنجرة لمدة ستة أسابيع.
كنت أحمل لأبي الصحف والمجلات كل صباح، ينزل من على السرير ويجلس على كرسي في الشمس أمام النافذة، وقد ارتدى روبه المقلم أقلاما عريضة، بني وبيج فوق جلبابه الصوف السماوي، يقلب في الصحف والمجلات ثم يضعها بجانبه على الترابيزة، وكانت هذه الفترة هي أكثر الفترات التي قضاها في المستشفى هدوءا يحكي قصصا من حياته وذكرياته الشخصية والحياة العامة التي عاشها, حكى لي قصة زواجه وهو يغمز أمي، واحدة بنت باشا مفلس تطالب ضابط بوليس خاضع للمعاشات ومرتبه 12 جنيه أنه يعرفهم إزاي يعيش بالمبلغ البسيط ده ولازم أبويا يديني عشرة جنيه في الشهر، بالذمة، دي كانت ناس عندهم دم؟
تقول أمي: الكلام ده راح خلاص، افتكر الطيب وادعي ربنا يزيح عنك.
يرد أبي وهو دائم التأكيد لنا على دلائل تقدم حالته الصحية:
الحمد لله أنا صحتي كويسة والدكتور نفسه بيقول أنا دلوقتي أصح من السليم واللي عمره ما اشتكى، الكوبالت ده وقاية.
تقول أمي:
يبقى نحمد ربنا على نعمته، وبلاش نجيب السيرة دي. يعود أبي إلى الحديث عن ذكرياته: تخرجت في الأزمة العالمية وكنت "بادبّق" من مرتبي، اشتريت ثلاث فدان من السيد أبو سيف في حياة والدي، أنا بمجهودي ضاعفت ثروتي مرات عن أيام والدي.
وأبويا الله يرحمه كان يحبني جدا، أول مرة أبعد عنه لما دخلت الزقازيق الثانوية، يومها بكى على باب المدرسة. لما مرض، جدتك كانت تبكي لأن مفيش كبير غيري وأنا في الصعيد، فقال لها أنا سايب لك راجل أحسن من مائة راجل.
إنت عارف الدكتور النوبتشي هنا بالليل، أنا اشغلت في بلدهم معاون بوليس زمان، ولي حكاية ظريفة مع جده، حكيتها له امبارح، كان أيام جواز الملك فاروق والملكة فريدة مش ناريمان، وكان أيامها فاروق محبوب جداً، وكان المفروض أن كبار الأعيان والذوات يقدموا هدايا لمولانا بمناسبة الزفاف الملكي، وبينعم عليهم مولانا بالرتب الباشوية عشرة آلاف جنيه، البكوية الدرجة الأولى، حضرة صاحب العزة خمسة آلاف جنيه، البكوية الدرجة الثانية، فلان بك وبس 3 آلاف جنيه, كان جد الدكتور عنده عشر آلاف فدان وعايز يبقي عنده 12 ألف زي ابن عمه اللي كان سفير في لندن وبطل في الاسكواش، المهم، رحت له سراي التفتيش بتكليف من الباشا المدير، قابلوني على المشاية عيال بلابيص لابسين أطواق. إنت عارف إيه الأطواق. الفانلة لما تدوب يبقى منها طوق حوالين الرقبة، استغربت إيه جاب دول عند السراي. المهم قابلته وشرحت له إننا حنقدم اسمه في كشف الإنعامات برتية الباشوية ويقدم هدية لمولانا بعشرة آلاف جنيه.
سألني يا حضرة اليوزباشي: اللي ما يدفعش حتحبسوه.
قلت له: لأ..
قال: أنا مش لازم لي الباشوية..
وأنا خارج جرى ورايا الخولي بتاعه وسألني: البكويه بكام يا حضرة المعاون؟
قلت له: بخمسة آلاف.
قال: أنا عايزها
قال له: إنت؟
قال: آه وحادفعهم من دمه، ده راجل بخيل شفت عياله ماشيين إزاي. الخولي ده عمل أعيان وبقى له عيال بعد كده وابنه دلوقتي عضو مجلس شعب، ومن الناس القريبين من السادات، حاكم السادات بيحب الأغنيا، أنا شفته أيام ما كان مطرود من الجيش (وأصبح حفيد الخولي الذي كان يتحدث عنه أبي وزيراً بعد ذلك). المهم، جد الدكتور دبق الـ12 ألف فدان، لكن قامت الثورة وصدر قانون تحديد الملكية الزراعية فالراجل انشلّ ومات.
ويحكي: يمكن كنت أغسل مناديلي ثلاث مرات وأنا في حادثة بره.
ويهبط المساء على القاهرة وتضاء الأنوار في حجرات المبنى المقابل لنافذة حجرة أبي، ويتوافد الزوار وتدور الأحاديث العامة حول زيارات كيسنجر المكوكية ومظاهرات أول يناير 75 والهتافات "سيد بيه سيد بيه كيلو اللحمة بقى بجنيه". والانفتاح السداح مداح وحديث الدكتور رفعت المحجوب أمين عام اللجنة المركزية للاتحاد الاشتراكي عن القطط السمان.
ولم يستمرّ الاستقرار في حالة أبي، في البداية، نقص وزنه بشكل ملحوظ، واتسعت ياقات جلاليبه ثم بدأ يشكو من إحساس عام بالخمول، والسعال يشتد وكأن سكاكين تمزق صدره واحتاج إلى وجود مبصقة بجواره ليبصق فيها البلغم، وأصبح يفضل الظمأ على أن يبل ظمأه بكوب ماء لأنه صار يخشى البلع الذي يشعره وكأنما هناك مسلة في حلقة.
