الأربعاء، 7 مايو 2014

قصائد جويس منصور وملف كامل عنها



أربعون قصيدة لجويس منصور


عبد القادر الجنابي




ولدت جويس منصور في بريطانيا من عائلة مصرية سنة 1928 انضمت إلى الحركة السوريالية ما إن رحّب السورياليون بعملها الأول "صرخات" سنة 1953. ومذّ، بقيت جويس التي انجبت من سمير منصور ولدين، وفيّة للمشروع السوريالي كتابة وسلوكاً حتى وافاها الأجل في باريس في 28 آب (اغسطس) 1986، اثر مرض السرطان.

تعرفتُ عليها إبّان السبعينات القرن الماضي، عندما كانت السوريالية في أوج تطشّرها الحركي، فأختلفنا اختلافاً حادا؟ إذ كنت أكثر ميلاً في انتمائي السوريالي إلى خط جان شوستر الذي حلّ الحركة في بيان "النشيد الرابع" (1969) يميز فيه بين السوريالية التاريخية التي اكملت مهمتها والسوريالية الأبدية التي "سوف تساعد على فهم كل ملكات الحلم والتمتع بها، وتفسح المجال لقيام الحلم حقيقة تنظّم مصائر البشر في سياق حياتهم" بينما كانت جويس تحافظ على علاقة جد متينة مع التيار الذي كنت أبغضه تيار فنسان بونور الذي كان يريد عبر نشرته "الارتباط السوريالي"، أن يعبر عن السوريالية حركياً غير واع بأن القطيعة خير ارتباط. على أننا تصالحنا قبل موتها بعام واحد. وقد كتبتْ في اهدائها كتابها المشترك مع الشاعر الافرو اميركي تد جونز الاهداء التالي: "إلى الجنابي بسبب كل هذا الرمل الذي يجمعنا"

خّصت جويس منصور، ذات مرة، إنجازها الشعري الضخم بالعبارة التالية: "كل هذا يجعل مني سيدة غريبة" ربما! لكن لهذه "السيدة الغريبة"، النبتة المسْكيّة، بل الطفلة القادمة من فضاءات الحكاية الشرقية على حد كلمة بروتون، شحنات كافية من التجربة تجعلها متمردة دون ادعاء التمرد، خلاقة دون أي استعراء ثقافي، حتى لو بدت هذه القصيدة أو تلك في عين المحروم من ملامسة الحياء، خلاعية.
في لغتها، ينبض جسد المرأة كائناً بشرياً يتمتع بكل حقوقه حتى الاستفزازية منها في اجتراح الانتشاء وتنفس هواء الـلّـذة الطلق، ملاكاً انقطع بكل مخيلته إلى رفض التاريخ المعطى للجسد، وهاهو الشعر يتجلى بين شراشف الكلام صوراً شرسة ترتقي ذروة الرهزة الصادمة للأخلاق السائدة.
هنا، اربعون قصيدة (سبق ان نشرت في كراس 300 نسخة في باريس 1994) اخترتها من طبعة Actes Sud (باريس 1991) لأعمال جويس منصور الشعرية والنثرية. إلا اني وجدت في هذه الطبعة أخطاء مطبعية وجملاً محذوفة من بعض القصائد، ما اضطرني إلى اعتماد الطبعات الأولى. توخيت في ترجمتي هذه الدقة المتناهية، لكن بصياغة ترئـّـي هذه القصائد كما لو انها كتبت بالعربية مباشرة، مع الأخذ بعين الاعتبار أن الصوت الشعري هنا هو صوت انثوي جد خاص وجد صريح في إعرابه اللغوي عن شتى المشاعر والنزوات التي تتنازعه سادو¬ مازوشياً حيث يتبادل الموضوع والذات دوريهما المعطيين! وأشكر السيد سمير منصور لإعطائي حق ترجمتها ونشرها بالعربية.



1
وأنا مضطجعة فوق فراشي
أرى وجهَك منعكساً في الجدار
جسدَكَ البلا ظل الذي يبّث الرعبَ في جسدي
تـَتابعَ رهْزِكَ المسعور والايقاعيّ
تقطيباتَ وجهك التي يفرّ منها كل أثاث الغرفة
إلا الفراش المثبّت بعَـرَقي الكذوب
وأنا التي تتحسّب بلا غطاء بلا أمل
الغَصّة!



2
حمّى عضوُك سـَلطَعون
حمّى القطط تتغذى من اثدائك الخضراء
حمّى سرعةُ حركات كُلْيتيكَ
سرعةُ قـبلاتك المُـنْـفِـرة وتقطيباتِ وجهك
تفتحُ اذْنَي وتدعَ
هيجانَكِ
يَلِجُهما.



3
الذباب على الفراش
على السقف في فمك على عينيك
نائماً فوقهم الشرشفُ حتى الرقبة
يأَيُّها العاجزُ الماكرُ الأمّيّ
اترك لي حياتي
لا تفرغ بطني



4
ظلُّكَ بلا فم
غرفتُكَ بلا باب
عيناكَ بلا نظرة
بلا رأفة بلا لون
خَطـَواتَك التي تتوجه
دون أن تـترك أثراً
صوب النور ذي الاصوات اللجوجة
الذي هو جحيمي!



5
رأيتك بعيني المغلقة
تتسلق حائطَ أحلامك المذعور
زلّت قدماك بالطحلب النائم
عيناك تشبّثتا بالمسامير المتدلية
بينما كنتُ أنا أصيح دون أن افتح فمي
من أجل أن يبوح رأسُك لليل!



6
تقبـّل صلواتي
اِبلع أفكاري الـدنسة
طَهّـِرني! لعلّ عيني تـُفـتحان
لعلهما يـشوفان ابتسامةَ السفاحين الباطنة
وعندما يتمّ تطهيري
اصلبني يا يهوذا!



7
فتحتُ رأسكَ
حتى أقرأ أفكارَكَ
قضمت عينيكَ
حتى اذوق نظرتَكَ
شربت دمَكَ
حتى اتعرّف على رغبتكَ
ومن جسدك المُقـْشعر
عملتُ غذائي.



8
امرأةٌ واقفةٌ في منظرٍ عار
النورُ الفجّ على بطنها المقـبّـب
امرأةٌ وحيدة امرأةٌ ثرية بلا فجور ولا صدر
امرأة تـُصيّتُ احتقارَها في احلام بلا ضـجة
سيكون الفراشُ جحيمَها.



9
فوق رأسي الفراغ
في فمي الدّوَام
وأنت فوق ظهري
القطُ على السطح
يقرض عيناً وديعةً
عينَ حاجٍ يبحث عن ربّه.



10
أنّى تذهب
أذهب
الرأس مُجلـْبَبٌ بالدموع
أنّى تـُصلّ
أصلّ
يا ليأس هذه الجدران النائمة
شعبُك سيكون شعبي
فراشُك أملي الوحيد
إلهك سيكون إلهي
وسرّتـُك
مَجْثمي
لأن جلدَكَ وحده اسود.



11- الظل المحمول
احياة فاترةٌ في عين الشائخين
مؤلمةٌ في عين الموتى
ومحتلـّو الغد الذين لا جدوى منهم
يرتسم ظلّهم سلفاً في الضباب المؤخـّر النـَّبـْر
أي برج أن ندافع
أي رواق أن نتجنّب
أرى رماحاً منتصبة فوق قبري
سيولاً حجرية
رماداً يجرؤ على الأنين
لهيبٌ شرّيرٌ يـَلـْعَجُ على السجادة يديك اليمنى
ثمّة فواتُ أوان على الدوام في عين اليائسين
سيّما أنّ الأمر يتعلق بالانتظار.



12 لـسان الحرباء


سآتي عندك في اليوم الأربعين
لأنّ أعضائي يبيّضُها غيابُك
أنا مُتضوّرةٌ لأعدائك
يَـشِينُني ضعفي إزاء حركات تمارُجٍ
متفعونٍ افعواناً شرهاً
لكنت على قاب قوسين من الانتشاء
لو لم يكن لي خوف من التقاط الرماد
في بطن أمـّي
في تجاويف تلاطم الموج
في بُوز الكنيسة
المتلألئ!



13
أطلبُ خبزا
مجبولاً من الـشفقة!
خمراً أطلبُ!
فإني لم أعد أتحمل ألمي
خلـّصني من شَوْط عَطالة
يضغطُ على عنقي
يتلكأ بين فخذي
ويذوب!
انلـْني مخْمل العـسل والنحاس الأصفر
معبوداً سأُفبـّرك
وقد أصلـّي
غداً!



14
أنا عارية
والمَنـُونُ تغرّد
عارية تحت شعري المنتشر
وعيناك الـشهوانيتان
المحاطتان بطلي المِـينا
تكتـشفاني!
أنا عارية
وغـَيْهَبُ ناصفةِ اللـّيلِ اللامحدود
يفزعني
لأن احلامي المرصّعة
فـي رأسي البدين
تتخلى
والمَنـُونُ تغرّد!



15
الثمانية حول نهدي
يرسمون
البَيْضُ ينشقُ
عندما أجلسُ
القطنُ الابيض
المنقّع بالدم
هذا هو سرّي
يتفتح ويبكي
يتفتح ويموت
بينما الظلال تُصْفَرُّ أسفل الاشجار
والأعوام تغرق في مَدْمس الليل.



16 - وداعاً أيّتها الأراضي البائدة


رمادي هو الفجر
تحت اهداب حبيبي
رمادي هو العقل
عندما يسدّ
الأسلُ الأسود الملتف
المدخلَ
وسخٌ وغيابٌ
اللهيب المتحدّر ادراج الريح
كامد هو النهر
الاطلنطي مُمتـَص
الصمت ينوب عن الصمت
إنّها ساعة زوال الوهْم!



17 - وحش جميل


المرض ذو الشوارب العائمة
يترصّدني
كلّما تتلاقى عيناي اسفل المائدة
يده الموسيقيّة الطويلة
تختبئ بين نهدي
وتخنق الدُمّلة
في البيضة
انفي يسيل وكأنه مجرى
شعري يتساقط حزناً
ونـَتانة الإذلال الطوعي
تعذّبني
أفخاذي تطير عالياً
محارٌ مفتوح، فراء أملس
داعياً الثغورَ الطرية
المقصّاتَ وأحصنةَ البحر ذات المخالب النهمة
ليتقاسموا ملذّاتَهم
ابتساماتَهم، اقفاءَ اكمامِهم
وازرارَ شبابِهم
المُتقيّحة!
إنّها تـَثْلج يا قناعاً جميلاً
والسجّاد الذي لا يُسْبَر، صمتُه الساخر
يغلق عـينيكَ الحجريتين
ذا أنا أبكي لكن ما الفائدة
امرأة شائخة في الثلاثين
دوامة النعاس تثبّت شعري على عنقي
الثلج يتساقط مريضاً والعطش يسـيّر
أصابعَهُ الطويلة المزيّنة بالريـش
فوق جسدي
أصرّ أسناناً هـائجةً مِن أن يُعرَفَ امري
لم يبق سوى جدار بيني والداء
سوى حجر مغطى بأخر الأوراق!



18
على الرمل الأبيض زنجيّةٌ ميّتةٌ
بلا أفكار ولا رائحة ولا ثياب
بين فخذيها يتسلّل الريحُ
تضغط الشمس شفاهاً حارقة
فوق خاصرتها المرضوضة
فوق عينيها المفتوحتين
جيئةً وذهاباً يترصّد الموجُ الخبيثُ
لذّتَها!



19
اِفتح أبوابَ الليل
تر قلبي معلّقاً
في الصِوان الذكيّ برائحة الحـب
معلّقاً بين ملابس الفجر الوردية
مقروضاً بالعثّ، الأوساخ والسنوات
معلقاً بلا ثياب، سلخه الأملُ سلخاً!
قلبي ذو الأحلام الغرامية
لا يزال حيّاً!



20
أريد أن أتعرى أمام عينيك المغردتين
أريد أن تراني أصرخ لذةً
أن تتلوى أطرافي تحت وزن جد ثقيل،
أن تدفعك إلى أعمال كافرة
أن يتعلّق شَعري الأملسُ،
شَعرُ رأسي المُهْدى
بأظافرك المقوّسة غيظاً
أن تقفَ أعمى ومؤمناً
ناظراً من فوق إلى جسدي المنتوف الريش!



21
فليستفزك نهداي
رغبةً في غضبك
أريد أن أرى عينيك تتثاقلان
ووجنتيك تبيضان والوهن يعتريهما
فإني أبتغي ارتعاشاتك?
أريدك أنْ تنفجر بين فخذي
أنْ تُلبَّى رغباتي على الأرض الخصبة
لجسدك البلا حياء



22 - الدِرْع
لو أمطرت الحرب فوق تلاطم الموج والسواحل
لذهبتُ لملاقاتها مسلّحةً بوجهي
معتمرةً نحيباً جـسيماً
لتمددتُ منبطحةً
فوق جناح قاذفة القنابل
ولأنتظرتُ
لو احترق الأسمنت على الأرصفة
لأتّبعتُ مسارات القنابل بين تكشيرات الجموع
ولألتزقتُ بالأنقاض
مثل خصلة شَعر على عارٍ
لحرستْ عيناي نطاقات الدمار الممدّدة
لسكتتْ إلى جانبي جثثٌ
لها بصيصُ شمسٍ ودمٍ
لخُضْنَ سائلَ الحياة الـبشرية الحلو
ممرضات في قفّازات من الجلد
ولاشتعل المحتضرون
وكأنهم قصور من القش
لغطستْ الأعـمدةُ
وثغا النَجْمُ
بل لأُبْـتِلعت سراويلُ الصوف
في الفضاء الفسيح؛ فضاء الخوف
ولضحكتُ حتى تبدو نواجذي بنفسجيةً
من الانتشاء الحماسي الهستيري الخصب
لو أمطرت الحرب فوق تلاطم الموج والسواحل
لذهبتُ لملاقاتها مسلّحة بوجهي
معتمرةً نحيباً جسيماً!



23
عاريةً
أطوف بين الحطام ذات الشوارب الفولاذية
الصدئة بـأحلام يقطعها عليها
نعيبُ البحر الرخيم
عاريةً
أقتفي أمواجَ الضوء
الراكضة فوق رمل مفوَّف بجماجم بيضاء
صامتةً أحوّم فوق الهاوية
الصقيع الثقيل الذي حمّل به البحر جسدي
وحوشٌ أسطورية لها ثغور آلة البيانو
تـتكئ على المهاوي مرتاحة في الظل
عاريةً أنام!



24
لأنك شائخ وبلا أوراق رابحة
لأنك تفحفح في الظلمة وتتصبب عرقاً
لأن يديك تـبحثان عن زاوية رطبة حتى تموت
سـأوخز بدنك المأساوي بإبر رهيفة
مبلّـلة بالعسل
فتضحك يا قـاطنَ جزيرةِ الليل
ملءَ شَدقـَيك الشائكتين
بكل ذعرك
لأنك أخرسٌ وأيامُك معدودة
لأنك بلا أفخاذ!



25
التلفون يرنُّ
وقضيبُكَ يجيب!
صوته الخشن الذي كأنـّه لمغنّ
يجعل سأمي
وقلبي المقلي، البيضة المسلوقة،
يرتعـشان.



26
دعني أحبك
فإني أحبُّ طعمَ دمِكَ الكثيف
أحتفظ به لوقت طويل في فمي الأدرد
حرارته تحرقُ بلعومي
أحبُّ عَـرَقَـكَ
أحبُّ مداعبة إبطيك المتصببتين بهجةً
دعني أحبّك
دعني ألعق عينيك المغلقتين
دعني أفقأهما بلساني المدبب
مالئةً بلعابي المُظفّر تجويفيهما
دعني أعميك!



27
الشرشف الأحمر الملطّخ بالدم
يتدلى من كفي التمثال البرونزي!
فئران الرغبة تأكلُ القـضيب النيئ
الذي تحجبه يدُ نحات مجنون!



28
هناك دمٌ على صفار البيض
هناك ماء على جرح القمر
هناك منيٌّ على مدقة الوردة
هناك إلهٌ في الكنيسة يغنّي ويتضجّر!



29
ما من كلمات غـير زغب العانة
في عالم بلا أعشاب
حيث ثدياي عاهلان
ما من حركة سوى جلدي
والنمل الذي يعجّ بين فخذي الطريين
يـلـبـس قـنـاع الـصـمـت أثناء العمل
تعال ليلاً ونشوتك
وجسدي الشاسع هذا الاخطبوط البلا فكرة
يبلعُ قضيبَك الفائِر وهو يـولد!



30
بين أصابعك فمي
بين أسنانك عـيناي
في رحمي إيقاعك الضّار يقشّرُ جسدي
المصنوع من أحاسيس نيئة!



31
يا قرداً يريد زوجة بيضاء
قرداً يشتهي أثداء صغيرة
قرداً يحب فراش النساء
قرداً قبيحاً قرداً بائساً بلا دماغ
ما من امرأة بين يديك تستطيع الابتسام
اختر إذن يا قرد
أنثاكَ بشكل جيّد!



32
رذائل الرجال مـُلكي
جُرْحـُهم كعكتي الحلوة
أحبّ أن أمضغَ أفكارهم الرذلة
لأنّ قُبْحَهم ينجز جمالي!



33
ادعني لقضاء الليل في فمك
حدّثني عن شباب الأنهار
اضغط على عينيك الزجاجيتين لساني
اعطني فخذك وكأنني مرضعة
ولننم يا أخ أخي
فقبلاتنا تموت أسرع من الليل!



34
بَيْضةٌ على السطح
روت قصصَ غرامياتها
إلى نهدي الليل الطريين النتنين?
عينُ بقرة في ثقبٍ
قضت الشتاء ستراً بين الدببة
وأنا أُحِـيكُ بلا صوف ولا صنانير
مـلابـسَ الـلا واقع الداخلية
بانتظار المهدي المنتظر!



35
في الليل شحّـاذة أنا في وطن الدماغ
نفسي متمددة فوق قمرٍ من الأسمنت
تتنفسُ وقد روّضتها الريحُ
وموسيقى أنصاف المجانين
الذين يمضغون شعير المعدن القمري
الذين يطيرون ويطيرون ثم يسقطون على رأسي
بكلّ قواهم
ذا أنا أرقص رقصة الفراغ
أرقص فوق ثلوج التعاظم البيضاء
وأنت خلف نافذتك المحلاة بـسكر الغيظ
تلطـّخ فراشك بالأحلام انتظاراً لي!



36
لا تأكلوا أطفال الآخرين
لأن لحومهم ستجيف في حلوقكم الممتلئة
لا تأكلوا أزهار الصيف الحمراء
لأن نسغها دم أطفال مصلوبين
لا تأكلوا خبز الفقراء الأسود
لأنه خصّب بدموعهم الحامضة
وقد يتأصل في أجسامكم المتمددة
لا تأكلوا علّ أجسامكم تذبل ثم تموت
خالقة على الأرض حداداً الخريف!



37
عـشُّ أحشاءٍ
على شجرة يابسة هو قضيبك
سرْو أسودٌ واقف في الأبدية
يحرسُ الموتى الذين يغذون جذوره
لصّان مصلوبان على ضلع خروف
يسخران من الثالث الذي، لإكمال المهمة،
يأكل صليبَه؛ صليبَ اللحم الـمشوي!



38
لقد رميتَ في البحر عيني
انتشلتَ أحلامي من كلتا يدي
مزّقتَ سُرّتي الضاربة إلى زرقةٍ
وبين طحالب شعري المسترسل الخضراء
أغرَقـْتَ الجنين!



39
زنجيات مُنـْهكات
بحّارة شِـباع
غذاء، زفتٌ، ريحٌ وبصاق
البحر يروّح عن نفسه ويتسلـّى
مع السماء وكأنها غطاء سرير!



40 - ذكر ومومياءات
تعقّبتُ الطريق الموازية
خلف قماش الظلمات الشفّاف
بين أفخاذ أجدادي
يرشق اللسان العبري
الفن يبدأ حيث تنتهي الرغبة
كامداً ونجساً
بلا نَفَس
شريطاً فضـّيـّاً على رقع من الأفواه? *
كتورّم ضارب إلى زرقة في الطين
تفقّعتُ في جلدي
يستخدم زُحَل شوْكـَهُ
ليقوّي شهيته
قد يكون الموت للآخرين
ضرورياً
إنـّي أكره الراضين
العقيمين، المتنعّمين
ميتٌ يتبع آخرَ دون أن يَعرفَ وجهَهُ
امرأة تعبر سكك الحديد
مدمّاة مدمّاة مضرجة بالدم
لا أحد يراها لا أحد في
المصعد
صفرةُ صوتٍ كناريٍّ لا تطاق
خليطاً من الزرنيخ والغِراء
تربط الأضلع بالقضبان دون أن تترك للطير
أي مجال
فلنكسّر كل شيء
فلنحطم صورة القضيب الأبوي
الملتف على نفسه كأفعى في وعاء زجاجي
فلنسحق رأسه تحت عقب فولاذي
"إحساسٌ مبهم بالعودة
يَسْتهِلُّ وليداً في الوهاد
فلنتجاوزه"
ينبغي أن نضحك عند صعود درجات البيت القديـم
أن نبقر الممثلين فاركي سبحة تظاهرهم بالتقوى
أن نمقت العصبيين أن نذبح المـُستقرّين
أن نجتث الموتى الخامدين في غائطهم
أن نبلع أن نبصقَ
أن ننسى أن نلعنَ
اللحمَ الذي يثغو
الزيتيّ كفراش مُخربَطـٍ
ينبغي أن نمضغَ أن نقذفَ
أن نسدَّ الثقوبَ
أن نعيد تجصيص غشاء البكارة
فالموت باب دائريّ
بيضة صابونية، عُصعصٌ
ينبغي أن نفشّ القرحة على وجه الرب
أن نحطمه
بُـلـْنَ يأَيـُّتها النافورات
حياةُ الانهارِ الجليديةِ المُسبتةُ
تنفخُ جزّاتك الحجرية
أبـْظارُكِ تتقشّر
مثل تماسيح مغروزة في الرمل الـبَليل
الموت للخَـرعين
الموت للمثاقب
الموت للمعتادين على الأرحام
الموت للمنعزلين واقفين
ثمة لـَصُوقٌ فوق جرح الدالية
وطريقٌ موازية لهذه
التي لم يعد لها
آثار!




أربعون قصيدة لجويس منصور


عبد القادر الجنابي




ولدت جويس منصور في بريطانيا من عائلة مصرية سنة 1928 انضمت إلى الحركة السوريالية ما إن رحّب السورياليون بعملها الأول "صرخات" سنة 1953. ومذّ، بقيت جويس التي انجبت من سمير منصور ولدين، وفيّة للمشروع السوريالي كتابة وسلوكاً حتى وافاها الأجل في باريس في 28 آب (اغسطس) 1986، اثر مرض السرطان.

