الأحد، 30 مارس 2014

"باب العسل" أحد أبواب الرواية الفاتنة باب الليل لصاحبها الروائى الكبير وحيد الطويلة



باب العسل


هل رأيت امرأة تسيل الرغبات على جدرانها مثل حبات صغيرة مكتنزة، تنفرط وتنعقد على انحناءة هنا، وبروز هنا أيضاً، وتتوقف، إن توقفت في المكان الذي شدّها أو استهواها، تسيل متباطئة على منحدر، تتريث عند زاوية، وقد ترتاح فوق قبة أو تغطس في سرّة أو مأوى؟

كمن ضرب فرشاة على حائط، أشعل غليونه، جلس يتفرج بمزاج رائق، وترك حمولتها تعرف وحدها طريقها إلى الأسفل.

انتظرها هنا في قلب المقهى، على أية طاولة، سوف تهل بعد قليل، في الموعد نفسه كل يوم تقريباً، كامرأة  من لحم ودم، بوجه يشع  ويشيع سعادة، منحوت ببهجة في لوحة من القرن السابع عشر.

انتظر قليلاً، الآن تظهر على الشاشة،  تطل من الباب، تتمهل خلفه، تسأل كبير الجرسونات الواقف منذ الرابعة عصراً خلف ماكينة حصر الإيراد اليومي، تسأله عمن دخل ومن خرج، وبملامح جادة تشير له وتشير عليه كأنها تأمره ثم تهم بالدخول.

الآن تدخل بابتسامة طريّة ساحرة، كأنما أخرجتها للتو من جراب روحها ، بمشية كأنها قافلة بحاديها،  بقوام يخطف العين، تؤازره قبيلة من الأرداف والأفخاذ، يتقدمها ثديان بخيرهما، مكتنزان، يترجرجان بجرأة فوق قاعدة طريّة متماسكة كأنها تطلقهما وتسحبهما، واحد يبتسم لك، وواحد يشهق في وجهك.

وأبو شندي بصوت خفيض،  بهمس دافىء تلقطه وحدها يقول:
جيلي بالمكسرات..  ربنا يخليهم لك.
ثم بصوت عالٍ:
يا جبل ما يهزك ريح.

كأنها دعكتهما بالأزهار، بفتحة  فستان مرتعشة تنخفض وتعلو من وقع الارتجاج، من حمأته، وربما من الخوف منهما ليظهر الربع الأعلى، أحيانا ًالثلث، يكشف عن ملتقى النهدين في ساحة الرمان، ببياض مشرب بحمرة فاتحة، يكاد جندي حليق يطل برأسه ويضرب لك تعظيم سلام، يمكن لك إن تمعنت قليلاً أن تتحقق منه بنفسك.
كأنها غمستهما بالندى، متأهبان للانقضاض، كأنها ستدخل المعركة بهما بعد قليل، معركة بالرماح أو بالآيس كريم.

بخال على خدّها، بأكتاف يلعب فيها العظم دور البطل في تجاويف اللحم، يمتد وينثني، يبرز ويختفي، لتعرف كيف يكون العظم جميلاً، بأسنان متعاركة تركب بعضها، خلقت بها هكذا - معوجة -  حتى لا تكتمل، ولكي تخفف قليلاً من وقع هذا الجمال الكافر.

امرأة ذات ثديين سخيين يمكن لطائر صغير أن يحط عليهما، وذات وعود كما يقول شاعر مصري اسمه عبد المنعم رمضان.

دعك من كل ما سبق، أنا أكذب عليك -  يكذب عليك من يكتفي بذلك، هذا الوصف ليس كافياً ـ  إن كنت قد رأيت فيلم "وخلق الله المرأة" الذي أخرجه المخرج الفرنسي روجيه فاديم لقطّة السينما الفرنسية وقتها بريجيت باردو والذي قدّمها فيه للعالم لأول مرّة كـقنبلة من لحم ودم، ثم تزوجها بعده، ستعرف قيمة حرف الواو في الجملة، وأنها بدونه لا تعني شيئاً، بل إن الكون كلّه دونه لا يعني شيئاً، كأنه كان ينتظرها وحدها ليبدأ مسيرته.