أخبرني أبي ذات صباح إنه طلب من أمي في منتصف الليل أن تطلق عليه طلقة رصاص من مسدسه ليستريح، أسرعتُ إلى الطبيب المعالج في عيادته منزعجاً. في اليوم التالي، قال الطبيب بعد الفحوص إننا قد نكون في حاجة إلى إجراء جراحة نستأصل بها الحنجرة.
كان أبي أعد نفسه لمثل هذا القرار القاسي، وليلة العملية قال لي إنه يعتقد أن ربنا سيكرمه وإنه يدعو الله أن يطيل في عمره حتى يسدد ما عليه من ديون حملها له المرض.
وفي اليوم التالي، أجريت عملية استئصال الحنجرة، وبعد ثلاثة أسابيع اتبعت فيها تعليمات الأطباء بمنتهى الدقة واستجاب لها أبي بالتزام كامل، كتب فب البلوك نوت التي كانت بجوار سريره على الكومودينو وهو يرصد دلائل التقدم في صحته.
"يا دوبك صحتي بدأت تتحسن، ولو لم يكن عظمي قوي، لما تحملت لمدة ستة شهور، وسأصلي لله شكراً عندما أترك المستشفى على فضله العظيم ونعمته المسبغة".
ثم كتب شكرا طلب مني أن أنشره في الأهرام للنطاسي البارع الذي كتب الله له الشفاء على يديه.
في هذا اليوم، قرر الطبيب بعد فحصه أن يرفع أنبوبة التغذية التي كان أبي يتغذى من خلالها بطعام مضروب في الخلاط كانت تعده له أختي، ورفع الطبيب الأنوبة وهو يقول:
مبروك.
والتفت إلي يقول إن والدي يستطيع الآن أن يأكل بشكل طبيعي من خلال الفم.
طلب أبي كفتة كباب, يواعدني أبي دائماً في صالة شاي جروبي سليمان  باشا في التاسعة صباحا بالضبط، أرافقه خلال تواجده في القاهرة، وقبل أن يغادر، نتناول الغداء معا كفتة وكباب في محل العجاتي أول شارع محمد علي من ناحية العتبة الخضراء، أحضرت كفتة الكباب، وكان هناك زائر لوالدي استأذن في الانصراف، فخرجت معه أودعه، سمعت صرخة أمي، صعدت السلم جريا وقلبي بين أقدامي، استقرت الأرض تحت أقدامي عندما رأيت أبي جالساً على كرسيه، ولكنه كان في هياج شديد، وقد ألقى بالكفتة على الأرض، قالت أمي إنه تناول إصبع كفتة وضعه وعندما حاول أن يبلعه، تسربت فتافيت من أصبع الكفتة من الجرح وتناثرت على صدر جلبابه فغضب وهاج وألقى بالكفتة. أشار إلى أن أحضر البلوك نوت والقلم.
كتب لي "أفهم هذا الطبيب أنني كنت لواء.. كنت حاكم إقليم، ولو كان هناك ألقاب كان زماني باشا".
بعد ثلاثة أيام، وكان أبي خلالها يحاول أن يقنع نفسه بأن هناك دلائل تشير على إمكانية تقدم في حالته الصحية، فمن الطبيعي أنه لم يكن يعرف ما يحدث للبلعوم والمريء داخل جسده، كتب لي أبي:
اسأل الدكتور هل تضيق الفتحة؟ وهل الحالة العامة تتحسن؟ وهل توقف انتشار السرطان ؟ هل احتمال الـRecurrence  يقل؟ صعد الطبيب إلى والدي ظهر هذا اليوم بعد أن أنهى عملياته وقال إنه سيرسل الممرضين بكرسي على عجل ليهبط بوالدي إلى حجرة العمليات ليقوم بفحص أبي هناك.
كتب له أبي أنه عندما يشرب، تتسرب مياه من الجرح ثم هناك كثرة الريق عند البلع.
قال الطبيب إنه بعد الفحص سيحدد أفضل وسائل العلاج.
جاء الممرضون بكرسي على عجل، أنزل أبي رجليه من السرير، حاولت أن أسنده وهو يقوم حتى يقف على قدميه، أبعدني في غضب وهو يقول في صوت مبحوح متآكلة ألفاظه من خلال التراكيستومي الوردة إن ذبلت ريحتها فيها.
وقف وحده على رجليه واتجه إلى الكرسي الموضوع في مقابل السرير وجلس عليه، دفعت الكرسي مع الممرضين إلى الأسانسير لنهبط به إلى الدور الأرضي حيث حجرة العمليات.
بدا الانزعاج على وجه الطبيب وهو يفحص أبي، ولم يستطع أن يتحكم بعصبيته التي أفرغها في مساعديه ثم قال لأبي إن العلاج سيأخذ وقتا ولا بد أن تكون صبوراً.
كتب أبي للطبيب أنا مستعد لأي شيء لا يهمني الوقت ولا الفلوس، هل تتحسن الحالة؟ كنت بدأت أتحسن، لكنني أحس الآن بنكسة، خمول عام وكثرة الريق عند البلع وإسهال، وأحس بنغزة في الجانب الأيمن.
حاول الطبيب أن يهدئ مخاوف والدي، ثم أسر لي بأن عدم الالتئام الكامل للجرح يرجع إلى أن هناكRecurrence ، والأمر يحتاج إلى تدخل جراحي آخر وهو الآن على الجانب الآخر من التل.
أدى تدهور حالة أبي الصحية إلى انخفاض معنوياته واستشاطه الغضب منا، ولكنه حاول أن يبدو متماسكا وكتب لي، لا تركة إلا بعد سداد الديون، وأهم حاجة في الدنيا أن أترك رجالاً.