تعرفتُ عليها إبّان السبعينات القرن الماضي، عندما كانت السوريالية في أوج تطشّرها الحركي، فأختلفنا اختلافاً حادا؟ إذ كنت أكثر ميلاً في انتمائي السوريالي إلى خط جان شوستر الذي حلّ الحركة في بيان "النشيد الرابع" (1969) يميز فيه بين السوريالية التاريخية التي اكملت مهمتها والسوريالية الأبدية التي "سوف تساعد على فهم كل ملكات الحلم والتمتع بها، وتفسح المجال لقيام الحلم حقيقة تنظّم مصائر البشر في سياق حياتهم" بينما كانت جويس تحافظ على علاقة جد متينة مع التيار الذي كنت أبغضه تيار فنسان بونور الذي كان يريد عبر نشرته "الارتباط السوريالي"، أن يعبر عن السوريالية حركياً غير واع بأن القطيعة خير ارتباط. على أننا تصالحنا قبل موتها بعام واحد. وقد كتبتْ في اهدائها كتابها المشترك مع الشاعر الافرو اميركي تد جونز الاهداء التالي: "إلى الجنابي بسبب كل هذا الرمل الذي يجمعنا"

خّصت جويس منصور، ذات مرة، إنجازها الشعري الضخم بالعبارة التالية: "كل هذا يجعل مني سيدة غريبة" ربما! لكن لهذه "السيدة الغريبة"، النبتة المسْكيّة، بل الطفلة القادمة من فضاءات الحكاية الشرقية على حد كلمة بروتون، شحنات كافية من التجربة تجعلها متمردة دون ادعاء التمرد، خلاقة دون أي استعراء ثقافي، حتى لو بدت هذه القصيدة أو تلك في عين المحروم من ملامسة الحياء، خلاعية.
في لغتها، ينبض جسد المرأة كائناً بشرياً يتمتع بكل حقوقه حتى الاستفزازية منها في اجتراح الانتشاء وتنفس هواء الـلّـذة الطلق، ملاكاً انقطع بكل مخيلته إلى رفض التاريخ المعطى للجسد، وهاهو الشعر يتجلى بين شراشف الكلام صوراً شرسة ترتقي ذروة الرهزة الصادمة للأخلاق السائدة.
هنا، اربعون قصيدة (سبق ان نشرت في كراس 300 نسخة في باريس 1994) اخترتها من طبعة Actes Sud (باريس 1991) لأعمال جويس منصور الشعرية والنثرية. إلا اني وجدت في هذه الطبعة أخطاء مطبعية وجملاً محذوفة من بعض القصائد، ما اضطرني إلى اعتماد الطبعات الأولى. توخيت في ترجمتي هذه الدقة المتناهية، لكن بصياغة ترئـّـي هذه القصائد كما لو انها كتبت بالعربية مباشرة، مع الأخذ بعين الاعتبار أن الصوت الشعري هنا هو صوت انثوي جد خاص وجد صريح في إعرابه اللغوي عن شتى المشاعر والنزوات التي تتنازعه سادو¬ مازوشياً حيث يتبادل الموضوع والذات دوريهما المعطيين! وأشكر السيد سمير منصور لإعطائي حق ترجمتها ونشرها بالعربية.



1
وأنا مضطجعة فوق فراشي
أرى وجهَك منعكساً في الجدار
جسدَكَ البلا ظل الذي يبّث الرعبَ في جسدي
تـَتابعَ رهْزِكَ المسعور والايقاعيّ
تقطيباتَ وجهك التي يفرّ منها كل أثاث الغرفة
إلا الفراش المثبّت بعَـرَقي الكذوب
وأنا التي تتحسّب بلا غطاء بلا أمل
الغَصّة!



2
حمّى عضوُك سـَلطَعون
حمّى القطط تتغذى من اثدائك الخضراء
حمّى سرعةُ حركات كُلْيتيكَ
سرعةُ قـبلاتك المُـنْـفِـرة وتقطيباتِ وجهك
تفتحُ اذْنَي وتدعَ
هيجانَكِ
يَلِجُهما.



3
الذباب على الفراش
على السقف في فمك على عينيك
نائماً فوقهم الشرشفُ حتى الرقبة
يأَيُّها العاجزُ الماكرُ الأمّيّ
اترك لي حياتي
لا تفرغ بطني



4
ظلُّكَ بلا فم
غرفتُكَ بلا باب
عيناكَ بلا نظرة
بلا رأفة بلا لون
خَطـَواتَك التي تتوجه
دون أن تـترك أثراً
صوب النور ذي الاصوات اللجوجة
الذي هو جحيمي!



5
رأيتك بعيني المغلقة
تتسلق حائطَ أحلامك المذعور
زلّت قدماك بالطحلب النائم
عيناك تشبّثتا بالمسامير المتدلية
بينما كنتُ أنا أصيح دون أن افتح فمي
من أجل أن يبوح رأسُك لليل!



6
تقبـّل صلواتي
اِبلع أفكاري الـدنسة
طَهّـِرني! لعلّ عيني تـُفـتحان
لعلهما يـشوفان ابتسامةَ السفاحين الباطنة
وعندما يتمّ تطهيري
اصلبني يا يهوذا!



7
فتحتُ رأسكَ
حتى أقرأ أفكارَكَ
قضمت عينيكَ
حتى اذوق نظرتَكَ
شربت دمَكَ
حتى اتعرّف على رغبتكَ
ومن جسدك المُقـْشعر
عملتُ غذائي.



8
امرأةٌ واقفةٌ في منظرٍ عار
النورُ الفجّ على بطنها المقـبّـب
امرأةٌ وحيدة امرأةٌ ثرية بلا فجور ولا صدر
امرأة تـُصيّتُ احتقارَها في احلام بلا ضـجة
سيكون الفراشُ جحيمَها.



9
فوق رأسي الفراغ
في فمي الدّوَام
وأنت فوق ظهري
القطُ على السطح
يقرض عيناً وديعةً
عينَ حاجٍ يبحث عن ربّه.



10
أنّى تذهب
أذهب
الرأس مُجلـْبَبٌ بالدموع
أنّى تـُصلّ
أصلّ
يا ليأس هذه الجدران النائمة
شعبُك سيكون شعبي
فراشُك أملي الوحيد
إلهك سيكون إلهي
وسرّتـُك
مَجْثمي
لأن جلدَكَ وحده اسود.



11- الظل المحمول
احياة فاترةٌ في عين الشائخين
مؤلمةٌ في عين الموتى
ومحتلـّو الغد الذين لا جدوى منهم
يرتسم ظلّهم سلفاً في الضباب المؤخـّر النـَّبـْر
أي برج أن ندافع
أي رواق أن نتجنّب
أرى رماحاً منتصبة فوق قبري
سيولاً حجرية
رماداً يجرؤ على الأنين
لهيبٌ شرّيرٌ يـَلـْعَجُ على السجادة يديك اليمنى
ثمّة فواتُ أوان على الدوام في عين اليائسين
سيّما أنّ الأمر يتعلق بالانتظار.



12 لـسان الحرباء


سآتي عندك في اليوم الأربعين
لأنّ أعضائي يبيّضُها غيابُك
أنا مُتضوّرةٌ لأعدائك
يَـشِينُني ضعفي إزاء حركات تمارُجٍ
متفعونٍ افعواناً شرهاً
لكنت على قاب قوسين من الانتشاء
لو لم يكن لي خوف من التقاط الرماد
في بطن أمـّي
في تجاويف تلاطم الموج
في بُوز الكنيسة
المتلألئ!



13
أطلبُ خبزا
مجبولاً من الـشفقة!
خمراً أطلبُ!
فإني لم أعد أتحمل ألمي
خلـّصني من شَوْط عَطالة
يضغطُ على عنقي
يتلكأ بين فخذي
ويذوب!
انلـْني مخْمل العـسل والنحاس الأصفر
معبوداً سأُفبـّرك
وقد أصلـّي
غداً!



14
أنا عارية
والمَنـُونُ تغرّد
عارية تحت شعري المنتشر
وعيناك الـشهوانيتان
المحاطتان بطلي المِـينا
تكتـشفاني!
أنا عارية
وغـَيْهَبُ ناصفةِ اللـّيلِ اللامحدود
يفزعني
لأن احلامي المرصّعة
فـي رأسي البدين
تتخلى
والمَنـُونُ تغرّد!



15
الثمانية حول نهدي
يرسمون
البَيْضُ ينشقُ
عندما أجلسُ
القطنُ الابيض
المنقّع بالدم
هذا هو سرّي
يتفتح ويبكي
يتفتح ويموت
بينما الظلال تُصْفَرُّ أسفل الاشجار
والأعوام تغرق في مَدْمس الليل.



16 - وداعاً أيّتها الأراضي البائدة


رمادي هو الفجر
تحت اهداب حبيبي
رمادي هو العقل
عندما يسدّ
الأسلُ الأسود الملتف
المدخلَ
وسخٌ وغيابٌ
اللهيب المتحدّر ادراج الريح
كامد هو النهر
الاطلنطي مُمتـَص
الصمت ينوب عن الصمت
إنّها ساعة زوال الوهْم!



17 - وحش جميل


المرض ذو الشوارب العائمة
يترصّدني
كلّما تتلاقى عيناي اسفل المائدة
يده الموسيقيّة الطويلة
تختبئ بين نهدي
وتخنق الدُمّلة
في البيضة
انفي يسيل وكأنه مجرى
شعري يتساقط حزناً
ونـَتانة الإذلال الطوعي
تعذّبني
أفخاذي تطير عالياً
محارٌ مفتوح، فراء أملس
داعياً الثغورَ الطرية
المقصّاتَ وأحصنةَ البحر ذات المخالب النهمة
ليتقاسموا ملذّاتَهم
ابتساماتَهم، اقفاءَ اكمامِهم
وازرارَ شبابِهم
المُتقيّحة!
إنّها تـَثْلج يا قناعاً جميلاً
والسجّاد الذي لا يُسْبَر، صمتُه الساخر
يغلق عـينيكَ الحجريتين
ذا أنا أبكي لكن ما الفائدة
امرأة شائخة في الثلاثين
دوامة النعاس تثبّت شعري على عنقي
الثلج يتساقط مريضاً والعطش يسـيّر
أصابعَهُ الطويلة المزيّنة بالريـش
فوق جسدي
أصرّ أسناناً هـائجةً مِن أن يُعرَفَ امري
لم يبق سوى جدار بيني والداء
سوى حجر مغطى بأخر الأوراق!



18
على الرمل الأبيض زنجيّةٌ ميّتةٌ
بلا أفكار ولا رائحة ولا ثياب
بين فخذيها يتسلّل الريحُ
تضغط الشمس شفاهاً حارقة
فوق خاصرتها المرضوضة
فوق عينيها المفتوحتين
جيئةً وذهاباً يترصّد الموجُ الخبيثُ
لذّتَها!



19
اِفتح أبوابَ الليل
تر قلبي معلّقاً
في الصِوان الذكيّ برائحة الحـب
معلّقاً بين ملابس الفجر الوردية
مقروضاً بالعثّ، الأوساخ والسنوات
معلقاً بلا ثياب، سلخه الأملُ سلخاً!
قلبي ذو الأحلام الغرامية
لا يزال حيّاً!



20
أريد أن أتعرى أمام عينيك المغردتين
أريد أن تراني أصرخ لذةً
أن تتلوى أطرافي تحت وزن جد ثقيل،
أن تدفعك إلى أعمال كافرة
أن يتعلّق شَعري الأملسُ،
شَعرُ رأسي المُهْدى
بأظافرك المقوّسة غيظاً
أن تقفَ أعمى ومؤمناً
ناظراً من فوق إلى جسدي المنتوف الريش!



21
فليستفزك نهداي
رغبةً في غضبك
أريد أن أرى عينيك تتثاقلان
ووجنتيك تبيضان والوهن يعتريهما
فإني أبتغي ارتعاشاتك?
أريدك أنْ تنفجر بين فخذي
أنْ تُلبَّى رغباتي على الأرض الخصبة
لجسدك البلا حياء



22 - الدِرْع
لو أمطرت الحرب فوق تلاطم الموج والسواحل
لذهبتُ لملاقاتها مسلّحةً بوجهي
معتمرةً نحيباً جـسيماً
لتمددتُ منبطحةً
فوق جناح قاذفة القنابل
ولأنتظرتُ
لو احترق الأسمنت على الأرصفة
لأتّبعتُ مسارات القنابل بين تكشيرات الجموع
ولألتزقتُ بالأنقاض
مثل خصلة شَعر على عارٍ
لحرستْ عيناي نطاقات الدمار الممدّدة
لسكتتْ إلى جانبي جثثٌ
لها بصيصُ شمسٍ ودمٍ
لخُضْنَ سائلَ الحياة الـبشرية الحلو
ممرضات في قفّازات من الجلد
ولاشتعل المحتضرون
وكأنهم قصور من القش
لغطستْ الأعـمدةُ
وثغا النَجْمُ
بل لأُبْـتِلعت سراويلُ الصوف
في الفضاء الفسيح؛ فضاء الخوف
ولضحكتُ حتى تبدو نواجذي بنفسجيةً
من الانتشاء الحماسي الهستيري الخصب
لو أمطرت الحرب فوق تلاطم الموج والسواحل
لذهبتُ لملاقاتها مسلّحة بوجهي
معتمرةً نحيباً جسيماً!



23
عاريةً
أطوف بين الحطام ذات الشوارب الفولاذية
الصدئة بـأحلام يقطعها عليها
نعيبُ البحر الرخيم
عاريةً
أقتفي أمواجَ الضوء
الراكضة فوق رمل مفوَّف بجماجم بيضاء
صامتةً أحوّم فوق الهاوية
الصقيع الثقيل الذي حمّل به البحر جسدي
وحوشٌ أسطورية لها ثغور آلة البيانو
تـتكئ على المهاوي مرتاحة في الظل
عاريةً أنام!



24
لأنك شائخ وبلا أوراق رابحة
لأنك تفحفح في الظلمة وتتصبب عرقاً
لأن يديك تـبحثان عن زاوية رطبة حتى تموت
سـأوخز بدنك المأساوي بإبر رهيفة
مبلّـلة بالعسل
فتضحك يا قـاطنَ جزيرةِ الليل
ملءَ شَدقـَيك الشائكتين
بكل ذعرك
لأنك أخرسٌ وأيامُك معدودة
لأنك بلا أفخاذ!



25
التلفون يرنُّ
وقضيبُكَ يجيب!
صوته الخشن الذي كأنـّه لمغنّ
يجعل سأمي
وقلبي المقلي، البيضة المسلوقة،
يرتعـشان.



26
دعني أحبك
فإني أحبُّ طعمَ دمِكَ الكثيف
أحتفظ به لوقت طويل في فمي الأدرد
حرارته تحرقُ بلعومي
أحبُّ عَـرَقَـكَ
أحبُّ مداعبة إبطيك المتصببتين بهجةً
دعني أحبّك
دعني ألعق عينيك المغلقتين
دعني أفقأهما بلساني المدبب
مالئةً بلعابي المُظفّر تجويفيهما
دعني أعميك!



27
الشرشف الأحمر الملطّخ بالدم
يتدلى من كفي التمثال البرونزي!
فئران الرغبة تأكلُ القـضيب النيئ
الذي تحجبه يدُ نحات مجنون!



28
هناك دمٌ على صفار البيض
هناك ماء على جرح القمر
هناك منيٌّ على مدقة الوردة
هناك إلهٌ في الكنيسة يغنّي ويتضجّر!



29
ما من كلمات غـير زغب العانة
في عالم بلا أعشاب
حيث ثدياي عاهلان
ما من حركة سوى جلدي
والنمل الذي يعجّ بين فخذي الطريين
يـلـبـس قـنـاع الـصـمـت أثناء العمل
تعال ليلاً ونشوتك
وجسدي الشاسع هذا الاخطبوط البلا فكرة
يبلعُ قضيبَك الفائِر وهو يـولد!



30
بين أصابعك فمي
بين أسنانك عـيناي
في رحمي إيقاعك الضّار يقشّرُ جسدي
المصنوع من أحاسيس نيئة!



31
يا قرداً يريد زوجة بيضاء
قرداً يشتهي أثداء صغيرة
قرداً يحب فراش النساء
قرداً قبيحاً قرداً بائساً بلا دماغ
ما من امرأة بين يديك تستطيع الابتسام
اختر إذن يا قرد
أنثاكَ بشكل جيّد!



32
رذائل الرجال مـُلكي
جُرْحـُهم كعكتي الحلوة
أحبّ أن أمضغَ أفكارهم الرذلة
لأنّ قُبْحَهم ينجز جمالي!



33
ادعني لقضاء الليل في فمك
حدّثني عن شباب الأنهار
اضغط على عينيك الزجاجيتين لساني
اعطني فخذك وكأنني مرضعة
ولننم يا أخ أخي
فقبلاتنا تموت أسرع من الليل!



34
بَيْضةٌ على السطح
روت قصصَ غرامياتها
إلى نهدي الليل الطريين النتنين?
عينُ بقرة في ثقبٍ
قضت الشتاء ستراً بين الدببة
وأنا أُحِـيكُ بلا صوف ولا صنانير
مـلابـسَ الـلا واقع الداخلية
بانتظار المهدي المنتظر!



35
في الليل شحّـاذة أنا في وطن الدماغ
نفسي متمددة فوق قمرٍ من الأسمنت
تتنفسُ وقد روّضتها الريحُ
وموسيقى أنصاف المجانين
الذين يمضغون شعير المعدن القمري
الذين يطيرون ويطيرون ثم يسقطون على رأسي
بكلّ قواهم
ذا أنا أرقص رقصة الفراغ
أرقص فوق ثلوج التعاظم البيضاء
وأنت خلف نافذتك المحلاة بـسكر الغيظ
تلطـّخ فراشك بالأحلام انتظاراً لي!



36
لا تأكلوا أطفال الآخرين
لأن لحومهم ستجيف في حلوقكم الممتلئة
لا تأكلوا أزهار الصيف الحمراء
لأن نسغها دم أطفال مصلوبين
لا تأكلوا خبز الفقراء الأسود
لأنه خصّب بدموعهم الحامضة
وقد يتأصل في أجسامكم المتمددة
لا تأكلوا علّ أجسامكم تذبل ثم تموت
خالقة على الأرض حداداً الخريف!



37
عـشُّ أحشاءٍ
على شجرة يابسة هو قضيبك
سرْو أسودٌ واقف في الأبدية
يحرسُ الموتى الذين يغذون جذوره
لصّان مصلوبان على ضلع خروف
يسخران من الثالث الذي، لإكمال المهمة،
يأكل صليبَه؛ صليبَ اللحم الـمشوي!



38
لقد رميتَ في البحر عيني
انتشلتَ أحلامي من كلتا يدي
مزّقتَ سُرّتي الضاربة إلى زرقةٍ
وبين طحالب شعري المسترسل الخضراء
أغرَقـْتَ الجنين!



39
زنجيات مُنـْهكات
بحّارة شِـباع
غذاء، زفتٌ، ريحٌ وبصاق
البحر يروّح عن نفسه ويتسلـّى
مع السماء وكأنها غطاء سرير!



40 - ذكر ومومياءات
تعقّبتُ الطريق الموازية
خلف قماش الظلمات الشفّاف
بين أفخاذ أجدادي
يرشق اللسان العبري
الفن يبدأ حيث تنتهي الرغبة
كامداً ونجساً
بلا نَفَس
شريطاً فضـّيـّاً على رقع من الأفواه? *
كتورّم ضارب إلى زرقة في الطين
تفقّعتُ في جلدي
يستخدم زُحَل شوْكـَهُ
ليقوّي شهيته
قد يكون الموت للآخرين
ضرورياً
إنـّي أكره الراضين
العقيمين، المتنعّمين
ميتٌ يتبع آخرَ دون أن يَعرفَ وجهَهُ
امرأة تعبر سكك الحديد
مدمّاة مدمّاة مضرجة بالدم
لا أحد يراها لا أحد في
المصعد
صفرةُ صوتٍ كناريٍّ لا تطاق
خليطاً من الزرنيخ والغِراء
تربط الأضلع بالقضبان دون أن تترك للطير
أي مجال
فلنكسّر كل شيء
فلنحطم صورة القضيب الأبوي
الملتف على نفسه كأفعى في وعاء زجاجي
فلنسحق رأسه تحت عقب فولاذي
"إحساسٌ مبهم بالعودة
يَسْتهِلُّ وليداً في الوهاد
فلنتجاوزه"
ينبغي أن نضحك عند صعود درجات البيت القديـم
أن نبقر الممثلين فاركي سبحة تظاهرهم بالتقوى
أن نمقت العصبيين أن نذبح المـُستقرّين
أن نجتث الموتى الخامدين في غائطهم
أن نبلع أن نبصقَ
أن ننسى أن نلعنَ
اللحمَ الذي يثغو
الزيتيّ كفراش مُخربَطـٍ
ينبغي أن نمضغَ أن نقذفَ
أن نسدَّ الثقوبَ
أن نعيد تجصيص غشاء البكارة
فالموت باب دائريّ
بيضة صابونية، عُصعصٌ
ينبغي أن نفشّ القرحة على وجه الرب
أن نحطمه
بُـلـْنَ يأَيـُّتها النافورات
حياةُ الانهارِ الجليديةِ المُسبتةُ
تنفخُ جزّاتك الحجرية
أبـْظارُكِ تتقشّر
مثل تماسيح مغروزة في الرمل الـبَليل
الموت للخَـرعين
الموت للمثاقب
الموت للمعتادين على الأرحام
الموت للمنعزلين واقفين
ثمة لـَصُوقٌ فوق جرح الدالية
وطريقٌ موازية لهذه
التي لم يعد لها
آثار!




ولدت جويس منصور في انجلترا في عام 1928 وجيء بها طفلة إلى مصر، حيث كانت عائلتها تحيا منذ وقت بعيد. قبل وداعها العقد الثاني من عمرها، كانت متميزة في الرياضة، وفي وقت من الأوقات، كانت بطلة مصر في سباق المائة متر والقفز العالي. بدأت تكتب الشعر غداة انتهاء الحرب العالمية الثانية، وقد تردّدت في تلك الفترة على الصالون الأدبي للشاعرة ماري كافاديا بجزيرة الزمالك بالقاهرة، حيث تعرفت على الشاعر السوريالي الكبير جورج حنين (1914-1973) الذي رصد ثراء وتفرّد تجربتها الشعرية منذ أن قرأ قصائدها المبكرة .
يشير جان جاك لوتي، المؤرخ الفرنسي للحركة السوريالية في مصر، إلى أنّ علوم السحر والتنجيم والتصوّف اليهودي تبدو مألوفة لدى الشاعرة. وهو يرى أنّ عنف الشاعرة الاستفزازي، حيث يجتمع الدم والعرق والدموع مع تيمة الحبّ والموت، لا يملك إلا أن يثير دهشة القارئ. وقد اجتمع هذا العنف مع سخرية سوداء في فضاء كتابة أوتوماتية بامتياز.
ماتت الشاعرة السوريالية الفرانكوفونية المصرية البارزة في باريس في عام 1986 بعد صراع مرير مع السرطان.