الإثارة تتقدم إلى الأمام  بكامل زينتها وأناقتها كأنها مدعوة إلى حفل على شرفها يؤمه الوزير الأول، لا ذاهبة إلى مقهى،  تدخل خلفها، أحياناً بجانبها  حلومة صديقتها أو عشيرتها كما يحلو لها أن تناديها، وقبل أن تصل إلى طاولتها في الممر المؤدي إليها توزع ابتسامة هنا وقبلة هناك، تلتفت لحلومة، تشير بطرف إصبع مدببة وغمزة عين عابثة لصدرها، وتقول بسعادة وافرة كأنها بلغت رعشة الجماع  في تلك اللحظة:
-   الناس كلها  تموت في هذه البقعة.

صاحبة المقهى،  مولاته، درّة، درّة الدرر.

الآن وصلت عند طاولتها القابعة في نهاية المقهى، في الزاوية الطولية منه بحيث تستطيع من مقعدها أمام الجدار أن ترى المقهى كاملاً بألعابه ومريديه.
على طاولتها ينتظرون، دائماً يزيدون عن أصابع اليد الواحدة، ذكور،  يأتون قبلها، يتوزعون ويتركون مقعدها فارغاً، لا يتركون بالطبع مكاناً لحلومة  لكنها تنتزع بدربة وأحياناً بحنق مقعداً في مواجهتها.

ذكور من أعمار مختلفة، جاءوا بين رجاء وأمنية، رجاؤهم في حضنها وأمانيهم بين ساقيها، كل واحد يريد أن يشتري بضاعتها، يستقبلونها بالغمر والقبل، من جاور السعيدة يسعد ومن جاور الفاتنة يغنم، وهي توزع بشائر الغنائم عليهم حسب مزاجها في  اللحظة نفسها  كضابط صارم تباسط فجأة مع عساكره، تهش لهذا، وتضرب آخر على كتفه، والمحظوظ من تضربه على  فخذه، أحياناً تزيد واحداً لكنها لا تنقص أحداً غنيمته.
كل واحد منَّى نفسه أن تأتي باكراً قبل حضور الآخرين لينسج خيوط اللعبة على مهله أو ليعقد صفقتة منفرداً.
جاءوا متفرقين وإن تنوعت مشاربهم رغم أن المشرب واحد.

واحد يريدها صاحبته وحده، وواحد يريد أن يركبها ليتباهى أمام أقرانه، وآخر ليباهي نفسه، ليقول إنه اعتلى الملكة ويمضي ليكمل بقية صولاته راضياً، ولا بد أن واحداً فقط ربما جاء لينعم بدفء القعدة الطريّة ويشم البخور المتصاعد من نارها.

رغبة عارمة  بالرسو فوق قاعدتها  والبحث عن خاتم سليمان في قاع مدفأتها.

وأبو شندي يلتفت لشادي يقول:
- كلهم على نفس المنوال ، كل واحد يريد أن يتباهى علناً بأنه ختم الذبيحة الفاخرة. لكنها ليست ذبيحة، وليست دجاجة منتوفة كما يمكن لك أن تتوقع.
على رأس الطاولة تجلس كطاووس بأبهى الألوان، بضاعة فرز أول، تعرف تماماً لماذا جاءوا، تملك فراسة امرأة من نساء ألف ليلة وليلة، تعرف كيف تدير اللعبة، تبقيهم على نار كل يوم في انتظار منهك، تشعلهم بقربها ليطفئوها بمائهم، وإن ربطتهم جميعاً بخيط واحد من أحلامهم وشهواتهم الفاقعة.
الزعيم يحتاج جماهير تنادي به، تتنظر إطلالته حتى لو كان صاحب مقهى فقط.
تبدو كسيدة أولى لولا أن سيّدة أولى في المدينة قابعة في قصرها لن تسمح لها، والمدينة صغيرة، كل همس فيها تحمله ريح خفيّة إلى أذن أو سريرة، هي لا تريد أن تصل لهذا الحد حتى لا يقام عليها الحدّ، لذا تضع صورة الرئيس في ثلاثة مواضع بارزة من المقهى، لا تكتفي بواحدة معتمدة كبقية المقاهي تشتري الرضا من بعيد  وتوهم الآخرين بقربها وتتفوّق عليهم.
ما من أسبوع يمر حتى تحكي كيف انفتحت لها طاقة القدر واختار الرئيس أن يجلس إلى طاولتها لدقائق في سهرة ما :
-  جلس بجانبي، سلّم على الجميع من بعيد، حادثني وحدي طويلاً، أكل شيئاً خفيفاً وقدم لي صحنه.. أكلت من صحن السيد الرئيس.
تتباهى دائماً بالحكاية وتلمع عيناها  كـأنها حدّثت بالأمس.