ظهر يوم حار رطب والعرق اللزج يبلل ملابسي والقاهرة تتثاءب في القيلولة، كان عمي يجلس على كرسي إلى جوار سرير أبي في المستشفى، وأبي قد تمدد على السرير في جلبابه الأبيض التريكولين وفوقه روب حريري أحمر وقد أسند ظهره إلى خدديّة، وكان شيش النافذة موارباً حتى لا تنفذ شواظ اللهب منها، أما زجاج النافذة، فترك مفتوحاً. كان أبي يرفض تشغيل جهاز التكييف لما يستلزمه ذلك من إغلاق الحجرة كالقبر.
كان عمي قد أتى على عجل بعد أن خابرته تلفونياً بما أسر لي به الطبيب، ودخل الطبيب وسحب كرسياً وجلس هو الآخر قريباً من سرير والدي، أحس والدي بنذير شؤم، وفقد أبي تماسكه وبدت في عينيه نظرة خوف.
قال الطبيب إن حالة أبي لا تستدعي البقاء في المستشفى وإن أبي يمكنه أن يتابع العلاج في الخارج لمدة أسبوعين ثم يعود إلى المستشفى مرة أخرى لإجراء جراحة جديدة.
ثم قام يصافح أبي وهو يشعل سيجارة وخرجنا معه، عمي وأنا. في الخارج، قالت لي أمي، لازم اللي يقرأ في ميتم أبوك مقرئ مولانا الملك الشيخ مصطفى إسماعيل ولازم تبلّغ وزارة الداخلية علشان الجنازة العسكرية، ممدوح سالم ده كان من تلاميذ أبوك في البوليس، وكنا لما نروح إسكندرية في الصيف يبقى محتار يعلّمنا إيه ولا إيه، ويوقف لنا إسكندرية بحالها على رجل، وكان ممدوح سالم قد أصبح رئيساً لوزارة السادات. وقال عمي: ربنا يكرمه ولا يطولش عليه.
سبقنا عمي إلى البلد.
عندما نزل أبي من السيارة مستنداً إلي حتى أجلسه على الكرسي الذي كان معداً له أمام الباب الخارجي للبيت، أسرع عمي مرحباً بأبي مصطنعا الفرحة بعودته قائلاً:
حمدا لله على سلامتك.
أشاح أبي بوجهه في الناحية الأخرى وقال من خلال التراكيستومي بألفاظ متآكلة في صوت مبحوح، الله لا يسلمك، كان يعرف أنه جاء ليموت.
***
انتهت الجنازة في الدالي حيث المقبرة خارج البلد وسط الغيطان وقريبا منها مقام الشيخ أحمد، رفعوا المفرش القطيفة الذي كان يغطى به النعش فوق مدخل القبر وهم يهبطون بجثمان أبي إلى القبر.
صرخ عمي وهو يجهش بالبكاء في هستيرية، نزلوني أنا الأول، وأجهشت بالبكاء، وأخذني أحد أبناء عمومتي الكبار في حضنه وهم يسدون القبر ويهيلون عليه التراب بالفؤوس.
عدت من الجنازة، كان محمود أفندي واقفا على يد الطباخ الذي أتى ومعه عدته من المحطة لإعداد الغداء للمعزين وقال لي محمود أفندي ليطمئنني على الترتيبات: عمر ما انتصب في البلد ميتم زي ميْتم البيه، هو البيه شويه، ده مولد يا أستاذ مش ميْتم. واتوكل أنت على الله، الخير كتير.
فوجئت بفاطمة التي كنت أحبها زمان وقد وسمها الزمن تأخذ بخاطري وهي تقول: اللي خلف ما متش، أدنك وادن حسك أنت واخواتك على ضهر الدنيا.
ثم حلفتني بالنبي أن أقول لمحمود أفندي أن يعطيها أرجل وسقط ورأس الذبيحة التي ذبحناها أمام النعش.
واستوقفتني آمال ابنة خالي غير الشقيق وقالت إن زوجها قرأ النعي في الأهرام ولم يجد اسمه وهو غاضب (هو مش شوية).
استغرقتني طقوس ليلتي المأتم.
في صباح اليوم الثالث لوفاة أبي، جاء عمي ومعه الحساب والعقد الذي وقعه أبي على بياض وسلمه إلى عمي في فندق الجراند أوتيل بحضوري وقال عمي: المشترون جاهزون.
كلفت محاميا بإعداد العقد للمشترين وإنهاء إجراءات التسليم للأرض خالية من المزارعين، صفيت الحسابات مع عمي وقال لي وهو يودعني وأنا أصعد إلى سيارتي الـ 128 أسوقها عائداً إلى القاهرة:
سكين انغتت في قلبي وإنت بتبيع الأرض اللي علمتنا وربتنا، لكن يا ابني إنت حملك ثقيل.
أخذت طريق البحر، هو الطريق الذي يمر ببلدنا والذي سافرت فيه مع أبي يوم سافر للكشف في القاهرة.
****
وصلتني برقية من زوجة أخي في إنجلترا وكنت حرصت ألا أبلغه تنفيذا واحتراما لمشيئة والدي، كان نص البرقية: أخذنا الدكتوراة ونصل القاهرة 5 ديسمبر. اتضح أنها كانت تعرف مرض والدي ووفاته، قدمت له كشوف الحسابات أوضحت له الظروف التي تم فيها البيع، اتهمني أنني أريد أن أخرجه من التركة كأنه ابن حرام، وشك في ذمتي وهدد بإبلاغ النيابة، تدخل عمي بيننا للصلح، ثم جاء أخي عقد عمل في جامعة الكويت وسافر يقضي في مصر عشرة أيام من إجازته السنوية يسافر فيها إلى فندق فلسطين في الإسكندرية مصطحبا أهل زوجته ولا أراه إلا في ليلة سفره عائداً إلى الكويت ويبادرني قبل أن يجلس: أنت عايش في البلد دي إزاي؟؟