الإيروسية المجنحة

كتبت جويس منصور الشعر الايروسي العابق بالرغبات “المجنونة”. الرغبة بالنسبة اليها ليست مجردة انما هي الجوهر ذاته، وأداة تسمح بإعادة تقويم علاقات الذات مع العالم. حلمت برغبة لا حدود لها، وهذه نقيض الاباحية، ولم تهتم اطلاقا بالمجون، كما انها لم ترفع الاجساد عبر تجميلها بصور زاهية. بدلا من الجماع، رغبت في تمثيل الاحساس واللذة والالم العاطفي بواسطة صور ملموسة لكن غير وصفية. وفي ازاء هذا استخدمت لغة بلا تجميل، ومنحت صوتا للبربرية السليمة الخاصة بالحب والاحساس واللذة والعذاب العاطفي.
سمّت جويس منصور الاشياء باسمائها ووضعتها كما نراها في كوابيسنا: الحب والجنس والروائح الكريهة، والدم. إنها شاعرة تنتشي بلغتها الشعرية الى حدّ اللذة، وتستقي الصور الإباحية الى حد الشراسة، وتغوص في الفحش الكلامي الى حد الاخلاق، على نسق عبارة “كل كفر تحته ايمان” التي قالها أحد الصوفيين.
مرةً أخرى، كل شيء في شعرها مسموح وممكن، وكل شيء مستحيل. لا حدود للرغبات ولا محظور في الكلمات التي تجتمع فيها رائحة الموت، والدم، وحطام الأشياء، والحب والتصوف، والتنجيم، والعنف. عبّرت جويس منصور عن رغباتها كما هي، ورغبت في تذويب الحبيب ليس من طريق اللمس او الشم والضم.
إذا تخطينا الرجل والحب والجنس، نرى هنا دائما طيف الموت حول شعرها، وهذا ليس فقط في اعمالها الاخيرة، بل حتى في أول دواوينها، وقد يتمثل بعجوز أو برغبات ميتة. ربما هذا سبب حدسها السابق لمرضها، كأنها عرفت انها ستمرض وتموت.
في قصائدها الاولى كانت تستعذب الحب، إلا أنها في قصائدها الاخيرة استعذبت الالم والمرض، فقد تحولت الاحلام الوردية والمشاعر الحسية التي ملأت ديوانها الاول تأوهات والماً، واختفت مشاعر الحب بشكل واضح.
الشعر عندها ملفوظ مثل الالم، يعاش مثل الرغبة. وهي تسكن في الشعر، والشعر يسكن فيها. وتنطبق عليها عبارة باسكال التي تقول: “إن العبقري شخص ممسوس او مسكون من الداخل بشيطان العبقرية”.
وقد يستطيع أحدنا القول إنها هي الشيطان وعبقريته.
(عن “المستقبل” اللبنانية)

قصائد مختارة

|ترجمة: بشير السباعي|

1
المنون زهرة ربيع تنام
عند قدمي سيدة عذراء وقت الهياج
والعفونات الناعمة الألف
الداكنة كإبط، الدامية كقلب
تنام هي أيضا في أجساد النساء العاريات

2
الراقدات في الحقول، أو الباحثات في الشوارع
عن ثمرة الحب المرة المذهبة.
القدمان الجامدتان غير المدركتين
للصياد العجوز المتكئ على زورقه
تسحقان بيبوستهما المصفرة
الأسماك النائمة على الطحالب المهدهدة
العجوز يدخن يد طفل
عيناه الزرقاوان المحتقنتان بالدم وبالأحلام
تبحثان في البعيد عن الوجه المضيء
للطفل الذي لا يعرف السباحة.
أقدام عارية تماماً
وجه ملطخ بالدم
دمك سيء التجلط
الذي لزنجي
من شعرك يتدلى
القط الصغير المعلق
واقفاً على بركاني
أنت حقيقتي.
سأتبع دائما نعشك
يا روحي، يا روحي
سيكون دائماً أمام عيني
يا روحي، يا روحي
لن أكف عن السير في حركة إيقاعية
خلف جسدك فاقد الحياة
يا روحي، يا حبي.
امرأة مستسلمة في الصقيع الكئيب
لسن يأسها
تفكر وهي تحبك في الحملان المصلوبة
في ملذات المطبخ
وفي السنوات الوسخة الطويلة
للمجاعة الكبرى
القادمة.

أريد أن أرحل بلا حقائب إلى السماء
يخنقني اشمئزازي فلساني طاهر.
أريد أن أرحل بعيداً عن النساء ذوات الأيادي السمينة.
اللاتي يداعبن ثديي العاريين
واللاتي يقذفن بولهن
في حسائي.

أريد أن أرحل بلا صخب في الليل
أريد أن أقضي الشتاء في ضباب النسيان
معتمرة فأراً
ملطومة بالريح
ساعية إلى تصديق أكاذيب عاشقي.
فراشك جبن
عليه تتمخض امرأتك.
خبز ومخاطيات
رحم وصرخات
عيون تبكي.
ملصقة على الجدار، مسمرة على الفراش
وأنت بالأرض، مكتسياً الأسود – مجمد الدم
أيها اليهودي الميت قتيلاً
الرضيع ينام في مهده الأسود
أسنانه القذرة تبين بين شفتيه المشدوفتين
وأنت تهدهدينه.

الغرفة هادئة بالرغم من الكلب الذي يموت
النوافذ محكمة الإغلاق لإحكام حبس الليل
وأنت تنتظرين.
الرضيع يستيقظ من أحلامه المعذبة
الموت ينتظره، مرضعة رقيقة
وأنت تبتهجين، أيتها الأم الصغيرة.
في غرفتك المفروشة بالأمعاء المزهرة

3
انتظر زيارة الرخويات المحزونة
تحبكين كالعادة في صمت
الحبكة التي لا تنتهي لأيد غير راضية
أما أنا، فاقرأ على وجهك المعبر
متفرقات مدينة مبادة
ونترقب في صبر دون تعجل
الوصول المهيب للرخويات ولأصدقائها
الديدان.
لا تستخدموا كطعم
روح الخنزير الشاحبة
لكي تجتذبوا الرجال الشائخين
الذين لهم طعم السمكة.
خاصة خلال الأسبوع.
لا تنتزعوا البصقات
من أفواه الأطفال
الذين يبيعون مؤخرتهم
للحمير.
لا تجمعوا الأثداء الطرية
لقردة بلا حياء
فقد يأخذونكم
دون عذر ولا اشتياق
على أنكم امرأة.

عين الطاهية الحلوة
تستوي في حساء خثر.
ساقا الطاهية الملتويتان
المعلقتان كتعويذة
تدقان على الجدار المغطى ببنات وردان
علي إيقاع صرخاتنا المتحفزة
وأنت تفصل الشيطان عن عينيه
عيني الكلب الوفي .
اصعدوا معي السلالم الهابطة
عاهرات مفتوحات الأفخاذ تضحكن على كل درجة

عارضات أسماكهن مبدلات الأوضاع
ملاحقات لنا بضحكاتهن
بالرغم من حيائنا.
تعالوا معي إلى بيت الميتة
الراقدة على فراشها، شبه متعفنة
تسمع الأطفال المنهمكين في ألعابهم البريئة وتراقب
العجائز الذين يحسبون غائطهم .
الشموع تسود الغرفة المهمهمة
حاجبة الميتة عن أعين العابرين
الميتة التي تراقب الأثاث والأحياء
منذ عشرة أو خمسة عشر يوما
وربما منذ زمن سحيق .
قدم بلا حذاء
أسيفة وبلا عمل
قدم خشنة لزنجية غير متوقعة
حلكة الليلة الأخيرة
الزنجية تغني في الشوارع الغافلة
أغنية مسامير الرجل والتكلكلات الحمراء
أغنية الأقدام الأسيفة والتي بلا عمل
جالسا على رصيف رملي
يداه مجمدتان بالبول الراكد في الشمس
الرجل الذي يرتدي أسمالا يمص مكشرا
عين زنجي بلهاء.
القمر يثب من السماء عاويا
الكهنة يبشرون الأرض
لكن الرجل الذي يرتدي أسمالا يواصل مص
عين الزنجي
البلهاء.
ارقص معي، أيها الفيولونسيل الصغير
على العشب البنفسجي السحري
لليالي البدر.
ارقصي معي، أيتها النوتة الموسيقية الصغيرة

4
بين البيض المسلوق ، والكمنجات ، والحقن الشرجية. ارقصي معي، أيتها الساحرة الصغيرة
لأن الأحجار تدور محومة
حول طاسات الحساء
حيث تغرق موسيقى الفوانيس .
بقدمين مقيدتين
وبقلب مشوش
انتظر جنينه
حتى أموت مشدودة إلى السماء
كنجمة سعيدة .
زرعت يد طفل
مصفرة من المرض، غاصة بالديدان
في بستاني ذي الأشجار المزهرة .
أحكمت غرسها في التربة المخملية
أحسنت ريها وتطهيرها وتسميتها
عارفة أن عذراء ستنمو في هذا المكان
عذراء مشرقة بالنور وبالحياة
عقيدة جديده في أماكن قديمة.
سددت أنف ميت
فانتفضت روحه ، انتفضت
أرادت التخلص من جسد ماضيها
التمست رحمتي لأن موعدها مر
وتعب هو من انتظارها
عين حارسة داري الكابية
تتدلى من ثريا برونزية
تتدلى حالمة معلقة بالأهداب
عين حارسة داري المكرمة بالخمر
تتأرجح برقة، برقة
طوال الليل على بعد إصبعين من أنفي
مثبتة إياي، مغشيا عليها دون أن يطرف لها رمش أبدا
العين الرطبة ذات الابتسامات المشجعة
التي تخصب رحمي القاحل
ببولها.
عندي ما يكفي من الفئران
الأكلة النهمة للأجنة وللمولاس
عندي ما يكفي من الصحون
عندي ما يكفي من الأسماك ذات الشوكات الخبيثة
التي ترقص في حلقومي
عندي ما يكفي من التعساء
عندي ما يكفي من اللعنات
التي أصبها على رأسهم
غير مستثنية حتى الصلع
عندي ما يكفي من الجرائم
عندي ما يكفي من قبري
الذي ينتظرني في ظل الغد.
عندي ما يكفي من كل شيء
واشمئزازي ميت من الضجر.
الهاتف يرن ويرد صوته الأجش، صوت المغني
يرعش ضجري
وترتجف البيضة المسلوقة التي هي
قلبي .
رؤيا تتسكع في العيادة الزرقاء
رؤيا هاربة لدماغ مخدر
رؤيا صغيرة ذات ذيول ملتوية
تبحث بلا طائل عن فأرة كريمة
لتأخذ مكان الجسد النائم
للرجل المثقوب الجمجمة الذي فقد أفكاره
عبر الثقب الأسود والمستدير لدماغه الهائج .
التشنجات التي ترج جسدك البدين
5
تطالني بالرغم مني في عالمي، عالم طريحة الفراش .
وأنت هناك مكتوب عليك أن تكابد ، ظمآن،
عيناك تعذبانني بين ثيابي، ثياب العاجز،
وشهوتك ترتجف من الانفعال
عربتي التي يسحبها الجواد تلقيك مهملا في ركنها
مذكرة إياك بساقي المصفرتين، اللتين بلا عظام .
تناديك ثيابي من الدولاب الموارب،
عطورها المسكرة لا تحكي عذابي .
كل ليلة أحبس نفسي في نعاسي المريض،
حتى لا أسمع شخيرك الفاحش،
بينما أنت تهدئ نفسك. تشبع نفسك ،تستمع
باغتصاب ما .
فتح فمه الذي بلا شفتين
لكي يحرك لسانا ضامرا.
حجب عضوه المعطر
بيد زرقاء من الموت ومن الخجل
ثم بخطوة ثابتة ومجلجلة
اجتاز رأسي في نحيب .
أحييكم. يا خراف الصحراء الهزيلة
في صوفكم تختبئ أزهار الطفولة الناضجة
أحييك. أيها الحمار الأبيض ذو القدمين المقيدتين
في قلبك يتردد صدى الحب .
أرسم الجحيم على تربة رأسي حيث تسقط عيناي الميتتان وأحييك، يا اله روحي
لأن الصحراء تشحب
والقمر يأفل
حاملا على ظهره
الفجر .
بيضة على السطح
حكت لنهدي الليل الطريين النتنين
غرامياتها .
عين بقرة في جحر
قضت الشتاء متنكرة
وسط الدببة .
وأنا أغزل دون صوف ودون ابر
ملابس اللاواقع الداخلية
انتظارا للمسيح المخلص .
المد يصعد تحت بدر العميان .
وحده مع المحارات والماء الأخضر- الأزرق لأول النهار وحيدا على الشاطئ يغرق فراشي ببطء .
المد يصعد في السماء المترنحة من الحب
بلا نواجذ في الإحراج، أترقب موتي، صامتة
والمد يصد في حلقي حيث تموت فراشة .
أطلب خبزا
خبزا قوامه الشفقة
أطلب خمرا .
لم أعد أشتهي ألمي
خلصني من لحظة بلا حركة
تنيخ على عنقي
تتلكأ بين فخذي وتذوب .
امنحني لذة الشهد والبرونز
وربما أصلي غدا.
سرقت العصفور الأصفر
الذي يحيا في عضو الشيطان
سوف يعلمني كيف أغوي
الرجال والأيائل والطيور ذات ا لأجنحة المزدوجة،
سوف ينتزع عطشي، ثيابي، أوهامي،
وينام،
بينما أنا، ونعاس قصير على الأسطح
أتمتم، أومئ، أمارس الحب بعنف
مع القطط.

6
وزنوا الرجل الأشيب كالجير
وزنوا قدمي دون أصابعها
وزنوا الثمار الناضجة لأحشائك
على ميزان الكنائس غير الدقيق
ووجدوا أن ثقل روحي
يساوي ثقل طائر بطريق
دون أجنحته .
بأيد ممدودة في الهواء نلتمس
بأيد ممدودة في الهواء ننتظر
رحمتك .
ماء خطايانا الفائر
يتمتم حول معابدك المرتجة
ويغرق صلواتنا التي تسقط في أفواهنا
متسلسلة بأيد مفتوحة نسأل
بأيد مفتوحة نلعن
والليل الذي بلا حراك يكف عن التنفس
لكي يسمع صدى رد
لم يتم صوغه بعد.
المطر الذي يهطل مرة في العام
يغسل بدموعه المواسية
قلوب الموتى الذين يحرسون تحت الرمال المتأرجحة
الضباع والنجوم والأحياء الذين بلا مأوى،
يدفئون رفاتهم بأكفانهم المختزلة
ويناضلون بشراسة ضد الديدان وآبائهم .
المطر الذي يهطل صدفة مرة في العام
على الصحراء الكئيبة
يفتح الأزهار على وجهها السوداوي،
الأزهار عديمة اللون التي تموت بسرعة
لأن الشمس معجبة بالصحراء صديقتها
وتريدها جرداء نهمة وعارية
كل ليلة .
رميت عيني إلى البحر
انتزعت أحلامي من يدي
مزقت سرتي المائلة إلى الزرقة
وفي طحالب شعري المتموج الخضراء
أغرقت الجنين .
الفحم يخرج من أفواه حديدية
النساء يغنين ورؤوسهن في الهواء
ينظرن بعيدا إلى سماء الجحيم الزرقاء
بين المداخن السوداء لمدينة بلا صلاة.
يضغطن بين أفخاذهن على ابر الحياة البطيئة
بينما رجالهن، وأفواههن ملتصقة ببلاط التعاسة
المنتصب
ينفجرن .
وجهي يتألق في المرآة الفاترة
دموعي تتفتح وتتأرجح
الصمت الذي يتضرع في غرفتي المشمولة بالحنان
يموت وعضوك يندلع .
فرح خوفي المخبوء في يدي
بعيد سلامي الفوار الصباحي
ضحكتك تزهر في ظل فراشي
والماء يصعد في آبار الليل المرصعة بالنجوم .
لم أعد أريد وجهك ، وجه الحكيم
الذي يبتسم لي عبر غلالات الطفولة الفارغة.
لم أعد أريد أيدي الموت القاسية
التي تجرني من قدمي إلى ضبابات الفضاء
لم أعد أريد العيون الرخوة التي تضمني
والأواني التي تبصق مني الأشباح البارد
في أذني .
لم أعد أريد سماع أصوات الأكاذيب الهامسة
لم أعد أريد التجديف كل ليالي البدر.
خذني رهينة . شمعة، شرابا،
لم أعد أريد تزييف حقيقتك
ليكن لك ما شئت.
(1953)
ترجمة : بشير السباعي

