الأربعاء، 14 مايو 2014

"مجتمع القاهرة السرى 1901-1951"



الشوارع الخلفية‏!‏
‏البغايا الأوربيات الدرجة الأولي‏:‏ يرتدين زيا نظيفا
وقبعة علي المودة وحذاء شيك‏!‏
إبراهيم الغربي ملك الرذيلة في مصر‏!‏
مذابح الأعراض شعار الحملة الأولي التي قادها الشيخ أبو العيون ضد البغاء‏
بقلم‏:‏ دكتور يونان لبيب رزق





تصويرا لعالم الرذيلة أخرجت السينما الأمريكية عام‏1981‏ شريطا يحمل هذا العنوان
BackRoads,‏
وهو الاسم الذي استهدي به الدكتور عبد الوهاب بكر في اختياره لعنوان عمله العلمي الصادر مؤخرا‏..‏ مجتمع القاهرة السري‏-1900-1951.‏
السبب في اختيارنا لهذا الموضوع أنه قد فرض نفسه مرتين علي قراء الأهرام خلال العشرينات‏..‏ مرة في سلسلة من المقالات نشرتها الجريدة عام‏1923‏ تحت عنوان مذابح الأعراض‏,‏ ومرة أخري عندما عاودت النشر عنه بعد ثلاث سنوات‏(1926)‏ وإن كان تحت عنوان مختلف‏..‏ البغاء الرسمي في مصر‏,‏ وفي كلتا المرتين كان وراء الحملة شخصية معروفة هو الشيخ محمود أبو العيون‏.‏

وكان ديوان الحياة المعاصرة قد قدم في إحدي حلقاته هذا الشيخ الثائر‏,‏ بعد أن نشرت له الأهرام في مستهل عام‏1922‏ سبعة عشر مقالا تحت عنوان الصحيفة السوداء‏,‏ عقد فيها مقارنة بين ما كانت عليه أحوال البلاد قبل عام‏1882,‏ وما أصبحت عليه بعد ذلك ليخلص إلي نتيجة مفادها أن تلك الأحوال سارت إلي الأسوأ‏,‏ وليس إلي الأحسن‏,‏ كما ادعي الكتاب الإنجليز‏.‏
دفع الرجل ثمن مواقفه الوطنية خلال تلك الفترة بأن تعرض للاعتقال أكثر من مرة كان آخرها في رفح حيث كاد أن يفقد نور عينيه خلالها ليصبح اسما علي غير مسمي‏(!),‏ وعندما استكتبه الإنجليز تعهدا بعدم الاشتراك في المظاهرات أو التحريض علي الثورة‏,‏ وأفرجوا عنه في أواخر نفس السنة‏-1922-‏ تصور الكثيرون أن صفحة الأزهري المتمرد قد طويت‏,‏ وأنه قد تم استئناسه‏,‏ وهو ما لم يكن صحيحا‏,‏ فقد قرر الشيخ أبو العيون أن ينصرف إلي قضايا الإصلاح الاجتماعي‏,‏ واختار منها قضية مكافحة البغاء‏,‏ الأمر الذي يدعونا إلي إلقاء نظرة علي تاريخ تلك المهنة السيئة السمعة في مصر‏.‏

يعلم المتابعون للأعمال التاريخية أنه قد صدر مؤخرا كتابان تناولا هذه المهنة بالدراسة‏..‏ أولهما لباحث مخضرم هو الأستاذ الدكتور عبد الوهاب بكر في عمله السابق الإشارة إليه‏,‏ وثانيهما لباحث واعد هو عماد هلال والذي اختار لمؤلفه عنوانا هو البغايا في مصر‏-‏ دراسة تاريخية اجتماعية من‏1834-1949,‏ وقد حفل الكتابان بمعلومات وفيرة عن تاريخ هذه الحرفة في مصر المحروسة‏!‏
من هذه المعلومات أن لتلك المهنة البغيضة جذورا تاريخية في البلاد‏,‏ ومنها دراسة لطبيعة القطاعات الاجتماعية التي مارستها‏;‏ الغوازي‏:‏ اللاتي كن ينتمين بالأساس للقبائل الغجرية‏,‏ والجواري‏:‏ السود اللاتي كان الغوازي يتاجرن بأعراضهن‏,‏ الأجنبيات‏:‏ خاصة مع تزايد أعداد الأوربيين في المدن المصرية الكبيرة بعد الاحتلال البريطاني للبلاد‏,‏ وكان أغلبهن من الإيطاليات واليونانيات‏(‏ الروميات‏)‏ والفرنسيات‏,‏ ويبدو أنه كان للأوليات النصيب الأوفر‏,‏ الأمر الذي يظهر في أن أغلب الاصطلاحات التي استخدمت في المهنة جاءت من أصل إيطالي‏,‏ هذه ملاحظة‏,‏ أما الملاحظة الثانية فتشير إلي أن اللاتي كن ينتمين منهن إلي دول تتمتع بالامتيازات الأجنبية استخدمنها للخروج عن كل اللوائح والقوانين التي كانت قد وضعتها الحكومة المصرية لممارسة البغاء‏,‏ والملاحظة الأخيرة أن هؤلاء قد انقسمن إلي درجتين‏..‏ عاهرة درجة أولي وهي التي ترتدي زيا نظيفا وقبعة علي الموضة وحذاء شيك وتنزل في بنسيون أو عند زميلة لها‏,‏ وعاهرة درجة ثانية وهي التي تنزل في كرخانة من البيوت المعدة رسميا للبغاء‏!‏

منها ثالثا أنه قد بدئ في تنظيم البغاء في أعقاب الاحتلال البريطاني للبلاد عام‏1882‏ عندما أصدرت نظارة الداخلية منشورا عاما يضم تسع مواد تنظم علاقة البغايا بالسلطات‏,‏ تبعته بعد ثلاث سنوات بإصدار لائحة تنظم العمل في بيوت العاهرات‏,‏ لتستكمله في عام‏1896‏ بقانون شامل تناول كل صغيرة وكبيرة تخص الدعارة‏.‏
غير أن لائحة عام‏1905‏ كانت الأكثر شمولا والأطول عمرا أيضا إذ استمر العمل بها حتي إلغاء البغاء الرسمي عام‏1949,‏ فقد حددت بيوت العاهرات بأنها كل محل تجتمع فيه امرأتان أو أكثر من متعاطيات عادة فعل الفحشاء‏,‏ كما خصصت مناطق معينة لفتح بيوت العاهرات يعينها المحافظ أو المدير ولا يكون لكل منها سوي باب واحد‏,‏ وألا يقل عمر العاملات في تلك البيوت عن الثامنة عشرة‏,‏ وأن يتم الكشف الطبي عليهن مرة كل أسبوع بمكتب الكشف الذي كان يقع في القاهرة بالحوض المرصود‏.‏

كل هذا فيما يخص البغاء الرسمي أو العلني‏,‏ غير أنه كان إلي جانبه البيوت السرية والفنادق والغرف المفروشة التي تدار لارتكاب الفاحشة تحت ستار أنها مجرد فنادق أو غرف مفروشة أو بيوت عادية‏,‏ وهو ما حاولت السلطات أن تمد إشرافها عليها‏,‏ ولكن دون جدوي‏,‏ فقد كان معني ذلك أن تفقد صفتها الأساسية‏,‏ وهي أنها سرية‏!‏
وبامتداد أربعين عاما بين الاحتلال البريطاني لمصر حين تم تقنين البغاء لأول مرة مما أضفي عليه الشرعية‏,‏ وبين استقلال البلاد بعد صدور تصريح‏28‏ فبراير عام‏1922,‏ لم يحدث أن عرفت هذه المهنة إدانة واضحة من جانب العاملين في الحركة الوطنية‏..‏ أقصي ما عثر عليه الباحثون في هذا الميدان ما جاء في سياق مقال كتبه الأستاذ عبد الله النديم في مجلة الأستاذ في إبريل عام‏1893‏ تحت عنوان العدوي الأوربية للبلاد الشرقية والذي طالب فيه بإبعاد المومسات والبيوت السرية عن مساكن الأحرار‏,‏ والترجمة التي قام بها الأستاذ داود بركات رئيس تحرير الأهرام عام‏1907‏ لكتاب ألفه طبيب يوناني عاش في مصر وتخصص في الأمراض التناسلية اسمه بورتفاليس بك عن البغاء أو خطر العهارة في القطر المصري‏!‏