(10)

 

 

تابع الصباح




سمعت الكلاكس وناديت على السائق سيد وأعطيته الجاكيت معلقاً على شماعة ليعلقها في السيارة ووضعت في قدمي حذاء إيطاليا كولدج أسود. لا أستخدم في الصباح ماء الكولونيا أو البرفان لأنها حسب نصيحة طبيب أمراض لديه تسبب الحساسية، اكتفيت بالديودران تحت الإبطين.
اتجه بي السائق سيد بالسيارة الدوجان البيضاء إلى فندق إيتاب مخترقاً حي نمرة ستة بعد أن عبر مزلقان السكة الحديد، قبل مبنى إرشاد هيئة قناة السويس عبرنا كوبري صغيراً إلى جزيرة الفرسان حيث الفندق، وجدت الشاعر عبده ومعه ممثلة شقراء كانت قد ضبطت في شبكة آداب منذ سنتين جالسين في اللوبي يشربان الشاي ومن خلف الزجاج الفيميه للوبي تبدو قناة السويس تعبرها قافلة سفن والشاطئ الغربي لسيناء حييت عبده بإيماءة من رأسي فرد تحيتي بدعوتي لأن أنضم إليهما.


(11)


كنت قد لقيت عبده في الستينيات في مقهى ايزافتش بميدان التحرير والذي كان يملكه يوغسلافي معارض لتيتو، وكان يوضع دائما تحت التحفظ عند زيارة تيتو لمصر. كان محضر محكمة شابا أتى من الصعيد يحلم بالشعر والثورة وبرفقته زكريا كاتب القصة القصيرة الذي مات في حادث سيارة. توثقت علاقتي بهما معا، ثم فاجأني عبده بزواجه من رجاء، الممثلة الإذاعية التي كانت دائماً تمثل أدوار النكرات، كانت زميلتي في أولى حقوق جامعة القاهرة، أذكرها فتاة ريفية فقيرة يبدو طرف قميصها الداخلي الرخيص من الجيب الأسود الوحيد الذي ترتديه دائماً، ويلمع من العرق والغبار والكي، وترتدي حذاء انبرى كعبه وكلح لون بوزه وتحاصرها الشائعات، أقاموا ثلاثتهم معاً في شقة صغيرة فوق سطح إحدى عمارات باب اللوق وبدأ عبده يكتب أغنيات تعرف طريقها إلى ميكروفون الإذاعة، كنت أزورهم في هذه الشقة أحيانا وألتقي عندهم ببعض الأصدقاء نشرب ويقرأ لنا عبده شيئاً من شعره أو يسمعنا زكريا قصته الجديدة التي يحفظها عن ظهر قلب. والتقيت عندهم بالناقد الماركسي فهمي الذي كان قد خرج من المعتقل، وقد أخذ إليه بعد أن جاء من مدينته الريفية ليلتحق بالجامعة بأقل من عام وعين بقسم الإعلانات بجريدة الجمهورية، وكان قارئا نهما، ومثقفا موسوعيا، ولم تكن قد ظهرت عليه بعد أعراض مرض جنون الاضطهاد الذي جعله يرى في كل الذين حوله أقنعة لرجال المباحث وجواسيس لرجال المخابرات تتبعه وترصده وتريد أن توقع به وأودى به في النهاية إلى الاكتئاب والانتحار، وهو لم يكن يشرب، ولكنه إذا شرب كأسا سكر وغنى نشيد الإنترناسيونالي وبكى, وعندما يتحدث، كان العالم أبيض وأسود ويهاجم التحريفية السوفيتية وجدانوف بنفس الضراوة التي يهاجم بها البرجوازية العسكرية والوصايا البونابرتية ويوسف السباعي في مصر، ولمّحت لي رجاء أكثر من مرة أن زكريا يكاد يفسد زواجها وهي لن تسمح له بذلك. وكان في حديثها عن علاقة زكريا وعبده إيماءات أرفض التقاطها وتفسيرها، ثم اعتقل عبده في محاولة إحياء تنظيم شيوعي، سمعنا الخبر في مقهى ريش وعرفنا أن زكريا لم يكن موجوداً وقت أن داهم البوليس الشقة. كان وقع الخبر غريباً على آذاننا، فلم نكن نفهم سبباً لحركة الاعتقالات، وقال صديقي إحسان وهو يشرب الجرعة الأخيرة في كأس الروم الذي أمامه إنه سيقوم ليلحق بالقطار في محطة باب اللوق، ويعد حقيبته ليكون في انتظار البوليس فاسمه مدرج في القوائم منذ اعتقل مرة وهو صبي صغير بمدرسة التوفيقية الثانوية بشبرا يقلد غاندي بمغزله وعنزته. فوجئت وأنا أفتح باب شقتي بزكريا ورائي. قال إنه كان ينتظر في الممر الداخلي للعمارة وقال إنه فكر أن شقتي هي أفضل مكان يختبئ فيه، تذكرت زيارة العميد أحمد صالح مفتش المباحث العامة، يومها قال إنه تلميذ أبي، ولأنه لا ينسى أن أبي هو الذي رشحه للعمل في المباحث عندما كان مأموراً له، ومن هذا المنطلق، فهو يعتبرني شقيقه الأصغر, وهو يعرف أنني مجرد مثقف ثرثار أحب الثرثرة على المقهى أو في البار، وهذه الثرثرة في حد ذاتها غير ضارة، لكنها يمكن أن تكون أحيانا ضارة ومؤذية، وهو لا يحب أن أجعل مهمته في حمايتي صعبة، بل علي أن أعمل على أن أسهل له ذلك، فمثلا، ثرثرتي مع الصحفية الفرنسية في كافتيريا إبيس في الهيلتون، إذ إنها قالت فيها إنها لا تفهم سعي مصر إلى محاولة التصنيع إلا باعتبارها تقليد قرود للثروة الصناعية في أوروبا التي تجلب لأوروبا السعادة ثرثرة ضارة. قلت للعميد أحمد صالح إنه لم يكن حديثاً عن السياسة في مصر بقدر ما كان تعبيرا عن موقف مثقف غربي يرفض الحضارة الغربية ويمثله في التاريخ القريب T. E Lawrence الذي كان يقول إنه يثق في الإنسانية طالما هناك بدوي على ظهر جمل يستدل على طريقه في الصحراء بالتطلع إلى النجوم، قال لي العميد أحمد صالح وهو يصافحني منصرفا، لقد جئتك بنفسي بدلا من أن يستدعيك أحد الضباط إلى المكتب وأرجو أن أكون واضحا، لا تحرجني مع نفسي.