أُحب جواربك التي تثبِّت ساقيكِ.
أُحب مشد خصركِ وردفيكِ الذي يسند جسمكِ المرتج
تجاعيدكِ، نهديكِ المتهدلين، شكلكِ الجائع
شيخوختكِ في مواجهة جسدي الفارع
فساتينكِ التي تنشر رائحة جسدكِ النتن.
كل هذا يثأر لي أخيراً
من رجالٍ لم ينتظروا شيئاً مني.
*
الدمل المستقر في خدي السماوي
الأبواقُ المثيرةُ للحنق فوق أذنيّ
جراحي الداميةُ التي لا تبراُ أبداً
دمي الذي يصبحُ ماءً، الذي يتحللُ، الذي يتأرَّجُ
أطفالي الذين أخنقهم إذ أُلبي رغباتهم
كل ذلك يجعل مني ربك وإلهك.
*
دعني أُحبك.
إني أُحب مذاق دمك الخثر
أحتفظُ به لوقتٍ طويلٍ في فمي الذي بلا أسنان.
حرارته تحرق حلقي.
أُحبُّ عرقك.
أُحبُّ زغزغة إبطيك
المتصببتينِ بالفرح.
دعني أُحبك
دعني ألحسُ عينيكَ المغمضتين
دعني أفقأهما بلساني المدبب
وأملأُ تجويفيهما بلعابي المنتصر.
دعني أُعميك.
*
انسني.
حتى يتنفس صدري الهواءَ النديّ لغيابك
حتى تتمكن ساقاي من السيرِ دون البحثِ عن ظلك
حتى تصبح نظرتي رؤية
حتى تلتقط حياتي أنفاسها
انسني يا إلهي حتى أتذكر نفسي.
*
لا تأكلوا أطفال الآخرين
لأن لحمهم سيتعفن في أفواهكم المتخمة.
لا تأكلوا أزهار الصيف الحمراء
لأن نسغها دم أطفال مصلوبين.
لا تأكلوا خبز الفقراء الأسود
لأنه مخصَّبٌ بدموعهم الحامضة
وقد يتأصل في أجسامكم الممدة.
لا تأكلوا علّ أجسامكم تتهتكُ وتموت
خالقةً على الأرض الخريفَ
*
دسائس يديك العمياء
على نهديّ المرتعشين
الحركات البطيئة للسانك المشلول
في أذنيّ المحركين للمشاعر
كل جمالي الغارق في عينيك اللتين بلا حدقتين
الموت في أحشائك الذي يأكل مخي
كل هذا يجعل مني فتاة غريبة.
*
رجلٌ مريضٌ بألفِ فُواق
رجلٌ تهزهُ أفكارٌ مُملاة
يمليها عليه ظله الذي يتبعه بلا توقف
مستعداً لجرجرته عبر الفضاء
رجل بلا جذور صار نجماً.
*
أرفعك بين ذراعيّ
للمرة الأخيرة.
ثم أُنزلك على عجل في نعشك الرخيص.
أربعة رجالٍ يحملونه على أكتافهم بعد أن دقوا المسامير فيه
على وجهك المهزوم، على أعضائك المكروبة.
يهبطون السلالم الضيقة وهم يسبون
بينما أنت تتقلب في عالمك المحصور.
رأسك مفصولة عن عنقك المقطوع
تلك هي بداية الأبدية.
*
رأيتك عبر باصرتي المغمضة
تتسلق سور أحلامك المروع.
قدماك تزلان على الطحلب النائم.
عيناك تتشبثان بالمسامير التي تتدلى.
بينما كنت أصرخ دون أن أفتح فمي
حتى أفتح رأسك لليل.
*
تقبَّل صلواتي
تحمَّل نواياي الدنسة
طهرني حتى تتفتح عيناي
حتى تريا ابتسامة القتلة الباطنية.
وعندما أغدوا طاهرة
اصلبني يا يهوذا.
*
امرأة واقفة منهكة منتوفة
ساقاها السوداوان يبدوان في مأتم شبابهما
تسند ظهرها المحني على الحائط المعادي
ظهرها الذي أحنته أحلام الرجال
ولا ترى أن الفجر قد جاء أخيراً
فما أطول ما كان ليلها
*
نادني باسمي الأخير.
أشبك ملابسي بالكواكب، بالنجوم.
حتى تمشي ساقاي بلا نهاية على الأرض
وأنا أبذر يأسي في قلوب الحيوانات
حتى يكون لاستجاباتي الأخيرة رنين دقات الحزن
لدعوة البشر إلى الغفران.
*
الرجل الذي يدافع عن نفسه
أمام هيئة محلفين من القردة.
الرجل الذي يقدم الالتماسات، الرجل الذي يتوسل,
رأسه يختفي بين ساقيه المشعرتين.
والقردة تنتظر
والقردة تتهم ولا تدافعُ عن شيء
قبل أن تلتهم الرجل، هذه الموزة المتعفنة.
*
كنتُ جبانةً أمام موته.
كنتُ جبانةً أمام حياتنا.
رأسه ذات الوجنتين النديتين
انتزعتني رغماً عني من الوعود المجانية
من الوعود المنبوحة، من الصموتات، من الصرخات،
ظهري الذي يتصببُ عرقاً، فزعي، صرخاتي.
وعندئذ لكي أهرب من عينيه
حنيت رأسي، ركعت
وبجبيني المروَّع
خفّفتُ آلامه.
*
عصافير صغيرة ترفرف
تحت جلدك المتوتر، في عينيك الواسعتين
وقد خبلها الرعب الذي يهز السماء
غير مفكرة إلاّ في تحليقاتها الماضية
الفرائس الحية لصياد مجنون.
*
الفراغ فوق رأسي
دوار النشوة في فمي
وأنت فوق ظهري
القط فوق السطح
يلوك عيناً حلوة
عين حاج يبحث عن إلهه.
*
أمس مساءً رأيت جثتكِ
كنتِ رطبةً وعاريةً في ذراعيّ.
رأيتُ جمجمتكِ البراقة.
رأيت عظامكِ يدفعها برد الصباح.
فوق الرمل الأبيض، تحت شمس حائرة
كان سرطان البحر يتنازع لحمكِ.
فلم يبق شيءٌ من نهديك الممتلئين
ومع ذلك فهكذا تحديداً فضلتك
يا زهرتي.
*
أجنحة مجمدة
أصابع أقدام مكسورة
فرج مخترق
قلب أسد متحلل.
*
شيخٌ وعجوزهُ مختفيان تحت الأرض
يد متحللة في اليد المتحللة، في عز الحرارة في الوسخ
يتبادلان الكلام عبر شفاه اختفت، يتفاهمان دون كلمات
ينصتان إلى الأغنية البطيئة والخفيضة للأرض التي تتغذى
متسائلين في أعماق قلبيهما
ما إذا كانا لن يموتا أبداً.
*
شعره الأصهب له رائحة المحيط.
الشمس الغاربة تنعكس على الرمل الميت.
يتمدد الليل على سريره المصنوع من الأبهة.
بينما المرأةُ اللاهثةُ المرتجفة
تتلقى بين فخذيها الخائرتين
القبلات الأخيرة لشمسٍ تموت.
*
أنت تحب الرقاد في فراشنا المهزوم.
قطرات عرقنا السابقة لا تثير اشمئزازك.
مفارش سريرنا التي وسختها أحلامٌ منسية.
صرخاتنا التي تجلجلُ في الغرفةِ الكئيبة.
كل هذا يثير جسدك الجائع.
أخيراً يضيءُ وجهُك الكريه
فرغباتُ أمسنا هي أحلام غدك.
*
دع عينيك تطفوان على الأمواج
دع الريح تملأ جسدك بصرخاتها
امنح بطنك المشعرة لمداعبات الشمس
استهلك صوتك، حيواتك، نساءك
لكن لا تنظر إلى عينيَّ النائمتين
خشية أن تتحد نظرتي بنواياك.
*
انتظرني
أكاد أشعر أن الزمن يفر
من غرفتي حيث تنام دموعي في فراشي.
أعرف جسدك الوعر
الذي يرقص دون توقف على جلجلات ضحكاتي.
أعرف جسدك الفاجر
الذي لا يحبُّ غير سخونة المحتضرين
في ذراعيه، على فمه، بين فخذيه ذواتي الشعر الكثيف.
انتظر علَّ لذتي تتهيأ للموت
انتظر علَّ جسدي يتمدد، يتصلب
قبل أن يسليك.
*
تجلس على سريرها والساقان مفتوحتان.
أمامها قدح
تبحث عن أكل لكنها لا ترى شيئاً
المرأة ذات الأجفان التي أكلها الذباب تتأوه.
عبر النوافذ يدخل الذباب
يخرج عبر الباب
يدخل في قدحها
عيونٌ حمراء
ذبابٌ أسود
تأكلهُ المرأةُ
التي لا ترى شيئاً
*
إنها تحبني بأنانية
تحب أن أرشف لعابها الليلي.
تحب أن أمرِّر شفاهي الملحيَّة
على فخذيها الفاجرتين، على ثدييها الساقطتين.
تحب أن أبكي ليل شبابي
بينما تستنفد عضلاتي التي تغتاظ
من أهوائها الفاحشة.
*
امرأةٌ جالسةٌ أمام طاولةٍ مكسورة
والموت في الأحشاء.
لا شيء في الدولاب
مكدودةٌ من كل شيء حتى من ذكرياتها
تترقب والنافذة مفتوحة
الضوء ذا الألف وجه
الذي هو الجنون.
*
الأقدام الآثمة
الأيدي المقيدة
الأحشاء التي تتدلى
ما من صوت للصراخ
وأنت الذي تنصب نفسك في جسدي المقتول
لكي تلازم أرقي وسهادي.
*
ليس ذنبي أن أظافرك تتزايد طولاً
ليس ذنبي أن شعرك يسترسل
ليس ذنبي أن أحداً لا يبكيك
ليس ذنبي أنك قد بردت يا عزيزي
فأنا لم أتمنَّ موتك.
*
الأخفاف الحمراء للكلبات في فصل الهياج
الشعر اليابس المستعار لنساء بلا جمال
الصرخات التي تهمس بها الحيوانات التي بلا نعاس
الحيوانات التي يحبها المرء، التي يضمها إلى صدره، التي يخنقها في سريره
الحيوانات التي لا أهل لها ومع ذلك تُدْفنُ بكل هذه الأبهة
أيُّ عالمٍ قاسٍ هذا
عالمُ المحبةِ المُشتراة.
*
بين صخرتين عاليتين مدببتين
تحيا امرأةٌ عجوز.
في الأرض المرصعة بالتُرُنجان
استقرت قدم.
حيوانات الليل والأحلام
تغذيها بالأغنيات الضائعة
تنتظر هناك أن تنطفئ السماء
حتى تُحَرِّر الأبدية.
*
تريد أحشائي غذاءً لك
تريد شعري لكي تشبع
تريد حقويّ، نهديّ، رأسي المحلوقة
تريد أن أموت ببطء، ببطء
أن أغمغم بكلمات طفلٍ وأنا أموت.
*
على الشاطئ المفضض ذي التأوهات المستَشَفَّة
قرب صنوبرات مصلوبة على السماء الغائبة،
أنتظركَ.
آثار قدميك تركض على الرمل المعطر
ملعوقة من البحر الغيور، ضائعة، مذعورة
مثلي.
تركتنا نائمين على الشاطئ
في الهاجرة
ونحن ننتظرك هذه الليلة طوال الليل دون صبر
عارفين في أعماق قلوبنا المسكونة بحضورك
أن الشاطئ سوف يظل فارغاً من الآن فصاعداً.
*
بلى، لي حقوق عليك.
لقد رأيتك تذبح الديك.
رأيتك تغسل شعرك في ماء المزاريب الوسخ.
رأيتك منتشياً برائحة السلخانات النفاذة
وفمك متخم باللحم
وعيناك مترعتان بالحلم
رأيتك تمشي تحت بصر رجال خائري القوى.
*
جُزُرُ الأمراض
بمجذومين كالببغاوات
بحر الصمت المتصدع بساعة الشيخوخة الناطقة
صرخات كابةٍ صغيرةٍ ممزقة
المصحة تسهر على موتاها – الأحياء الذين لم يولدوا.
*
أحبُّ اللعب بالأشياء الصغيرة
الأشياء التي لم تولد وردية تحت عينيّ الطائشتين.
أربت عليها، أوخزها، أقتلها، ثم أضحك
الأشياء الميتةُ لا تبرح مكانها بعدُ
وأنا أندم على حمى طيشي
أشفق على أسلافي المنحطين
كان يتعين عليَّ محو دم أحلامي
بإلغاء الأمومة.
*
أخطبوط مُشرَّبٌ بالسكَّر ومذهَّبٌ
يتخبط على فخذي المحزّزة
والموسيقى، هذا الحمار الوحشي المخطط الملون،
تنساب سوياً من البوق الرخو،
الراقصون ذوو المفاصل المطاطية
يجْلون قضيبهم المجبول من المخمل المموج
على سقف الشريعة المكسو بالبلاتين.
في انتظار أن ينام أخطبوطي على اللعاب المقدس،
والساعدان والفخذان في بكارتهما،
مزرقاً من الكلمات ومن شراب الجن.
*
الأمازونية تأكل ثديها الأخير.
في الليلة السابقة للمعركة الأخيرة
جوادها العاري من الشعر يتنفس هواء البحر الندي
متحركاً، مهتاجاً، محمحماً رعبه
لأن الآلهة تهبط من جبال العلم
حاملةً معها البشر
والدبابات.
*
الفخذان المجنحتان للعجوز المحدودبة
معلقتان على برج الأجراس المفلوق برجين
القطط المجنحة التي بلا ذيل ولا صراخ.
في فراشي أحاول أن أفهم
الدم الذي ينز من رحمي المهتاج.
*
السفن تمر دون صخب
على الماء الموحل المتورد تحت الشمس
المتورد من دم أبقار ما عادت تشكو
المتورد من دم أطفال ربما غرقوا غرقاً شريراً
المتورد، ربما، من دمك الملطخ.
السفن تنساب دون صخب
على الماء الراكد، الراكد، ذي التيار البطيء
وجسدك ينساب أيضاً مسحوباً نحو البحر بعيداً.
مهشَّماً بالعصيّ وممصوصاً من الوحل
مسحوباً نحو النسيان.
*
سأصطاد روحكَ الخاوية
في النعش الذي يتعفن فيه جسدك،
سأقبض على روحك الخاوية.
سأنتزع أجنحتها الخفاقة
أحلامها المتخثرة
وسأبتلعها.
*
لقد سئمتُ.
فقد احتضنتُ كل شيء
رأسك، قلبك الفظ، دينك.
قبلتُ كل شيء
إلى أبعد حد بحيث إن جسدي المكدود
ما عاد بوسعه الرجوع، ما عاد بوسعه النهوض
من المزراب الذي هو سريرك
من الوسخ ومن الزفت
الذي يتسلي فيه المرء.
*
كنتَ جالساً مستريحاً
فوق دبٍّ أسود.
كنتَ تمزق شرائط من الجلد
بأصابعك المتلألئة في وجه السماء الدامية
وبينما كنت تخلق عالماً جديداً
انهمرت الثلوج.
*
يا قرداً يريد زوجةً بيضاء
يا قرداً يشتهي أثداءً رقيقة
يا قرداً يحبُّ أسرَّة النساء
يا قرداً قبيحاً بائساً أبلهاً
ما من امرأةٍ يمكنها الابتسام بين يديك
فلتحسن يا قرد إذاّ
اختيار أنثاك.
*
رجل نظر مبتسماً إلى المنون في وجهها
كانت منتشيةً على فراشها اللازوردي
كانت راقدةً، معدنيةً وجميلة.
انحنى رقيقاً ومشتهياً
أن يتذوق على شفتيها حياة أزهارٍ عمرها يوم
دم أطفال، دم حيوانات، دم أسماك.
مس شفتيها بفمه البارد الحس
ومات دون أن يفهم
عدم فهمه.
*
أرتجفُ تحت يديك الفرحتين
أشربُ الدم الذي يسقط من فمك المتصدع.
المفرشُ الأسودُ يستكينُ تحت أفخاذنا المتحدة.
وبينما تلوكُ أُذني المبتورة.
ألهج باسمك وبأحلامي المُبعدة.
*
الدربُ الخاوي المظلم المُرمِلُ
الأقبيةُ، القبورُ، الكلابُ الجساسة
الكلابُ التي تنبحُ من أجل جثثٍ جديدة
من أجل قبورٍ بادئة، من أجل نعوشٍ محلولة
الموتى، الموتى غير الطيبين الذين لا يريدون الاستسلام
لإشباع الأرض الجافة بلحومهم المتألمة.
*
رقبتك المقطوعة.
رأسك التي تنزف
مفصولةً عن جسدك
مكشرةً وعمياء.
رقبتك التي تنزف قطرات جنون
عيناك اللتان تسكبان دموع الرغبة
وأنا التي أرشف
حياتك التي ترحل.
*
زنجيةٌ ميتةٌ على الرمل الأبيض
بلا أفكار، بلا روائح، بلا ثياب
بين فخذيها تنساب الريح،
تضغط الشمس شفاهاً حارقة
على خاصرتها المرضوضة، على عينيها المفتوحتين.
الموجاتُ الخبيثةُ تتحيَّنُ لذتها
وتروحُ وتجيء.
*
خائفٌ هو ومضطرب
فالأرض تهربُ والحلمُ يبدأ.
ساعة حياته تتنفس بصعوبة.
حول سريره
تنفثُ أفكارهُ المحرفةُ في أذنيه
الرعب.
*
تلَّةٌ في مواجهةِ تلَّةٍ بلا حراك
أراهما.
الجواد الجريح يرفعُ رأسه لكي يحمحم
يفتحُ فمهُ الذي لا يخرجُ منهُ أيُّ صوت
ثم يموت.
الجوادُ الوحيدُ بين بيتين متهدمين
يحنى رأسهُ مكدوداً، رقيقاً وضائعاً،
ينام.
*
الذباباتُ على السرير
على السقف، في فمك، على عينيك.
أيها الرجلُ العاجزُ الخبيثُ الجاهل
الراقد عليها في كاملِ ثيابك
دع لي جلدي
لا تُفرغ أحشائي.
*
ظلُّكَ الذي بلا فم
غرفتكَ التي لا باب لها
عيناك اللتان بلا نظرة
بلا حنان، بلا لون
خطواتك التي تتوجه
دون أن تترك أثراً
نحو الضوءِ ذي الأصواتِ المُؤَرِّقة
الذي هو جحيمي
*
أيها الكلب الهائج، الغارز أنفه في الأرض
المنتفخ الرأس بصرخات مطاردة الحب
الحب الضائع.
أوراق شجر الغابة تعرفه
تطارده بأيديها الخمرية
أيها الكلب الهائج، الحيوان الذي بلا سند
فلتتغذَّ على دم الفقراء
لكي تكون محبوباً يجب أن تكون قاسياً.
أيها الحيوان، إذا كنت تريد أن تكون مستأنساً
بع روحك للبشر.
*
في مخمل أحشائك الأحمر
في ظلمة صرخاتك غير السرية
توغلتُ.
والأرض تتوازن باكية منشدة.
بينما أنا أنتظر مفعول السم
دم شيطان هو الغضب المبصوق
تبصقه حيوانات مذبوحة.
*
نفَسُكَ المشهوق في فمي
يداك اليابستان ذواتا الأظافر المدببة
لا تحررُ أبداً حلقي الملتهب
الملتهب من العار، من الألم، من اللذة.
شفتاك البنفسجيتان تمتصان دمي
ستغويك دائماً شهواتي المُطفأة
بينما عيناي ستبقيان مغمضتين.
*
ترتجفُ من الخجل
لكنك تحب أن ترتجف
تتأوه من الرعب
لكن دموعك عذبة.
تتوارى عن مرآي
راجياً ألا أجدك.
أنت تريد دمارك.
*
أريد أن أبدو عارية أمام عينيك المبتهلتين.
أريد أن تراني أصرخ من اللذة.
أن تدفعك أعضائي التي تتلوى تحت ثقلٍ جد فادح
إلى فعالٍ كافرة.
أن يتشبث شعر رأسي المباحة الناعم
بأظافرك المقوسة من الهيجان.
أن تقف أعمى ومصدقاً
ناظراً من فوق إلى جسدي العاري من الريش.
*
جسدكِ الصغير الهزيل الملفوف في الساتان
غرفتكِ الوردية المتدثرة بالصمت
عيناكِ الجائلتان بين الأثاث الفاخر
مصطدمتين في الظلمة بالفئران الميتة على الوسائد
ونحن الذين نترقب نزعك الأخير
لكي نفُضَّ وصيتكِ.
*
امرأةٌ واقفةٌ في مشهدٍ عارٍ
النورُ الساطعُ على بطنها المنتفخ
امرأةٌ وحيدةٌ، امرأةٌ بلا رذيلة ولا صدر
امرأةٌ تصبُّ احتقارها في أحلامٍ دون ضجعة
سيكون السرير جحيمها.
*
أحبُّ رؤية وجوههم المذعورة.
إنهم لا يحتملون رؤية الموت.
يريدون فوراً حبسه بعيداً عن رعبهم.
وبينما لا يزالون متشحين بحدادهم
يمارسون الحب لكي يدفنوا على خير وجه
ذكراه المتحللة.
*
فتحتُ رأسك
لأطلع على نواياك.
التهمتُ عينيك
لأتذوق نظرتك.
شربت دمك
لأتعرف على رغباتك
ومن جسدك المرتجف
صنعتُ غذائي.
*
عيناي تلمعان في السماء الشاحبة
رأسك المخضرُّ يرتسمُ جانبياً على أرض الوادي.
تدعو إليك حيوانات الصحراء
فتجيء دون صخب لكي تطوف بالقبور
القبور التي بلا اسم، بلا زهور، بلا ظل
قبور الموتى، الذين بلا أكفان، غير البعيدة عن وجه الأرض.
*
عنقك ساريةٌ معلقٌ عليها
جسدك المتأرجح في الفراغ يتوسل إليَّ
يتوسل إليَّ أن أنفخ في فمك المفتوح
الكلماتِ الضعيفة
لرغبتي.
*
طفلك في ذراعيك.
رأسه يميل جانبياً على غيهب صدرك
عيناه اللتان بلا رؤية، يداه اللتان بلا فريسة.
جسدك يتوسل إليَّ
أن أقدِّم حياتي
رهينة.
*
بين أصابعك
فمي
بين أسنانك
عيناي
في أحشائي
إيقاعك الضاري
يقشر جسدي
المجبول من أحاسيس غضَّة.
*
حمى، عضوكَ سرطان بحري
حمى، القططُ تتغذى من أثدائك الخضراء
حمى، سرعةُ حركات حقويك
سرعةُ قبلاتك الفاحشة، تقطيباتك
تفتح أذنيَّ وتسمح بالولوج لهيجانك.
*
امرأة خَلَقَت في نفسها الشمس
وكانت يداها جميلتي المنظر.
انشقت الأرض تحت قدميها الخصبتين
وغطتها برائحتها النارنجية
وهكذا أنجبت الصفاء.

رحمٌ صغير، رقيقٌ وأصفر
رحمٌ صغيرٌ مشعر
ساقان صغيرتان ملتويتان مشعرتان
جين الصغيرة المحدودبة
امرأة صغيرة تنتظر اغتصابها
عارية تماماً، عارية تماماً..
*
راقدةً على فراشي
أرى وجهك منعكساً على الجدار
جسدك الذي بلا ظل الذي يخيف جسدي
رهزاتك المسعورة والإيقاعية
تقطيباتك التي يهرب منها كل أثاث الحجرة
إلاَّ فراشي المثبت بعرقي الخادع
وأنا التي تتحسب المرارة
دون غطاء ولا أمل
*
لي روحٌ قلقة.
تسكنُ قرب بحيرة هي عيناي الغائرتان.
تثور تحت شمس صلواتي الحامية
تنام وأحلامها ترتجف تحت جلدي
خالقةً المرارة في قلبي المغرد.
*
كم من الغراميات دفعت سريرك إلى الصراخ؟
كم من السنين غضَّنت عينيك؟
ما الذي أفرغ صدرك المنهك؟
نظرت إليك بعينيَّ السابرتين للأغوار
فتفجرت أوهامي
تاركةً خلفها
شيخوختك
العاجزة عن الرد على أسئلتي.
*

محارةٌ تنجر على شاطئٍ مهجور
بإصبع شارد يداعب البحر
تترك خلفها أثرها المثير للعاب
تجتذب رغماً عنها العدو.
يقترب ويشلها بيد متطفلة
يُخرج روحها من سريرها الرخو
ويمتص عذابها.
*
بلا شعور تنزلق نحو جنون الأحلام.
بلا شعور تنقفل عيناك عن الحياة
حدقتاك المتسعتان تغرقان في المحيط العاري.
يسقط فمك وهو يفرغ طفح
مخكَ الذي بلا سلاسل رسوٍّ
لسانك المشلول.
القاعةُ، القاعةُ كلها تتشنج منتظرة
هلوساتِكَ.
*
فليستفزك نهداي
فأنا أريد هياجك.
أريد أن أرى عينيك متثاقلتين
أن أرى خديك وهما يبيضان إذ يتغضنان.
أريد ارتعاشاتك.
فلتنفجر بين فخذيّ
ولتلبَّ رغباتي على الأرض الخصبة
لجسدك الماجن.
*
البيت الفارغ المظلم الذي تطوف به الأشباح
خطواتنا تسبقنا، تتبعنا.
الغرف المسكونة برؤى غير متحققة
بأشياء يستحيل كنهها
البيت الفارغ، الفارغ، الفاقد المعالم.
رأسك الحبيسة، عيناك
الزرقاوان المتلهفتان دون احتشام
تتسلط علينا، تنادينا
تحشو فمنا
خبزاً أبدياً وكريهاً.
*
رذائل الرجال
ميدان اختصاصي
جراحهم مغانمي اللذيذة
أحب أن ألوك نواياهم الخسيسة
لأن دناءتهم تصنع جمالي.
*
قصائد مختارة
جويس منصور
ترجمة: بشير السباعي

1

المنون زهرة ربيع تنام
عند قدمي سيدة عذراء وقت الهياج
والعفونات الناعمة الألف
الداكنة كإبط، الدامية كقلب
تنام هي أيضا في أجساد النساء العاريات

2

الراقدات في الحقول، أو الباحثات في الشوارع
عن ثمرة الحب المرة المذهبة.
القدمان الجامدتان غير المدركتين
للصياد العجوز المتكئ على زورقه
تسحقان بيبوستهما المصفرة
الأسماك النائمة على الطحالب المهدهدة
العجوز يدخن يد طفل
عيناه الزرقاوان المحتقنتان بالدم وبالأحلام
تبحثان في البعيد عن الوجه المضيء
للطفل الذي لا يعرف السباحة.
أقدام عارية تماماً
وجه ملطخ بالدم
دمك سيء التجلط
الذي لزنجي
من شعرك يتدلى
القط الصغير المعلق
واقفاً على بركاني
أنت حقيقتي.
سأتبع دائما نعشك
يا روحي، يا روحي
سيكون دائماً أمام عيني
يا روحي، يا روحي
لن أكف عن السير في حركة إيقاعية
خلف جسدك فاقد الحياة
يا روحي، يا حبي.
امرأة مستسلمة في الصقيع الكئيب
لسن يأسها
تفكر وهي تحبك في الحملان المصلوبة
في ملذات المطبخ
وفي السنوات الوسخة الطويلة
للمجاعة الكبرى
القادمة.

أريد أن أرحل بلا حقائب إلى السماء
يخنقني اشمئزازي فلساني طاهر.
أريد أن أرحل بعيداً عن النساء ذوات الأيادي السمينة.
اللاتي يداعبن ثديي العاريين
واللاتي يقذفن بولهن
في حسائي.

أريد أن أرحل بلا صخب في الليل
أريد أن أقضي الشتاء في ضباب النسيان
معتمرة فأراً
ملطومة بالريح
ساعية إلى تصديق أكاذيب عاشقي.

فراشك جبن
عليه تتمخض امرأتك.
خبز ومخاطيات
رحم وصرخات
عيون تبكي.
ملصقة على الجدار، مسمرة على الفراش
وأنت بالأرض، مكتسياً الأسود - مجمد الدم
أيها اليهودي الميت قتيلاً
الرضيع ينام في مهده الأسود
أسنانه القذرة تبين بين شفتيه المشدوفتين
وأنت تهدهدينه.

الغرفة هادئة بالرغم من الكلب الذي يموت
النوافذ محكمة الإغلاق لإحكام حبس الليل
وأنت تنتظرين.
الرضيع يستيقظ من أحلامه المعذبة
الموت ينتظره، مرضعة رقيقة
وأنت تبتهجين، أيتها الأم الصغيرة.
في غرفتك المفروشة بالأمعاء المزهرة

3

انتظر زيارة الرخويات المحزونة
تحبكين كالعادة في صمت
الحبكة التي لا تنتهي لأيد غير راضية
أما أنا، فاقرأ على وجهك المعبر
متفرقات مدينة مبادة
ونترقب في صبر دون تعجل
الوصول المهيب للرخويات ولأصدقائها
الديدان.
لا تستخدموا كطعم
روح الخنزير الشاحبة
لكي تجتذبوا الرجال الشائخين
الذين لهم طعم السمكة.
خاصة خلال الأسبوع.
لا تنتزعوا البصقات
من أفواه الأطفال
الذين يبيعون مؤخرتهم
للحمير.
لا تجمعوا الأثداء الطرية
لقردة بلا حياء
فقد يأخذونكم
دون عذر ولا اشتياق
على أنكم امرأة.