تبدو سعيدة كأنها بلا مشاكل، رائقة كأنها ملكت العالم وشيدت مملكة  من الذكور.
يمكن لك أن تضبطها بشيء واحد، بهذا الشبق النافر من عينيها المتمكن منهما.
- عيونها عشَّاقة.
مشكلتها البسيطة أن عجيزتها  ليست كبيرة في رأيها بما يكفي ،  مثل معظم البنات بالمقهى، ليست على المستوى المعتمد في المدينة لمقارعة الأخريات في معاقلهن، رغم أنها جميلة مستديرة متناسقة مع جسدها وأكثر حضوراً وإن كانت أقل حجماً  من بضاعة الأخريات، لذا تسرف في أكل البطاطا المقلية والمكرونة والكسكس كي يتم تحسينها والوصول بها لمصاف العالمية.

مشكلتها الوحيدة إن كان لديها مشكلة، أن كل من دقّ بابها تصنع منه صاحباً، تتورط بدون عقل أو تفكير، والحلقة تتسع والمواعيد تتضارب.
وأبو شندي يقول ليس عندها أحد تفتخر به أو تحتمي فيه، زوجها فردة جورب قديم مثقوب، تبحث عن رجل تتباهى وتباهى به أو رجال، والحلقة تزدحم، تريد أن تصنع عالمها  بسرعة، لكنها تحيكه بإيقاع مربك دون أدنى تدبير.
ليس عندها ميزان ليضبط الإيقاع، مع أنها تعرف الفرز الأول من الثاني، لكنها سعيدة، توهم الآخرين من خلف كل الآخرين أن المدينة كلها تحبها ومضروبة بها، واقعة في أسر سطوتها ودلالها.
تتملكها شهوة عارمة للجديد، كل واحد عندها جديد، من كل الأجناس والأعراق التي تطأ ساحتها، لا تترك أحداً يعجبها  دون أن تمدّ له خيطاً، دون أن تقلب حياته على مهل ثم تقلبها على عجل، بقصد وبغير قصد، لكن هذا هو السبب الحقيقي لنشأة مملكة الذكور الخالدة.
امرأة بثلاث رئات، متطلعة، تحلم أن تكون سيّدة أعمال، سيّدة أعمال أولى، لذا تتسارع أقدامها وأفخاذها وذكاؤها في كل اتجاه، إيقاعها اللاهث يجعل قدمها تزلق سريعاً، لكنها – للأمانة - تُخلِّف لهباً في كل موضع، وتترك أنفاساً دافئة أو هبة ريح حسب الحالة.

وهم حولها، كل واحد عنده بضاعة يريد أن يبيعها لها، كل واحد برمحه، يمسونها بعفوية محسوبة، بقصد، الذي يجلس بجانبها يمدّ ساقه ليلمس ساقها، والذي يقابلها  يحاول أن تحضن ساقاه ساقيها، قد يدخل رجليه بين رجليها، وابتسامة خفيفة تصعد إلى وجهها، ورغبة حامضة تعلو وجوههم فوق الطاولات.
شحن على الطاير كل يوم، وهكذا،
يلعبون الورق، كل واحد يريد أن يلعب معها، يكونان فريقاَ ضد آخرين، يمضون الليل كلّه منذ وصولها المبين حتى بعد منتصف الليل بليل. للغناء ليلتان : السبت والأحد، وللعب الورق خمسة أيام، وللعب فقط كل الأيام.
الناس كلهم يلعبون الورق، كل الطاولات بوجوه متوترة، يخرجون من أعمالهم منهكين، اليوم طويل ينتهي في السابعة مساءً، هدّهم التعب، هدتهم مطالب البيوت والأولاد وأقساط القروض التي أكلت رواتبهم وكسرت ظهورهم، والتسجيل في ملاعب البيوت شحيح، لذا يهرعون للعب الورق يهربون فيه، يغوصون حتى ينسوا، ويسجلون أهدافاً على الطاولة.
والسهرة تشتعل وتحمى، والمناورات على أشدها، وهي ترد مناورة بأفضل منها، ملكة الغزل البريء فوق الطاولة، واللعب الخفي تحت الطاولة، تترك واحداً حتى تسخن شهوته وتشتعل رغبته وركبته ثم تتركها في اتجاه آخر كأن شيئاً لم يحدث، كأن شيئاً حدث في مكان آخر.
- ولعة يا بني.
-  شاي أخضر بالله.