قلت لزكريا إنه يؤسفني أنني لا أستطيع استضافته، فالأسرة عندما تنزل القاهرة تنزل في شقتي، وهذا يكون عادة دون موعد مسبق، قال زكريا يقضي الليلة وفي الصباح يتصرف، وافقت محرجا وقلت له عندك الحجرة الأخرى ودخلت حجرتي. استيقظت في الصباح أشعر بغثيان وصداع في رأسي. ألقيت نظرة على زكريا في الحجرة الأخرى، كان ما زال نائماً، تركته وخرجت، في البن البرازيلي، أخذت قطعة كرواسان مع فنجان القهوة وقرأت عناوين الأهرام. مررت على إيهاب الذي سألني بعد أن تأكد أن لا أحد في الحجرة، هل سمعت عن حركة الاعتقالات؟ قلت آه، سألني عندك فكرة عن أسماء المعتقلين. قلت لا, أعرف البعض فقط، سمعنا أصواتا خارج المكتب، كانت ممثلة غير موهوبة تدعي أنها عشيقة للملك فاروق تحاصر مخرجا برغبتها في أن تلعب دور البطولة في مسرحية بعد السقوط، فلا أحد يحس بمارلين مونرو مثلها، وأنها لو خيّرت بين أن تلعب هذا الدور وبين أن تخْرج ابنها الوحيد من التربة لفضّلت أن تلعب هذا الدور، استأذنت إيهاب في النزول. وكنت لا أطيق  البقاء في مكان واحد. اتجهت إلى لاباس في شارع قصر النيل، في الصالة الأولى التي تفتح على الشارع وتحوطها فتارين الجاتوه والحلويات الشرقية والشيكولاته وفي صدرها ماكينة القهوة وخلاط العصائر، وجدت اللاجئ السوري الوسيم الذي يقضي ليله بلعب القمار في بيت الممثلة المسرحية التي تحجبت أخيراً، والشاعر العراقي المنفي عبد الوهاب البياتي يشربان القهوة، سألتهما عن صديقي إحسان، قالا إنهما لم يرياه، ألقيت نظرة على البار وعلى الصالة الخلفية ولم أعثر عليه عندما استدرت لأخرج، وقع بصري على هني مذيعة البرنامج الأوروبي التي تسكن في الزمالك مع والدها الصحفي العجوز الأرمل، الذي قالت إنه نام مع الخادمة ولم يعد نفس الرجل بعدها، وابنها من زوج سابق تزوجته وهى تلميذة في الجامعة الأمريكية وقد عملت في السبعينيات في الـ B.B.C وتشبه الممثلة مديحة يسري، تذكرت أنني كنت قد واعدتها لآخذها إلى شقتي في العجوزة. بادرتني بلغة إنجليزية: هل سمعت الأخبار العظيمة؟ إنهم يقبضون على الشيوعيين. قلت: سمعت. قالت، وهي تضع سجائرها وولاعتها ورواية مزرعة الحيوانات لجورج أورويل في حقيبتها وتخرج مفاتيح سيارتها: حنقوم نروح عندك الشقة؟ قلت إنني أتوقع وصول أمي، واقترحت أن نذهب إلى شقة صديقي فوزي في عمارة أنور وجدي، والذي تسكن في الشقة المقابلة له صديقتها الصحفية الإنجليزية التي قالت لي هني عنها إنها مساحقة، ولم تكن هذه أول مرة نذهب فيها إلى شقة فوزي، قالت: نصف مملكتي من أجل السرير، وخرجنا من باب لاباس الخلفي الذي يفتح على شارع صبري أبو علم، قالت وهي تقبلني بعد الضمة الأخيرة بالإنجليزية، أروع شيء هو صنع الحب، تركتها في السرير وقد غفت وارتديت ملابسي بسرعة ونزلت. اتجهت إلى مقهى ريش في شارع سليمان باشا، وجدت إحسان جالساً يشرب روم. قال همسا إنه سمع أن صديقنا الأردني غالب قد اعتقل، وعندما حاولت أن أعرف منه أكثر، قال بالإنجليزية وهو ينظر  حوله دع الأمر الآن، بعد أن شربنا مجموعة من الكؤوس، ذهبنا نزور رجاء ونعرف منها آخر الأخبار، فتحت لنا الباب واستأذنت أن تكمل ملابسها، سألها إحسان إن كان عندها شيء يشرب، أم ننزل نشتري، فنحن قد خلّفناها ونسيناها. قالت له رجاء أن يبحث في دولاب المطبخ. وقفت أتلهى بفحص الكتب في المكتبة، ثم أحسست بحركة في المطبخ وبالباب يوارب وسمعت صوت اللهاث والغنج. ونحن نهبط على السلم، قالت لي رجاء متشكرة. وعندما صرنا في شارع البستان قال إحسان إنه لا يعرف كيف حدث هذا وأنه قد فوجئ بها تجذبه إليها وهي مستندة على الحائط وإنه أخذها وهي واقفة أو بمعنى أدق هي التي أخذته. قال إحسان إنه من الأفضل ألا نعود إلى مقهى ريش، فهو لاحظ أن الرجل الذي كان يجلس على الترابيزة المجاورة ويتظاهر بأنه يتابع بنظره السيدات اللائي يمشين على الرصيف أمام المقهى كان يطرطق أذنيه. اتجهنا إلى مطعم اليونيون أمام دار القضاء العالي في شارع فؤاد. طلبنا زجاجة نبيذ عمر الخيام أحمر، أتى الجرسون اليوناني بالزجاجة وفتحها وصب لإحسان قليلاً من النبيذ في كأسه ليتذوقه. تذوق إحسان النبيذ وأبدى استحسانه، ملأ الجرسون الكأسين لنا وأملينا عليه طلباتنا، طلب إحسان نجرسكو وطلبت سكالوب بانيه. قال إحسان ونحن نأكل إنه مما يثير الدهشة أن حركة الاعتقالات ضمت بعض خريجي المعهد الاشتراكي. بعد أن شربنا القهوة، اقترح إحسان أن نذهب إلى سعد الكويتي فهو صديق غالب، كان مع سعد عشيقته فوزية التي تزوجت من أمريكي أسود في السبيعنيات وعاشت معه في ليبيريا، قال سعد ونحن نشرب الويسكي إنه مندهش من القبض على غالب وقال إن القوى القومية في العالم العربي تنظر إلى مصر على أنها الطليعة وتقدر دورها الريادي وهو لا يفهم كيف ينقص النظام في مصر فجأة الذي نتفق جميعاً بلا شك على توجهه التقدمي وصلابة موقفه ضد الإمبريالية على العناصر التقدمية، وقال إن زكريا كان يبيت عنده عندما هاجم البوليس شقة عبده، ذكرني هذا بأنني تركت زكريا في شقتي هذا الصباح، عندما عدت إلى شقتي في آخر الليل، وجدت علب الجبن والزيتون على ترابيزة السفرة التي اشتراها لي أبي من محل محمد مؤمن في مصر الجديدة والذي فتحه له والده تاجر الموبيليا في دمياط، ووجدت عددا من زجاجات البيرة الفارغة على الأرض، ووجدت زكريا قد شبك بدبوس على الحائط خطاباً موجها إلي يطلب مني فيه أن أسدد لصاحب الكشك أسفل العمارة ثمن البيرة وعلبتي السجائر ويعتذر بأن الظروف اضطرته أن يقترض من النقود التي وجدها في دولاب ملابسي خمسة جنيهات وأنه سيهبني أول نسخة من مجموعته القصصية الأولى عند صدورها في مقابل هذه الخمسة جنيهات. بعد ذلك، في حديث صحفي، قال إنه اضطر أن يبيع هذه النسخة لصديق استغل حاجته الماسة إلى خمسة جنيهات، أعدمت الخطاب بأن أشعلت فيه عود كبريت ظللت أرقبه حتى صار رمادا تماما، ثم تمددت على السرير وأحسست برأسي ينزلق إلى هاوية سحيقة.
عندما خرج عبده من سجن القلعة بعد شهور وذهبنا نهنئه، إحسان وأنا، أدان تجربته التنظيمية بالطفولة اليسارية، وقال إنه أدهشه أن وزير الداخلية رجل مهموم بالثقافة، متابع لحركة الشعر، وقارئ متميز لإنتاجه، وأقسم أنه لن يدخل المعتقل مرة أخرى.
وباعدت بيننا الأيام.