عين الطاهية الحلوة
تستوي في حساء خثر.
ساقا الطاهية الملتويتان
المعلقتان كتعويذة
تدقان على الجدار المغطى ببنات وردان
علي إيقاع صرخاتنا المتحفزة
وأنت تفصل الشيطان عن عينيه
عيني الكلب الوفي .
اصعدوا معي السلالم الهابطة
عاهرات مفتوحات الأفخاذ تضحكن على كل درجة

عارضات أسماكهن مبدلات الأوضاع
ملاحقات لنا بضحكاتهن
بالرغم من حيائنا.
تعالوا معي إلى بيت الميتة
الراقدة على فراشها، شبه متعفنة
تسمع الأطفال المنهمكين في ألعابهم البريئة وتراقب
العجائز الذين يحسبون غائطهم .
الشموع تسود الغرفة المهمهمة
حاجبة الميتة عن أعين العابرين
الميتة التي تراقب الأثاث والأحياء
منذ عشرة أو خمسة عشر يوما
وربما منذ زمن سحيق .
قدم بلا حذاء
أسيفة وبلا عمل
قدم خشنة لزنجية غير متوقعة
حلكة الليلة الأخيرة
الزنجية تغني في الشوارع الغافلة
أغنية مسامير الرجل والتكلكلات الحمراء
أغنية الأقدام الأسيفة والتي بلا عمل
جالسا على رصيف رملي
يداه مجمدتان بالبول الراكد في الشمس
الرجل الذي يرتدي أسمالا يمص مكشرا
عين زنجي بلهاء.
القمر يثب من السماء عاويا
الكهنة يبشرون الأرض
لكن الرجل الذي يرتدي أسمالا يواصل مص
عين الزنجي
البلهاء.
ارقص معي، أيها الفيولونسيل الصغير
على العشب البنفسجي السحري
لليالي البدر.
ارقصي معي، أيتها النوتة الموسيقية الصغيرة

4
بين البيض المسلوق ، والكمنجات ، والحقن الشرجية. ارقصي معي، أيتها الساحرة الصغيرة
لأن الأحجار تدور محومة
حول طاسات الحساء
حيث تغرق موسيقى الفوانيس .
بقدمين مقيدتين
وبقلب مشوش
انتظر جنينه
حتى أموت مشدودة إلى السماء
كنجمة سعيدة .
زرعت يد طفل
مصفرة من المرض، غاصة بالديدان
في بستاني ذي الأشجار المزهرة .
أحكمت غرسها في التربة المخملية
أحسنت ريها وتطهيرها وتسميتها
عارفة أن عذراء ستنمو في هذا المكان
عذراء مشرقة بالنور وبالحياة
عقيدة جديده في أماكن قديمة.
سددت أنف ميت
فانتفضت روحه ، انتفضت
أرادت التخلص من جسد ماضيها
التمست رحمتي لأن موعدها مر
وتعب هو من انتظارها
عين حارسة داري الكابية
تتدلى من ثريا برونزية
تتدلى حالمة معلقة بالأهداب
عين حارسة داري المكرمة بالخمر
تتأرجح برقة، برقة
طوال الليل على بعد إصبعين من أنفي
مثبتة إياي، مغشيا عليها دون أن يطرف لها رمش أبدا
العين الرطبة ذات الابتسامات المشجعة
التي تخصب رحمي القاحل
ببولها.
عندي ما يكفي من الفئران
الأكلة النهمة للأجنة وللمولاس
عندي ما يكفي من الصحون
عندي ما يكفي من الأسماك ذات الشوكات الخبيثة
التي ترقص في حلقومي
عندي ما يكفي من التعساء
عندي ما يكفي من اللعنات
التي أصبها على رأسهم
غير مستثنية حتى الصلع
عندي ما يكفي من الجرائم
عندي ما يكفي من قبري
الذي ينتظرني في ظل الغد.
عندي ما يكفي من كل شيء
واشمئزازي ميت من الضجر.
الهاتف يرن ويرد صوته الأجش، صوت المغني
يرعش ضجري
وترتجف البيضة المسلوقة التي هي
قلبي .
رؤيا تتسكع في العيادة الزرقاء
رؤيا هاربة لدماغ مخدر
رؤيا صغيرة ذات ذيول ملتوية
تبحث بلا طائل عن فأرة كريمة
لتأخذ مكان الجسد النائم
للرجل المثقوب الجمجمة الذي فقد أفكاره
عبر الثقب الأسود والمستدير لدماغه الهائج .
التشنجات التي ترج جسدك البدين

5

تطالني بالرغم مني في عالمي، عالم طريحة الفراش .
وأنت هناك مكتوب عليك أن تكابد ، ظمآن،
عيناك تعذبانني بين ثيابي، ثياب العاجز،
وشهوتك ترتجف من الانفعال
عربتي التي يسحبها الجواد تلقيك مهملا في ركنها
مذكرة إياك بساقي المصفرتين، اللتين بلا عظام .
تناديك ثيابي من الدولاب الموارب،
عطورها المسكرة لا تحكي عذابي .
كل ليلة أحبس نفسي في نعاسي المريض،
حتى لا أسمع شخيرك الفاحش،
بينما أنت تهدئ نفسك. تشبع نفسك ،تستمع
باغتصاب ما .
فتح فمه الذي بلا شفتين
لكي يحرك لسانا ضامرا.
حجب عضوه المعطر
بيد زرقاء من الموت ومن الخجل
ثم بخطوة ثابتة ومجلجلة
اجتاز رأسي في نحيب .
أحييكم. يا خراف الصحراء الهزيلة
في صوفكم تختبئ أزهار الطفولة الناضجة
أحييك. أيها الحمار الأبيض ذو القدمين المقيدتين
في قلبك يتردد صدى الحب .
أرسم الجحيم على تربة رأسي حيث تسقط عيناي الميتتان وأحييك، يا اله روحي
لأن الصحراء تشحب
والقمر يأفل
حاملا على ظهره
الفجر .
بيضة على السطح
حكت لنهدي الليل الطريين النتنين
غرامياتها .
عين بقرة في جحر
قضت الشتاء متنكرة
وسط الدببة .
وأنا أغزل دون صوف ودون ابر
ملابس اللاواقع الداخلية
انتظارا للمسيح المخلص .
المد يصعد تحت بدر العميان .
وحده مع المحارات والماء الأخضر- الأزرق لأول النهار وحيدا على الشاطئ يغرق فراشي ببطء .
المد يصعد في السماء المترنحة من الحب
بلا نواجذ في الإحراج، أترقب موتي، صامتة
والمد يصد في حلقي حيث تموت فراشة .
أطلب خبزا
خبزا قوامه الشفقة
أطلب خمرا .
لم أعد أشتهي ألمي
خلصني من لحظة بلا حركة
تنيخ على عنقي
تتلكأ بين فخذي وتذوب .
امنحني لذة الشهد والبرونز
وربما أصلي غدا.
سرقت العصفور الأصفر
الذي يحيا في عضو الشيطان
سوف يعلمني كيف أغوي
الرجال والأيائل والطيور ذات ا لأجنحة المزدوجة،
سوف ينتزع عطشي، ثيابي، أوهامي،
وينام،
بينما أنا، ونعاس قصير على الأسطح
أتمتم، أومئ، أمارس الحب بعنف
مع القطط .

6

وزنوا الرجل الأشيب كالجير
وزنوا قدمي دون أصابعها
وزنوا الثمار الناضجة لأحشائك
على ميزان الكنائس غير الدقيق
ووجدوا أن ثقل روحي
يساوي ثقل طائر بطريق
دون أجنحته .
بأيد ممدودة في الهواء نلتمس
بأيد ممدودة في الهواء ننتظر
رحمتك .
ماء خطايانا الفائر
يتمتم حول معابدك المرتجة
ويغرق صلواتنا التي تسقط في أفواهنا
متسلسلة بأيد مفتوحة نسأل
بأيد مفتوحة نلعن
والليل الذي بلا حراك يكف عن التنفس
لكي يسمع صدى رد
لم يتم صوغه بعد.
المطر الذي يهطل مرة في العام
يغسل بدموعه المواسية
قلوب الموتى الذين يحرسون تحت الرمال المتأرجحة
الضباع والنجوم والأحياء الذين بلا مأوى،
يدفئون رفاتهم بأكفانهم المختزلة
ويناضلون بشراسة ضد الديدان وآبائهم .
المطر الذي يهطل صدفة مرة في العام
على الصحراء الكئيبة
يفتح الأزهار على وجهها السوداوي،
الأزهار عديمة اللون التي تموت بسرعة
لأن الشمس معجبة بالصحراء صديقتها
وتريدها جرداء نهمة وعارية
كل ليلة .
رميت عيني إلى البحر
انتزعت أحلامي من يدي
مزقت سرتي المائلة إلى الزرقة
وفي طحالب شعري المتموج الخضراء
أغرقت الجنين .
الفحم يخرج من أفواه حديدية
النساء يغنين ورؤوسهن في الهواء
ينظرن بعيدا إلى سماء الجحيم الزرقاء
بين المداخن السوداء لمدينة بلا صلاة.
يضغطن بين أفخاذهن على ابر الحياة البطيئة
بينما رجالهن، وأفواههن ملتصقة ببلاط التعاسة
المنتصب
ينفجرن .
وجهي يتألق في المرآة الفاترة
دموعي تتفتح وتتأرجح
الصمت الذي يتضرع في غرفتي المشمولة بالحنان
يموت وعضوك يندلع .
فرح خوفي المخبوء في يدي
بعيد سلامي الفوار الصباحي
ضحكتك تزهر في ظل فراشي
والماء يصعد في آبار الليل المرصعة بالنجوم .
لم أعد أريد وجهك ، وجه الحكيم
الذي يبتسم لي عبر غلالات الطفولة الفارغة.
لم أعد أريد أيدي الموت القاسية
التي تجرني من قدمي إلى ضبابات الفضاء
لم أعد أريد العيون الرخوة التي تضمني
والأواني التي تبصق مني الأشباح البارد
في أذني .
لم أعد أريد سماع أصوات الأكاذيب الهامسة
لم أعد أريد التجديف كل ليالي البدر.
خذني رهينة . شمعة، شرابا،
لم أعد أريد تزييف حقيقتك
ليكن لك ما شئت
الشاعرة السوريالية المصرية جويس منصور
رغباتنا أمس .. أحلامك غداً
(مختارات شعرية)
ترجمة وتقديم: رشيد وحتي


صدرت، هذا الشهر، عن آفاق للنشر والتوزيع، أنثولوجيا شعرية للسريالية المصرية جويس منصور، تضم زهاء 80 قصيدة من مختلف مراحلها الشعرية، بتقدمتين وملحقين لأندري برطون - رائد الحركة السريالية ـ وجورج حنين ـ العضو الأبرز في فرعها المصري: جماعة الفن والحرية . الأنثولوجيا مذيلة بألبوم صور للشاعرة. يصدر هذا الكتاب بعد أن تم منح آفاق حقوق الترجمة العربية لمجمل القصائد بإذن خاص من دار لافون ومنشورات منتصف الليل الباريسيتين.

قصيدة الرغبة الأنثوية الجامحة (مقتطفات من تقديم المترجم)

ذات يوم، وأنا أنظر لإتنا Etna ، الذي كان نهده يتقيأ حمماً، وددت لو كنت هذا البركان الشهير .
الماركيز دو صاد.
سنختزل الفن في أبسط تعبيراته، ألا وهي الحب .
(أندري برطون).

جويس منصور شاعرة مصرية (باودن Bowden في انكلترا، 1928 ـ باريس 1986). من وجوه الحركة السريالية الأساسية التي تجددت بها دماؤها بعد الحرب العالمية الثانية، ضمن ما اصطلح عليه باسم الركب الثالث (بعد جيل المؤسسين وجيل ما بين الحربين).
ولدت لأبوين مصريين من الطائفة اليهودية. أقام الوالدان في مانشستر حيث أسسا شركةً لتسويق القطن، قبل عودتهما للاستقرار في مصر، فور ولادة جويس. في تلك الفترة افتتحت ماريا كاديا (زوجة الوزير محمود رياض. كانت مغرمةً بالسريالية، لحد جعلها تنتمي لجماعة الفن والحرية . لها ديوان ومجموعة حكايا. كانت إقامتها تضم أهم مقتنيات الفن الفرعوني، كما كانت قبلةً لكل الفنانين والكتاب من جميع الجنسيات والأقوام) صالوناً للقاءات الأدبية بالقاهرة، وكانت الأولي في فتح إقامتها الباذخة بالزمالك لأعضاء الفرع المصري للحركة السريالية: ما يسمي جماعة الفن والحرية ، التي أسسها في 1938 جورج حنين، رمسيس يونان وفؤاد كامل. وفي هذا الصالون بالذات التقت جويس بحنين الذي كان منشط النقاشات الرئيس، وهناك اكتشفت الشاعرة روح الحركة السريالية.
مع صدور ديوانها الأول صرخات (أواخر 1953)، صار الكتاب حديث الصالونات الأدبية في القاهرة والإسكندرية. أما السرياليون في باريس فقد اعتبروا جويس، مذاك، واحدةً منهم.
استمراراً لنفس الجذوة الشعرية، وتماشياً مع روح السريالية، أصدرت جويس ديوانها الثاني تمزقات ربيع 1955، ولاقي نفس الاستحسان لدي أعضاء الحركة في فرعيها بالقاهرة وباريس.
مع أزمة قناة السويس والعدوان الثلاثي، وبعد تحذيرات تلقياها من مجموعة من الأصدقاء، تضطر جويس، رفقة زوجها سمير منصور، لمغادرة مصر في ايلول (سبتمبر) 1956. بعدها، لم تعد الشاعرة قط لمصر.
بين 1956 و1966، ستجد جويس نفسها في خضم الحركة السريالية، لا أسلوباً وجمالية شعرية فقط، بل أيضاً انتساباً تنظيمياً، نشاطاً جماعياً يومياً: صار الإسهام بالقصائد المشبوبة ونشرها في المجلات والمطبوعات السريالية مقروناً بتوقيع البيانات النارية. وبعد أن أصبح التحاق الشعراء نادراً، جاء إسهام جويس دفعةً ودفقات جديدة في دماء الحركة السريالية بعد الحرب العالمية الثانية وزخماً أغني إنجازاتها الشعرية.
في ربيع 1968 تنأي جويس بنفسها نهائياً عن الجماعة السريالية، بعد أن بدأت تدب فيها انشقاقات وصراعات هامشية أوصلتها لباب مسدود ونزاعات حول قيادتها. لكنها بقيت علي صلة شخصية بغالبية الأعضاء الذين رفضوا إعلان جون شوستر Jean Schuster حل الحركة كتنظيم في 1969، في خرق سافر لمبادئ العمل الجماعي، ودون استشارة النشطاء الباريسيين ولا باقي الفروع السريالية في العالم.
توفيت جويس ببيتها في 27 اب (أغسطس) 1986، بعد صراع طويل مع السرطان. وقد حيتها الصحف وباقي وسائل الإعلام كآنسة غريبة، كطفلة مسكية في الحكاية الشرقية، كشاعرة سريالية ذات أصول مصرية، كأهم وجه في الجناح المصري للحركة السريالية، كأجمل سريالية، كنموذج للجمال الشرقي رغم بصرها الحسير، كمواصلة لجذوة الحركة السريالية - بصفتها نشاطاً جماعياً - بعد وفاة برطون.
يتميز شعرها بتحرره من جميع القيود، علي مستويي الشكل (أبيات مرسلة غير مقفاة) والثيمات (استيهامات ، هوس ، أحلام وشبق ). مما يزيد قصائدها تحرراً أنها تنفك من أسر العناوين: نادراً ما تعنونها، ضمن خيار ساد كثيراً لدي السرياليين.
ويعتبر مشروع جويس منصور الشعري اشتغالاً في صلب البرنامج السريالي الذي اختطه رائده أندري برطون لهدم الهوة بين الحياة والقصيدة، ذلك البرنامج الذي ما زال قائماً ضمن مشروعية الحلم والحق في تحقيقه، ذلك البرنامج الذي يجد جوهره في مقولة برطون بلغتها التي لا تخلو من نبوءات العرافين: سنختزل الفن في أبسط تعبيراته، ألا وهي الحب ، والتي تجد صداها في هذا البيت الشعري الكثيف والذي يدخل في باب التنظير الشعري للشعر، أو ما يسمي بالميتا - قصيدة: يبدأ الفن حيث تنتهي الرغبة (قصيدة أحاليل ومومياءات ، ديوان أحاليل ومومياءات، 1969).
المترجم
(1)
فَتَحْتُ ذِراَعَيَّ
جُرْحيِ الْكَبيِرَ الْمِلْحِيَّ
تَحْتَ عباَّرَةِ الشِّتاَءِ
فَتَحَرَّكَ الشَّيْءُ لِتَوِّهِ
خَوْفاَنَ فيِ قَفَصِهِ
أَماَّ الْكَماَنُ الْجَهيِرُ الْمُلَمْلَمُ
فيِ أُذْنِ السُّلَّمِ الْحَزيِنَةِ
عَليَ شاَكِلَةِ سَهْمٍ مَكْسوُرٍ
فيِ قاَروُرَةِ حِبْرٍ صيِنِيٍّ
فَتَجَشَّأَ نوُطَةً مُلَوَّنَةً
آهٍ ياَ إِيْزيِسُ الْحاَذِقَةُ
فيِ الآلاَمِ الشَّرْقِيَّةِ

(2)
أَصْغِ إِلَيَّ
يَداَكَ تُصْغِياَنِ إليِ
لاَ تُطْبِقْ عَيْنَيْكَ
ساَقاَيَ تَبْقَياَنِ مُنْفَرِجَتَيْنِ
رَغْمَ ضَوْءِ الظَّهيِرَةِ الناَّبِحِ
رَغْمَ الذُّباَبِ
لاَ تَرْفُضْ كَلِماَتيِ
لاَ تَهُزَّ كَتِفَيْكَ
أَصْغِ إِلَيَّ، إِلَهيِ
أَدَّيْتُ الزَّكَواَتِ
وَصَلَواَتيِ تُساَويِ صَلَواَتِ جاَرَتيِ.

(3)
ثَمَّةَ رَجُلٌ يَتَراَفَعُ عَنْ نَفْسِهِ
أَماَمَ هَيْأَةِ مَحْكَمَةٍ مِنَ الْقِرَدَة.
الرَّجُلُ الَّذيِ يَطْلُبُ الرَّجُلُ الَّذيِ يَتَوَسَّلُ.
رَأْسُهُ تَخْتَبِئُ بَيْنَ فَخِذَيْهِ الْمُزَغَّبَيْنِ.
وَالْقِرَدَةُ تَنْتَظِرُ
وَالْقِرَدَةُ تَتَّهِمُ تُداَفِعُ تَضْحَكُ
قَبْلَ الْتِهاَمِ الرَّجُلِ، تِلْكَ الْمَوْزَةِ الْمُتَعَفِّنَةِ"
_________________________
(فيِ طُقوُسِ هَذِهِ الْقَصيِدَةِ ثَمَّةَ حُضوُرٌ لِلإِلَهُ تْحوُتْ -المترجم -)

(4)
ثَمَّةَ فيِ الْمَديِنَةِ
جَيْشٌ رَهيِبٌ وَمُتَأَلِّقٌ مِنَ الراَّقِصيِنَ
يَعْبُرُ الْجُسوُرَ بِالْجِياَّدِ
باَسِطيِنَ لِلْمَوْتيَ فَوْقَ وُجوُهِ الأَحْياَءِ
كَالزُّبْدَةِ فَوْقَ كَسْرَةِ خُبْزٍ باَئِتٍ

(5)
لاَ تَبْحَثواُ عَنْ زَحْزَحَةِ الشَّجَرَةِ الْمُثْمِرَةِ خُبْزاً
فَحَتيَّ الْمَوْتيَ يَطْلوُنَ أَجْساَدَهُمْ بِمَساَحيِقِ الطَّحيِنِ
غَنواُّ مُتَّبِعيِنَ نوُطاَتِ الْموُسيِقيَ
عَليَ شِفاَهِ الشاَّطِئِ الْمُجاَوِرِ
فَجْأَةً تَسْتَحيِلُ عَلاَمَةٌ موُسيِقِيَّةٌ مِنْجَلاً
فَيَنْحَرِفُ الصَّوْتُ مَشْدوُداً لِلْحَبْلِ
بِالْخَوْفِ الْمَحْفوُظِ

(6)
مَكاَئِدُ يَدَيْكَ الْعَمْياَءُ
فَوْقَ نَهْدَيَّ الْمُرْتَعِشَيْنِ
الْحَرَكاَتُ الْبَطيِئَةُ لِلِساَنِكَ الْمَشْلوُل.
فيِ أُذْنَيَّ الْمُجَيِّشَتَيْنِ لِلْعَواَطِفِ
كُلُّ فِتْنَتيِ الْغاَرِقَةُ فيِ عَيْنَيْكَ دوُنَماَ بُؤْبُؤَيْهِما
الْمَوْتُ فيِ بَطْنِكَ وَهُوَ يَلْتَهِمُ دِماَغيِ
كُلُّ هَذاَ يَجْعَلُ مِنيِّ آنِسَةً غَريِبَةً.

(7)
رَجُلٌ مَريِضٌ بِأَلْفِ فُواَقٍ
رَجُلٌ مُرْتَجٌّ بِأَفْكاَرٍ مُمْلاَةٍ
مُمْلاَةٍ مِنْ طَرَفِ ظِلِّهِ الَّذيِ يَتْبَعُهُ دوُنَ تَوَقُّفٍ
الْمُسْتَعِدِّ لالْتِهاَمِهِ فيِ لَحْظَةٍ دوُنَ شَمْسٍ
الْمُسْتَعِدِّ لِيَصيِرَ سَيِّدَ شَهْوَتِهِ
الْمُسْتَعِدِّ لِجَرْجَرَتِهِ عَبْرَ الْفَضاَءِ.
رَجُلٌ بِلاَ جُذوُرٍ صاَرَ نَجْماً.

(8)
هَبيِ حَلْقَكِ لِلَّيْلِ
أَيْ إِفْريِقْياَ الْمُلاَزِمَةُ لِلْباَلِ
أبْصُقيِ أَسْناَنَكِ أَزْباَلَكِ
دَوْخاَتِكِ
فيِ الْقِشْدَةِ الْمَخْفوُقَةِ
لِلْكَنيِسَةِ

(9)
تُحِبُّ النَّوْمَ فيِ فِراَشِناَ الْمُخَرْمَشِ.
عَرَقُناَ الْعَتيِقُ لاَ يُنَفِّرُكَ.
إِزاَراَتُناَ الْمُوَسَّخَةُ بِأَحْلاَمٍ مَنْسِيَّةٍ
صَرَخاَتُناَ الَّتيِ تَضُجُّ بِهاَ الْغُرْفَةُ الْمُعْتِمَةُ
كُلُّ هَذاَ يُهَيِّجُ جَسَدَكَ الْجاَئِعَ.
وَجْهُكَ الْقَبيِحُ يُشْرِقُ أَخيِراً
لأَنَّ رَغَباَتِناَ أَمْسِ أَحْلاَمُكَ غَداً.