لعب الورق ممتع في الاشتباك الجسدي الخفيف وفي فضه أيضاً.

ترمي الأوراق ببراءة طفلة، تكاد توشوشها، ثم فجأة تنتفض، تقوم على ساقيها الخالدتين، تترك الطاولة لتستقبل معارف جدداً من الكبار من الأمن والـقضاء والجيش ، وعجيزتها الخالدة في مكانها الثابت من العيون.
تترك طاولتها دون وداع، تستقر على طاولة أخرى، واللعب أنواع.
فروتها كبيرة،عيون ملتهبة تلاحقها وعيون عطشى تراقبها، تتبادل الأماني والحسرات.

هم لا يعرفونها جيّداً، هي مثل نساء كثيرات، تجري وراء الذي يجري أمامها وراء الذي يهرب منها، دائماً خلف واحد عنده بدن دافئ،  فتى بوسامة صاحية، أو لديه سيارة أفخر من سيارتها، ورصيده بالبنك أكبر منها، لا تجري وراء من يتحلقون حولها وإن علقتهم جميعاً من أطراف رغباتهم، وإن شملتهم بعطاياها الخفيفة، ووعودها المؤجلة، كل من يجري وراءها تسلقه في قدر المحبة بسفود غرامه ولا يملك منها فكاكاً ، العاشق يمكن أن يبتعد عنها صوناً لعشقه ، أما المغرم أوالراغب فيبقى لا يغادر موضع مراده.
لا عمق لها، بئرها غائرة، تبحث عمن تزين به حياتها وتقوي ساعدها في مدينة مكشوفة على بعضها لا تعترف بغير النقود ديناً،، تقدّس النقود والجسد الجميل فقط.

صياد وطريدة، صياد يصيد أية طريدة وإن لم يأكل منها، وربما رماها جميعاً ولم يتذوق واحدة، لعبة القنص في حدّ ذاتها ترضيها، قد تقبل بصيد هزيل، تقلبه بسرعة في الصباح التالي، لكنها لا تخسر أحداً مهما حدث، وإن بدت كبنك يصرف لعملاء لا يعرفهم.

-  قهوة تركي.
-  نعم؟
-  قهوة عربي.
- هات ولعة يا كسوف.

القصة أنها لا تشبع ولا يبدو أنها تخطط لشيء ما، تزلق مرة هنا، وتسقط مرة هناك، نهمة، تقتنص أعلى شيء كلمح البرق في اللحظة التي سقطت فيها بين رجليها، كأنها تعيش لـتقتنص فقط.
تعوّدت على المسروق، ونسيت الخط الفاصل بين الأبيض والأسود، لكن الجزء الطيب فيها، الفص الأيمن من قلبها بالتحديد، حمى روحها من السواد الشديد، ووجهها من التيبس، يجعلها تنسى ما فعلته، بالأحرى تزيحه، تودع  يومها بفتوحاته عندما تنام، وتستقبل نفسها كما تراها جديدة تماماً بحنان مكوم في عينيها في الصباح التالي.
الحياة حولها مزدحمة صاخبة، لكنها بمزاج رائق ترى كل ذلك كأنها لا تراه، حتى لا يشوش عليها شيء رونقها وروقانها، تستطيع أن تفض أية  حكاية كبيرة بكلمة، مثل الماء، تطفئ الموضوع كأنه لم يحدث، كأنها لم تسمع وتخرج بحكاية أخرى.
أجمل شيء فيها أنها تعتقد أن الفرصة سوف تأتي لها دائماً، وأنها صغيرة ولا تكبر، ولا مشكلة عندها وجدت رجلاً على مقاسها أم لا، ستخلقه في أية لحظة، هي لا تبحث عنه من أصله وإن دارت في فلكه طوال الوقت - بحكم طينتها، لكنها تعرف كيف تلقف ما يحوم حول آنيتها بمهارة نساء المخابرات.
عمرها في نهاية الثلاثينيات، قبلها بعامين.
تقول فجأة:
- من لم ينم مع امرأة في الثلاثينيات، لم يذق طعم النسوان.
بنتاها صبيتان في الثامنة والسادسة عشرة، تبدوان كأختيها، وهي تشدد على ذلك كل حين.
تضحك بسعادة:
- القهوة قهوتي، والبنات لسن بناتي، وأبو شندي يشدد على كلامها:
- نعم، شاء من شاء وأبى من أبى.

يطوف بعينيه أرجاء المقهى وبصوت خفيض يكمل:
انظر للرجال: يحكون وعيونهم على النسوان، انظر للبنات القابعات، حاول أن تصغي للعيون كيف تحكي، للجسد كيف ينطق، العيون في مكان والجسد في مكان آخر، كل حاجة تحكي وحدها دون شقيقاتها ومشتقاتها، والجميع على استعداد للدفع والقبض مقابل الجنس، يدفعون للجنس ولا يدفعون للأكل، وكل ما يحدث يستعبد الجسد سواء أدركوا أم لم يدركوا.

هي أيضاً تعرف حقيقة نفسها لكنها لا تقربها، وإن قربتها لا تصدقها، تعي أن كل ما حولها أجساد لا يتحرك فيها شيء عدا المني والمعدة، وتعرف تماماً أنهم ما جاءوا لقهوتها سوى ليركبوا، لكنها للأمانة أفضل من يعشق الركوب على أرجوحة أو طائرة أو حتى على الأرض.

تعرف أن كل واحد يأوي لساحتها عنده بضاعة واحدة يريد أن  يعرضها عليها - يقايضها بها، أويشتري منها بأغلى الأثمان.
تعرف ذلك وتستمتع به  خلف حائط من ماء وتصنع وحدها حائطها من كريستال، كأنها لا ترى أحداً سواها، لا تريد.

العالم عندها أرقام، لا اسم واحد مكتوباً في هاتفها، كل واحد برقمه، تحفظ كل رقم وتعرفه بنظرة واحدة، حتى لا يلقط أي واحد من الجالسين حولها أي تفصيلة عنها، تتحدث بوجه محايد في الهاتف كأنها تكلم البابا، وحين يأتيها رقم ترومه تقوم من الطاولة تحكي بعيداً، وملامح وجهها السعيدة تسقط كغصة في حلوق الجالسين.
لا اسم مكتوباً في هاتفها سوى اسم حبيبها، مكتوب أمامه: حبي، وهو يناديها باسمها، ما من مرّة قال: ماما أو أمي.
والولد الذي قارب عامه الثالث عشر يقول ببراءة :
- هي التي أمرتني بذلك.

كل شيء يحدث قرب الحمام.

السهرة تستعر، الرغبات تصعد فوق الطاولة، والأحلام تطير فوقها حتى مجيء هادم اللذات ومفرق الجماعات، زوجها، يدخل إلى المقهى، يتطوح بربع وعي أو بدونه، كل يوم يذهب للحانة، يعب من البيرة أو الكونياك الرخيص، يرفع أصابع يديه يعدد العلب التي تجرعها، أو نسيها، وحيث يقترب يسلم على المعازيم بصوت عال متقطع، لا أحد يتوقع ماذا سيفعل، قد يجلس ليتفرج حتى يغلبه النوم، وقد ينقض مرة واحدة يبعثر الأوراق، يطوحها من على الطاولة بجرة واحدة، وقد يقلب الطاولة نفسها وهو يصيح:
-   قعدة قحاب.
في الغالب لا تردّ، وقد تردّ ذات مرّة بصوت خفيض ورجاء غير واضح:
-   عيب عليك.
-   والله لنأكل قلبك.

منظر معتاد وحكاية قديمة، زوجها، تزوجته صغيرة، بعد الثامنة عشرة من عمرها، أشعلت الشمع مرتين متتاليتين في ليلتين متتالتين، أخذها على حين غرّة من بين أنياب وقلوب رجال آخرين، قل خطفها، اطمأن على الوديعة الفاتنة في دفاتره، ثم تركها في الدار لم تكمل تعليمها وخرج وراء عمله، شريك والدها، مقاول لبويات دهن المنازل في زمن طفرة البناء.

جرى خلف المال خياره الوحيد في الحياة  في مدينة دينها المال، وهي أيضا تزوجته للسبب نفسه، لتؤمِّن ظهرها حين وُضعت أمامها الخيارات لتلعب مرتاحة، وبعد أن امتدح والدها أخلاقه ونقوده.

بخيل، متعَب ومشغول، لم يشبع نهمها للفلوس ولا للسرير، وجمالها وشهوتها يكادان ينفجران في حيطان الغرف، يقفزان من نوافذ البيت، لكنها لم تشأ أن تتطلق منه بعد أن وضعت بنتها الأولى، لم تشأ أن تبدأ الرحلة  بالخيبة وتنهيها بالخسارة.
هي تريد بنكاً وهو بنك بخيل.
هي تريد رجلاً، وهو رجل بالصدفة.
-  الحساب يا بني.
بذكائها دفعته للعاصمة ليكبرا معاً بعد أن كبر اسمه، في ظرف سنوات قليلة انتفخ حسابه في البنك، لكن محفظته مازالت خاوية في البيت.

انتفخ حسابه أكثر فانتفخت خصيتاه، استدرجته فامتدت جثته على السرير، الملعب الذي يسجل فيه أهدافاً بالصدفة، هو يحبه لكنه ليس فاعلاً فيه وليس مشغولاً به، أخرجت دهاء المرأة من مخبئه بين نهديها، أشعرته أنه الفاتح الذي كانت تنتظره عكا، تعرفت على سقف الغرفة حتى حفظته وعدت قطع الفيسفساء، تعدها وتخطىء، تريد أهدافاً أو حتى تسديدات خاطئة قوية ولو لم تكن تحبه.

وما لم يستطع أن يفعله هو، فعلته نيابة عنه، وضعت النياشين على صدره، والأوسمة فوق عانته، حتى ضاقت.
تسرح أحياناً ثم تقول لحلومة بحزن خفيف وأسى :
-   خلفت الأولاد وحدي.
علاقتها به هي التي علمتها الصبر والحذر والتكتيك، كيف تسحب النقود من جيب العالم. وكيف تطبخ من ذكائها ودهائها فطيرة من ورق البنكنوت، وكيف تقدم ثدييها أحياناً لواحد لا يستطيع أن يسدد أو يمرر تمريرة واحدة جيدة.

عيون الناس التي التهمتها أمامه  أشعرته أنه زوج الملكة، عليه أن يتصدر المشهد ويقوم بما يمليه عليه البروتوكول ويترك آخرين يعملون.
استدرجته، بنى لها المقهى على أرض يملكها، حسبت له المكاسب ولوحت له بالعلاقات، المال يحتاج علاقات تسنده حتى يكبر، ينمو ويحافظ على نفسه، ويتحول لسطوة وسلطة في المربع رقم واحد، ويصير بعدها المقاول وجيهاً من وجهاء القوم.

ركلة البداية، ومن يومها تعوّدت على اللعب، على الأشياء المسروقة، كلما احتاجت منه شيئا تشده إلى الملعب، إلى السرير، تلعب كل الأدوار حارس المرمى والحكم والجمهور والصفير قبل تسجيل الأهداف وبعدها، تضع له نجمة هنا وسيفاً هناك.

- ينغز له نغزتين وينام.

بنى لها المقهى بفلوسه، بنياشينه التي أغرقته بها وأغرقته فيها، بمساعدة سفيان صبي والدها لسنوات وذراعه اليمنى في مجال الدهان.
سفيان معماري فتيّ، فنان بالفطرة، ابن سوق، كان يحلم بالذهاب لمعهد الفنون الجميلة، لكنه تعثر في الطريق لضيق اليد، عمل مع والدها كظله حتى وفاته، ابتعد شهوراً حين تزوجت، حين فتشت في دفاترها القديمة لم تجد يداً دافئة سواه، عاد مثقلاً بالحنين، ورثه زوجها، انزلق معه في علب الدهان، ثم غطس معها في علب الألوان.

ا

زوجها للمهمات الموسمية والاحتفالات الوطنية، جنس وسرير بالملابس الرسمية، وهو في الملاعب الخلفية.
الزوج في المقدّمة والعشيق في المؤخرة، أهدتها له وحده ليلة عام ممطرة، كي تؤكد على عمق العلاقة :
- كي تكون دخلت مكاناً لم يدخله أحد قبلك، المكان الذي كنت تحفر فيه من قبل.
تقول وتضحك بسعادة، شبقة وطيبة.

وفرشت المقهى للأحبة  وانطلقت في كل الاتجاهات، كل واحد يعجبها تجذبه للمقهى، بجسد ممتلئ بالفضائل والزهور، فضيلتها الكبرى أنها  تحب على نفسها بسرعة وتغادر  بسرعة.
مندفعة  في الصعود، جامحة في السأم، لكنها – أعزّك الله – لا تخسر أحداً إلا لضرورة قصوى، قد تنغز، لكنها تعود لتداوي وتمسح.

تخرج من أية علاقة فجأة دون مقدمات ودون بيان ختامي، لكنها تبقى الاحتمالات مفتوحة دائماً، علاقات كالوجبات السريعة، الاستثناء الوحيد كانت وجبة سفيان الحارة وعلاقات الأمن والسلطة الكتيمة بطبيعتها.
كبرت وكبرت قهوتها وسلطتها، أصبحت رمانة الميزان في ليل الآخرين، أخذت دور حارس المرمى والحكم في آن واحد، وراحت تتصرف كملكة نزقة تلعب مع روحها.

فلوس زوجها البخيل للأولاد، وفلوس المقهى لها وحدها.

شدت كل الخيوط في يدها، يعجبها واحد، ترمي الطعم وتتركه يصطادها، تسافر على حسابه إلى باريس والحجج بسيطة:
- أفكر في فتح فرع للمقهى في باريس.
المقهى يحتاج إذاً إلى دعم أجنبي، تلعب في المباريات الخارجية  كفراشة ليل راقية، تفرغ كل ما في بطارياتها وماكينات الآخرين، شحن إيجابي وسلبي، تعود لقهوتها كملكة بوجه ناعس وقدّ مشدود على جمهور لا ينقص ولا تنخفض راياته.
تحكي عن البارات والمطاعم بتأثر واضح كأنها عضو في الوفد الفلسطيني للمفاوضات مع إسرائيل، وعن الأصدقاء والصديقات كأنها عضوة في الصليب الأحمر، لا أحد يعرف عنها حكاية واحدة متكاملة رغم معارفها العديدة، لا أحد يعرف من تواعد على وجه اليقين، وإن حامت تحتها وفوقها الشائعات.
هل تصاحب أم تصادق أم تبحث عن المصاري والنفوذ؟

ثم عرفت طريق دبي، جنة الأحلام والنقود معاً، راحت تلعب كل مبارياتها بعيداً عن ملعبها الوطني بدون جمهور أحياناً، أو بجمهور أجنبي لا يعنيه سوى متعة المباريات، وسفيان راح يبدو كظل باهت من بعيد في مباراة على شاشة تليفزيون بالأبيض والأسود، كحكاية معلقة على جدران مقهى، وأطنان الدخان المتصاعدة من الأراجيل تغطي وجهه.

تطلب من حبيبة مطربة المقهى أن تغني لها أغاني صباح، هي غير مشغولة بصباح لكنها تحب الفرح والدلع والشيطنة في صوتها، رأتها مرة في التليفزيون وهي تحكي كيف أمسكت بأزواجها في نزواتهم، عرفت كيف تضبطهم وتلقطهم متلبسين، لكن ما استطاع أحد أن يضبطها هي مرة واحدة.
في إحدى رحلات العودة بالطائرة حيث تركها أحدهم تعود وحدها، فكرت أن سفيان هو الرجل الوحيد الذي أحبها، وهو الوحيد الذي رهن قلبه على طاولتها، لذا قررت أن تمتنع عن النوم معه وإن لم تحرمه من الأحضان والقبلات الإنسانية الدافئة وتمسد أحياناً شعر صدره كحصان وفيٍّ  يكفيه ما قطعه في  حلبة السباق، وعليه أن يستريح بقية حياته.
لا يمكن أن تكون قديسة، لا تريد، كأنها تعرف أن الرجال لا يحبون القديسات.

لا تفتش كثيراً في حقيبتها، لا تفتش في حياتها، تعيشها يوماً بيوم، فقط لا تنسى أن تـؤدي عملها بأمانة، وأن تعد إيراد المقهى بنفسها، وأن تنتظر كل جديد أو تصنعه على يدها بعين مفتوحة وأخرى مغمضة كأنها تفاجئ نفسها.
في النهاية هي أجمل من حتشبسوت، وأكثر إنسانية وحناناً، حتشبسوت – حسب الرواية الأرجح – قتلت المعماري الفذ الذي شيّد لها معبدها، محته من كشوف الحياة وإن طاردتها أصابعه، أما هي فقد اكتفت فقط بأن تحرمه من سريرها بعد أن أرضعته طويلاً عسلها، بل هي أفضل منها، ملكة الفراعنة جلست على عرش شيده ذكور قبلها، وعلى شعب لا تعرفه، وملكة حي النصر شيّدت مملكة من الذكور صنعتها على يدها وأفخاذها وهي ملكة على شعب تعرفه بالواحد، بل تركت للمعماري أن يغرد التغريدة الأخيرة للبجعة، وأن يسجل حكايتهما معاً على حيطان المقهى، وأن يقول قولته الأخيرة.
لا بدّ من نهاية تليق بالحكاية،  صعد فوق سطح المقهى، رشق أعمدة بيضاء برءوس مدوّرة ملساء من كل الاتجاهات، لم ينس أن يضع أسفل كل رأس شريطاً أسود، أربعة أعمدة : في كل جهة واحد، كأنها فعلاً شيدت إمبراطورية من الذكور، وتركت لسفيان  وحده أن يضع لها التيجان شاهدة عليهما وعلى سرهما.

مقهى سره داخله، يطوي غرامه في أعمدته أو أثدائه المزروعة في كل مكان، شواهد حيّة، أو في سقفه الذي يدفن الحكايات في ثنايا تموجاته، منطو على نفسه، يكاد لحظة ينطق بكل الأسرار.

وهي في زاويتها المسائية، جاءت باكراً على غير عادتها، كأنها جاءت لتطمئن عليه، على حبيبها المقهى، لتتأكد أن الفرقة الموسيقية أعدت مواقعها ونصبت آلاتها، وأن العازفين بكامل أناقتهم وعدتهم، تقوم تهش للأحباب القدامى والأحباب الجدد على وقع موسيقى خفيفة تلاحقها، تلمح بطرف عينها حسن الفقي أو الحاج حسن كما تحب أن تناديه وكما لا يحب- جالساً في ركنه المعتاد على الطرف البعيد لباب الحمام،  ليبي كريم، لا تعرف إن كان عابراً أم مقيماً، يمرح هنا شهراً، ويعود لليبيا شهراً، رجل أعمال كما يقولون، ولحسن الطالع  تتقدمه سيرته العطرة، أكل كل البنات في المقهى، لم يوفر واحدة، لم يترك عابرة ولا مقيمة، شحنهم جميعاً إلى داره بجسد عفي كأنه ملاكم قديم، حين يشير له كسوف على واحدة يقول بهدوء :
- شحنتها من قبل.
عصبه مازال مشدوداً،  يعرف أن الملكة بعيدة المنال، لكن ما من باب أزرق إلا وله مفتاح، لذا اتخذ  قراراً بأن يحاول ويستمر، وضع مفتاح الصبر في جيبه الشمال وأغلق عليه، ما من مرة يسافر إلا أغرقها بالهدايا، وهي تهش له وتفرح به.

حين تكون على طاولة بها بوليس ورجال أمن وأشباههم، تضمه إلى الطاولة، يدفع حسابها كاملاً وينصرف راضياً أنه اقترب قليلاً من العتبة، يجلس في كرسيه العريض، يلعب بمسبحة ذهبية، يعد في سرّه: نعيمة، ألفة، نوال، وحين تقترب تسمعه يقول بصوت أعلى: والباقيات الصالحات، سبحان الله والحمد لله، وحين تتوقف لتهش لأحد  ينخفض الصوت، رملة  منى، دلال..
تقترب أكثر، تهش وتقبله، تضع يدها على كتفه، جسده يشتعل، ورغم أنه شحن جميع البطاريات إلا أنه لا يهيج إلا في حضورها:

-   ماذا تفعل؟
.. كنت أدعو لك أن تزوري النبيّ.
تضحك:
-   النبيّ مرّة واحدة ؟
..  أنا بصراحة عملت عمرات كثيرة، ولم يبق لي إلا الحج.
غمازة عابثة تلعب في وجهها، ويكاد الخال ينتقل من خد إلى خد.
-   ربنا يوعدك.
يتشجع أكثر، يرمي كرته :
.. ما رأيك أن نحج معاً.
تضحك بهستيريا ،  تضربه مرات على كتفه.
عيونه حاضرة غائبة، ورعشة حلوة  تعتري جسد الملاكم ، يتمنى أن تضع اليد الأخرى على الكتف الآخر.
تقول وهي تهم بالمغادرة عائدة إلى دنياها :
- اللي يستنى خير من اللي يتمنى.
ريقه يجري، وأصابعه تضغط بقوّة على الرأس الطويل للمسبحة.