(12)


قال عبده إنه لم يرني من أيام الستينيات، ولكنه يعرف أخباري ويعرف أنني هنا في الإسماعيلية منذ خمس سنوات، وهو هنا يكتب المقدمة الغنائية والأغنيات لمسلسل تلفزيوني تشارك فيه صديقته الممثلة الشقراء، وأسر لي أنه طلق رجاء وترك لها الجمل بما حمل ولكنها كالعلقة. وقال إنه مشغول هذه الأيام بجمع التراث الشفهي، فهو قوام شخصيتنا القومية، وأن ندواته التي يلقي فيها شيئاً من شعره تلقى إقبالاً جماهيرياً حماسياً في جميع الأقطار العربية التي تدعوه إلى زيارتها من المحيط إلى الخليج، وهو لا يعنيه نقد بعض المثقفين العاجزين عن العمل والذين يعانون العزلة عن الجماهير والذين يلعنون الظلام بدلا من أن يوقدوا شمعة.
ظهرت في اللوبي الصديقة التى جاءت من القاهرة والتي حضرت لإيتاب أساساً لأراها وهي مطلقة في الخامسة والأربعين. انضمت لنا وبادرها عبده بقوله إنها ما زالت جميلة كما رآها أول مرة في الستينيات وإنه أحبها في ذلك الوقت، لكنه لم يستطع أن يبوح لها بمشاعره لأنه كان شاعراً فقيراً، فهو ليس ابن ناس من علية القوم مثلي. لمعت عينا صديقتي في سعادة، وقالت: ولا كنت أعرف، ثم التفتت ناحيتي وقالت إنت طول عمرك لورد، إيه الشياكة دي؟ وقلت لها مغازلاً إن بلوزتها الحريرية تبرز صدراً ولا صدر جين راسل، قالت في غنج إنها لا تعرف إن كان هذا حراماً، ثم استطردت أنها سجلت حديثا مع المحافظ وأنها تنوي اليوم الذهاب أولا إلى شركة الملابس الجاهزة وأنها ترجو أن أرسل معها زميلا يقدمها إلى المسؤولين في الشركة ويحصل لها على التخفيضات اللازمة، وأن أرسل معها زميلاً آخر إلى بورسعيد ويكون له معارف في الجمرك. وهمست أنها لم تعمل حسابها وتحتاج 500 جنيه، فهي الوحيدة بين زميلاتها التي ليس لها رجل ينفق عليها، أحسست بالحرج، وأعطيتها المبلغ فشكرتني.. ربنا يخليك ليّ.
أعطتني الصديقة القاهرية مفتاح الحجرة، أخذته منها وسلمته لموظف الاستقبال، طلبت منه الفواتير التي سأوقعها لأنها مستضافة استضافة كاملة على حساب المحافظة. ووقعتها وودعت الصديقة القاهرية على وعد أن أمر عليها في القاهرة عند نزولي، واستأذنت من عبده وصديقته الممثلة الشقراء على وعد بترتيب لقاء قريب.
قاد سيد السيارة إلى مكتبي، وعلى الباب الخارجي، أخبرني موظف الأمن أن ضيوفا من البلد في انتظاري في المكتب، كان الأول ابن العمدة الذي تخرج في كلية الطب وهو قد قدم أوراقه صباح اليوم في الإعلان الذي نشرته هيئة القناة عن حاجة مستشفياتها إلى أطباء حديثي التخرج، أما الثاني ابن بنت عمة والدي وهو يعمل مهندساً في الكهرباء ويريد شقة من المحافظة، والثالث قال إن والدي كان يقول لجدته يا عمة، فنحن نعتبر أخواله، وله بنت تخرجت من كلية العلوم شعبة الكيمياء ويريد أن يوظفها في مكان قريب من البلد، أما يوسف، ابن ابن عم والدي، فكان زوج أخته المدرس قد حقق معه، لأنه قبل بنتا صغيرة هي بنت الأعرج ابن خفيرنا الخصوصي أحمد أبو فاضل رحمه الله، والناس في البلد أكلت وجه يوسف، فكيف يكون المدرس يتفرش بلحمنا، ثم يحوّل إلى عمل إداري، وأنا وكيل وزارة، والذي له ظهر لا يضرب على بطنه؟ وأحمد أبو طلبة وهو عمره رجلنا، كلمة مني لمدير أمن الشرقية فيعينه شيخاً للخفراء، وإيهاب موسى  يشكرني على تعيينه في شركة كهرباء القناة.
دخل الساعي يحمل صينية الشاي الذي كانت سكرتيرتي سحر قد طلبته لهم قبل وصولي، تحدثنا عن أخبار البلد وهم يشربون الشاي، وعندما قاموا لينصرفوا، وعدتهم خيراً، وودعتهم حتى باب المصعد، وعدت إلى مكتبي.
دخلت قدرية ترتدي بلوزة قطن بيضاء وجونلة حمراء، وفي قدميها حذاء أبيض، كانت الجونلة مشقوقة حتى أعلى فخذها.. أنا أحب أن أتحسس فخذها الحريري الساخن الأبيض الوردي، وأحب أن أمرغ وجهي بين ثدييها الأبيضين الورديين اللذين يكشف منبتهما زرار البلوزة القميص المفتوح، وأن أهصرهما بيدي وأن ألقم الحلمة الوردية لكل من الثديين بفمي وأمتصها.. لكننا في المكتب، قالت إن أحداً لعب في رأس زوجها، فهي تعرفه، لقد أصبح يتصرف تصرفات غريبة، الإجازة السابقة شعرت به يتتبعها، فأخذت تاكسي وزاغت منه، وإذا كان هو صايع، فهي أصيع منه، وبالأمس فوجئت به وأنا نازلة من الاستراحة واقفا عند كشك السجاير في أول الشارع، وسألها ماذا كانت تفعل في الاستراحة، فقالت إنها كانت تعتمد إصدارات عدد الجريدة، وإنها وقعته من على الباب، فقال لها وماذا كان العمل لو رآها أحد الموظفين نازلة من الاستراحة، فقالت له إن لا أحد يستطيع أن يفتح فمه وهو يعرف أن لسانها طويل وقت اللزوم واتهمته بأنه لا يريد لها أن تنجح، وقالت إنه منذ البداية، عندما أحسست بنظراتي وشعرت أنني أريد أن أنام معها واستهواها ذلك، فكرت في المخاطرة، فهي تريد أن تحافظ على زواجها وعلى سمعتي الوظيفية كموظف كبير، وهي قد وجدت المخاطرة يسيرة بشرط الحفاظ على السرية، وقالت إنها تروي لي ذلك لأنها ستتوقف عن زيارتي في الاستراحة لفترة، وإنها قد ترتب لقاءاتنا خلال هذه الفترة في منزل صديقة لها، سألتها ما الذي حدث بينها وبين زوجها بعد ذلك، قالت إنهما تشاجرا في الشارع، وعندما صعدا إلى شقتهما حاول أن ينام معها، فقالت له: الولد والبنت صاحيين، وبعد أن نام الولد والبنت، حاول مرة أخرى أن ينام معها فقالت له، خليك مطرحك لأحسن أسيب لك الأوضة وأروح أنام في أوضة العيال.
وفي الصباح، عمل نفسه غاضباً، خرج من البيت ولم يترك نقوداً وقالت لو كان حاول أن ينام معها لنامت معه.
سألتها كيف ينام معها زوجها، فقالت في غنج مش وقته ومش فايقة.
سألتها رأيها في الوضع الذي مارسناه معاً بالأمس لأول مرة بعد أن ترجمته لها وشرحته من الطبعة الإنجليزية للروض العاطر للشيخ النفزاوي لسير ريتشارد بيرتون.
قالت تجاريني في مجوني إنني أجعلها تشعر معي أنها لبؤة وأي واحدة تتمنى أن تشعر بذلك مع رجلها.
سألتها إن كانت بلغت الأورجازم.
قالت في غنج: قبلك بسنتوفه.
طرق الباب ودخلت سكرتيرتي سحر لتعرض البوسته، قامت قدرية وقالت إنها ستعمل تليفونات لتحديد مواعيد مع الشخصيات التي يتناولها التحقيق الذي تجريه عن البيئة.
سألت سحر عن ابنتها اليوم، فهي قد أبلغت إجازة عارضة أمس لأن ابنتها الوحيدة ارتفعت حرارتها فجأة وقالت: بقت نار وليس عندها أحد يقعد بالبنت. قالت إن الطبيب رأها وكتب لها العلاج وهي تعطيه لها الآن، قلت لها أن تترك البوسته، فليس فيها على ما أعتقد شيء عاجل وأنها تستطيع أن تنصرف الآن، شكرتني وخرجت، كان أول خطاب في البوسته من الإدارة العامة لشؤون العاملين ويخطرني بأن آخر يوم عمل لي هو السابع من ديسمبر لبلوغي السن القانونية.
اتصلت بزوجتي أبلغها بالخبر، كان عندها اجتماع.


(13)


كان أبي عصر هذا اليوم خارجا من البيت في موكب التشريفة، الموتوسيكلات في المقدمة ثم سيارة والدي يرفرف على مقدمتها البيرق، وعند وصوله إلى مكان الاحتفال القريب من البيت، انطلق البروجي.
قال أخي الذي كان يتابع الموكب من الشرفة لأمي الواقفة إلى جواره وتتابع معه الموكب، تيجي ستي تشوف الأملة بتاعة ابنها، قوم يا جدي الأفندي شوف أملتك الأفندي The Great.
كانت هذه آخر تشريفة يحضرها والدي بعد الحفل، عندما عاد إلى البيت، جاءه تليفون اللواء خليل الديب كاتم أسرار وزارة الداخلية.
رن التليفون في البلد، حيث كنت موجوداً كعادتي في الصيف، كان والدي على الطرف الآخر يطلب مني أن أحول له نقوداً، فقد صدرت حركة الضباط وتمت إحالته إلى المعاش.
في الصباح، كانت الحياة تجري مجراها المعتاد، لا شيء قد حدث، فترابيزات وكراسي مقهى محمد إبراهيم مصفوفة في أماكنها تحت السسبان الذي يتساقط بعض زهوره الحمراء على الأرض وعلى الترابيزات، وخلفها ترعة السماعنة، وعلى الشاطئ الآخر محطة السكة الحديد وخارج سور المحطة موقف عربات الحنطور، وعلى الترابيزة التي في مواجهة الأجزخانة يجلس مصطفى إسماعيل عضو مجلس النواب السابق وعينه على شقة داود الصيدلي الذي أخذ الجنسية المصرية بالتجنس يترقب ظهور زوجته الغزلة مدرسة الألعاب السابقة في مدرسة البنات والتي تزوجها بعد أن كانت سيرة مغازلاتها ومعاكساتها على كل لسان، وفي السنوات المقبلة، ستصبح هذه الزوجة بطلة لفضيحة تتابعت حلقاتها كما تتابع الدوائر فوق سطح بركة راكدة.
ألقي فيها حجر وانتهت بطلاقها من الصيدلي وزواجها من وكيل النيابة الشاب الذي نقل من مدينتنا.
الحياة لا تتوقف لأن أحداً خرج على المعاش.


(14)


كنت أقف في النافذة وأنظر إلى الحديقة المهملة أمام المبنى، لمحت زوج قدرية واقفا أمام المبنى، بعد قليل، خرجت قدرية، وقفا معا يتناقشان في الشارع، ثم عادت قدرية إلى المبنى ورفعت رأسها إلي عندما صارت تحت نافذتي.
ماذا فعلت بحياتي، مجرد موظف كبير يخرج على المعاش، يواظب على إفساد زوجة صغيرة، لم أعر وظيفتي اهتماما أبداً، لكنني اهتممت دائما أن أعيش حياة سهلة، كنت أفكر أن أكتب ولم أكتب أبداً، أجلت دائماً الكتابة حتى أقرأ أكثر وأعرف أكثر، لم أبدأ أبداً، لم أسطر سطراً واحدا منذ محاولاتي الأولى، أشياء كثيرة أردت أن أكتب عنها إلى جانب هذه الأوراق التي احتفظت بها. بررت لنفسي تكاسلي بلا جدوى الكتابة، استمرأت الكسل وعدم المعاناة، إيه يا مصر على طريقة الكتاب في روسيا القيصرية، كم ذا فوق ظهرك من الكسالى والحمقى واللامبالين والفاسدين.
***


أما بعد


تأتى نادية التى تقيم في كندا منذ ربع قرن لزيارة مصر في أعياد الميلاد، نلتقي، هي وإحسان وأنا، نجلس في الشمس في شيراتون الجزيرة نشرب النبيذ الفرنسي وأمامنا النيل يجري منذ الأزل وسيجري إلى الأبد، نثرثر حول الأحداث الجارية، نواب القروض، حوادث الاغتصاب، الطائفية، الشعب المغيّب الدائخ في مصيدة الحياة الثقافية، تهميش دور المثقف، السلام، يعدنا إحسان بكتاب يكتبه عن الأصولية الإسلامية، كتاب أثق أنه لن يكتبه أبداً.
تحرص نادية دائما على هذا اللقاء الطقسي، ثم تودعنا إلى الغردقة لتناقش استثماراتها في مشروع سياحي مع شركائها وتعود إلى القاهرة قبل موعد سفرها بيوم واحد لنلتقي لقاء وداع.
ولم ترد الصديقة القاهرية المبلغ الذي اقترضته واحتاجت دائما مبالغ أخرى، وكانت الشائعات التي أطلقتها في القاهرة عن علاقتي  بقدرية هي عضة الأفعى وانتقامها مني، حيث اعتبرت هذه العلاقة رفضاً لها من جانبي، وقالت مبررة هذا الرفض الرجال يفضلون الخادمات.
أعود إلى الإسماعيلية لأسدد أقساط قطعة أرض، ألتقي بقدرية في هذه الزيارات، أسألها عن أخبارها مع زوجها وأنا أعني أخبار العلاقة الزوجية.
تقول في غنج: خلاص، كبرنا على الحاجات دي.
أحس بالغيرة عليها، تفترسني أحيانا الشكوى أنها ربما لها علاقة مع رجال آخرين الآن، رجل يتذوق شفتيها الدسمتين، يتحسس استدارات وتكويرات جسمها الأبيض الوردي الحريري الساخن، يضع يده على قوس ردفيها ويسمع شهقاتها وغنجها.
أحس بالغيظ من زوجها.
أسألها ترتيب لقاء، تقول ربنا يسهل.
تعتذر في أحيان كثيرة، أعمل إيه، هو قاعدلي دائما ما عدش بيسافر.
أحيانا قليلة جداً تقول، حظك كويس هو مسافر بس مش حيغيب.
تواعدني في شقتها، أصعد السلم متسللاً كأني لص أطرق الباب تنظر من العين السحرية أولا ثم تفتح الباب، أدلف إلى الداخل بسرعة، تغلق الباب من الداخل بالترباس وتضع المفتاح في الكالون، تكون دائماً في القميص الأسود بحمالات على اللحم ونهداها الأبيضان الورديان الوافران حران داخله، تسحبني من يدي إلى الحجرة الداخلية وتغلقها علينا وهي تهمس، أنا متوترة، مش عارفة ليه، يالله بسرعة.
أقول لها، واحشاني.
تهمس وأنت أكثر، أخلع ملابسي بسرعة وأسحبها إلى السرير، أداعبها أقبلها، أهمس في أذنها كلمات ماجنة وبذيئة وتشتعل شهوتها ناراً تتفتح لي ونلهث لبلوغ الذروة.
تنشر فرش السرير في الشمس حتى لا يبقى أثر لرائحتي، وننزل مسرعين محاذرين أن يرانا أحد.
أزور أمي في شقتها في مصر الجديدة والتي انتقلت إليها بعد وفاة أبي. أجدها ممددة على السرير أمام التلفزيون وقد غلبها النوم، لكنها تركته يعمل صوتا في البيت وتكون في الغالب لم تتناول عشاءها، والله يا بني كسّلت أقوم ما بيجليش نفس لوحدي.
في العيد، أحرص دائما على زيارة قبر والدي على الرغم من تآكل هذا التقليد في البلد. ينتظرني محمود أفندي ليصحبني في زيارة القبر. هذا العام لاحظت نمو الحشائش والديس حول المقبرة، ولاحظت أن الهواء والشمس والمطر قد نالت من التركيبة الرخام وأنها باتت في حاجة إلى ترميم. طلبت من محمود أفندي أن يكلف أحداً برفع الحشائش والديس من حول المقبرة وأن يتم ترميم التركيبة. أعترض محمود أفندي على ترميم المقبرة لأنه فأل سيء، ثم قال في فخر، الشرقية كلها مفيهاش تركيبة رخام غير بتاعة البيه اللي البلد ما عدمتش غيره.
ذات يوم سأحمل إلى هذه المقبرة.
****
4 ابريل 2000