(10)
ثَمَّةَ امْرَأَةٌ جاَلِسَةٌ أَماَمَ ماَئِدَةٍ مَكْسوُرَةٍ
وَالْمَوْتُ يَأْكُلُ أَحْشاَءَهاَ.
لاَ شَيْءَ فيِ الدوُّلاَبِ.
مُتْعَبَةٌ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ حَتيَّ مِنْ ذِكْرَياَتِهاَ
تَنْتَظِرُ وَالناَّفِذَةُ مَفْتوُحَةٌ
الضَّوْءَ ذاَ الأَلْفِ وَجْهٍ:
الْجُنوُنَ.

(11)
وَحيِداً عَليَ تَلٍّ مُعَرَّضٍ لِلرِّياَحِ
يَبْزُغُ رَأْسٌ مُدَبَّبٌ مِنْ جُلْجُلٍ
صَرْخَةٌ
الريِّحُ الريِّحُ ذاَتُ الْعَيْنَيْنِ الْبَبَّغاَئِيَّتَيْنِ
ذاَتُ الْمَواَكِبِ الْجَناَئِزِيَّةِ
وَدَوَراَناَتِ الْمَجاَعَةِ
الريِّحُ تَسوُطُ خاَصِرَتَيْكِ النَّهِمَتَيْنِ
أَجِنَّتَكِ الْمِنْ قَشٍّ
كَفْلَكِ الأَدْرَدِ

(12)
فَتَحْتُ رَأْسَكَ
لِقِراَءَةِ أَفْكاَرِكَ.
قَضَمْتُ عَيْنَيْكَ
لِتَذَوُّقِ رُؤْيَتِكَ.
شَرِبْتُ دَمَكَ
لِمَعْرِفَةِ رَغْبَتِكَ
وَمِنْ جَسَدِكَ الْمُرْتَعِشِ
صَنَعْتُ قَوتيِ.

جُنيِ؟

اِنْطِلاَقاً مِنْ فِراَشيِ أَتَخَيَّلُ طُمَأْنيِنَةَ الْمَقْبَرَةِ الْغَريِبَةَ. أَتَهَزْهَزُ لِفِكْرَةِ الدَّمِ الْمُراَقِ؛ وِجْنَتاَيَ تَلْتَهِباَنِ، أَسْناَنيِ الْخِسيِّسَةُ تَقْضِمُ خُطاَّفَ الْعَتَهِ الْمُنْزَلِقَ وَأَناَ أُدمْدِمُ فيِ الْحُلْكَةِ كَسَرَطاَنٍ بَحْرِيٍّ مُسَطَّحٍ.
نُتْفَةٌ مِنْ شَعْرِكَ تَتَرَنَّحُ فَوْقَ الْقَبْرِ. صَدْريِ يَنْفَلِقُ بِفِعْلِ أَلْفِ مُوَيْجَةٍ هاَئِجَةٍ؛ أَظُنُّنيِ أَسْمَعُ صَرَخاَتِ آباَئِناَ، هاَتِهِ الدوُّداَتِ الشَّريِطِيَّةَ الْفاَقِدَةَ لِكُلِّ ضَوْءٍ كَثيِفٍ حَتيَّ فيِ الآلاَمِ - الَّتيِ تَشُقُّ الْمَمَراَّتِ ذاَتَ الْحيِطاَنِ الْمُتَجَهِّمَةِ بِالرِّغْوَةِ. إِنَّهاَ تَصرُخُ وَتَنوُحُ، ناَثِرَةً لِلَذَّتيِ ذاَتِ الْاخْتِلاَجاَتِ الْمُنْزَلِقَةِ حَتيَّ الْعُمْقِ الْأَعْمَقِ لِلْحَديِقَةِ. حَديِقَةٌ جَميِلَةٌ بِصُموُتاَتِ تُفاَّحاَتِ الصَّنَوْبَرِ، بِأَحْلاَمِ الْمَرْمَرِ وَالْأُخْطُبوُطاَتِ، بِتَعاَويِذِ الصَّرْصاَرِ وَرَواَئِحِ النِّساَءِ الْعَطِرَةِ. سَأَسْحَقُ سيِاَريِ فيِ عَيْنِكَ الْمَرْسوُمَةِ بِسُرْعَةٍ بِأَلْواَنِ الْيَقَظاَتِ، سَأَسْحَقُ قَضيِبَكَ بِكَعْبِ حِذاَئيِ الْباَليِ، سَأَسْحَقُكَ بِكاَمِلِكَ فيِ نَتاَنَةِ رَفْضيِ.
صَوْتُكَ يَخْتَرِقُ الْفاَصِلَ بَيْنَ الْغُرَفِ. تَشْتَكيِ. فَرْجيِ يَضيِقُ ثاَنِيَةً. حُنُوٌّ، فَانْتِظاَرٌ..
(يوُلْيوُ 1959).

هامش:
غلاف الأنثولوجيا من تصميم عمرو الكفراوي. الصفحة الأولي من الغلاف: تفصيلة رسمة مائية بريشة التشكيلي السريالي ماطا Maa، أنجزها في 1966، لديوان العذابات.
1- بورتريه لجويس منصور، يعود لحوالي سنة 1960، بعدسة المصورة جيل إرمان (من مواليد 1928).
2- صورة فوتوغرافية لجويس منصور وأندري برطون وهما يتجولان في باريس، 1962 .
3، 4، 5، 6، 7  متوالية من الرسومات المحفورة علي المعدن للتشكيلي البلجيكي بيير ألشنسكي، كنمنمات لديوان جويس "مربع أبيض" 1965


رذائـل الرجال مـلعـبـي
جويس منصور
ترجمة: جمانة حدّاد

هذه الملكة ذات القامة الفرعونية، هذه الساحرة نظرتُها، المأهولة راحة يدها بالغابات والعصافير، كيف كان يمكن ألا أحبّها وهي من جنس النساء اللواتي لا جنس لهنّ ولا شاطئ؟ كم سكنتني وسكنتُها منذ ولادتها في انكلترا عام 1928 إلى حين رحيلها عن 58 عاما، بعدما رافَقَتْ قطّّاع الطرق السورياليين في حرائق اللاوعي والحلم والحرية ! وكم جبتُ معها أزقة باريس ودكاكينها الصغيرة بحثا عن الغرائب لمجموعة صديقها اندره بروتون- المجموعة نفسها التي أريقت كنوزها العام الماضي بالمزاد العلني- وكم نزلنا يدا في يد إلى الجحيم وعدنا بغنائم وفرائس ودروب لا يفهمها سوى الملعونين الأنقياء!
هذه اللبوءة السمراء المأهولة راحةُ يدها بالغابات والعصافير، لا تقرأوها، لا تقربوها إن لم تكونوا مستعدين لجنونها الجميل. فأولئك الذين يدخلون قصيدتها الشرسة، ويلسعهم إيروسها الدموي، لن يعودوا كما كانوا. أمّا أولئك الذين يلبّون نداء شجرة تفاحها، فسوف يطردون من الجنّة مرتين: مرّة لأنهم عرفوا، ومرّة ثانية لأنهم عرفوا.
هذه الملكة الحالكة، المشرقة علينا من أرض النيل، استحقوها.
ج. ح.

*****

ليستفزّكَ نهداي.
هكذا أريدكَ:
غاضباً.
أريد أن أرى عينيك تتخثّران
ووجنتيك تتجوّفان حتى البياض.
أريد رعشاتك:
فانفجرْ بين فخذيّ
ولتُستَجَب رغباتي على الأرض الخصبة لجسدكَ الداعر.

* * *

دعني أحبّكَ.
أعشق طعم دمكَ الثخين
طويلا أحفظه في فمي البلا أسنان
كي يحرق وهجه حلقي.
أعشق عَرَقك.
أعشق ملامسة إبطيك
الراشحتين غبطةً.
دعني أحبّكَ
دعني ألعق عينيك المغمضتين
دعني أفقأهما بلساني المسنّن
وأملأ محجريهما بلعابي الظافر.
دعني أعميك.

* * *

مكائد يديكَ العمياء
على نهديّ المرتجفين،
الحركات البطيئة للسانكَ المشلول
داخل أذنيّ المثيرتين للشفقة،
جمالي كلّه غارقاً في عينيك البلا بؤبؤين،

والموت في أحشائك ملتهماً دماغي:
هذا كلّه يجعل منّي صبيّة في غاية الغرابة.

* * *

رذائل الرجال
ملعبي
وجروحهم أقراص حلوى لذيذة.
أحبّ أن أعلك أفكارهم الدنيئة:
بشاعتها تصنع جمالي.

* * *

إنساني.
لتتنفّس أحشائي هواء غيابكَ النظيف
لتسر قدماي من دون أن تبحثا عن ظلّك
لتصبح رؤيتي الرؤيا
ولتستعد حياتي أنفاسها.
إنساني يا ربّ
إنساني لكي أتذكّر.

* * *

سوف أسبح إليكَ
عبر فضاءاتٍ عميقة
بلا حدود
حامضة مثل برعم وردة
وسأجدك أيها الرجل الجامح
نحيلاً ومغموراً بالأوساخ
يا قدّيس الساعات الأخيرة
وستجعل مني سريركَ وخبزكَ
وقُدسكَ
ويوم يغلبني الصمت
سوف أكتب بيديّ الاثنتين
سأتقدم بركبتين مشدودتين
بنهديّ الطافحين
وبصدري المريض من فرط الصمت المكبوت
ويوم يغلبني الموت
سوف أصرخ بكل قواي
كي لا أقع حين تتكهنني يداكَ
عارية في الأرض الحارقة
سوف أخنق نفسي بيديّ هاتين
حين يلعقني ظلّك
ممزّقةً في قبري حيث تلمع نباتات الفطر
وسوف ألملم نفسي بيديّ هاتين
كي لا أقطر في صمت المغارة
كي لا أكون عبدة حبي الفائق الحدّ
وستستكين روحي
عارية في جسدي اللذيذ.


 أول سيرة حول الشاعرة المصرية الفرانكوفونية الكبيرة
حياة جويس منصور وأعمالها في دراسة تحليلية ثاقبة
أنطوان جوكي

وأخيراً سيرة حول الشاعرة المصرية السريالية جويس منصور، هي عبارة عن دراسة تحليلية ثاقبة تقع في كتاب ضخم صدر حديثاً لدى دار جان ميشال بلاس الباريسية ووضعته الباحثة الفرنسية الشابة ماري لور ميسير بعدما فُتنت بشعر جويس وشخصيتها الفريدة. والكتاب هو ثمرة ثماني سنوات من العمل الدؤوب على أرشيف الشاعرة الذي بقي على حاله منذ وفاتها عام 1986 ويتضمن مئات الرسائل من أبرز الوجوه الشعرية والفنية الغربية، إلى جانب مخطوطاتها وعدد مهم من القصائد والنصوص غير المنشورة والقصاصات الصحافية التي تتناول مسار الشاعرة وإنتاجها الغزير. سيرة مثيرة إذاً تكشف تفاصيل حياة جويس المشوّقة والدور المهم الذي لعبته داخل الحركة السريالية في باريس، وتبدد الإشاعات الكثيرة حولها التي لا تزال رائجة إلى حد اليوم إن في فرنسا أو في عالمنا العربي. وللاستفسار حول ظروف ولادة هذه السيرة ومضمونها، ارتأينا مقابلة ماري لور ميسير، فكان لنا معها هذا الحوار:

إنكِ الشخص الأول الذي عمل على أرشيف جويس منصور. ما الذي سحرك لدى هذه الشاعرة في البداية كي تقومي بجهدٍ دام سنوات طويلة؟ وأين أنتِ اليوم من انفعالاتك الأولى؟

ـ في البداية، قرأتُ كثيراً الأدباء السرياليين لشعوري بأن كتابات بروتون وديسنوس وكروفِل وبعض نصوص إلويار وأراغون لا تنتمي فقط إلى ميدان الأدب أو الفلسفة بل تشكّل حقلاً مفتوحاً على "طريقة سَير الفكر الحقيقية". كما أن القيم التي دافع عنها هؤلاء الشعراء والتي قادتهم إلى إعادة تقييم الحياة والمعرفة، هي الأقرب إلى قناعاتي. وكانت جويس منصور آنذاك مجهولة بالنسبة إليّ وإلى كثيرين غيري. فكتاباتها كانت غير متوفّرة حتى عام 1991، حين جمعت دار "أكت سود" الفرنسية مجموعة كبيرة من قصائدها وحكاياتها في مجلد ضخم استُهلكت نسخه بسرعة. وفي حزيران 1995، وقع هذا المجلد في يدي فقلب حياتي. وقد قرأته مرّات عديدة كي أتمكن من استيعاب الصدمة الأولى وفهم أسبابها. وأكثر ما هزّني فيه هو العنف المذهل لمضمونه ورؤية جويس للإنسان التي تتجلى بلا تجميل أو تمويه. كثيرون تكلموا عن الموت والألم واليأس لدى جويس متجاهلين أن جهدها الكتابي يجمّل هذه الرؤية ويخفف من قسوتها. ففي نصوصها، لا نعثر على أي تكلّف لغوي. تكتب لغة فجّة ومباشرة بدون التواطؤ مع ما هو سقيم، يساعدها على ذلك حسّها الفكاهي الطبيعي، الأسود غالباً. لكن كتابات جويس ليست سوداوية الطابع دائماً. إذ يمكننا أن نقول انها شاعرة غنائية ولكن بدون أي توق إلى مثالية ما، تعبّر عن الإحساس والرغبة وجمال الأجساد أو بشاعتها، إلى جانب طريقة تكلمّها عن الحب الفريدة فعلاً من نوعها. إذاً، ما شدّني إليها في البداية هو فرادة صوتها والعنف والثورة المطلقة التي تعبّر عنهما. واليوم، حين أقرأ جويس من جديد، أتأثر دائماً بعفويتها. لكن اطلاعي العميق على سيرتها غيّر طبيعة قراءتي لها، فكتابتها هي أيضاً نوع من السيرة الذاتية.

امرأة عفيفة

جويس كانت امرأة عفيفة قلما باحت بأسرارها وتهرّبت دائماً من الأسئلة الشخصية. كيف تخطّيتِ هذه الصعوبة؟ وبين جويس وأسطورتها، أين تقع هذه السيرة؟

ـ صحيح أن جويس لم تكتب مذكراتها بمعنى السيرة الكلاسيكية. والطريف هو أنها كانت تضيّع محاورها عمداً حين يجرأ على طرح سؤال شخصي عليها. إذاً، في حال اعتمادنا على هذه المعطيات الخاطئة، لن نصل إلى شيء. أضف إلى ذلك الإشاعات التي كانت تدور حولها. فجمالها دفع بالبعض إلى افتراض علاقات غرامية كثيرة لها. كما أن الصحافة التي تعنى بأخبار المشاهير ساهمت في هذه البلبلة عبر تقديم صورة مشوّهة عنها كبرجوازية شاذة وغريبة الأطوار. وللتخلص من هذه الآثار الخاطئة اعتمدتُ على قراءتها بشكل دقيق ومعمّق نظراً إلى تجلي شخصيتها وحياتها بشكل بديهي في نصوصها. ولعل هذه البداهة والصراحة هما اللتان دفعتا بالبعض إلى عدم أخذ مضمون كتاباتها على محمل الجد. فأقوالها كانت صادمة لدرجة وُضعت فيه في خانة التحريض المجاني. لكن الحقيقة هي أن كل شعرها هو تعبير شخصي أصيل لم يُشكك به إطلاقاً جميع الذين عرفوها عن قرب. وإلى جانب تسلسل وقائع حياتها الذي ننتظره من هذه السيرة، قمتُ بتفكيك الرموز الكثيرة الموجودة في نصوصها والتي تتعلق بسيرتها، وبقراءة دقيقة لقصائدها، مما سمح لي بإثبات أن الشاعرة لم تكن ذات شخصية مزدوجة وأنه لا تناقض بين ثورتها ومشاركتها في الحركة السريالية من جهة، وانتمائها الاجتماعي وأناقتها، من جهة أخرى.

عملتِ سنوات طويلة على أرشيف الشاعرة. في أية حالة وجدتِ هذا الأرشيف وإلى أي درجة ساعدك على وضع هذه السيرة؟

ـ يُشكّل أرشيف جويس أحد مصادري الرئيسية، كما أني انطلقتُ في هذا البحث بسببه. في البداية، لم يكن لدي نية في وضع كتاب حول هذا الموضوع. لكني فُتنتُ بأعمال جويس إلى درجة رغبتُ فيها بالتكلّم عنها. وأفضل طريقة هي كتابة مقالة صغيرة حولها. لكني شعرتُ بالحاجة الى معرفة المزيد عنها. فطرقتُ باب زوجها، سمير منصور، الذي أجاب عن أسئلتي بلطف وحرارة وحدّثني عن أرشيف جويس المهمل منذ وفاتها وعن رغبته في ترتيب هذا الأرشيف. فقبلتُ هذه المهمة على الفور وبدأتُ العمل مباشرة. وكان الأرشيف في حالة من فوضى مخيفة. إذ كانت الشاعرة تكتفي بتكديس مراسلاتها ومخطوطاتها ومقتطفاتها الصحافية في علب سيغار "مونتي كريستو" التي كانت تدخنه في جميع المناسبات. وقد بدأتُ بوضع جردة بمحتويات هذا الأرشيف قبل الشروع في ترتيبه. ومن بين آلاف الوثائق، عثرتُ على رسائل من أندريه بروتون وجورج حنين وهنري ميشو وجميع أصدقائها الآخرين. استقيتُ معظم معلوماتي إذاً من هذا الأرشيف الذي سمح لي أيضاً بوضع حد نهائي لعدد من الإشاعات التي كانت تدور حولها. إذ لم أعثر على أثر لما كان يُنسب إليها، مثل مسألة أن بروتون هو الذي كتب بعضاً من نصوصها، أو مسألة غرامه بها التي لا صحة لها وفقاً للرسائل الستين التي كتبها إليها. إذاً هذا الأرشيف هو بشكل ما الضمانة لموضوعية نصّي. وبموازاته، قمتُ طبعاً بسلسلة لقاءات مع أصدقاء جويس الذين ما زالوا على قيد الحياة.

تقولين في كتابك: "الأعمال الشعرية ليست المادة الوحيدة التي تشهد على صاحبها. فتاريخ الحركة السريالية حتى نهايته الرسمية هو أيضاً تاريخ جويس". ألم تحاولي في هذه السيرة تبديد إشاعات أخرى جعلت من جويس مجرد ملهمة لأفراد هذه الحركة، مبينة بالعكس دورها الرائد بعد الحرب العالمية الثانية؟

ـ بالفعل مصدري الثالث هو تاريخ الحركة السريالية بعد الحرب العالمية الثانية. لم يكن الأمر سهلاً لأن تاريخ هذه الحقبة محجوب والدراسات الجدية حولها قليلة جداً. ولكن حين نتوقف عند جميع الإصدارات السريالية من مجلات وكاتالوغات المعارض، وعند شهادات الناشطين السرياليين، نلاحظ أهمية جويس ودورها الطليعي. نعم، لم تكن جويس مجرد ملهمة بل كانت، باعتراف جميع السرياليين، أبرز صوت شعري داخل الحركة بين عامَي 1953 و1966.

على المستوى الشعري، ألم تلعب وفاة والدتها وهي في الخامسة عشرة، ثم وفاة زوجها الأول وهي في الواحدة والعشرين، دوراً رئيسياً في بلورة النبرة والعنف اللذين ستعتمدهما في كتاباتها؟

ـ طبعاً. فعلى أثر هاتين المأساتين بدأت بالكتابة. الشعر، بالنسبة إلى جويس، هو قبل أي شيء وسيلة تعزيمية. تشرح ذلك بنفسها في إحدى المقابلات معها التي أعدتُ نشرها في نهاية السيرة. الكتابة هي وسيلة للتحرر من ألم لا يطاق. وبالفعل، يعبر هذا الألم جميع أعمالها كموجة صادمة. فنصوصها الأولى هي عبارة عن صرخات قصيرة لاذعة وأحياناً مُهينة. وقد جمعت هذه النصوص في ديوان يحمل عنواناً معبّراً: "صراخ". فيما بعد، تحوّلت قصائدها إلى نوع من الصلوات المؤلمة. وعند نهاية حياتها، حين علمت أنها مصابة بداء السرطان، برزت قصائدها على شكل أنين يأس. إذاً، يبرر الموت الذي أصابها بعمق ولم تقبل به أبداً، العنف والغضب المدويين في نصوصها. ولأنها عرفت الموت باكراً وبشكل شخصي، تحلّت بوعي مؤلم مدّ كتاباتها بهذا الكم من العنف.

لغة جديدة

سيدفعها حبّها لسمير منصور ثم زواجها منه إلى اعتماد اللغة الفرنسية في كتابتها. وبفضله ستلتقي جويس بماريا كافاديا ومن خلالها بجورج حنين. إلى أي درجة كان لقاؤها مع هذا الشاعر حاسماً على مستوى توجهها الشعري؟ وماذا يمكننا أن نقول عن السنوات الثماني التي أمضتها جويس داخل نخبة فرانكوفونية مثيرة؟

ـ بدأت جويس الكتابة باللغة الإنكليزية قبل أن تنتقل إلى اللغة الفرنسية بفضل زوجها، الأمر الذي ساعدها على التعبير عن هواجسها. فحين نستخدم لغة جديدة، تبدو الكلمات أقل عدائية في المرحلة الأولى. وقد ساهم هذا الأمر في منح قصائدها شكلاً سهل البلوغ بالنسبة إلى الآخرين. ففي لغتها الأم، لم تكن تكتب إلا نوعاً من الشتائم لتحرر غضبها بشكل مباشر. وانتقالها إلى لغة أخرى خفف من حدة فكرها ودفعها إلى اللعب بالكلمات وإلى اختبار تناغمات جديدة. ولم يكن لديها آنذاك أي مشروع كتابي محدد. وحين بدأت بمعاشرة جورج حنين والنخبة المصرية الفرانكوفونية وبعض الكتّاب الفرنسيين المارّين في القاهرة، اكتشفت عدداً من الشعراء وتأثرت بهم. وخلال هذه الفترة بدأت بقراءة السرياليين وبكتابة القصائد. وجورج حنين هو أول من شجّعها على النشر. المعلومات حول هذا الموضوع قليلة جداً لأن الأمر يتعلّق بلقاءات وحوارات لا تترك أثراً. لكن الأكيد هو أن مضمون كتابات جويس سَحَر حنين، كما تشهد عليه مقالته الصادرة عام 1954 في مجلة "البورصة المصرية". هذه السنوات إذاً كانت مهمة في توجه جويس نحو الشعر. فقبل أن تستقر في باريس، كانت قد بدأت بمراسلة أندريه بيار دو مانديارغ وأندريه بروتون وجورج هونيي...