ويبدو أن الصحافة الوطنية‏,‏ علي رأسها جريدة اللواء‏,‏ قد انصرفت خلال تلك الفترة للشأن السياسي الذي اكتسب أولوية مطلقة عما دونه من الشئون‏,‏ ثم أنها تعاملت مع البغاء علي أنه أمر واقع‏,‏ وكانت لا تتصدي له إلا حين تحصر الكوارث الاجتماعية التي نزلت بمصر في ظل الاحتلال‏,‏ وهو الوضع الذي استمر‏,‏ خاصة مع الأحداث الجسام التي عرفتها مصر خلال الحرب العالمية الأولي وإعلان الحماية البريطانية عليها أواخر عام‏1914,‏ وما تبع ذلك من تدفق قوات الإمبراطورية علي القطر‏,‏ هذا من جانب‏,‏ ومن جانب آخر الرقابة الصارمة التي فرضتها السلطات العسكرية علي الصحافة بكل ما ترتب عليهامن عدم اقتراب الصحفيين من هذا الموضوع‏,‏ حتي لو رغبوا في ذلك‏.‏
بقي الحال علي ما هو عليه بعد قيام ثورة‏1919‏ وانشغال جموع المصريين بهذا الحدث الجلل حتي أن الشخصية المحورية في هذه الحلقة من الديوان‏,‏ الشيخ محمود أبو العيون‏,‏ قد انخرط أبانها في التيار العام للحركة الوطنية‏,‏ وكان من أبرز خطباء الثورة‏,‏ ثم أنه كان من أشد الداعين إلي مقاطعة لجنة ملنر‏,‏ حتي جاء عام‏1922‏ بكل ما له وما عليه‏,‏ وكان من الطبيعي أن تحتل قضايا الإصلاح الاجتماعي مكان الذيل في قائمة اهتمامات المصريين خلال تلك الحقبة‏.‏

‏***‏
ما حدث في مطلع ذلك العام من صدور تصريح‏28‏ فبراير وحصول البلاد بمقتضاه علي نوع من الاستقلال الاسمي‏,‏ مما أدي إلي درجة من خمول العمل الثوري وليس خموده‏,‏ وما حدث قرب آخره من تجسيد الانشقاق عن الوفد بتشكيل حزب الأحرار الدستوريين‏,‏ وما استتبع ذلك من خيبة أمل أمسكت بتلابيب عديدا من الوطنيين في مقدمتهم الشيخ أبو العيون‏..‏ كل ذلك أدي إلي أن يصرف قطاع من هؤلاء اهتماماته إلي القضايا الاجتماعية‏.‏
علي جانب آخر فقد شهد نفس العام تفجر قضية من أشهر قضايا البغاء‏,‏ لرجل اسمه إبراهيم الغربي‏,‏ والذي أسماه رسل باشا
Russell
حكمدار بوليس القاهرة بملك الرذيلة‏,‏ ظلت الأهرام تسوق تفاصيلها في تحقيقات تحت عنوان الرقيق الأبيض‏!‏

ساق لنا الدكتور عبد الوهاب بكر معلومات كافية عن هذا الرجل الذي دخل التاريخ من أسوأ أبوابه‏..‏ جاء الغربي من كروسكو التابعة لمركز الدر بمديرية أسوان‏,‏ وقد انحدر من أسرة أصيلة في الأعمال المحرمة إذ كان أبوه تاجرا للرقيق‏(!),‏ ولأن الولد سر أبيه فقد بدأ إبراهيم نشاطه عام‏1896‏ حين امتلك منزلا كبيرا لتشغيل المومسات‏,‏ وهو النشاط الذي اتسع كثيرا حتي أنه كان يدير عام‏1912‏ أكثر من‏15‏ منزلا يعمل فيها أكثر من‏150‏ من العاهرات‏.‏
في عام‏1916‏ ونتيجة لما سببته الحرب من رواج تجارة الغربي اعتقلته السلطات‏,‏ ونفي إلي بلدته‏,‏ وهو الاعتقال الذي لم يزد عن عام واحد‏,‏ عاد بعدها إلي المحروسة يمارس عمله بكفاءة منقطعة النظير‏,‏ حين أوقعت به إحدي الفتيات القاصرات عام‏1922,‏ بعد أن تبينت السلطات من اعترافاتها أن أكثر من‏400‏ فتاة تم بيعهن في أسواق الرقيق الأبيض‏,‏ وأنه قد نجح في إغراء بعض رجال البوليس لغض الطرف عن نشاطاته‏,‏ منهم عدد من كبار الضباط الإنجليز المسئولين عن نظام العاهرات‏,‏ أو ما أصبح يسمي بعد ذلك ببوليس الآداب‏.‏

وقد أدي كشف حجم الفساد والرذيلة في تلك القضية التي استغرق التحقيق فيها وقتا غير قصير‏,‏ إلي أن يحزم الشيخ أبو العيون أمره ويقرر أن يخوض المعركة‏,‏ واختار لذلك جريدة الأهرام التي نشر فيها في شتاء عام‏1923‏ سلسلة من المقالات تحت عنوان مذابح الأعراض‏!‏
قدم الباحث عماد هلال حصرا لتلك المقالات‏..‏ الأولي كانت بتاريخ‏20‏ نوفمبر وقد هاجم فيها الحكومة وحملها مسئولية انتعاش سوق الفجور التي تقام وتنفض علي مرأي ومسمع من رجالها‏,‏ وأدان في الثانية ما عمدت إليه السلطات من محاولات التعتيم علي قضية الغربي‏,‏ وهو تعتيم نتج في جانب منه عن تورط رجال الإدارة مع زعيم البغاء‏,‏ وفي جانب آخر من الحجم الهائل الذي تبينه المحققون من نشاط الرجل‏,‏ والذي كان يحمل ضمنا إدانة للحكومة التي تركت له الحبل علي الغارب حتي تمكن من إقامة تلك الإمبراطورية التي كانت تنخر في عظام الأمة المصرية‏!‏

في مقال آخر اتهم شيخنا السلطات صراحة بالتواطؤ‏,‏ حين خاطبها بقوله‏:‏ إذا كنت تجهلين تلك الجرائم فاسألي رئيس الشرطة الذي يعرف تلك المواخير بيتا بيتا‏,‏ وذكر بتجاهل المسئولين للشكاوي العديدة من الأهالي الذين أوقعهم حظهم العاثر بالسكني جوار تلك البيوت المشبوهة‏.‏
ونتبين من الأهرام أن أبو العيون قد نجح في تحريك قطاع هام من الرأي العام‏..‏ فهذا قارئ آثر وصف نفسه بالشيخ الهرم يتقدم بشهادة عن إمبراطورية الغربي وأنه كان من بين الشهود علي ما يجري فيها ويطالبه بالاستمرار في الكتابة‏,‏ وهذا آخر يطالب بتوقيع الكشف الطبي ليس علي العاهرات فحسب وإنما علي الرجال الذين يترددون عليهن‏,‏ ومع أن الشيخ عدو الرذيلة قد تحمس للفكرة‏,‏ غير أنه لم يبين كيفية تحقيق ذلك‏(!),‏ وهذا ثالث يبدي دهشته مما تردد عن أن الحكومة تجهل أماكن بيوت البغاء السرية‏,‏ وأنه قد قام برفقة عدد من أصدقائه بجولة في بعض أحياء القاهرة اكتشفوا خلالها عددا كبيرا من تلك البيوت‏,‏ وأبدي استعداده أن يقدم عناوينها والشوارع‏,‏ بل والحارات‏,‏ التي توجد فيها‏!‏

ويؤكد عماد هلال أن تلك المقالات قد أثرت علي جهات التحقيق في قضية الغربي حتي أن النائب العام قد اضطر إلي التصريح بأنه سوف ينشر تقريرا مفصلا عن تلك القضية قبل نهاية شهر ديسمبر من ذلك العام‏-1923-,‏ غير أن ما عرفته تلك الأسابيع من إجراء أول انتخابات ديموقراطية ومن قيام برلمان عام‏1924,‏ قد صرف أنظار المهتمين عن القضية التي تبناها الشيخ‏..‏ صحيح أنه قد حاول أن يستثمر هذا الجو عندما أرسل برقيات إلي رئيسي مجلسي النواب والشيوخ طالب فيها بإلغاء البغاء الرسمي‏,‏ ولكن لا حياة لمن تنادي فقد شغلت القضايا السياسية‏,‏ خاصة ما اتصل منها بالجلاء والأوضاع في السودان التي اشتعلت في صيف ذلك العام‏..‏ شغلت النواب والشيوخ عن برقيات أبو العيون‏,‏ التي وجدت طريقها إلي المحفوظات‏..‏ لا أكثر‏,‏ الأمر الذي دفع الرجل إلي أن يعيب علي النواب والشيوخ قعودهم عن واجبهم‏,‏ وتغاضيهم عن مسألة اجتماعية خطيرة كمسألة الدعارة‏.‏
وكان علي المحارب من أجل إلغاء البغاء الانتظار إلي حين سنوح الفرصة مرة أخري‏,‏ وهو ما حدث بعد نحو عامين‏..‏ في إبريل عام‏1926‏ علي وجه التحديد‏.‏

‏***‏
المناسبة كان ما تردد وقتئذ عن أن وزارة الداخلية بصدد تعديل لائحة العاهرات‏,‏ وأنها حصلت في سبيل ذلك علي مذكرات تتضمن آراء المحافظين والمديرين‏,‏ وتقرير من حكمدار بوليس القاهرة أوصي فيه بمطاردة الذهبيات والتفتيش علي البيوت السرية‏..‏ وكان الشيخ أبو العيون سعيدا عندما طالع في جريدة المقطم أن قسم اللوائح والرخص قد رأي أنه لا يوجد مسوغ لبقاء البغاء الرسمي بالقطر‏,‏ وأشار بإلغاء اللائحة المطلوب تعديلها من أساسها واتخاذ النظم والاحتياطات التي ألغت البغاء الرسمي للمحافظة علي الأمن والآداب والصحة كدولة بريطانيا العظمي والولايات المتحدة الأميركية والنرويج وغيرها‏.‏
وزادت أسباب سعادته عندما ساق هذا القسم ذرائعه لطلب الإلغاء‏..‏ منها‏:‏ ما توفر لديه من تقارير تشير إلي قعود الحكومة عن مكافحة الأمراض التناسلية بسبب عدم وجود مستشفيات خاصة بها‏,‏ ولقلة الأطباء الأخصائيين بهذه الأمراض‏,‏ ومنها أن دين الدولة الرسمي هو الإسلام الذي يحرم الاعتراف بالبغاء وبالتالي التشريع لتنظيمه‏.‏

وبدا أن الظروف مناسبة لشن الشيخ أبو العيون لحملته الثانية في مكافحة البغاء‏,‏ فقد ظلت الأهرام تنشر مقالاته لنحو سبعة شهور‏,‏ تحولت خلالها من مجرد دعوة إصلاحية إلي معركة تعددت أطرافها مما يشكل صفحة مجهولة في التاريخ المصري‏..‏
وبمقارنة حملة‏1923‏ بحملة‏1926‏ نلاحظ أنه بينما غلب علي مقالات مذابح الأعراض طابع الخطابة فقد اتصفت الثانية بقدر كبير من العقلانية نلاحظها في الحجج المقنعة التي ساقها في المقال المنشور يوم‏27‏ إبريل تحت عنوان الزنا الرسمي‏-‏ بماذا نعلل موقف الحكومة؟‏.‏

قدم أبو العيون أربع حجج تدفع السلطات إلي إلغاء الدعارة الرسمية‏;‏ الأولي‏:‏ تتصل بدلالة ما جاء في الدستور من أن الإسلام دين الدولة الرسمي‏,‏ وإن ذلك لم يأت عبثا بل للعمل به‏..‏ نعم نعم‏,‏ إن الإسلام يحرم الزنا وتشريعه وتنظيمه‏,‏ ويأمر بجلد الزاني والزانية ورجمهما‏..‏ إنه ليس والله أقبح ولا أشنع ولا أذري بمهابة حكومة‏,‏ وحكومة إسلامية‏,‏ أن تشرع الزنا وتنظمه‏.‏
تذرع في الحجة الثانية بما جاء في المبحث الخاص لقسم اللوائح والرخص بأنه من المتعذر تنفيذ قوانين وأنظمة البغاء‏,‏ ونوه في ذلك بكتاب كان قد أصدره عام‏1924‏ طبيب أمراض تناسلية اسمه فخري ميخائيل فرج تحت عنوان‏:‏تقرير عن انتشار البغاء والأمراض التناسلية بالقطر المصري وبعض الطرق الممكن إتباعها لمحاربته‏,‏ واقتبس منه قوله‏:‏ نعم إن الفوضي الأدبية والأمراض التناسلية سيزيد معدل انتشارهما لزمن وجيز‏,‏ ولكن بمجهودات الهيئات المختلفة يمكن تحسين الحالة بسرعة‏,‏ وبعدئذ ننتفع بوجود نظام المنع‏!‏

رد في حجته الثالثة علي ما كان يتقول به البعض من أن الامتيازات الأجنبية‏,‏ التي تمنح حرية العمل للمنتفعين بها بما فيها الدعارة‏,‏ تقف حجر عثرة في سبيل العمل علي إلغائها‏,‏ مؤكدا أن لائحة عام‏1905‏ لا تكسب الأجانب أي حق من الامتيازات‏..‏ والإدارة كما ملكت المنح تملك المنع‏,‏ وليس لأي ممثل سياسي مهما كانت رتبته أن يرخص للرعايا التابعين له بدعوي حق مكتسب‏.‏
أما حجته الأخيرة فقد سعي من خلالها إلي إقناع القارئ بأنه لا فائدة من الإشراف الصحي علي العاهرات مهما بلغ من دقته‏,‏ واستشهد في هذا بأحد الأطباء الأوربيين المشهورين الذي تولي عملية الكشف علي هذا النوع من النساء في مدينة لاهاي في هولندا‏,‏ وبلغ الأمر من تشدده أنه كان لا يمشي في الشارع إلا ومعه رجل شرطة لحمايته من هؤلاء‏,‏ غير أنه يعترف أن عديدا من المريضات بينهن قد نجحن في إخفاء علامات المرض‏,‏ وخلص من ذلك إلي القول أن الحكومات باعترافها بالبغاء رسميا تكون قد حرضت عددا من الرجال علي الزنا وأوردتهم موارد التهلكة‏!‏

وكما حدث في الحملة السابقة فقد تحمس قراء عديدون في تأييد الشيخ أبو العيون‏,‏ وهو الحماس الذي ظهر في أن عددا من المجالس المحلية قد اتخذت القرارات بإلغاء نقط البغاء في بنادرها كان منها بلبيس ودسوق والسنبلاوين في الوجه البحري وطهطا وملوي في الوجه القبلي‏.‏
أكثر من ذلك فقد نجح الشيخ أبو العيون في استقطاب تأييد عدد من الوزراء الذين كتبوا إليه بما يفيد ذلك‏..‏ عبد الخالق ثروت باشا وزير الخارجية رأي أن ترخيص البغاء في بلاد شرقية إسلامية كمصر لا يتفق وطبيعتها‏,‏ ومن الخطأ أن يعتقد أناس منا أن رقابة الكشافين للباغيات مقلل لذيوع الأمراض السرية‏,‏ واتفق مع هذا ذكي أبو السعود باشا وزير الحقانية الذي رأي أنه ليس من مبرر لبقاء البغاء من أية وجهة‏..‏ الدينية‏:‏ فليس من دين يحلل الزنا ويبيحه‏,‏ الأدبية‏:‏ هو تسهيل للزنا وتشجيع علي ارتكاب الفاحشة مع أنه منكر وصفته الحظر والتحريم‏,‏ وأخيرا الصحية‏:‏ ليس هناك ضمان كافي بأن تشريعات البغاء قادرة علي منع انتشار الأمراض‏!‏

غير أن الشيخ أبو العيون لم يهنأ طويلا بهذا النجاح إذ نشرت الأهرام يوم‏4‏ سبتمبر عام‏1926‏ مقالا آثر صاحبه ألا يوقع باسمه كاملا‏..‏ منير‏.‏ أ أخذ في مستهله علي صاحب الحملة محاولته انتزاع تأييد الوزراء له ورأي في ذلك إحراجا لمقاماتهم‏,‏ وتبع ذلك بأن وصف الطريقة التي يتبعها الشيخ أبو العيون بأنها سلبية محضة فهل فكر وقتا فيما ينتج عن إلغاء البغاء الرسمي‏,‏ وهل رأي بعد التفكير أن ذلك الإلغاء وسيلة لانتشار الفضيلة؟ لا أظن ذلك ياسيدي بل أخشي أن يكون ذلك سببا في خروجه من يد الحكومة ومراقبتها وانتشاره بشكل هائل في كل مكان وكل حي‏,‏ ثم تساءل عن مصير ثلاثة آلاف بغي موجودات بالعاصمة لن يتسني لهن الرجوع إلي أسرهن‏,‏ وأنه لن يكون أمامهن سوي اللجوء إلي العيش في بيوت بعض من عرفن أثناء ممارستهن للرذيلة‏,‏ بكل ما يترتب عليه من انتشار العدوي‏,‏ وشبه ذلك بالطبيب الذي يبتر الساق بسبب ظهور بعض الطفح عليه‏!‏
المفاجأة الثانية أن وزارة الداخلية لم توافق علي قرارات المجالس المحلية بإلغاء نقاط البغاء‏,‏ لما سيترتب عليه من عدم تطبيق لائحة البغاء ولا يجوز للبوليس في هذه الحالة أن يتخذ إجراءات قانونية ضد العاهرات اللائي قد يسكن بجوار منازل الأحرار ويفتحن بيوتا للدعارة‏,‏ ويلزم مع ذلك أن يكون البحث دقيقا لكي لا تكون النتائج مضادة لأغراض المصلحين‏.‏

المفاجأة الثالثة أن جريدة كبيرة مثل السياسة الناطقة بلسان الأحرار الدستوريين قد أخذت علي الشيخ أبو العيون أنه حشر نفسه فيما ليس هو أهلا له‏,‏ ورأت أن البغاء شر لا بد منه‏,‏ وأن كل ما يمكن عمله لمقاومته هو حصر ضرره في دائرة معينة‏,‏ والتفكير في خلق عوامل اجتماعية جديدة تحل محل الوسائل المادية التي وضعها الدين لمقاومة أسباب البغاء‏,‏ كتقوية الجانب الأدبي في نفوس النشء‏,‏ وتوجيه قواه المعنوية والمادية إلي العمل الشريف الذي يلهيه عن كثير مما في الحياة من أسباب الفساد‏.‏
دفع ذلك الأهرام إلي أن تكلف واحدا من أهم محرريها‏,‏ هو الأستاذ محمود أبو الفتح‏,‏ لتدبير مقابلة صحفية مع القيسي باشا مدير الأمن العام للتعرف علي وجهة نظر الحكومة فيما دعا إليه الشيخ أبو العيون‏..‏ وقد سلم الرجل بأن وجود البغاء في بلد يقول دستورها أن دين الدولة الإسلام أمر غير مرض ولا يغتبط به أحد‏,‏ غير أن الواجب يتطلب تبين موضع القدم بأن ننظر في العواقب التي تلي الإلغاء علي حد قوله‏.‏

واستشهد في ذلك بالنتيجة المحزنة المؤلمة التي حدثت في شبين الكوم بسبب إلغاء نقطة البغاء بها عام‏1908,‏ وما ترتب علي ذلك من زيادة عدد الإصابات بالأمراض التناسلية مما دفع الأهالي أنفسهم إلي المكالبة بعودة التصريح بإعادة هذه النقطة‏,‏ وأن تلك التجربة هي التي دفعت إدارة الأمن العام إلي عدم قبول طلب إلغاء نقطة بنها عنها عام‏1925,‏ مما تكرر بالنسبة لطلبي إلغاء نقطتي ميت غمر وملوي في العام التالي‏,‏ غير أنه كعادة المسئولين في هذه المناسبات وعد القيسي باشا بإعادة النظر في القضية بعد تمحيصها بقدر كاف‏.‏
ولم يكن الشيخ أبو العيون في حاجة إلي ذكاء كبير ليدرك أن حملته الثانية قد دخلت إلي ذمة التاريخ ولحقت بشقيقتها‏,‏ وكان عليه أن ينتظر لأكثر من عشرين عاما حتي يتحقق أمله‏(1949),‏ ليودع بعده بعامين الدنيا بأخيارها وأشرارها‏!‏

سعيد الشحات يكتب: ذات يوم26 مارس 1938.. منع قبول "مومسات" جديدات والاكتفاء بـ"بيوت الدعارة المرخصة"

كان فى مصر نشاط شرعى ورسمى اسمه "البغاء"، له قوانينه ولوائحه ورجاله وسيداته، ومر بمراحل نشاط وانكماش، ومن أيامه التى تحفظها كتب التاريخ، يوم "26 مارس 1938" الذى قرر فيه وزير الصحة:"عدم قبول مومسات جديدات، وعدم الترخيص بفتح بيوت دعارة جديدة غير الموجودة فعلا"، كان هذا هو نص القرار الذى يحمل وراءه حكاية طويلة عن تاريخ البغاء فى مصر .

هى قصة قديمة، لكننا نبدأها من عصرنا الحديث، من وقت اعتراف الحكومة به، ووضع لائحة بيوت العاهرات فى 15 يوليو 1896، ولائحة ثانية فى 16 نوفمبر 1905، والتى قالت شروطها: أن يكون للبيت باب واحد فقط، ولا يجوز وجود اتصال بينه وبين مساكن أخرى أو محلات عمومية، وبيت العاهرات هو البيت التى تجتمع فيه امرأتان أو أكثر من المتعاطيات عادة فعل الفحشاء، ولو كانت كل منهن ساكنة فى حجرة منفردة منه، أو كان اجتماعهن فيه وقتيا.

والراغبون فى فتح بيت للعاهرات يتقدمون بطلب للمحافظة قبل فتحه بـ15 يوما، ويحدد فيه الاسم والسن ومحل الميلاد، وأن يكون بالغا وغير محكوم عليه بعقوبة جنائية لارتكابه جناية عادية، أو سرقة أو تزوير أو نصب أو خيانة أمانة، ولا يجوز للبوليس دخول هذه البيوت نهارا لضبط المخالفات، ولا يجوز لهم الدخول ليلا إلا عند حدوث ما يخل بالأمن العام أو عند حدوث استغاثة.

فى كتاب "البغايا فى مصر" لمؤلفه عماد هلال، وكتاب "مجتمع القاهرة السرى 1901 _ 1951" للدكتور "عبد الوهاب بكر"، تعرف حدود هذا النشاط الآثم الذى عرفته مصر وتم تقنينه فى القرن التاسع عشر والقرن العشرين، وتعرف أماكنه وطبيعة رجاله ونسائه، ومن أشهر مناطقه، الأزبكية، وباب الشعرية، والعباسية، والسيدة زينب، وبولاق، والخليفة، والوايلى، وهذا بخلاف الأقاليم.

جاء قرار وزير الصحة بعدم قبول مومسات جديدات فى يوم 26 مارس 1938 على خلفية حملة ضارية، قادها الشيخ "محمود إبراهيم أبو العيون"، انتهت إلى تجريم هذا النشاط عام 1949، وذلك من خلال سلسلة من المقالات فى الصحف، ومع انعقاد أول برلمان مصر عام 1924 أرسل "أبو العيون" طلبا يقترح فيه العمل على إلغاء البغاء رسميا فى مصر، ولاقت الحملة تجاوبا فى المحافظات، وكان مجلس محلى بنها أول من قرر إلغائه، لكن الداخلية رفضت، وتلاها بعد ذلك محافظات أخرى.

المثير فى هذه القضية، المعركة التى نشبت بين "أبو العيون" وبعض الأحزاب ورموز السياسة والفكر،وخاصة حزب "الأحرار الدستوريين"، وجريدة "السياسة" برئاسة الدكتور "محمد حسين هيكل"، حيث شنت هجوما ضاريا على "أبو العيون" وصل إلى حد وصف محرر "السياسة" له بـ"الشيخ الباغى البذىء، الأحمق", و"الشيخ الدجال"، كما قال فكرى أباظة الكاتب الصحفى والنائب البرلمانى:"إلغاء البغاء جريمة" غير أن الدكتور "إبراهيم الدسوقى أباظة" قال:"من العار أن يبقى البغاء رسميا فى مصر"، وكانت حجة الرافضين أن إلغاءه سيعنى انتشاره سريا، وبالتالى سيصعب الرقابة عليه.

تاريخ العالم السري والبغاء في مصر
كلوت بك.. الوسعة.. وش البركة.. درب طياب.. عطفة جندف.. درب المصطفي.. الوعد.. الجنينة.. الخبيزة.. الحوض المرصود.. كل أسماء المناطق والحارات والأحياء السابقة كانت تعني منذ مطلع القرن الماضي وحتي منتصفه مناطق البغاء العلني ومملكته في الليل والنهار. جيوش من العاهرات والفتوات والبلطجية والبرمجية وتجار الرقيق وطالبي المتعة من كل الأجناس والملل بل والديانات حين كانت القاهرة وعلي مدي حربين عالميتين طاحنتين مركزا لجيوش الامبراطورية التي لاتغيب عنها الشمس..
العالم السري للقاهرة والعلني في نفس الوقت هو المسرح الذي تجول علي خشبته د. عبدالوهاب بكر في كتابه الأخير.. مجتمع القاهرة السري ..1900 1951' الذي يعد واحدا من أهم الأبحاث الاجتماعية واكثرها دقة واكتمالا في السنوات الاخيرة، ليس فقط بسبب ندرة الأبحاث العلمية في هذا المجال، بل أيضا بسبب ذلك الاشتمال والقدرة علي الاحاطة الكاملة بموضوع البحث.
واذا كان البغاء العلني قد صدرت من أجل تنظيمه قرارات ولوائح منظمة، فان أولي لوائحه أصدرها مصطفي فهمي رئيس مجلس النظار وناظر الداخلية عام 1905 تحت عنوان 'لائحة بشأن بيوت العاهرات' وتوالت من بعدها التنظيمات، حيث أصدر خديو مصر عباس حلمي 'لائحة البيوت العمومية' ثم لائحة التياترات التي وقعها عام 1916 محمد سعيد ناظر الداخلية.. لكن عام 1949 شهد قرارا انقلابيا باغلاق بيوت العاهرات وبعدها بعامين فقط صدر القانون 68 لسنة 1951 الخاص بمكافحة الدعارة والمعمول به حتى الآن.
وهكذا بدأ فصل جديد من فصول البغاء، وتحول إلي بغاء سري واتخذ أشكالا مختلفة لعل أقلها لا أخلاقية هو اللقاء الجنسي المدفوع الأجر بين رجل وامرأة ، بينما البغاء الفكري والسياسي والاقتصادي اكتسب علانية وأنصارا يزدادون كل يوم.. إلا أن هذه قصة أخري كما يقولون!
نعود إلى د. عبد الوهاب بكر الذي اعتمد علي مصادر جديدة ومختلفة لطبيعة بحثه الجديد والمختلف وفي مقدمتها تقارير اللواء رسل باشا الذي كان يقود البوليس المصري منذ عام 1918، إلي جانب مختلف التقارير السنوية لأداء جهاز الأمن في القاهرة، وكذلك تقارير مصلحة الصحة العمومية المنوط بها الاشراف علي خلو عاهرات القاهرة من الوطنيات والاجنبيات من الامراض الجنسية، والتاريخ الشفوي غير المكتوب من خلال من تبقي من شهود العيان الأحياء سكان هذه المناطق الذين التقاهم المؤلف، وأخيرا أبحاث وكتابات اللواء نيازي حتاتة الذي تخصص تقريبا في اجراء أبحاثه الممتازة حول مسائل البغاء.


شيوخ العرصات !

وباطلالة تاريخية سريعة، تعرف أنه منذ الربع الاخير للقرن السابع عشر كانت البغايا تسجلن في سجلات الشرطة وتحصي أعدادهن، وتقوم الشرطة بحفظ هذه السجلات التي تضم أسماء محترفي البغاء من الرجال والنساء لأغراض الضرائب. كما كانت هناك ثلاث وظائف يتولاها (شيوخ العرصات) في بولاق والقاهرة ومصر القديمة يقومون بجمع الضريبة من الاناث والصبية تحت ادارة قائد الشرطة الذي يعاونه 40 رجلا يعرفون بجاويشية باب اللوق مهمتهم حصر الصبية والبغايا ومراقبة من يقضي الليل خارج منزله أو داخله و أثناء الاحتلال الفرنسي لمصر اقيمت في غيط النوبي المجاور للأزبكية أبنية للبغاء لايسمح بدخولها الا لمن يدفع رسما معينا ويصرح له بورقة صادرة من السلطات الفرنسية. وترك محمد علي الحبل علي الغارب للبغاء منذ توليه عام 1805 وحتي عام 1834 حين أبعد المومسات والراقصات الي اسنا وقنا والأقصر، لكن عباس الاول رفع هذا الحظر عن البغاء والرقص وعادت المشتغلات بهذه المهن إلي القاهرة. وفي عام 1885 وبعد الاحتلال الانجليزي صدرت لائحة مكتب التفتيش علي النسوة العاهرات والزمن بالكشف الدوري عليهن مع استثناء (العايقات) اللائي يبلغن 50 عاما وذلك حرصا علي صحة جنود الاحتلال. وكان مندوبو السرية الطبية البريطانية يجلسون أمام الطوابق الأرضية للمواخير حيث يسلمون كل جندي واقيا ذكريا وعلبة مرهم وكراسة بالتعليمات.
وكان قانون الضبطية الصادر عام 1880 قد حدد أماكن ممارسة البغاء في منطقتي الأزبكية وباب الشعرية وتضيف المصادر الأمنية أيضاً مناطق زينهم والعزبة السودانية بالعباسية ، لكن تميزت منطقة عرب المحمدي بأنها الأرخص وكانت 'محلات الممارسة فيه لاتتجاوز حفرة في الأرض ممهدة للقاء وتغطي من أعلي بستارة تثبت ببعض الحجارة من أطرافها بواسطة القواد أو القوادة' وعندما يفرغ (العميل) من مهمته يتم رفع الحجارة وازالة الستارة لدخول عميل جديد! أما منطقة الأزبكية طبقا لتقرير بوليس مدينة القاهرة عام 1893 فقد كانت تضم أعلي نسبة من الفنادق والغرف المفروشة، بينما كانت منطقة (الوسعة) ووش البركة في الأزبكية تضم عشرات البيوت المقسمة لغرف أو حتي دكاكين مغطاة بستائر، وسعر الممارسة كان يتراوح في العشرينات بين شلن و 15 قرشا مكتوب علي الباب، كما كانت هناك بيوت أخري مغطاة بقضبان حديدية تجلس خلفها المومسات بوجوههن المصبوغة. وعندما صدر الأمر العسكري عام 1942 باغلاق منطقة وش البركة لجأت العواهر في ممارسة، نشاطهن مع جنود الاحتلال إلي المقاعد الخلفية في عربات الحنطور!!
لم يترك د. عبدالوهاب بكر شاردة أو واردة إلا وذكرها بما في ذلك أجور العاهرات. فطبقا لبحث أجري علي 149 مومسا عام 1957، تراوح الأجر بين 25 50 قرشا. أما أكبر دخل من مجموع اتصالات العاهرة فقد بلغ 8 جنيهات طبقا لبحث آخر.
من جانب آخر يؤكد د. بكر أنه من الصعوبة بمكان حصر أعداد المشتغلات بهذه المهنة، فهناك دائما أعداد أخري ممن يعملن خارج الأماكن الرسمية المصرح بها، بل ان التقارير الرسمية ذاتها في الثلاثينات اكدت ان المشتغلات بالبغاء السري كن أكثر عددا من المقيدات بالسجلات الرسمية. فبينما كان عدد المومسات المقيدات بالدفاتر الرسمية عام 1934 يصل إلي 926، بلغ عدد غير المقيدات اللاتي ضبطن بالقاهرة17.27 وتحفل سجلات مصلحة الصحة العمومية ببيانات دقيقة لمن خضعن للكشف الدوري الذي كانت تجريه المصلحة علي المرضي بالأمراض السرية مع ملاحظة أن نشاط المومسات في البغاء السري ممن ضبطهن يحرضن علي الفسق في الشوارع، أو داخل البيوت أضعاف نشاط المسجلات. ومن المؤكد أن نشاط البغاء في القاهرة أصابه بعض الوهن في النصف الثاني من الأربعينات ولأسباب سياسية محددة مثل انتهاء الحرب العالمية الثانية وارتفاع المد الوطني مع تزايد نشاط الحركات السلفية وفرض الأحكام العرفية.
الوطنيات والأوربيات
لم يقتصر سوق البغاء علي المومسات المصريات اللائي ميزهن القانون ب 'المومسات الوطنيات' بل شمل نشاط الدعارة الاوربي الذي بدأ في ثمانينات القرن التاسع عشر، فقد أشار قانون اجراءات واختصاصات مأموري ضبطيات الاثمان الصادر عام 1880 إلي 'بعض حريمات موسوية وعيسوية في بعض شوارع المحروسة، جاعلات لهن دكاكين للاقامة بها ويتردد عليهن حريمات لفعل الأمور غير المرضية'.
أغلب الظن ان المومسات الأوربيات بدأ توافدهن علي المحروسة في ظل القوانين التي كانت تتيح للأجانب التدفق علي البلاد في عهد (الخديو سعيد 1854 1863) وتزايد بالطبع في أعقاب الاحتلال الانجليزي، غير ان الامتيازات الأجنبية أضفت علي نشاطهن نوعا من الحصانة. وقد عاني اللواء رسل قائد شرطة القاهرة الأمرين أثناء عمله في حماية وتنظيم الدعارة، وهناك أحد المواخير الذي ظل يتردد عليه رسل عدة شهور في محاولة لضبط الخارجين علي القانون، فلم يكن ممكنا حتي للبوليس أن يدخل بيتا أجنبيا دون موافقة القنصل.. كتب د. بكر: 'وفي الواقعة الخاصة بهذا الماخور فانه كان يواجه في كل مرة يأتي فيها بالقنصل المختص بصوت يعلنه من الداخل أن مدام إيفون صاحبة المحل الفرنسية قد باعته إلي مدام جنتيني الايطالية، فيضطر (المسكين) رسل لاحضار القنصل الايطالي في الاسبوع التالي، فيفاجأ بتغيير جنسية صاحبة الماخور إلي اليونانية، ولم ينقذ رسل إلا اصطحابه لسبعة ممثلين لقناصل دول أجنبية دفعة واحدة'.. وهكذا نجح رسل باشا أخيرا!!
وفي هذا السياق وكما كشف تقرير لجنة الخبراء الخصوصية التابعة لعصبة الأمم المتحدة عام 1927، تشكلت عصابات للاتجار بالرقيق الأبيض، وتكفلت البواخر التي كانت تتدفق علي الاسكندرية والقنال بنقل العشرات بنظام ودقة بالغين.. يقول التقرير:
لقد ثبت ان الديار المصرية عبارة عن سوق بغاء عظيمة للنساء والفتيات من جميع الاجناس ولاسيما في موسم السياحة، أعني مدة شهور الشتاء، فان السواد الأعظم منهن كن يشتغلن بالبغاء قبل قدومهن إلي القطر المصري.. ووصول النسوة كان في الغالب عن طريق الاسكندرية، إلا أن بعضهن كان ينزل في بورسعيد، والبعض الآخر كان يذهب إلي بيروت، ومن هناك يأتي إلي مصر عن طريق البر..
وقد حدث رواج كبير وزاد الطلب علي المومسات الاوربيات عام 1926 تحديدا، وسجل التقرير المشار اليه أن أصحاب بيوت الدعارة كانوا يدفعون ما بين 50 100 جنيه للحصول علي أجنبية، وهو مبلغ رهيب بأسعار ذلك الزمان! وفي كل الاحوال اقتصرت جنسيات المومسات القادمات للعمل بالمحروسة علي اليونانيات والفرنسيات والايطاليات، أما شرف الامبراطورية البريطانية العريق فقد كان يمنع البريطانيات من العمل طبقا للقوانين التي فرضها الاحتلال البريطاني! والمؤكد ان القوادين الاجانب حكموا حي الدعارة الاوربي في قلب القاهرة بوش البركة بيد من حديد كما تشير وثائق ذلك الزمان .
هذا وقد بلغ عدد المومسات الأوربيات المسجلات عام ..1916 (659) امرأة علي سبيل المثال. لكن هذه الأرقام تسقط أمام أي سجل احصائي للبوليس المصري الذي أورد عام 1935 عددا كبيرا ممن ضبطن من الاوربيات يمارسن تحريض المارة علي الفسق بلغ ..3040
لنتأمل معا السنوات التالية: 1927، 1932، 1934، وحتي ..1946 في هذه السنوات تحديدا بلغ عدد المومسات الاوربيات من المشتغلات بالبغاء سرا اكثر من عدد قريناتهن من المصريات باستثناء عام 1945 فقط، بل انه تجاوز ضعف عدد المصريات وبلغ 12.140 مومساً ..
*********

البادرونه والبرمجي

خصص د. عبدالوهاب بكر الفصل التالي من بحثه الاجتماعي الممتاز للملامح الاجتماعية للمومس. وبالرجوع إلي المصادر المختلفة للفترة موضوع البحث نجد ان أعلي نسبة للسقوط بين 21 25 عاما، واكثر الجهات امدادا للقاهرة بالعاهرات هي علي التوالي الاسكندرية، الغربية، كفر الشيخ، المنوفية، الشرقية، المنيا.
تتراوح أسباب السقوط بين فقد الأب أو الأم أو الزوج، وبلغت نسبة الامية بينهن حدا خطيرا، وكانت نسبة لايستهان بها من بينهن يعلن أولادهن وأقاربهن من عملهن. أما الزواج فقد ثبت طبقا للدراسات الميدانية أن أكثر أزواج المومسات من العمال يليهم التجار ثم الموظفون، ذوو الاعمال الحرة، ذوو الاملاك، الفلاحون، واخيرا الطلبة.
بالطبع يقترن الطلاق بالسقوط وكذلك الزواج المبكر. وقد تتخذ المومس بجانب زوجها عاشقا، أو تجمع بينهما في وقت واحد. وطبقا لنفس الدراسات فان أكثر المهن تعرضا للسقوط هن خدم المنازل، يليهن العاملات، ثم الفنانات في الكباريهات، فالبائعات المتجولات، وحائكات الملابس، والفلاحات وهن أقل المشتغلات تعرضا للسقوط، مع ملاحظة ان كثيرات من بين المومسات يجمعن بين مهنتهن ومهن أخري.
وطبقا لمسح اجتماعي أجراه المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية عام 1957/ 1958 علي 1055 مومسا ممن ضبطن بمعرفة مكتب حماية الآداب بالقاهرة، تبين أن الأغلبية من المومسات لايشربن الخمر ولايتعاطين الحشيش، وان القلة التي تفعل ذلك تفعله ارضاء لنزوات العميل، وقد تراوح دخلهن الشهري بين 6 20 جنيها. ومن أغرب ما كشف عنه البحث المشار إليه تفشي انعدام الحساسية الجنسية لدي المومسات علي نحو مذهل.
من جانب آخر تعيش المومس في غابة يحكمها القواد والبادرونة والبرمجي، وعلي الرغم من ذلك فان هذه الغابة يتألف بناؤها الاجتماعي من سلم هرمي تقبع في أسفله المومسات، ويأتي بعدهن البدرونات وهن مديرات البيوت المرخص لهن بالدعارة، ثم (السحابات أو السحابين) وهم المسئولون عن تزويد البيت بالمومسات الجدد، وأخيرا في أعلي السلم يقف القواد أو القوادة بشموخ وكبرياء، فهو المسئول الأول عن تشغيل العنصر البشري وامداد المجموعات البشرية بالغذاء والملابس وأدوات التجميل والتوصيل للمستشفيات وتوفير المحامين.. الخ ومن الناحية القانونية لم تكن القوانين المصرية وحتي عام 1951 تعاقب القواد فيما يفعله من التعيش علي ما تكتسبه المومس. بالطبع لم يكن السيد القواد يدفع للمومس إلا جزءا ضئيلا من أجرها في مقابل ما يزعمه من غذاء وخدمات صحية وقانونية. من جانبه كان القواد يسعي بالطبع لتقليل هذه الخدمات لتصبح المومس دائما علي وشك الموت. فقد عثرت الشرطة علي سبيل المثال أثناء تفتيشها منزل أحد كبار القوادين عام 1923 علي اكوام من (الدïقة) وغرائر من البصل وقدورا من المش لاحصر لها!
أما نظام المحاسبة فكان اكثر إثارة للتقزز والبشاعة، ففي منطقة عرب المحمدي كان اللقاء الجنسي يتم في حفر نعم مجرد حفر مجهزة في التلال. وكان العميل يدفع أولا للقواد، وفي نهاية اليوم وحتي تحصل المومس علي اجرها كانت تقدم للقواد حصيلة انتاجها وهي كيزان ممتلئة بالسائل المنوي للعملاء الذين افرغوا في جهازها التناسلي ويدفع القواد مبلغا محددا لقاء كل كوز.. لا أظن أن هناك أكثر بشاعة أو إثارة للتقزز من هذا الامتهان الفظيع..
لذلك لم يكن غريبا أن يستخدم القواد العنف المنظم والضرب حتي الموت والتشويه بالمواد الكيماوية طبقا لمحاضر الشرطة في ذلك الزمان، بل ان العنف في مجتمع البغاء يفسره بعض علماء الاجتماع بأنه من أهم السمات التي تميز ثقافة البغاء..
واذا كانت كلمة بدرونة وهي كلمة ايطالية تعني سيدة صاحبة رآسة فان مقابلها في بيوت البغاء الوطنية: العايقة. وهكذا تتولي البدرونة في بيوت البغاء الأوربية توزيع العمل وتنظيمه وتلقي الاموال وودفع أجور الخدم والبلطجية ومواجهة التعقيدات الأمنية وهي تقريبا نفس مهام العايقة.
ولاتستطيع المومس أن تعمل بلا بدرونه أو عايقة، بل ان بيتا واحدا للبغاء لن يقبلها طبقا لميثاق الشرف المعقود بين العايقات والبدرونات، خصوصا اذا علمنا أن الاخيرات كن يلزمن المومسات بالتوقيع علي كمبيالات، وهو الأمر الذي احترمته الشرطة ،وفي كل الأحوال كان الضحايا هن المومسات ، كما احترمت جهات الكشف الطبي ميثاق الشرف، ولم يكن يسمح للبغي بمغادرة المستشفي إلا إذا تسلمتها بدرونتها أو من ينوب عنها، حتي تبقي البغي سجينة.
أما عشيق المومس فكان اسمه البرمجي، وطبقا للنظام المحكم والدقيق للعالم السري فان المومس لم تكن تستطيع العيش دون برمجي تنفق عليه وتعاشره وتغدق عليه في مقابل حمايتها. وأخيرا هناك السحاب أو السحابة الذي يقوم باصطياد الفتاة وتقديمها لقمة سائغة للقواد الذي يتولي كل شيء.


الحوض المرصود

الحوض المرصود يقع الآن في 22 شارع قدري بحي السيدة زينب حيث مستشفي القاهرة للأمراض الجلدية والتناسلية، واذا كان المبني الأصلي قد تهدم، إلا أن ثمة أثرا مازال باقيا من أمجاد المبني القديمة يتمثل في كملتي الحوض المرصود المكتوبة علي لافتة المستشفي. أمجاد الحوض المرصود عديدة من بينها أنه كان مكان اجتماع المومسات الوطنيات لأخذ عينات من اجهزتهن التناسلية للفحص، وهو ايضا مكان معالجة الامراض السرية، كما أنه مصدر الرعب للمومس المرخص لها وأضاف د. بكر كان المكان ' الذي كانت ترد إليه طوابير المضبوطات يحرضن المارة في الشوارع علي الفسق، مخفورات في حراسة رجال الشرطة للكشف عليهن ضد الأمراض السرية. كان الحوض المرصود هو المكان الذي تحاصره فرق البلطجية والبادرونات والقوادين والقوادات وقت الكشف أو عند انتهاء علاج المومس المريضة ليتسلموها ويعودوا بها إلي بيت الدعارة خشية الهرب'.
وعلي الرغم من ذلك فان الأمراض السرية تفشت علي نحو يكاد أن يكون وبائيا لأن الأمراض الثلاثة الرئيسية الزهري والسيلان والقرحة الرخوة تحتاج إلي علاج مكثف، وبعضها يحتاج إلي سنوات قبل الشفاء التام، وهو الأمر الذي كان يعني 'وقف حال' المومس بل وأن تجوع حرفيا، لذلك كان انقطاع المريضات عن استكمال العلاج هو القاعدة، ففي احصاء أجراه مستشفي الحوض المرصود عام 1932، كان عدد المريضات قد بلغ 34279، وعدد المنقطعات .14468 وبسبب هذا التفشي الوبائي اضطرت السلطات لانشاء مركز للوقاية من الأمراض التناسلية بجهة الازبكية يعمل ليلا ونهارا!
حكاية ابراهيم الغربي
في الفصل التالي يناقش د. بكر ثلاث قضايا رئيسية مرتبطة بالبغاء وهي الرقيق الابيض، البلطجة، المشروبات الروحية. فيما يتعلق بالقضية الاولي يروي المؤلف حكاية عن شخصية روائية هامة هو ابراهيم الغربي ملك الرقيق الابيض وصاحب صولجانه.
ابراهيم وفد علي القاهرة عام 1890 قادما من أسوان، وكان والده يعمل بتجارة الرقيق التي كانت السلطات قد حرمتها عام .1870 وفور مجيئه إلي القاهرة افتتح بيتا للبغاء العلني في شارع وابور المياه ببولاق. تيسرت أحواله سريعا واستأجر عام 1896 منزلا كبيرا في منطقة الوسعة لممارسة نشاطه، وألحق بالمنزل مقهي بلديا ترقص فيه الراقصات. ولم يحل عام 1912 إلا وكان يمتلك 15 منزلا للبغاء في الأزبكية تعمل فيه اكثر من 150 مومسا. يصف رسل باشا قائد بوليس القاهرة ابراهيم الغربي علي النحو التالي:
نوبي ضخم الجثة سمين. كان يشاهد كل مساء جالسا علي مقعد خارج منازله بشارع عبدالخالق واضعا ساقا علي ساق مرتديا ملابس النساء ومنقبا بنقاب أبيض. كان هذا الفاسد الكريه يجلس كالصنم الأبنوسي الصامت، ويخرج في العادة يدا مغطاة بالمجوهرات ليقبلها أحد المارة من المعجبين، أو معطيا أمرا صامتا لأحد أتباعه من الخدم. كان لهذا الرجل سلطة مذهلة في البلاد. امتد نفوذه ليس فقط في عالم الدعارة، ولكن أيضا في محيط السياسة والمجتمع الراقي، كان شراء وبيع النساء في كل من القاهرة والأقاليم في يد الغربي كلية، ولم يكن قراره بالنسبة للسعر يقبل المناقشة..
وعندما فرضت الأحكام العرفية عام 1914 تقرر إقامة معتقل في الحلمية 'يلقي فيه هذا النفر من المتشبهين بالنساء، وفي ليلتين كان قد اعتقل مائة من هؤلاء' وكان من بينهم الغربي الذي قضي عاما في المعتقل ثم أبعد إلي قريته بأسوان. لكن القصة لم تنته بعد. ففي عام 1922 حققت النيابة في احدي قضايا الرقيق الابيض بواسطة تنظيم نجح في بيع 400 فتاة. واعترف أغلب المقبوض عليهم من الرجال والنساء بأن ابراهيم الغربي ما يزال يدير عمليات الرقيق الأبيض من إسنا إلي الاسكندرية، كما أثبتت التحقيقات ضلوع رجال الشرطة وتورطهم. وقد أسفر تفتيش منزل الغربي عن العثور علي عشرات الكمبيالات علي النساء المغرر بهن وكميات كبيرة من النقود والحلي والذهب، كما تبين أن الغربي يدير 52 منزلا.
أدين الغربي وحكم عليه بالسجن مع الأشغال الشاقة بخمس سنوات لم يستطع تحملها ومات بعد عامين داخل السجن تاركا وراءه '54 بيتا في حي باب الشعرية قيمتها وما تحتويه 50.000 جنيه، 156 سوارا من الذهب الخالص والزمرد والماس عدا تاج كان يلبسه فوق رأسه تجاوزت قيمته ثلاثة الاف جنيه بأسعار ذلك الزمان، وكسوة للتشريفة كان يرتديها في الحفلات الرسمية كانت قيمتها 500 جنيه، إلي جانب عشرة آلاف جنيه'.
كما كشفت التحقيقات عن سيطرة ابراهيم الغربي علي جهاز الشرطة وكذلك جهاز فحص المومسات وقيادته لتنظيم محكم يضم المومسات والقوادات والسحابات والبلطجية والمنازل المدارة للدعارة.
ولايفوت المؤلف الاشارة الي ما كشفت عنه التحقيقات في قضايا عديدة سقطت خلالها شبكات دعارة تقدم الصبية.
أما ثانية القضايا المرتبطة بالبغاء فهي البلطجة، والأصل في البلطجة ان كل حي من احياء القاهرة كان له فتوة معترف به (راجع روايات نجيب محفوظ) بما في ذلك حارة اليهود، وكانوا يحصلون بالطبع علي اتاوات يفرضونها علي أهل الحي الذي يعيشون فيه. وعندما ظهرت دور الدعارة الرسمية تحمل الفتوات والبلطجية عبء حماية ملاهي الأزبكية وروض الفرج واداروا صالات الرقص والبارات والمقاهي، كما تحملوا عبء حماية ورعاية المومسات! وكما عبر المؤلف 'في نفس الوقت فان هؤلاء البلطجية وثقوا علاقاتهم بصغار ضباط الشرطة، وأصبح قسم شرطة الأزبكية يدار من الحانات والصالات التي اتخذها اعضاء عصابات البلطجية مقار لهم يحتسون فيها الخمور بلا مقابل ويحصلون علي الاتاوات'.

حكاية الراقصة "امتثال فوزي"

ولايفوت المؤلف أن يروي حكاية الراقصة امتثال فوزي التي افتتحت صالتها 'كازينو البوسفور' وعرض عليها البلطجي المعروف فؤاد الشامي الحماية لكنها رفضت، بل وكانت تأمر بطرد البلطجي واعوانه من الصالة، وقام الشامي بتدبير اعتداء عليها، فلجأت إلي شرطة الأزبكية بالطبع، وكان رد ضباط الكراكون أن دورهم ليس حماية الناس من التهديد بل ضبط الوقائع بعد وقوعها.. وانتهي الأمر بقتلها علي يد الشامي!!
ثالثة هذه القضايا هي ارتباط الخمر بالبغاء. ولذلك ازدادت واردات البلاد من الخمر بين عامي 1914 و 1918 بنسبة 200 % ، كما ارتفع عدد البارات إلي 1287، مع الأخذ في الاعتبار ان الاجانب كانوا يحصلون علي تراخيص بفتح الحانات ثم يبيعونها للمصريين لقاء 400 جنيه مع أجر شهري معقول!
وينهي د. عبدالوهاب بكر الكتاب بفصل يتناول من خلاله تطور البغاء والتحسينات التي طرأت عليه، فمثلا يعد ادخال الرقص في المقاهي بدءا من أواخر القرن التاسع عشر أولي محاولات تجميل البغاء علي يد ابراهيم الغربي. ومفهوم ان الراقصات لم يكن دورهن مقصورا علي الرقص وفرض بعض أصحاب الصالات رسوم دخول، وتطور دور الراقصة إلي مجالسة الزبائن.
ومع قيام الحرب العالمية الأولي ازدحمت القاهرة بجيوش الحلفاء، لذلك اشتدت الحاجة للنساء لمجالسة الزبائن، وانتعشت صالات بديعة مصابني وماري منصور وببا في العشرينات والثلاثينات. أما مع قيام الحرب العالمية الثانية فقد بدأ البغاء يتخذ شكلا جديدا، وأصبحت الصالات والكباريهات والمقاهي الموسيقية هي المركز الأساسي للبغاء. ومن أجل تحية جنود الحلفاء ابتكرت الراقصة شوشو البارودي رقصة نجاح الديمقراطية! وقامت الارتيستات بنفس الدور الذي كانت تقوم به المومسات ولكن مع استخدام قناع جديد.
ولم تكن الارتيست مجرد مومس تجلس مع الزبائن، بل ان (فتح) زجاجات الخمر علي شرفها كان هدفها الاساسي، مع اكتفائها هي باحتساء الينسون أو الشاي لكن الزبون يدفع!
ومن أوربا انتقلت إلي مصر صالات الرقص حيث خصص أصحاب هذه الصالات نساء عملهن الوحيد مراقصة الزبائن وخصوصا جنود الامبراطورية التي لاتغيب عنها الشمس. وانتشرت صالات الرقص في وسط المدينة، لكن أفضل أماكنها كان في العوامات الراسية في الجزيرة وامبابة.
وبعد الغاء البغاء المنظم عام 1949 تحولت اكثر المومسات إلي البغاء السري من خلال عملهن كمجالسات لجمهور الصالة. ولم يقتصر البغاء السري علي مجالسة الزبائن فقط بل أضيف إلي ذلك تسفير النساء خارج أوطانهن تحت دعوي العمل الفني في الخمسينات المبكرة.
يتوقف د. بكر عند عام 1951 حين صدر القانون 68 لسنة 1951 الخاص بمكافحة الدعارة. والواقع ان البغاء الرسمي المصرح به هو الذي اختفي، بينما ظل البغاء كما هو معروف تتم ممارسته بانتظام وتوسع، ومازالت صالات الرقص والغناء المنتشرة هي المكان المفضل والمأمون لعقد صفقات البغاء خصوصا في فصل الصيف حيث يشن الآلاف من الأخوة العرب هجمات مركزة علي صالات الرقص والغناء.
والبغاء بالطبع ليس مقصورا علي الممارسات الجنسية، وهو الأمر الذي أولاه المؤلف كل عنايته، لكن هناك بغاء معنويا أشد فداحة وهو البغاء الفكري والسياسي والاجتماعي والفني، والمدهش أنه مازال علنيا حتي الآن ولم تصدر بشأنه أي قرارات أو لوائح أو قوانين لتعطيله.
علي أي حال سيحتل كتاب د. عبدالوهاب بكر مكانا في المكتبة العربية بوصفه أحد أكثر الابحاث جدية وشمولا وموضوعية .