وُلد شعر جويس مسلحاً بجميع الصفات التي رفعها السرياليون. وفي حال أضفنا إلى ذلك سحر شخصيتها الغريبة، لا نتعجب أمام سرعة انخراطها داخل الحركة السريالية فور وصولها إلى باريس عام 1956، خصوصاً أن هذه الحركة كانت ترغب آنذاك في إثبات ديناميكيتها وتجهد للعثور على نفس جديد. من هذا الكلام، نعرف ما قدّمته جويس للحركة السريالية. ولكن ما كان فضل هذه الحركة على جويس وكتابتها؟

ـ لو لم تتعرّف جويس الى السريالية قبل وصولها إلى باريس وبعده لما اهتمت في نشر ما كانت تكتبه على الإطلاق. لماذا؟ لأنه علينا أن لا ننسى أنها كانت تعيش في محيط اجتماعي له قوانينه وضغوطاته. وبالتالي، لم يكن ممكناً أن تقول ما كانت تقوله بهذه الحرية. لكنها ستجد في السريالية وفي الفكر السريالي تأكيداً على حدسها الشعري الخاص. وسيشجعها ذلك على المثابرة ويمنحها شرعية بنظرها. والسريالية هي حركة أو ديناميكية تطال استكشافاتها ميادين عديدة: الفنون الحديثة والبدائية، الإثنولوجيا، الباطنية، الإيروسية، الصدفة، الحلم... وستلتزم جويس بعمق ونشاط هذه السُبُل. لكن، كما تقول بنفسها: "لا يمكن اصطناع السريالية. الشاعر السريالي هو سريالي بالطبع". إذاً، لن تصبح جويس شخصاً آخر، كما لن تتقيّد كتابتها بقانون سريالي للكتابة غير موجود أصلاً، بل ستعيش سريالية ملء ذاتها. باختصار، سمحت السريالية لها بأن تكون ما كانت عليه قبل أن تتعرّف الى السرياليين الباريسيين.

وُضعت كتابات جويس غالباً تحت شعار الإيروسية المجنّحة. ألم تحاول الشاعرة من خلال هذه الإيروسية اعتماد الهدم الاجتماعي؟

ـ إيروسية جويس ليست على الإطلاق وسيلة للهدم الاجتماعي. إنها قراءة ماركسية ونسوانية رفضتها الشاعرة. هدف جويس الحقيقي هو تأكيد الرغبة ولكن أيضاً صعوبة الرغبة. فبالنسبة إليها، الرغبة ليست مجردة وإنما هي الجوهر بذاته. وهذا موقف بروتون أيضاً الذي يؤكد في نص "الاعتراف المحتقِر" بأن الرغبة هي "التحدي الوحيد بوجه العالم". ولكن بخلاف السرياليين الآخرين الذين يقعون في مثالية حين يتعلق الأمر بالحب، تستخدم جويس لغة بلا تجميل تمنح صوتاً للبربرية السليمة الخاصة بالحب والإحساس واللذة والعذاب العاطفي. الرغبة الإيروسية هي أداة تسمح بإعادة تقييم علاقات الذات مع العالم. وهي أيضاً القوة الكبيرة التي تدفع الإنسان أبعد من حدوده المعترف بها اجتماعياً. جويس تحلم "برغبة لا حدود لها". وهذا الأمر هو نقيض الإباحية. إذ لم تهتم الشاعرة إطلاقاً بالمجون، كما أنها لم ترفّع الأجساد عبر تجميلها بصور زاهية. بدلاً من الجماع، ترغب الشاعرة في تمثيل الإحساس واللذة والألم العاطفي بواسطة صور ملموسة ولكن غير وصفية. قوة الشعر والصورة الشعرية هي بالتحديد في قول ما نشعر به بدقة ووفاء ولكن بدون استخدام اللغة الشائعة والمستهلكة.

يمنحنا نشاط جويس الغزير والمتنوع الذي نجد آثاره في مختلف المطبوعات السريالية فكرة واضحة عن الاحترام الذي كان يكنّه لها بروتون وباقي السرياليين. إذ كتبت الشعر والنثر والحكايات القصيرة والنقد الفني وخلقت منحوتات سمّتها "الأشياء الشريرة". برأيك، في أي من هذه المجالات تميّزت جويس عن رفاق دربها؟

ـ ابتكرت الشاعرة منحوتات بواسطة مسامير وكريات وعلب أقل ما يمكن أن يقال عنها هي أنها مذهلة ومقلقة لا سابق لها داخل الحركة السريالية وخارجها. لكنها لم تثابر في هذا النشاط. كانت تأسف لعدم امتلاكها الإمكانيات التي يتميّز الفنانون بها، ولهذا حصرت جهدها بميدان الشعر. فحتى في حكاياتها ونصوصها النقدية الفنية مارست كتابة شعرية بعيدة كل البعد عن الترتيب العقلاني المألوف في هذا النوع من الكتابات. وهذه ميزة سريالية.

في هذه السيرة، تكشفين عن البعد الإنساني العميق في شخصية جويس الذي يتجلى من خلال جهدها الدؤوب في مصالحة رفاقها داخل الحركة السريالية...

ـ نعم، تميّزت جويس بحبها للمرح والفكاهة وبكرهها للصراعات والمشاكل. ولهذا بقيت بعيدة عن النزاعات الكثيرة بين السرياليين إلا حين كانت قادرة على وضع حد لها. فمنزلها الذي كانت تستقبل فيه الأصدقاء شكّل منطقة محايدة كان يلتقي فيها المتنازعون، مثل بروتون وجوفروا أو الفنانان ماتا وفيكتور براونر. كما كانت جويس الرابط الوحيد بين أفراد الحركة السريالية وأولئك الذين بقوا على هامشها، مثل هنري ميشو وجوليان غراك وكثيرين غيرهم. وبفضل حسها الفكاهي المدهش، كانت تعرف كيف تبدد الارتياب بين أصدقائها.

إلى جانب ميلها إلى العمل الجماعي، حتى بعد وفاة بروتون عام 1968 وانحلال الحركة السريالية، تشيرين إلى قدرتها على الثورة على الرغم من أصولها الارستقراطية...

ـ تميّزت جويس بحس ثوري عميق دفعها أحياناً إلى حد النشاط التخريبي، مثل ركل الرسام سيكويروس خلال المؤتمر الثقافي الشهير الذي انعقد في كوبا عام 1968، بسبب مشاركته في محاولة لاغتيال تروتسكي. لكن هذه الثورة لا يمكن وضعها في سياق فكر سياسي منظّم. إذ كانت ترفض الشاعرة هذا النوع من الالتزام.

بعد انحلال الحركة السريالية عام 1969، انفتحت جويس على الخارج وتغذت كتابتها بشكل أساسي من علاقاتها الكثيرة مع الفنانين. أليس في ذلك حنين للعمل الجماعي الذي اختبرته سابقاً؟

ـ نعم. خلال المرحلة السريالية وبعدها، تعاونت جويس مع أكبر الفنانين الذين شكّلت أعمالهم عناصر إثارة لشعرها الذي سيتجدد بانفتاحه على عوالم مختلفة وُلدت تحت ريشة بيار أليشنسكي، جورجي كاماشو، ويلفريدو لام، هنري ميشو، ماكس سفانبرغ أو هانز بلمر. لكن انطلاقاً من عام 1970، انحصر نشاطها في مجال الفن فمارست كتابة شعرية خاصة لا تتوق إلى الإمساك بمعطيات اللوحة أو بسيرة الفنان. إذ ستبتكر لغة فريدة دعا إليها بروتون ووصفها على النحو التالي: "قصيدة جويس تعبر إلى ما وراء السطوح الملوّنة".


كتاب جديد عن امرأة وشاعرة تدعى "جويس منصور"
حديقة هذيان في القرن العشرين
شوقي نجم

"جمالها دفع بالبعض إلى افتراض علاقات غرامية كثيرة لها. كما أن الصحافة التي تعنى بأخبار المشاهير ساهمت في هذه البلبلة عبر تقديم صورة مشوّهة عنها كبورجوازية شاذة وغريبة الأطوار. للتخلص من هذه الآثار الخاطئة اعتمدتُ على قراءتها بشكل دقيق ومعمّق نظراً إلى تجلي شخصيتها وحياتها بشكل بديهي في نصوصها. ولعل هذه البداهة والصراحة هما اللتان دفعتا بالبعض إلى عدم أخذ مضمون كتاباتها على محمل الجد. فأقوالها كانت صادمة الى درجة وُضعت في خانة التحريض المجاني. لكن الحقيقة أن كل شعرها تعبير شخصي أصيل لم يشكّك فيه إطلاقاً جميع الذين عرفوها عن قرب": هذا ما قالته الباحثة الفرنسية ماري لور ميسير، في حديث معها، عن الشاعرة المصرية جويس منصور، لدى نشرها كتاباً عنها بالفرنسية، عنوانه  "جويس منصور: آنسة غريبة"، عن دار "جان ميشال بلاس". هذه الصورة التي تسعى الباحثة عبرها الى تشكيل الملامح الحقيقية لجويس منصور، إنما تغاير بعض السائد الذي عرفناه عن الشاعرة. ليس من يقين يحمل القارىء على الجزم بأن جويس منصور شاعرة بنصها فحسب أو بنصها وحياتها معاً، فأي صورة للشاعرة نستنبطها من شعرها وقد وسمت بـ"الاشياء الشريرة"، باعتراف جميع السورياليين؟

ذات مرة، هي نفسها وصفت إنجازها الشعري بالعبارة الاتية: "كل هذا يجعل مني آنسة غريبة". هذه الآنسة الغريبة، جويس منصور، الملهمة، المنغمسة شعرا وحياة، في خلايا الوجود، وباطن الإحساس، كل شيء في شعرها مسموح وممكن: لا حدود في الرغبات ولا محظور في الكلمات. فهل غرابتها انها كانت تمارس التضليل في مقابلاتها، فتقول اشياء غير صحيحة عن نفسها، أو أنها تمارس اللعب من خلال الكتابة الشعرية اولا، وتمزج ثانيا الحلم بالواقع؟!
شاعرة عربية من اصول يهودية، هي شأن الكثير من الشعراء الذين عاشوا منفى اللغة. يفتخر بعض الكتاب العرب بأنها يهودية ولم تهاجر الى اسرائيل، ولم تعمل في السياسة. كانت تعكس في شخصيتها وأدبها واقع الكوزموبوليتية الثقافية في مصر وخصوصا في الإسكندرية حيث كانت تعيش جاليات كثيرة، وبرز فيها شعراء عرب، كتبوا قصيدة النثر بالفرنسية، لكن الواقع الايديولوجي في الزمن الناصري غفلهم، وجعل المتن لكليشيهات "القومجية".
المرأة الشاعرة، المتشبثة باللعنات، ورفيقة السرطان في آخر حياتها. رغم انها اتقنت اللغة الإنكليزية بحكم ترددها الدائم على بريطانيا، فقد التحقت بإحدى المدارس الفرنسية في القاهرة،  باعتبار ان الفرنسية تمثل انعكاسا للرقي الاجتماعي اكثر من الانكليزية في تلك الحقبة. قبل وداعها العقد الثاني من عمرها، كانت بطلة مصر في سباق المئة متر والقفز العالي. اثناء ممارستها هواية الرياضة، تعرفت الى الشاب الوسيم هنري نجار فتزوجته في ايار 1947، لكنه لم يلبث ان توفى في العام نفسه: "توفي رجل تحت عجلات طفولتي"، قالت جويس منصور عن هذه الحادثة. سيكون الشعر بالنسبة اليها وسيلة تعزيمية، والكتابة أداة للتحرر من ألم لا يطاق. بالفعل، فإن هذا الالم عبر جميع اعمالها كموجة صادمة. نصوصها الاولى صرخات، في ما بعد تحولت قصائدها نوعا من الصلوات المؤلمة. وعشية أفولها، صارت قصائدها على شكل أنين ويأس، حين علمت انها مصابة بداء السرطان.

أجمل ما قرأت
عام 1948 تعرفت جويس منصور الى سمير منصور الذي تزوجته وجعلها تتقن اللغة الفرنسية، وفي العام نفسه تعرفت الى جورج حنين، الشاعر السوريالي الذي تأثر باندره بروتون، في منزل الشاعرة ماريا كفاديا.
تمتعت جويس منصور بقدر من الجمال قل ان تمتعت به امرأة في عصرها. كثر ممن عرفوها أكدوا ان لا اختلاف بين أناقتها امرأةً، واناقتها شعراً. هذا الجمال كان ايضا مفتاحا لدخولها الى عالم واسع ورحب، اختلط فيه الخلق والثقافة العميقة.
عام 1953، صدر ديوانها الاول، "صرخات"، في باريس، وعلّق بروتون على شعرها بأنه من اجمل ما قرأ في حياته، وطلب لقاء الشاعرة، وراح يعبر عن دهشته لجمالها الفرعوني حين التقاها: "انت اول امرأة تمكنت ان تكتب عملا غريبا كشف عن كل مكنون صدرها".
في العام 1954 نشرت جويس منصور ديوانها الثاني، "تمزقات"، فكتب اليها بروتون يقول: "احب سيدتي، عطر قصائدك الزهري الاسود، الاسود جدا". وكانت الشاعرة ارسلت اليه نسخة من هذا الديوان مرفقة بكلمة تعبر فيها عن احترامها له. منذ ذلك الحين اصبحت جويس وزوجها صديقين حميمين لـ"بابا السوريالية" الذي كان لا يخفي ان المرأة هي ملهمته في كل اشعاره. وانتقل هذا الإلهام الى أكثر الشعراء والرسامين السورياليين الذي اعجبوا بجويس منصور، شاعرة وامرأة جميلة. فراحت تنشر قصائدها في كتالوغات معارض بعض الرسامين مثل الفنان الكندي جان بنوا والاسباني ماتا. ثم كتب بروتون عنها قائلا انها "حديقة هذيان هذا القرن". وكتب لها غاستون باشلار: "تعرف قصائدك الصرخات الجوهرية، الصرخات التي تقول الانفعال داخل دوامته".
في نهاية عام 1955، صدر ديوانها "يوليوس قيصر". وكتب باشلار في هذه المناسبة: "لا بد ان الحبر يغلي في محبرتك". والتقت منصور الرسام السوريالي بيار مولينيي الذي حقق بورتريه رائعا لها. عام 1958 صدر ديوانها "الراضون برقادهم". بين عامي 1960 و1965، واظبت جويس منصور على حضور اجتماعات السورياليين اليومية، الى جانب مرافقتها بروتون بانتظام الى سوق الخردة وصالات العرض. خلال تلك الفترة نشرت الكثير من القصائد والنصوص في مجلات عدة، وصدر ديوانها "المربع الابيض".

الوعي المسطور
لدى وفاة بروتون عام 1966، قالت جويس منصور: "غيّر بروتون حياة جميع الذين عرفوه، ورؤيتهم. كان طائر الايام الجميلة الكبير والقرمزي. جميع الذين اقتربوا منه يعرفون اليوم انهم ابداً، خارج حضوره، لن يعثروا على هذه النوعية من الهواء".
كانت جويس منصور تكتب بلغة تسطّر الوعي البشري كالسرطان، وتصب جهدها لمصالحة رفاقها داخل الحركة السوريالية، وقد تميزت بحبها للفكاهة وكرهها للصراعات والمشكلات والغيرة. بقيت بعيدة عن النزاعات الكثيرة في أوساط السورياليين الا حين كانت قادرة على وضع حد لها. منزلها الذي كانت تستقبل فيه الاصدقاء، شكل منطقة محايدة كان يلتقي فيه المتنازعون، مثل بروتون والان جوفروا او الفنانين ماتا وفيكتور براونر، وهذا الأخير ابتدع مفهوم الواقعية النفسية في الرسم. وكانت الرابط الوحيد بين افراد الحركة السوريالية واولئك الذين بقوا على هامشها، مثل هنري ميشو وجوليان غراك وغيرهما. وبفضل حسها الفكاهي المدهش، كانت تعرف كيف تبدد الارتياب بين اصدقائها، فجمعت في شخصها صورة افتراضية عن شاعرة اللغة "العربية"، وامرأة الحياة المحتشمة.
بعد ايار 1968، ومن دون ان توقف نشاطاتها مع رفاقها السورياليين، تخلت جويس منصور عن مبدأ العمل الجماعي المنظم وتعدت المحيط السوريالي، مما فتح لها الطريق الى  مزيد من التعاون مع الرسامين، الذين شكلت اعمالهم عناصر اثارة لشعرها الذي تجدد بانفتاحه على عوالم مختلفة ولدت تحت ريشة خورخي ماشادو، هنري ميشو... لكن انطلاقا من عام 1970، انحصر نشاطها في مجال الفن فمارست كتابة شعرية خاصة لا تتوق الى الإمساك بمعطيات اللوحة بسيرة الفنان. وكانت ابتكرت منحوتات بواسطة مسامير وكريات اقل ما يمكن ان يقال عنها انها مذهلة ومقلقة لا سابق لها داخل الحركة السوريالية. لكنها لم تثابر على هذا النشاط لعدم امتلاكها الامكانات التي يتميز بها الفنانون، فحصرت جهدها بميدان الشعر.

الايروسية المجنحة
كتبت جويس منصور الشعر الايروسي العابق بالرغبات "المجنونة". الرغبة بالنسبة اليها ليست مجردة انما هي الجوهر ذاته، واداة تسمح بإعادة تقويم علاقات الذات مع العالم. حلمت برغبة لا حدود لها، وهذه نقيض الاباحية، ولم تهتم اطلاقا بالمجون، كما انها لم ترفع الاجساد عبر تجميلها بصور زاهية. بدلا من الجماع، رغبت في تمثيل الاحساس واللذة والالم العاطفي بواسطة صور ملموسة لكن غير وصفية. وفي ازاء هذا استخدمت لغة بلا تجميل، ومنحت صوتا للبربرية السليمة الخاصة بالحب والاحساس واللذة والعذاب العاطفي.
يشير مؤرخ الحركة السوريالية في مصر الفرنسي جان جاك لوتي الى ان علوم السحر والتنجيم والتصوف اليهودي تبدو مألوفة لدى الشاعرة، لافتاً الى عنفها الاستفزازي، اذ يجتمع الدم والعرق والدموع مع تيمات الحب والموت، الى سخرية سوداء، داخل كتابة اوتوماتيكية بامتياز. سمّت جويس منصور الاشياء باسمائها ووضعتها كما نراها في كوابيسنا: الحب والجنس والروائح الكريهة، والدم. انها شاعرة تنتشي بلغتها الشعرية الى حد اللذة، وتستقي الصور الإباحية الى حد الشراسة، وتغوص في الفحش الكلامي الى حد الاخلاق، على نسق عبارة "كل كفر تحته ايمان" التي قالها احد الصوفيين.
مرةً أخرى، كل شيء في شعرها مسموح وممكن، وكل شيء مستحيل. لا حدود للرغبات ولا محظور في الكلمات التي تجتمع فيها رائحة الموت، والدم، وحطام الأشياء، والحب والتصوف، والتنجيم، والعنف.
عبّرت جويس منصور عن رغباتها كما هي، ورغبت في تذويب الحبيب ليس من طريق اللمس او الشم والضم. كلماتها تفور الى درجة اسالة الدماء: "فتحت رأسك/ لاطلع على نياتك/ التهمت عينيك/ لأتذوق نظرتك/ شربت دمك/ لأتعرف الى رغباتك/ ومن جسدك المرتجف/ صنعت عزائي".
اذا تخطينا الرجل والحب والجنس، نرى هنا دائما طيف الموت حول شعرها، وهذا ليس فقط في اعمالها الاخيرة، بل حتى في اول دواوينها، وقد يتمثل بعجوز او برغبات ميتة. ربما هذا سبب حدسها السابق لمرضها، كأنها عرفت انها ستمرض وتموت: "انتظرني/ اكاد اشعر ان الزمن يفر/ من حيث تنام دموعي في فراش".
في قصائدها الاولى كانت تستعذب الحب، الا انها في قصائدها الاخيرة استعذبت الالم والمرض، فقد تحولت الاحلام الوردية والمشاعر الحسية التي ملأت ديوانها الاول تأوهات والماً، واختفت مشاعر الحب بشكل واضح. ففي آخر قصيدة كتبتها، نشرت قبل رحيلها:
"نحن لا نعيش مع الموتى، فهم ينزلقون فوق ملاءات النسيان
نحو ثقوب سوداء.
يسبحون ويرتعدون في رياح المساء
وتخوى عيونهم كأنها الحمام.
وتختنق أعضاؤهم
في وحل الذكريات".
الشعر عندها ملفوظ مثل الالم، يعاش مثل الرغبة. وهي تسكن في الشعر، والشعر يسكن فيها. وتنطبق عليها عبارة باسكال التي تقول: "ان العبقري شخص ممسوس او مسكون من الداخل بشيطان العبقرية".
وقد يستطيع أحدنا القول إنها هي الشيطان وعبقريته.

جويس منصور : لم أفكر بديانتي إلا بشكل بروتوكولي
(بريد السماء الافتراضي)
كتابة وحوار :أسعد الجبوري
جويس منصور كانت الفكرة في أول الأمر.. أن نهتدي إليها من خلال البحث في غوغل . فذلك يختصر الوقت ويحول دون اقتراف المزيد من الجهد والتعب.إلا إننا سرعان ما اكتشفنا بأن جميع برامج ((غوغل)) ليست بذات قيمة في أعالي السموات،لأن سكان تلك المناطق قد جردوا هناك من كافة أشكال التقنيات ،بسبب العيش بالفطرة ،والانقطاع عن عوالم التكنولوجيا والأدوات التابعة لها.ليس غير الراحة والقيلولة الأبدية التي قد لا يتوافق معها بشر كثيرون.
جويس منصور.شاعرة مصرية.ولدت عام 1928 وتوفيت عام1986.أصدرت كتباً عدة في الشعر:الأول ((صرخات)) عام 1953 ومروراً بديوان (( تمزقات))1955 و((يوليوس قيصر )) وانتهاءً بديوانها الرابع عشر ((ثقوب سوداء)) .
أين نجد تلك المرأة التي اختلط الشعر بها فصار لحم جسدها ،قبل أن يكون لحماً للكلمات وعلى الورق؟ كان في الذهن سربٌ من الأسئلة وهوس كثيف لمعرفة التأثير الشعري الذي سيطر على جويس،فأنتج منها شاعرة سريالية قلقة الابتكار وسريعة الأنين ،لا تنقح حرائقها الباطنية،لأنها سرعان ما تعايشت مع تلك النيران،فكانت بمثابة سرير لذكورية وأنوثية الحب الذي كان يتدفق في مجاري المرأة دون خوف أو تابو ،لأنها شاعرة محمومة بالخسائر وبالشذوذ وبزمن مفتوح كانت تتحرش بعقاربه على مر الأيام التي عاشتها شابة متوتر الأحاسيس وإلى شيخوختها التي استفردت بها في متاهة المرض.
ما أن وجدنا المرأة ممددة على سرير من الفراء الأبيض ،وهي ترتدي فستاناً من الموسلين الشفاف وتدخن الآرجيلة ،حتى رأينا طاووساً يهبط على مقربة من السرير،وجناحاه أشبه بسبورتين تملأهما الأشعار.
أصبنا بالذهول.لكن ذلك لم يدم طويلاً.فقد نهضت جويس منصور مغادرة سرير الفراء ،عندما راحت تقرأ مما جاء به الطير على حشد من مخلوقات غريبة الأشكال،تلك الكائنات التي تجمعت أمامها فجأة من أجل الاستماع لصوتها.
لم يطل أمد تلك الأمسية.فما أن انتهت جويس من القراءة واستقر ضغطها وجف على وجهها الألمُ دون أي حراك،حتى دخلنا في الحوار معها:
س/ ما الذي يجمع ما بين تربتين: انجلترا كمسقط رأس ،والإسكندرية التي ترعرعت فيها على ترابها في مصر؟
ج/قد لا يجمع ما بين المكان إلا مساحة شاسعة واحدة:هي اللذة .فالإسكندرية مكان أول لتفعيل الجسد بطاقة الحب.فيما كانت مانشستر البريطانية،ربما تربة لتربية نحل العقل فقط.
س/إلا تعتبري إن المكانين لاسعان.الأول بفعل زلزلة لذة الجسد،فيما الثانية لعقلنة تلك الزلازل ؟
ج/هذا مؤكد.لذا كان الصراع مدمراً ما بين التربتين.الأولى الجسدية التي هيأت للثانية فرصة أن تكون تربة لإنبات كل ما يتعلق بتلك المعارف الشيطانية التي تمشي بالجسد بعيداً عن البوار،ولا تحط من شأن العقل.
س/لا تحط من شأن العقل باعتباره حارساً للشهوات تقصدين؟
ج/هكذا دفعتُ بعقلي إلى أن يتمرن على أشياء كانت قاسية أو غير مستوطنة في المجتمع المصري آنذاك.
س/كأن ينظر العقلُ إلى الجسد على إنه ليس كتلة لحم مثلاً؟
ج/ هذا ما أردته فعلهُ بالضبط..فقد حاولت أن لا يكون جسدي تابعاً للمنظومة العقلية.
س/عبر خط فلسفي أم شعري؟
ج/لقد بلغتُ درجة مرموقة بالعمل على إذابة الفلسفة بالاكواريوم الشعري.كنت كمن ينحت في صخر ليستخرج من مياه يطلق عليها مراكبه بنشوة لا يبلغها سحر سوى سحر كتابة الشعر.
س/تحدثت عن مراكب تسبح في مياه تخرج من الصخر.وتحدث رامبو فيما مضى عن المركب السكران .ما الذي يميز مركبك عن مركب رامبو برأيك ؟
ج/ثمة فرق شاسع ما بين المركبين بالطبع.رامبو كان يستعمل الخمر وقوداً لمركبه.فيما كان مركبي يعمل بطاقة الحب.
س/ولكن الخمر والحب من فصيلة (أثنية) واحدة .إلا تعتقدين بذلك؟
ج/أنا معك.ولكن الحب هو خريطة طريق الخمر ومشتقاته.هكذا كان علىّ أن أدخر ذلك الإيمان القوي بمثل فكرة من ذلك القبيل.
س/إلا تعتقدين بأن الإيمان بفكرة محددة يُفسد الحياة الشعرية،لأنه يمنع التنوع من أن يأخذ مداه في مكونات الشاعر وتكوينه جسداً ولغةً ورؤى؟
ج/كما أظن،فلا عهد للشيطان بنمط فلسفي واحد موحد،لأنه سيد التبدلات،ولا يريد لنفسه أن يكون أسير نظرة ضيقة.أما أنا فقد حاولت أن أسد الفراغات بسوريالية كانت تحتاجني.
س/ومن أين أدركت جويس بأن السوريالة كانت تحتاجها؟!
ج/عندما شعرت بأن في جسدي تموجاً قد بدأ يبلغ مداه الناري ما بين اللحمي واللغوي.تأكدت من أن ذلك الطقس السريالي هو منْ يُسرع عمليات الانبعاث الحيوي للمخيلة،ولكنه أيضاً ، لا يحول دون التمتع حتى بكتابة الآثام،تلك التي تنظر إليها الشعوب على أساس قوانين التابو أو الخجل والحرام.
س/وهل للشعر أخلاق مختلفة عن بقية أخلاق المجتمعات مثلاً؟
ج/عندما يفكر الشاعر بالأخلاق وتوابع الأخلاق،ينتهي كما الصرصار على الرصيف.
س/اعتبرك الشاعر الفرنسي آلان بوسكي من «الركب الثالث» للحركة السوريالية.فهل كان ذلك بدافع تلافي الضمور الذي كانت تعاني منه الحركة السوريالية في نهاية الأربعينيات من القرن الماضي؟أم أن الأرتال السابقة نفذ وقودها برأيك؟
ج/كل الشعراء الذين عملوا على دمج السوريالية بالحياة الاجتماعية في أوروبا،سرعان ما واجهوا لحظات حرجة ومؤلمة،بسب رغبات الثورة السوريالية العارمة على إخضاع نصوص المجتمعات الكلاسيكية المحافظة والبدينة بالمعنى الأخلاقي لسلطتها المطلقة.كل شعراء السوريالية أرادوا التحكم بحنفية التأليف،عندما قاموا بمزج الشعر الكهربائي بمياه العامة ،فكانت قسوة المشهد باحتراق الأجساد والجسور والنصوص.
س/وهل كانت ((صرخات)) جويس منصور منقذاً من حالة التدهور السوريالي؟
ج/لا أظن ذلك.فكتابي الشعري ((صرخات)) كان تسجيلاً جريئاً لحالات الانبعاث الشهواني من جسد يقوى على البوح بما يلزم وبما لا يلزم.
س/لذلك لم يُكتب الديوان أو يطبع بالعربية إلا بعد الترجمة؟
ج/كنت خليطاً من الانكليزية والفرنسية والعربية داخل جسد فوّار ،لكنه متجانس بمختلف رياح الغرام التي لم تكف عن العصف الجميل به في باريس العاصمة المفتوحة.
س/هل كنت شيوعية؟
ج/في الباطن فقط. ربما لأنني حاولت أن أكفر عن وضعي الارستقراطي بمشاعر ماركسية تتداخل مع الشعر،لكن السوريالية ديانة أقوى من كل نظريات الصراع الطبقي،لذلك كانت ملاذي في الحب وفي الحرية وفي الكتابة وفي السباحة على خيوط البحر.
س/ألمْ يؤثر وضعك اللاهوتي كيهودية على مجمل حركتك كتابة وسلوكاً في مصر مثلاً؟
ج/لم أفكر بديانتي إلا بشكل بروتوكولي في أثناء المناسبات والحفلات العائلية.روحي كانت في مكان آخر. ربما لأنني اعتقدتُ وبشكل مبكر، بأن اللاهوت هو ما يتسبب باعتلال الشعر ويقضي على طموح الشاعر بأن يكون شيئاً فاعلاً وطرياً في حياة الشعوب.
س/ولكن هجرتك إلى باريس في بداية الثورة المصرية ،قد تمحو كل ما سبق وأن تحدثتي عنه؟
ج/ ربما كانت الهجرة بدواعي المخاوف الاقتصادية ليس غير. خافت العائلة أن تفقد تراتبيتها الأولى في الاقتصاد والبرجزة،ولذلك خشيت أن تذهب الثورة بما كانت ترفل به من ثراء ونعيم. لكن وجودي في مصر وأنا في ذالك الحال المالي المرفه،لم يمنعني من الالتقاء بكتّاب وشعراء شيوعيين وقوميين في مكتبة لطف الله سليمان. كنت مندمجة بطقوس الشعر والثقافة أكثر من أية طقوس أخرى.وقد يعرف ذلك عني الشاعر القبطي جورج حنين وآخرون من الوسط الثقافي.
س/ولكنك لم تكتبي بالعربية؟ فهل ثمة ما يمكن أن يكون سبباً عظيماً وراء ذلك؟
ج/الشاعرة المشغولة بالحب في العالم ،لا بد أن تكتب عن حرائقها الداخلية ،وتتحدث عن شهواتها بما يناسب حجم الحرائق التي عادة ما تلتهب بين صفائح اللحم الآدمي.وأنا كنت عارية على الدوام.بمعنى أنني لا أستطيع الدخول إلى الشعر بفستان أو ببيجاما أو بسوتيان أو بقميص.اللغة العربية لا تتحمل وضعاً ايروتيكاً مثل هذا ،وكذلك الأمر بالنسبة للمجتمع المصري.فهو شعوب تتحكم بها طقوس وعادات وتقاليد ،غالباً ما تعتبر شعراً مثل الذي كنت أكتبه شعراً ماجناً يستحق العقاب.
س/هل نفهم من هذا بأن إحجامك عن الكتابة بالعربية،هو نوع من الهروب من العقاب ؟
ج/يمكنك قول ذلك.فليس أفضل من فكرة الهرب بتلك الحرائق الايروتيكية إلى لغة أخرى ،تحصن الشخص من التعذيب والعقاب،وبالتالي ،لتجد نصوصي حريتها كاملة بالتنقل من جسدي إلى أجساد الآخرين ،حارةً وبلغة حمراء .
هلالُ الضباب
((نص للشاعرة))
مريضة، مريضة
على فراش موتي المتجدد أبداً
كذبابة على قطعة جبن بيضاء
أعلّل نفسي بفكرة أن عينيك سوف تبقيان بعدي
وأنهما سوف تعيدان مداعبة حيواناتنا المتضورة من الجوع
وأنهما سوف تعيدان رؤية شواطئنا
وأن شعور الصبايا في عمق الماء الأشهب
والتي تتمايل وتتبختر عند مرور الأسماك
سوف تبهر كالعادة حدقتيك المنتجتين للخمر
أفكر مبتسمةً في عينيك، في نظراتهما التي بلا وجهة
ولا فائض من الدموع
عينيك اللتين تهجعان هناك تحت غطائي كمدفأةٍ قديمة
كمشدٍّ
النهار يموت معلَّقاً بدبوس على الجدار
وأنا في فراشي
(لا تهتز على كرسيك)
قدماي مكعبان من الثلج لن يفلح أيُّ صوتٍ في كسرهما
ساقاي نسيتا قفزاتهما في المروج
وحده فمي يكابد لا يزال ويرتعد
ولكن من الذي يسمعُ صرخات لسانٍ عاجزٍ بشكلٍ فاتر
إلى الخارج تثيرُ الشمسُ شفقةَ غدير الماء الأخير
هناك في الحديقة حيث كنتُ أتمددُ طفلةً
جافلةً كحيوان رخوي ولكن محدودبة بالخديعة
وسعيدة أحياناً
عيناك تجتسان الأخبار
تتأبدان على أنفي راقصتين الفالس منزعجتين
عاجزتين عن الفهم
خطواتك المنسحبة بالفعل تبتعد على الحصباء
وهذا حسن
سأسقط كورقة
وحيدةً وقورةً ودون ماكياج
فمن المزعج أن يحتضر المرء بينما يريد الأقارب الكلام
والحشرجةُ العميقةُ ذاتها وقحةٌ غالباً.
2
أُحب جواربك التي تثبِّت ساقيكِ.
أُحب مشد خصركِ وردفيكِ الذي يسند جسمكِ المرتج
تجاعيدكِ، نهديكِ المتهدلين، شكلكِ الجائع
شيخوختكِ في مواجهة جسدي الفارع
فساتينكِ التي تنشر رائحة جسدكِ النتن.
ترجمة بشير السباعي عن الأصل الفرنسي
كل هذا يثأر لي أخيراً
من رجالٍ لم ينتظروا شيئاً مني.
س/ يكشف القارئ الحاذق بأن نصوص جويس تتضمن عن مثلية جنسية .ما رأيكِ ؟
ج/ كل الحركات الفنية والشعرية والأدبية من واقعية ودادائية وسريالية وتكعيبية وفطرية إنما تمثلُ أجساماً قابلة للتعدد الوظيفي في العمل الجنسي الشاذ،وبالتالي فأن ما تطرحه من نصوص ،ليس إلا نصوصاً مثلية .
فما من مؤلف أو شاعر –ذكراً أم أنثى- إلا ويملك رغبةً بتوريط أبطاله بمثلية ما من المثليات،سواء كانت جنسية أو سياسية أو أخلاقية أو اقتصادية أو فنية أو إيديولوجية.
س/هل لأن التجربة الفنية لا تبنى إلا على أساس إشكالي ؟
ج/بالضبط.فما من مفكر أو روائي أو فنان إلا ويبني نظريته على أساس أشكالي .فكل نص فارغ منذ ذلك الحطب،لا يتقدم على أرض الذهن البشري بوصة واحدة.
س/هل كان مقتل بعلك الأول (هنري نجار) عام 1947 الأثر الحاسم في ذلك التحول ،فقلت عنه تلك العبارة الغامضة : (( توفي رجل تحت عجلات طفولتي»؟
ج/لم أعد أتذكر الماضي بكل تفاصيله وشخوصه ونصوصه.قتل الوقت مهمة ،ربما مكنتني من المضي على الشعر بسرعة قصوى.الحديث عن الزوج ،يصبح أشبه بالحديث عن أولوية البيضة أم الدجاجة.ولكن النظرية في نهاية المطاف ،تنتهي بمشهد مرعب،كأن تكون آكلاً أو مأكولاً .فالبيضة والدجاجة ،كلاهما يذهبان إلى قائمة الطعام.
س/وهذا توكيد على حالة العالم السوريالية؟
ج/عندما تعرفت بنجوم السوريالية ومنهم أندره بريتون وجورج حنين ورمسيس يونان وفؤاد كامل في نهاية الثلاثينات ،لم نشعر آنذاك إلا بهضم الكون ،وكتابته بتجليات خارجة عن السياق العام .كنا آنذاك نحرث في حقل بركاني مشتعل،دون أن نحس بخطر الكتابة قرب تلك الحمم الملتهبة.لا أعرف كيف مضى ذلك الوقت هادئاً،ولكن ربما لأن شعراء السوريالية مخلوقات غير موالية للأضرار التي يتعرضون لها شخصياً،بقدر رؤيتهم الكلية للعالم ،وذلك بنسف نظامه القديم،وإعادة تشكيله من جديد.
س/ألهذا كتب عن الشاعر جورج حنين مجموعتك((صرخات)) تلك المقالة العارية:
«دون أي أدنى إعداد أدبي متأكدة من استخفافها تجاه المعايير الشعرية، أعطت جويس منصور لحدسها صوتاً نحن هنا في أجواء الكلمة التي تعد امتداداً للجسد من دون حلول تمكننا من المتابعة، لكل عضو من الجسد لغته كتدفق النسغ في النبتة كبركة دم»؟
ج/بالضبط. فالأغلبية اعتبرت كتابي الشعري ذاك بمثابة فضيحة ،لكوني ألبست الشعر المايوه الذي يبرز الجسد كقوة جنسية.لا أعرف مثيلاً لتلك الازدواجية.فناس المجتمعات العربية في غالبيتهم الساحقة، ثوار وشبقيون في التخوت أكثر من كونهم فرسان معرفة أو شيوخ دين بالمعنى الإيماني الصحيح.كلهم يسيرون اللاهوت كي يكون خادماً للشهوات ومحللاً لأفعالها بالزواج مثنى وثلاث ورباع.
ولكنهم يحاولون منع الشعر من أن يكون حاملاً لشهوة أو معبراً عن اللذة الكوزموبوليتية .
س/إذا كان صدور ديوانك الأول «صرخات» أواخر 1953 قد أحدث مثل تلك الضجة،فما تتوقعين أن يحدث لو تم نشره الآن ،خاصة بعد صعود الإخوان إلى عرش السلطة في مصر ؟
ج/قد يعتبرون كتاب (صرخات) من ضمن ملفات اتفاقية كمب ديفيد ،ولن يتم التحرش بي أو حرق كتابي .فهؤلاء لا ينظرون لجويس منصور كشاعرة سوريالية هاتكة لعرض العفة الأدبية،بل لكوني يهودية تفرض عليهم الحيطة والحذر والسكوت وربما الاحترام أيضاً.
س/ وصفك أندره بريتون بإطراء شديد عندما كتب عنك قائلاً: «أحب سيدتي عبق الأوركيد السوداء الفواحة من قصائدك...»فهل كان ذلك بفعل رابط عاطفي بينكما ، أم هي لغة المخيلة العابرة لخطوط السموات فقط؟
ج/مثلما كنت أشتهي بريتون،كنت خائفة من أن لا يكون مدمراً لجسدي.لم أؤمن بقوته كرجل يشق لي جلدي ويعبر إلى ما بين طبقات اللحم،حيث توجد مخلوقات الايروتيكا المتضورة . كان بريتون ناعماً إلى درجة تستفز.
س/كأنك تنزعين عن الشعراء حرارة قلوبهم ،وتطردين عنهم صفاتهم الشغفية.فهل عندك الجنس معارك ،وكأنه من الأعمال الشاقة؟!!
ج/أجل. الحب عندي تدمير لبنى الجسد التحتية ليس إلا.
س/ربما من أجل توكيد هذه الفكرة ،قمت بتوزيع جسدك كولاجات متعددة،تولد من حلم،وتتشتت في فضاءات تنتمي لفكرة واحدة،هي الطيران داخل العين باعتبارها نص النصوص؟
ج/أنا استعملت بناء النص في الفراغات.لا وجود عندي لاتجاه بعينه .كل قصيدة تذهب إلى حيث تريد .لا أهتم بمخطط أو بخطة .فأنا ألد كلماتي حتى دون سطور .أكسر من حولها الأقواس المعيقة لحركة الكلمات،لتذهب لتحقيق رغباتها.الشاعر الحر،هو من يمنح الحرية الشخصية لكل مفردة تعلق بذهنه،وإلا كان سجاناً لا يستحق إلا أن يكون سمكة مجففة على حبل وسخ.
س/لماذا هجرت عالمك السوريالي مبكراً.هل لأن الاحتفاء بجويس لم يدم طويلاً ؟
ج/لا ليس الأمر كذلك.لقد غادرت التنظيم بسبب ديكتاتورية السريالية فقط.بعبارة أدق،بسبب الصراع بين رواد الحركة.فما أن دخلت السوريالية حلبات التنظيم والإدارة ،حتى تراجع نفوذها الإبداعي .
س/كل نص من نصوص جويس منصور يحمل طاقة من الأنين الجواني.ثمة صراخ بالغ لأنثى، وكأن عالمها محض حريق أو هي امرأة على وشك السقوط بحفرة نار! ما الذي يسكنك بالضبط؟
ج/ليس القلق ُ هو من يفرض سيطرته على نصوصي ،بقدر ما أنا موجودة في بؤرة توتر دائمة تسمى :الجحيم.
س/ومن أين يأتيك الجحيم وأنت بعيدة عن العوز والحاجة ،وكل طقوسك الحياتية متخمة بأفعال الارستقراطيين ؟
ج/لم تخضعني الأموال لطقوسها ولم انتسب للارستقراطيين بمشاعرهم الفارغة التي لا يولد الاحتكاك بها أية شرارة تثير الشهوة في النفس أو الجسد،بقدر ما تعودت على رؤية جسدي صحراء شبيه بصحراء الربع الخالي أو نيفادا ،وهو يفيض بتلك العقارب الملتهبة بعواطف عاصفة لا قرار لها في النفس أو الروح.لقد تآكل جسدي بموجات من سموم تلك الصرخات التي كانت تناديني وتدمر لي كل ما يمكن أن يستقر في الباطن.
س/كيف تصفين الجغرافية والوقت هنا؟
ج/ أكثر من سريالي.
س/هل ثمة سريالية سماوية تستطيعين التعايش معها ،أم أنك كشاعرة سريالية تعانين من الاختناقات؟
ج/لا وجود لإرهاب في العالم الثاني كما صور إلينا عندما كنا على الأرض.نحن هنا دون هويات ودون ديانات ودون صفات.المشاعر وحدها هي التي تطغي على النسيج الآدمي الملائكي ،وليس بمقدور أحد كسر أحد .
س/والحبّ الذي كان يشغلك على الأرض بالتهاباته وجنونه.بأية صورة أو شكل يمكن لجويس تحقيقه وهي على مقربة من جهنم؟
ج/ في الآخرة هنا ،يتحقق الحبُ دون اتصال مباشر ما بين الأشخاص،أنما بطريقة لا يمكنني شرحها ،بسبب شدة تعقيدها.بعبارة أدق ، فالجنس لا يتحقق بالملامسة.
س/والذين هم على مواعيد مع الطيبات من حور العين ،ممن يفجرون البشر بالأحزمة الناسفة ،ويتسارعون لممارسة الجنس في الجنة؟!!
ج/سيحشرون في ثكنات خاصة ،ليمارسوا ألعاباً خيالية أخرى على غير ما كانوا يتوقعون. يل وستقطع أعضاءهم التناسلية ،فيمسكون بها كأسياخ حديد مشتعلة إلى الأبد.
س/ إلا يأخذك الحنينُ إلى مصر ،فتلقين نظرة عليها من شق ما في هذه السموات؟
ج/في كل يوم أنظر إلى مصر وأبكي.
س/ هل لأمر خاص ؟
ج/أجل.فطالما تخيلتُ لو كان أبو الهول بعلاً حقيقياً لي أو لسواي من النساء. لاكتفينا من محنة البحث عن ألإطفائي الايروتيكي،وكذلك لأوفى هو بمهمته الجنسية كمخلص للعذارى من الحرمان.
س/ ولمَ لم تفعلي ذلك يوم كنت على الأرض هناك؟
ج/ لو كان لي سريراً يتسعُ لجسمه ،لفعلت ذلك وتحقق الحلم .

جويس منصور _ افتح ابواب الليل

أريد أن أرقد معك جنبا إلى جنب
وشعري مختلط بشعرك
وعضوك مضفور بعضوي
وفمك وسادة
أريد أن أرقد معك ظهرا لظهر
دون تنفس يفصلنا
دون كلمات تلهينا
دون عيون تكذب علينا
دون ثياب
أريد أن أرقد معك صدرا لصدر
مثارة وغارقة في العرق
المتلألأ من ألف رعشة
ملتهمة من شلل النشوة المجنون
ممزقة تحت ظلك
مسحوقة بلسانك
حتى أموت
سعيدة
 جويس منصور _ افتح ابواب الليل
 افتح أبواب الليل
ستجد قلبي معلقا
في الدولاب الفوّاح برائحة الحب
معلقا وسط ثياب الفجر الوردية
وقد التهمه العثّ والوسخ والسنون
معلقا بلا ثياب , سلخه الأمل
قلبي ذو الأحلام الغرامية الجامحة
ما يزال يحيا
 جويس منصور _ افتح ابواب الليل
 الزنجية تغني في الشوارع الغافلة
أغنية الأقدام الاسيفة والتي بلا عمل
 جويس منصور _ افتح ابواب الليل
 بقدمين مقيدتين
وبقلب مشوش
أنتظر الله الجنين
حتى أموت مشدودة إلى السماء
كنجمة
سعيدة




http://www.sudanray.com/cron.php?rand=1399485817

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق