الأحد، 30 مارس 2014

مقالات نقدية لرواية باب الليل وحوارات مع الروائي الكبير وحيد الطويلة

                                                                      
                                   صبري حافظ  

                  "باب الليل"  آليات الغواية والأفق المسدود       


ما أن فرغت من قراءة رواية وحيد الطويلة الجديدة (باب الليل)(1) حتى شعرت بأنني بإزاء عمل أدبي مهم، يستحق التريث طويلا إزاء عوالمه وكشوفه وتأمل استقصاءاتها. عمل استطاع أن يوظف ببراعة ما أدعوه بمحتوى الشكل الروائي بطريقة تجعل بنيته الشيقة جزءا من الرؤية التي يطرحها، والعالم الذي يبلوره، والاستعارة المركبة التي يصوغها للواقع العربي الأوسع في تلك الرواية الجميلة الثرية. فمنذ عتبة الرواية الأولى، وعلى العكس من العنوان الإشكالي لروايته الجميلة السابقة (أحمر خفيف)، يوفق الكاتب في اختيار عتبة نصه الأولى مرتين بالعنوان والغلاف، فيصبح الباب والليل والمقهى هي أبواب الدخول إلى هذا العالم الكثيف. فالعنوان – بما ينطوي عليه من تجاور وتناقض، بين الباب والليل: فالباب يفتح والليل يسد الأفق ويغلقه – يفتح الكاتب روايته على عالم الليل وبهمته بامتياز، وهو يسد الأفق في وجه الجميع، ويدخلنا في سراديب ظلمته الفعلية والاستعارية على السواء. ويجعل الأبواب الحقيقية منها والاستعارية هي السبيل لدخول هذا العالم وإماطة اللثام عن بهمته. بينما تكشف لوحة الغلاف عن حقيقة المقهى الفقير وعرضيته باعتباره الفضاء المدوّخ الذي تدور فيه الرواية، ويسيطر بتناقضاته على كل ما فيها. وكأن النص بعتباته الاستهلالية يطرح زمكانيته، بالتعبير الباختيني، التي يصبح فيها المكان (المقهى) هو البعد الرابع للزمان (الليل)، كما يصبح الزمان (الليل الذي يموت المقهى دونه وبدونه) هو البعد الرابع للمكان بعرضيته وتراكب دلالاته معا، ويحيلنا إلى أهمية تلك الزمكانية للبنية والعالم معا.
فإذا ما تجاوزنا هاتين العتبتين إلى العتبة التالية وهي المقتطفات الاستهلالية: وأولاها «القبلة هي النقطة التي توضع فوق حرف الباء في كلمة الغرام» المحذوفة هي وبائها معا. سندرك أننا بإزاء كتابة واعية بآليات الحذف والإضمار التي تترك في الاستهلال مساحات من البياض كي يملأها القارئ بمخيلته. وأننا في عالم حذفت منه القبلة وغابت عن أفقه كل أنواع الحب والغرام. ودور القارئ مهم في هذا النوع من الكتابة، لأن آخر إشارات الاستهلال بعد سطور كثيرة من البياض تلفت نظر القارئ إلى هذا الأمر، وهي تؤكد له أن «أبواب الرواية: بعضها أبواب مدينة تونس، بعضها أبوابك أو أبوابها». وهي تخاطب القارئ مباشرة بضمير المخاطب، ثم تردفه بهذه «الأبوابها» الملغزة، التي لا نعرف على من يعود الضمير فيها. فتردنا من جديد إلى أهمية الأبواب، الواقعية منها والخيالية والمتخيلة، باعتبارها مداخل متنوعة لهذا العالم الليلي الذي تميط الرواية اللثام عنه. بعد هذه العتبات الموفقة تبدأ الرواية بـ«باب البنات» وتلك العبارة «كل شيء يحدث في الحمام» وهي نفسها العبارة التي تنهي بها الكلمات الأخيرة في الرواية، وكأنها تردنا إلى البداية من جديد. هكذا ينبهنا النص منذ أن فتح الباب على البنات في المقهى، ولعبة الحمام فيه إلى بنيته الدائرية التي لا فكاك منها كبهمة الليل الدامسة التي تحيط بكل شيء كالقيد.
وقد ذكّرني عبء الليل في هذه الرواية بوصف يحيى حقي البديع العميق لثقل ليل الصعيد في (البوسطجي) «ليل في ظلمة العمى، تلفع به الكون مرغما. هبط على الفضاء حملا ثقيلا، أحاط بالأرض كالقيد، غطى الحقول كالكفن، ولفّ القرى كالضماد. وانحدر – ولا حد لاتساعه – إلى الشقوق فاحتواها. ثم تلفت يبحث عن مداخل النفوس التي يعلم أنها تستقبله وتتشربه، فاحتلها يتمطى فيها».(2) ومع أن تونس ومقاهيها العامرة بالأنوار والغناء والغواية توشك أن تكون النقيض الكامل لعتمة ليل الصعيد، فإن ليلها الذي جعلته الرواية باب الدخول إلى عوالمها، يبحث هو الآخر عن مداخل النفوس التي يعلم أنها تستقبله وتتشربه، فيحتلها ويتمطى فيها. لأن بداية الرواية فيه ونهايتها به، وبما يحدث أو لا يحدث في الحمام، تقودنا إلى قراءة الرواية من جديد، لا للتعرف على ما يجري فيها من أحداث، أو ما تمور به من شخصيات، تتخبط في شباك مواجدها الليلية، وانكساراتها الروحية، وهي تعاقر أوجاع التحقق الوهمي الذي لا يتيح الأفق المسدود سواه، ولكن للكشف عما تنطوي عليه هذه البنية الدائرية من استعارة شفيفة للواقع العربي المهزوم الذي تتخبط كل شخصياته في شباك هذا الأفق المسدود في «باب الليل» الذي لا يطلع عليه نهار.
ولا يقل المكان أهمية في هذا العمل عن الزمن السردي الذي وعي زمكانيته واستخدمها بمهارة. حيث تعزز طبيعة تناول الرواية للزمن السردي عرضية المكان وثباته معا، وتفتحه على آفاق تأويلية خصبة. فبالرغم من أن الرواية كتبت في سبع مقاه تونسية، ومقهى مصري، إلا أن فضاء الرواية يدغم هذه المقاهي المختلفة في مقهى فني واحد «مقهى لمة الأحباب». تتربع عليه «للّا درّة» التي لا نلج بابها الحقيقي ونكتشف أنها لا تقل هزيمة عن بقية رواد مقهاها إلا في نهاية النص. وجمع كل تلك المقاهي/ الفضاءات العربية المختلفة أو دمجها في مكان واحد وفي زمن ليلي واحد هو الذي يكشف لنا عن طبيعة تناول الرواية للزمن، وهو ما يعزز زمكانية المكان ويدعم طبيعته الاستعارية. فالزمن السردي في هذه الرواية ليس زمنا تعاقبيا بالمعنى الدقيق للكلمة، أي الزمن الكرونومتري الذي يحسب بالساعات والأيام. فقد غابت عنه الذاكرة الزمنية التاريخية التي تمكننا إشاراتها العابرة من موضعه الأحداث في سياقات تاريخية بعينها، وتتبع تطورها عبر الزمن. أللهم إلا المناخ العام لزمن زين العابدين بن علي، وزمن ما بعد خروج الفلسطينيين من تونس عقب التوقيع على اتفاق أوسلو المشؤوم. ولكنه زمن يتشح بغلالة مما يدعوه والتر بنيامين بالزمن السرمدي الذي يتسم بقدر كبير من الديمومة التي تدور في فلكها الأشياء، وكأنها تجري في مجرّتها الكونية الخاصة. زمن يسيطر عليه التكرار، وتعود فيه النهايات إلى البدايات من جديد، ويتكرس فيه الثبات، وتغيب من أفقه احتمالات التغيير، أو وعود التطور أو المستقبل الأفضل. صحيح أن الأحداث تتقدم ببطء في هذا الزمن الثابت ببطء صوب الحدث المرهص بالزلزال المرتقب، تهنئة «الرئيس بعيد الخريف» (ص221)، لكنه يظل زمنا راكدا.
فهذا الزمن السرمدي هو أنسب الأزمنة لزمكانية النص، حيث المقهى/ الزمن السرمدي، أو العرضي/ الدائم المستمر والمتكرر، يوشك أن يكون مقهى حقيقيا واستعاريا في آن. «المقهى في شارع جانبي متفرع من شارع المقاهي الذي ينتفخ بنحو ستين مقهى آخر»(3) وكأن النص اختار موضعته في شارع جانبي، كي يكون موقعا استعاريا لواقع عربي لا مكان له إلا في الشوارع الجانبية لعالم يمضي ويتركه وراءه. ومع هذا الموقع الجانبي، تدخلنا الرواية في سراديب عالم ليلي بامتياز، يتيح لها الغوص إلى قيعان النفس البشرية العربية، خاصة في زمن ركود ما قبل انفجار دمدمات الربيع العربي، دون أن تقع في شراك التبشير به أو التنبؤ بما ستسفر عنه متغيراته، وتكتب هذا الزمن كتابة فيها رشاقة وخفة تهكمية شفيفة، وسلاسة لغوية وأسلوب شعري. كتابة تنتح من التجربة الحسية العميقة بما تكتب عنه من أحداث أو ما تجسده من شخصيات. وتتسم بعمق يمكنها من أن تحيل المقهى، وهو مكان عارض ودائم معا، إلى استعارة لعرضية الحياة ذاتها، ولعبء استمرار خفتها التي لا تحتمل في آن.
وقد اختارت الرواية أن تدلف إلى عالمها الروائي في هذا الزمكان العرضي السرمدي معا عبر أبواب لا فصول. حرصت على أن تؤكد للقارئ في مفتتحها أن «بعضها أبواب مدينة تونس» أي حقيقي وواقعي، فلا مدخل روائي حقيقي لأي عالم مهما كانت رمزيته أو استعاريته إلا من أبواب الواقع، وأشهر ما تشتهر به تونس العاصمة هو أبوابها. لا الأبواب التاريخية وحدها، وهي كثيرة وتشاركها فيها مدن عربية قديمة أخرى، ولكن حتى أبواب الدور التي تعتز بجمالياتها المتفردة. والتي تفتح الرواية هنا لا على الفضاءات الداخلية وأسرار البيت التونسي فحسب، وإنما على قيعان الروح ومواجدها وأسرارها كذلك. لذلك كانت إشارة المفتتح الدالة «بعضها أبوابك أو أبوابها» والتي تسعى إلى توسيع معنى الباب، وكأن هذا أحد أدوات فتح كوة في بهمة الليل والأفق المسدود فيه. لأن الرواية حرصت وهي تدخل إلى زمكانها العربي الثري على أن تضفر بين المنفى والوطن، فقد استحال الزمكان العربي، في الفترة التي تكتبها الرواية فيه، إلى منفى ووطن معا، نجد فيه أن الكثير من الشخصيات التونسية نفسها تشعر بالغربة في وطنها، وتحلم بمغادرته.
شراك الغواية واستحالة التحقق:
والواقع أن البنية الدائرية المحكمة التي تحيط بعالم هذه الرواية كالقيد، تبدو هي الأخرى كالعنوان تناقضية لأنها تبدأ بالبحث عن المتعة والتحقق وعقد الصفقات في الحمام، وتنتهي من حيث بدأت وقد أسفر البحث عن خواء وقبض الريح. خواء يرتد بنا إلى جملة المفتتح من جديد، كي نكتشف ألا شيء يحدث حقيقة في الحمام، وأن البحث المخفق عن التحقق ما هو إلا مسيرة كشف الشخصيات وتعريتها حتى النخاع، كي نرى كيف تتخبط جميعها في شباك هزائمها وانكساراتها، وكيف يتسلل الليل إلى مداخل النفوس التي يعلم أنها تستقبله وتتشربه كل شقوقها. وكيف تشتبك مصائر ها بشراك الغواية التي يعززها الليل كزمن سردي وسرمدي معا. فغواية الصيد وتبادل أرقام التليفونات والصفقات سواء أجرت في المقهى أو في الحمام، تعيدنا في هذه الرواية إلى تعريف المفكر الفرنسي جان بودريار Jean Baudrillard  (1929 – 2007) أحد أبرز منظري ما بعد الحداثة لهذا المصطلح. لأننا حقيقية بإزاء غواية مابعد حداثية بامتياز. يقول بودريار في كتابه (الغواية Seduction) الذي صدر بالفرنسية عام 1979 «إن مجال الغواية هو أفق المظاهر المقدس حيث يتآمر الظاهري أو المظهري على المعنى لاقتلاعه وزعزعته، سواء تعمد ذلك أم لم يتعمده، ويحوله إلى لعبة game فيها شيء من الخداع والاستغفال، لأنها تعد بأكثر مما تستطيع أن تنجزه أو تحققه ... لعبة قانونها الأساسي هو التواطؤ، لأنه لا غواية إلا بوجود طرفين على الأقل. ومع التواطؤ تبدأ عملية فقدان الذات، وكأن الغواية تدفع طرفيها إلى المتاهة الطوعية، المتاهة المشتهاة، لأن من يتصور في لعبة الغواية أنه قد سيطر على اللعبة، سرعان ما يصبح أول ضحايا استراتيجيات أسطورتها المأساوية».(4) ذلك لأن في الغواية شيء من «التبادل الرمزي للموت» وهو عنوان كتاب بودريار السابق على كتاب (الغواية).
فالغواية عنده هي نمط من التبادل الرمزي الذي يتسم بالسرية والطقسية معا، فهي نوع من المبادرة الفورية التي تضع شروطها الخاصة ضمن لعبة اقتصاديات شبقية مراوغة، سرعان ما يتحول فيها أي تعاقد جنسي أو عاطفي مضمر إلى دوامة حلزونية مدوّخة من الاستجابات والاستجابات المضادة.(5) ذلك لأن ما يغوينا أو يفتننا عنده، هو ما لانستطيع أن نحسه أو نسبر أغواره أو نقبض على معناه. لأن آليات الغواية تمكن المصطنع والمتوهم والعبثي من أن يحجب العقلي والمنطقي ويتغلب عليهما، متحديا مواضعات توليد المعنى الطبيعية، وحتمية تعزيزها للقيم الاجتماعية وعلاقات القوة(6). لذلك ظلت غواية الصيد، لا الصيد نفسه، كجري وراء ما لا نستطيع أن نقبض على معناه، هي محرك كل شخصيات الرواية، بما فيها كل من محمد شهريار وباربي، اللذين يبدوان وكأنهما أكثر الشخصيات معرفة لما يريدان تحقيقه، وأنجحهما فيه. لكنهما مع ذلك غير متحققين، لأن الغواية نفسها سراب. كما ظلت غواية السفر ، سواء إلى أوروبا والعبور إلى الشاطئ الآخر للمتوسط بالنسبة لجل الشخصيات التونسية التي تتوهم خلاصها فيه، أو إلى اللامكان كما هو الحال بالنسبة للشخصيات الفلسطينية بعد أن انكسر الحلم في الرجوع إلى المكان الوحيد المترع بالمعنى: فلسطين.
وتبدو الرواية كما تؤكد عبارة البداية والنهاية فيها، مشغولة بالغواية الشبقية، غواية الصيد والتحقق الجسدي في عالم انسدت فيه كل أبواب التحقق الأخرى. هنا نجد أن تمييز بودريار في كتابه ذاك بين نمطين من الغواية يحكم الكثير من اقتصاديات ممارساتها وطبيعة تبادلاتها في النص: نمط الغواية الأنثوي وهو رمزي واصطناعي معا، يعتمد على الغزل، والكلمات ذات المعاني المزدوجة، والنظرات الخفية الماكرة، والهمسات المترعة بالوعود، وكلها ممارسات تؤجل الفعل الجنسي، وتنطوي على التلاعب بالعلامات من المكياج إلى الموضة والملابس المثيرة إلى الحركات المغرية ودغدغة المشاعر من أجل السيطرة على النسق الرمزي للتواصل. أما نمط الغواية الذكوري فإنه يتمحور حول القضيب بمباشرته وطبيعيته والذي يسعى إلى السيطرة على النسق الفعلي أو العملي للتواصل وليس النسق الرمزي له من أجل تحقيق الفعل الجنسي لا تأجيله كما هو الحال في النمط الأنثوي.(7) وسوف نجد عددا من تجليات النمطين معا في الرواية. فـ«للّا درّة» توشك أن تكون التجسيد الكامل لنمط الغواية الأنثوي والقدرة على استخدامه في السيطرة على أنساق التواصل الرمزية المختلفة التي تستهدف تأجيل الفعل لا تحقيقه. لأنها كلما تأجل الفعل كلما بدت لنفسها وللآخرين عصيّة ومرغوبة معا. ويظل منطق الغواية الأنثوي ذاك يحكم كل تصرفات نساء الرواية،وإن تفاوت حظ بقيتهن من تجسيداتهن المختلفة له. حيث يزيد حظ «ألفة» و«حبيبة» منه برغم تفاوت منطلقيهما، عن حظ «نعيمة» أو «حلومة».
وتظل «باربي» ظاهريا على الأقل الاستثناء الذي يؤكد القاعدة. إذ توشك لمن لا يسبر أعماق غوايتها أن تكون تجسيدا لنوع أنثوي من الغواية القضيبية الذكورية المشغولة بالفعل لا النسق الرمزي للتواصل المفضي دوما إلى تأجيل هذا الفعل. لكن الفعل الذي تشتهيه أقرب ما يكون إلى الفعل المستحيل، أي إلى الغواية ذاتها بألف لام التعريف. لأنه الفعل من المنطق الغائب عن العقل الذكوري، الفعل كما تريده الأنثى، الفعل المثالي الذي يتحقق عبره كل الجسد الأنثوي. العفل الذي يبدو غائبا عن أفق التحقق، برغم كثرة ما اصطادت من ذكور. وبرغم انتقائها الدقيق لذكورها وفق معايير الجسد الخالصة وروائحه، وتدريبها الأدق لهم. لذلك فإنها بقدر ما تستمتع بغواية الصيد، تستمتع بتدريب الذكر على أن يقوم بما تشتهي الأنثى: «في سيارتها، في منتصف الطريق إلى دارها، تشحذ كل أسلحتها، وبدلال وافر مغلف ببعض حزم، تتسحب يدها على ساقه وتلقي عليه بيانها الافتتاحي: فرصتك جاءتك لحد عندك، خذها كاملة، لا تتعجل! خذني براحتك، على مهلك، على أقل من مهلك! لا تترك قطعة في جسدي إلا بعد أن تلين وتشير لك أنها استوت. ... اجعل المقدمة الموسيقية طويلة قدر ما تستطيع، كانوا يسهرون مع أم كلثوم للصباح .. حذار أن تترك قطعة فيّ تعتب عليك، أو تغار من جيرانها. أيقظ الغيرة بينهن، أوقدها! دعها تشعل قلب الذي ينتظر وتولع قلب الذي انتهى دوره ... غص إلى الأعماق كبحار محترف يفتش بلوعة عن لؤلؤة نادرة. تمعن وبنفس عميق طويل شمّ روائحي. الرجال الذين لايعرفون الروائح لا تُسجَل أسماؤهم على لائحة الخلود في معابد النساء ... زُر الأركان التي يخافها المرتعبون، لا تترك ركنا يلعنك ... افعل كل ما حلمت به، كل ما حكى لك عنه أصحابك صدقا أو كذبا، بالذات كذبا، ما رأيته خلسة من أفلام، ما طاف بخيالك وما لم يطف.»(ص 108 – 111)
ويكشف لنا هذا البيان الافتتاحي الطويل والذي اختصرته كثيرا هنا لأنه يمتد في الرواية لأربع صفحات عن أننا لسنا حقيقة بإزاء فعل ينطبق عليه النمط الذكوري للغواية، ولكننا بإزاء غواية فعل مشتهى، يوشك أن يكون سرابيا هو الآخر. وإلا لما عادت «باربي» في اليوم التالي إلى المقهى تبحث عن صيد جديد. ولما واصلت عدّ الشباب على أصابعها البضة. لذلك كتبت الرواية ببراعة تلك الغواية في بيان «باربي» الافتتاحي في أربع صفحات، ولم تشر ولو حتى بجملة واحدة إلى ما جرى بعدما تصل بشبانها الصغار إلى دارها. لم تتحدث حتى مرة واحدة عن بلاء أحدهم في كل ساحات بيانها الافتتاحي. ولكنها تحرص على أن تورد لنا بيانها الختامي، وهو لدلالة المفارقة بلا كلمات، فالكلمات كلها للغواية وللبيان الافتتاحي، وللفعل المستحيل المشتهى معا والتي تواصل البحث عنه، لأنه يصبح له بالتالي غوايته التي تدفعها إلى استهلاك شباب الذكور بالتتالي دون أن تخفت غوايته. «لايفوتها أن تلقي بيانها الختامي دون كلمات. تربت بيدها بضحكة طفولية وعشر دينارات للشاب المأسوف عليه، ليعود وحده بالتاكسي. وعلبة سجائر وكارت شحن لهاتفه، وقبلة على الخد. وتلويحة قوية سريعة بقبضة يدها، كأنها ترمي منشفة لملاكم في أرض الحلبة، إيذانا بالانسحاب من المباراة قبل أن يقتله الملاكم الآخر.» (ص113)
وإذا ما انتقلنا إلى نمط الغواية الذكوري الذي يتمحور حول القضيب بمباشرته وطبيعيته سنجد أن الرواية تواجهنا به منذ فصلها الأول، وتكشف لنا عن أنها مجرد غواية لا أكثر، غواية عاطلة عن الفعل يجسدها لنا قنّاص الفواتير «مجيد» اللبناني الذي يحب «أن تذهب معه اثنتان، واحدة لا تكفيه ... يشير من طرف عين وهو يبتسم ساخرا إلى عضوه، وبصوت مرتبع تخالطه النشوة: أبوجميل يسلم عليكم! تذهبان معه ... يقدم لهما العشاء كأميرتين. يأكلون ويشربون، وحين ترتفع الأدمغة يسخنون ويخلعون ... وحين لا تجدان جميلا ولا أباه، لا تختلف المسألة! شربتا وقبضتا، ولا تختلف عنده أيضا! شرب ودفع.» (ص11) أما «محمد كازانوفا» الذي يعتبر أن «مجيد» «بهيم وساقط»، (ص117) فإنه على العكس تماما منه، يجسد لنا الجانب الآخر من النمط الذكوري للغواية. الصياد الماهر الذي يستدعي للنص الأنماط الذكورية البدئية أو الأسطورية من شهريار إلى كازانوفا. بالصورة التي يوشك معها أن يكون الطبعة الذكورية من «باربي» والتي تسجل هي الأخرى افتقار الغواية للمعنى، سواء تحقق الفعل أو خاب. لذلك تكتسب قصته مع تلك التي طاردها طويلا حتى وقعت بشروطها «وحدي ... وحدي وحدي، ولا واحدة أخرى معي» (ص119) دلالات مهمة على وعي الرواية بآليات الغواية البوردريارية. لأن من يتصور أنه قد سيطر على متاهة الغواية الطوعية، سرعان ما يصبح ضحية آلياتها الأسطورية. لذلك فأن تلك التي أرادت أن تكون وحدها في ملعبه نبذته حينما أخل بالتعاقد المبرم بينهما، نبذ الكلاب. وظل يحاول استردادها بعد أن ضيعها دون جدوى. بينما تعرض عليه «باربي» وهي تحدس بأنه قد يكون وحده القادر على أن يحقق لها الفعل المشتهى وفق القواعد الأنثوية، أن تكون له وحده «لك وحدك» (ص122) فلا يجيب.
السفر إلى أوروبا وغواية وهم قديم:
أما السفر فإن غوايته تظل تداعب خيالات كثير من الشخصيات، لأن غواية السفر هي أداة الرواية لتجسيد مدى انسداد الأفق في وجه كل شخصياتها، التونسية منها والعربية على السواء. لذلك يظل السفر إلى أوروبا أشبه بالعلامة الفارغة التي تغوي من لا يستطيع سبر أغوارها أو القبض على معناها، وما أن تتحقق كما هو الحال مع «ألفة» حتى تستشعر حقيقة خواءها، أو تكتشف حقا مدى خلوها من أي معنى. إذ تبدأ الرواية منذ فصلها الثاني «باب الفتح» وهي تقدم لنا «نعيمة»، واحدة من أغنى شخصياتها وأكثرها دلالة على طبيعة الواقع التونسي وأفقه المسدود، في طرح السفر إلى أوروبا أو بالأحرى غواية أوروبا، باعتباره الملاذ والخلاص. فقد جاءت «نعيمة» إلى العاصمة من أقصى الشمال التونسي الفقير، «بشهادة متوسطة لا تستطيع أن تمنحها عملا ولا شربة ماء في مدينة يتسكع فيها حاصلون على شهادات أعلى»(ص27) عملت في المقهى، وعلّمت أختها في الجامعة، «كان عليها أن تساعد أختها، تعطيها ما حرمت منه»(ص28)، وحاولت حتى أن تساعد أخاها، الذي رفض أن يعيش عالة على أخته ونزل للبحث عن عمل. بينما واصلت «نعيمة» تعليم أختها، والعمل في المقاهي حتى جاءتها فرصتها أخيرا في شكل «إيطالي طيب في منتصف الخمسينيات وهي في أول الثلاثينيات ... فرصة يجب أن تطبق عليها بما منحتها الطبيعة كي تستطيع أن تطفو على سطح الدنيا. بلاد جميلة غير هذه البلاد البليدة، وفلوس ومعاش للعمر وتأمين للمستقبل والصحة، حتى ولو استمر سنة واحدة. الدنيا هنا مقفولة» (ص29).
لكن المثير في هذه القصة أن أختها التي ضحت من أجلها، وعملت من أجل أن تمنحها فرصة التعليم العالي الذي حرمت هي منه، هي التي حرمتها من فرصتها في السفر مع الإيطالي الذي أغرم بها إلى أوروبا، وخطفته منها. وظل الإحساس بالغدر «يخرج لها من تحت وسادتها قبل النوم» (ص33) فيقض مضجعها وينهش روحها من الداخل، يوزع تصرفاتها بين الانتقام من الأجانب بعد أن غدر أحدهم بها، وبين تعزية النفس «أختك وأخذته، أحسن من أن يذهب لواحدة غريبة!» (ص32). هكذا افتتحت الرواية بخيانة الأخت لأختها أولى خياناتها، ففي الرواية كتالوج كامل من الخيانات الشخصية منها والوطنية. لكنها تسكت تماما عما جرى للأخت المترعة بالشباب بعد أن طارت مع الإيطالي العجوز. فما يهمها هنا هو كيف أن غواية السفر، حتى مع كهل في منتصف الخمسينيات من العمر تدفع شابة في العشرينيات إلى خيانة أختها، كما تدفع الكثير من الشبان إلى المغامرة بالهرب سرا عبر البحر والتي تؤدي غالبا للموت. فموت قصة الأخت في الرواية هي الرديف الفني لموت الكثيرين من الهاربين من الأفق المسدود وراء سراب غواية الخلاص بأوروبا.
لكن غواية السفر برغم ما تنطوي عليه من موت وأخطار، تظل مستحوذة على الكثيرين والكثيرات في هذه الرواية، لأن في الغواية قدر من التبادل الرمزي للموت كما يخبرنا بودريار. تستحوذ على أكثر من امرأة من نساء الرواية، ولا تحققه فيها إلا واحدة «ألفة»، كرة النار في الرواية، والتي تقدمها لنا في «باب النار». لذلك تتأنى الرواية في وصفها حتى تحيلها إلى التجسيد الحي للجمال والشر والغواية معا. فعندها كما قال السوداني العابر وقد دوّخه جمالها فأعياه عن الوصف «عندها حاجات، عندها حاجات ... حاجات» (ص175) ولا غرو فهي «متيمة بروحها، عندها حق. وحطبها ونارها تكاد تسمع أصوات طرقعتها، حضور ليس أشبه بموسيقى ناعمة، أقرب إلى إيقاع طبلة صاخب» (ص175) ولا شيء يعزز الحضور ويؤلقه قدر التتيم بالذات. ومع أن «ألفة» تلعب بشروطها في الملعب التونسي الواسع، وتحقق فيه كل ما ترجوه لنفسها، فإنها لا تستطيع أن تقاوم غواية السفر إلى أوروبا، والتي تخايل أكثر بنات هذه الرواية.
وتتكرر معها قصة «نعيمة» مع أوروبي خمسيني قادم من ألمانيا هذه المرة. لكن «ألفة» برغم أنها فعلت ما فعلته «نعيمة» وأضاع منها الإيطالي، تنجح بعد عام من تعليم اللغة الألمانية، في السفر لألمانيا وفي الليلة الثانية تزوجته. «في ألمانيا وجدت نفسها في بلد نظيف» ولكن «مخ التونسي هكذا!» (ص181) كما تقول نعيمة بمرارة. لكن «ألفة» لا تعرف المرارة التي لاتزال «نعيمة» تتقلب في جمرها. عبت مما وفرته لها ألمانيا حتى الثمالة، وتمرغت بين أحضان ذويها وغيرهم من المهاجرين الذين يحلمون باللحم الأبيض، كي يدكوا لها كل قلاعها التي لم يتمكن الألمان من فتحها. ثم عادت إلى قواعدها التونسية سالمة. تواسي «نعيمة» قائلة «خدي نفسك يا نعيمة واهدائي! أخذت لك بثارك من الأجانب ... رأيت أخاك في ألمانيا ... البنت التي خلفتها تشبهه ... أنا متأكدة أنها ابنته، اللبن الخائف لا ينجب غير البنات» (ص190) لكن هل استطاعت حقا أن تأخذ لها بثأرها؟ أم أنها أصبحت هي الأخرى إحدى ضحايا الغواية في الوقت الذي تتوهم فيه أنها سيطرت على لعبتها؟ لأن عجز «ألفة» عن توفر لنفسها حياة نظيفة في ألمانيا، يكشف لنا عن آليات الوهم القديم وكمون الموت في ثؤر غواياته.
وتعود «ألفة» إلى المقهى من جديد. فدائرية الحركة السردية في هذه الرواية لا تعتمد حركة الشخصيات فيها برغم دائريتها على الدوران، على نفس المستوى، أو على نفس المنوال وأن بدا وكأنها تفعل ذلك كثيران السواقي المعماة؛ ولا حتى على تكرار الدورة على مستوى آخر في نوع من الحركة الحلزونية الواعدة بشيء من التغيير، وإنما على الصعود والهبوط الذي تضرب حركته الشخصيات بين آمال التحقق وأوجاع التردي والضياع. وكأن الدوران فيها أقرب إلى حركة التخبط في شباك محكمة وإن بدا أنها غير مرئية إلى حد يغرى الشخصيات لا بالحلم وحده، وإنما بوهم الحرية برغم وقوعها في أمراس عبودية طوعية تتضافر فيها العوامل الاجتماعية مع عوالم قدرية وميتافيزيقية خانقة.
فتح المدينة على العالم والسياسة:
وتقدم لنا الرواية كل شخصياتها وهي تتعثر في شباك عوالمها الليلية والأفق المسدود في الزمن العربي الرديء الذي سيطر على جل عالما العربي لأمد غير قصير. تقدمها بحب ومعرفة حقيقية بالعالم الذي تخلقه وبكل شخصية فيه. فنحن بإزاء كتابة صادرة عن خبرة بالشخصيات التي تقدمها والمواقف التي تكتبها، والزمن الذي تجسد لنا وقعه الثقيل على الجميع. تكتب لنا الرواية حفنة من الشخصيات التونسية والفلسطينية تتماثل مصائرها ولكنها لا تتقاطع أو تتشابك، وإنما تتجاور في هذا الفضاء التونسي /العربي بامتياز/ لأنه يسع الليبي واللبناني والسوري والسوداني والمصري/ في مناخ أمني يُعَهِر الجميع، أو يستل الحياة الصحية الصحيحة من أفقهم. شخصيات تحركها أشواقها للتحرر من أسر هذا الواقع المثقل بالهزيمة والقهر معا، ولكنها تصطدم بقسوة هذا الزمن الرديء وصلابته وتماسك الفساد فيه من ناحية، وبمحدودية إمكانياتها ومعرفتها به من ناحية أخرى.
فبالرغم من أن الرواية تبدو وكأنها لا تهتم بالسياسة، ولا يشغل شخصياتها جميعا إلا البحث عن المتع الحسية الموقوتة، وتوفير المال لأحلام تبدو دائما مؤجلة، إلا أنها تكشف بحق عن مسؤولية السياسة عن كل ما يجري لشخصياتها. لا السياسة في المجتمع التونسي المحدود زمن قبضة نظام بن علي الحديدية فحسب، وإنما في المجتمع العربي الأوسع. فنحن بإزاء رواية مشغولة حتى النخاع بالهم العربي المقيم: الهم الفلسطيني. فهي في واقع الأمر واحدة من أهم الروايات المصرية التي انشغلت بالهم الفلسطيني، انشغال مصر العميق به، وانشغلت معه بالهم العربي العام فكتبت تنويعاتها التونسية عليه. رواية تكتب مدينة أخرى غير مدينة كاتبها، بإقناع ومهارة. فنحن بإزاء كاتب مصري يكتب لنا مدينة تونس، بصورة لم يكتب بها كاتب مصري مدينة أخرى بهذا العشق ولا بهذا العمق. فقد كتب توفيق الحكيم عن باريس في (عصفور من الشرق) وكتب يحيى حقي عن لندن في (قنديل أم هاشم) وكتب صنع الله إبراهيم عن بيروت، في (بيروت بيروت) ولكن لم يكتب أي منهم عن مدينته بهذا العشق والعمق.
وهي تكتب مدينة تونس بعدما تركها الفلسطينيون بعد أوسلو، وتركوا وراءهم من رفضت دولة الاستيطان الصهيوني التصريح لهم بالعودة مع المنظمة .. لأنهم مناضلون حقيقيون تلوثت أيدهم بدم الصهاينة، أما المناضلون المزيفون فقد عادوا جميعا ليواصلوا دورهم في «حبف» حركة بيع فلسطين، وفي التخلي عن القضية وخيانتها. والخيانة لحن أساسي من ألحان هذه الرواية تسري فيها كنغمة القرار في المعزوفات الموسيقية الكبيرة، منذ افتتاح الرواية، في «باب الفتح» بخيانة اخت «نعيمة» لها واختطافها فرصتها منها، وحتى إنهائها بخيانات رجال الأمن «للّا درّة» ولمقهاها، مرورا بالقطع بعشرات الخيانات الصغيرة الأخرى، وبالخيانة الكبرى للقضية الفلسطينية التي ترك أصحابها من وهبوا لها العمر بإخلاص وتفانٍ وراءهم. لأن فلسطيني الرواية منسيون يتخبطون في شباك الفقر والهزيمة. إذ تقيم الرواية توازنا حساسا بين الخيط الفلسطيني والخيط التونسي فيها، وتضفرهما معا عبر جماليات التجاور وانعكاسات بعض الشخصيات في قاعات مراياها الروائية على مرايا شخصيات أخرى بمهارة وحنكة، فيتخلق من تضافر الخيطين نسيج العالم المترع بالهزيمة وعبء الأفق المسدود.
البنية الدائرية والحركة «محلك سر»:
وحتى نعرف حقيقة العالم وكثافة ما تنطوي عليه الشخصيات من رؤى ومواجد، علينا التريث عند ما دعوته بمحتوى الشكل فيها. فإذا كانت رواية وحيد الطويلة تنتهي بتكرار نفس الجملة التي بدأت بها: «كل شيء يحدث في الحمام» لتنبه القارئ إلى بنيتها الدائرية من ناحية، وإلى الحمام كاستعارة مقلوبة للمقهى، الذي هو بدوره استعارة لعرضية الحياة والعالم من ناحية أخرى، فإن بدايتها بـ«باب البنات» ونهايتها بـ«باب للّا درة» ست البنات المهزومات وأشدهن هزيمة، لأنها الهزيمة التي لا تبدو على الإطلاق وكأنها هزيمة، وإنما تتبدى لنا وللجميع وكأنها العكس تماما، تؤكد هذه الدائرية مرة أخرى لمن فاتته جملة البداية/ النهاية. فدائرية البنية الروائية ليست مجرد حيلة شكلية بأي حال من الأحوال في هذه الرواية، ولكنها أكثر الأشكال ملاءمة لما تطرحه الرواية من رؤى وما تقدمه من عالم يموج بالهزائم والانكسارات على المستوى الشخصي والعام على السواء. وهي هزائم يسفر بعضها عن وجهه بوضوح، ولكن بعضها الآخر يموه على نفسه بأنه ليس مهزوما، كتمويه الواقع العربي العريض على هزائمه التي يدعوها على الدوام بالانتصارات. فالبنية الدائرية على العكس من البنية الخطية التي تسجل الحركة والتقدم، بنية تكشف عن أن كل حركة ما هي إلا وهم حركة، لأنها تعود بنا إلى نقطة البداية، وهي هنا نقطة المحاولة «في الحمام» على أمل لقاء أو تحقق. وأن أي وهم بالحركة ليس إلا تعبيرا عن الرغبة الملتاعة في التملص من قيود الركود الرازح الذي يحكم قبضته على الجميع، ويشل حركتهم الحرة في التقدم أو تحقيق أحلامهم العصية البسيطة في هذا العالم. عالم مقهى «لمة الأحباب» باسمه التناقضي، كعنوان الرواية ذاته، حيث ليس ثمة لمة بالمعنى الحقيقي أللهم إلا اللمة العارضة، التي يؤكد تكرارها إلحاح البنية الدائرية وعرضيتها. فهي لمة مقهى يحضر فيه من يحضر ويغيب من يغيب، بصورة يستوي فيها الحضور والغياب. وليس ثمة أحباب بحق، أو حب من النوع الذي يستغرق الإنسان وينقذه من الهزيمة والانكسار، وإنما عالم مليء بشخصيات جائعة للحب وللتحقق معا. لا يطل على أفقه الحب إلا لماما، وبطريقة أقرب للشفقة أو العطف أو التشبث بقشة درءًا للغرق منها بالحب الحقيقي.
فالدوران في المكان والتردد عليه والوقوع في فلك بنيته الدائرية هو سبيل الرواية للكشف عن حقيقة الأفق المسدود الذي سيطر على الواقع العربي لعقود، لا في تونس وحدها حيث تدور الرواية، وإنما في العالم العربي من حولها. لأننا في هذه الرواية بإزاء «لمة» عربية بحق. سداها تونس، ولكن لحمتها من فلسطين وليبيا ومصر وسوريا ولبنان والسودان، وهي كالعالم العربي نفسه، «لمة» مفتوحة على البحر الأبيض المتوسط، تتوق شخصياتها للهرب إلى عالم أفضل/ وهم أفضل على ضفته الأوربية الأخرى. والدوران أيضا هو أداة الرواية لتعرية عجز شخصياتها عن الفعل أو التحقق واشتباكها بأليات عالمها الكابوسي الذي لا تفلح حركتها للتملص منه، إلا في إيقاعها في قلب شبكته الصارمة. لأن حركة معظم الشخصيات في هذا المقهى هي من نوع «محلك سر»، لا تقترب بأي منها نحو تحقيق حلمها، باستثناء نهاية حلم المغنية «حبيبة» التي أبقتها الرواية مفتوحة أو معلقة. لا نعرف إذا ما كانت ستؤدي التذكرة التي حصلت عليها في نهاية الرواية للتحقق فعلا، أم أنها مجرد أمل كاذب، أو سراب خادع، يحكم قبضة الكابوس على الجميع.
أفلم تتمكن «ألفة» من السفر الى أوروبا الذي أخفقت «نعيمة» في تحقيقه، وتكشف سفرها عن خواء؟ وقد عمدت الرواية إلى تجسيد هذا الكابوس بشكل حسي وكأننا بإزاء كابوس هنري ميلر المكيف الهواء. لأنه كابوس يتسم بالعرامة التي يسكن الخواء في ثؤر روحها، عرامة الوعود بالمباهج الحسية، واستعار الشهوة في الأبدان، وتلامس الأجساد واستداراتها خلف الملابس المغوية، والغناء والرقص، وكل ما يبدو أنه وهم تحقق واستمتاع. فبين الأجساد العارمة المترعة بالرغبة وحب الحياة، والأرواح المكسورة التي تعاني من الهزائم الصغيرة منها والكبيرة يمتد الوتر المشدود الذي تدور عليه كل أحداث الرواية. لأن الرواية تعي في كتابتها للجسد كيف يدفع بالشبق عن نفسه غوائل التردي والانكسار. وكيف أنه كلما توالت عليه الإحباطات وانسد في وجهه الأفق، كلما ازدادت رغبته في أن يبرهن لنفسه أنه لايزال على قيد الحياة. يدرا بالفعل، أو حتى بوهم الفعل كما هو الحال مع مجيد، عن نفسه الموت الذي تنتشر كوابيسه في الهواء.
لكن أي تأمل فيما تنطوي عليه هذه البنية من خريطة علاقات التماثل والتضاد بين الشخصيات العديدة التي يعج بها هذا المقهى سيكشف لنا عن أننا في عالم تتحكم فيه الصورة (صورة بن علي، الرئيس الذي ليس في واقع الأمر إلا صورة للرئيس الحقيقي الذي أصابه الخرف) وكل مسوخها من رجال الأمن الذين يمارسون السلطة على كل من فيه، برغم غيابهم الفعلي عنه. والذين تستمد منهم صاحبة المقهى «لالّة درة» سلطتها وسيطرتها الشكلية، وتتشكل بهم هزيمتها معا، بخضوعها لشروط هذا العالم الممسوخ وإملاءاته. وقد سبق وأن أشرت إلى تحليل بودريار للغواية وتأكيده على أن «آليات الغواية تمكن المصطنع والمتوهم والعبثي من أن يحجب العقلي والمنطقي ويتغلب عليهما، متحديا مواضعات توليد المعنى الطبيعية، وحتمية تعزيزها للقيم الاجتماعية وعلاقات القوة».
السيميولاكرا .. وسطوة الصورة الزائفة:
وحتى يكتمل فهمنا لمدى ما يعيشه عالمنا العربي من تدهور تكشف لنا عنه هذه الرواية الجميلة علينا التريث قليلا عند مفهوم آخر لبوردريار استقاه من عمل قصصي بالغ القصر والعمق معا، وهو ما دعاه بالسميولاكرا
Simulacra أي الصورة الزائفة. وقد استمد هذا المفهوم من قصة قصيرة للكاتب الأرجنتيني الأشهر خورجي لويس بورخيز Jorge Luis Borges وهي بعنوان (عن التماثل المضبوط في العلم On Exactitude in Science) وهي قصة تتكون من فقرة واحدة ولكنها بالغة العمق والجمال، لذلك أورد ترجمتها كاملة هنا:
«في تلك الإمبراطورية بلغ فن رسم الخرائط أوج الدقة والضبط والكمال. إلى الحد الذي شغلت فيه خريطة مقاطعة مدينة بأكملها، وخريطة الإمبراطورية مقاطعة برمتها. وفي وقت لم تعد فيها هذه الخرائط المفرطة في دقتها وضخامتها قادرة على إشباع طموح رسامي الخرائط، عمد اتحاد رسامي الخرائط إلى عمل خريطة للإمبراطورية بحجم الإمبراطورية نفسها. يناظر فيها كل جزء من الإمبراطورية تجسيده على الخريطة. لكن الأجيال التالية، والتي لم تكن مغرمة بدراسة فن رسم الخرائط كشغف أسلافهم بها، رأت أن هذه الخريطة الضخمة لا جدوى منها ولا نفع فيها، وأنها تنطوي على قدر من الغلظة، فتركتها نهبا لقسوة الشمس وعوامل التعرية في الشتاءات المتعاقبة. وفي الصحارى الغربية لاتزال هناك حتى اليوم بقايا مزق هذه الخريطة، وقد سكنها الشحاذون وأقامت في ثناياها الحيوانات. ولم يعد في البلاد كلها أي أثر لفن رسم الخرائط».(8)
من هذه القصة البديعة استوحى بودريار مفهومه عن غلظة الحياة وخوائها وقسوتها في صحارى مجتمع ما بعد الحداثة، الذي أصبحت فيه خريطة بورخيز بمقياس رسم 1 – 1 وبعد أن مزقتها عوامل التعرية المناخية المختلفة هي المعادل الحقيقي للمجتمع الحديث، أو بالأحرى ما بعد الحداثي، وقد تحول فيه كل شيء إلى مجموعة من المسوخ المشوهة في بقايا تلك الخريطة البالية والملقاة في صحراء الواقع/ الحقيقي الافتراضي معا. فقد ضيع هذا المجتمع الأصل، بعدما اندثرت الإمبراطورية ولم تبق له إلا بقايا تلك الخريطة التي تعمرها حسب بودريار السميولاكرا Simulacra، أي الصورة الزائفة، وهو مصطلح يعود إلى أفلاطون، لكنه اكتسب حياة فكرية وفلسفية جديدة تحت وقع معالجة بودريار الذكية له. والسيميولاكرا حسب تعريف بودريار لها هي الصورة التي تطمح أن تكون أصلا، أو تزعم أنها تنوب عن أصل لا وجود له في نهاية الأمر، بالطريقة التي تنوب فيها حقا عن خواء مدقع، دون أن تكف أبدا عن الادعاء، بل اليقين بأنها تنوب عن شيء حقيقي. فينتهي بها الأمر لا هي أصل (حيث لا وجود له) ولا هي حتى صورة لهذا الأصل المبتغى الذي يبدو هو الآخر، وكأنه أصل مزعوم، لأن الأصل الذي تطمح الصورة أن تكونه سرعان ما يصبح مع ترسخ الصورة وسطوتها لا ضرورة له، بل يتحول إلى عائق يحول دون تناميها وفاعليتها. (ألم يكن مجرد وجود بورقيبة في تونس العاصمة عائقا أمام تحول بن علي إلى سيمولاكرا له، فكان لابد من نفيه إلى المنستير، كي تتحقق الصورة، وتحيل بتحققها السلطة نفسها إلى مسخ وفساد).
لذلك فإن السميولاكرا ليست بأي حال من الأحوال ما يخفي الحقيقة، وإنما هي الحقيقة التي تخفي حقيقة أنه ليست هناك حقيقة.(9) فهي الخواء الذي يزعم أنه الواقع، ويعلن بقوه عن زيفه، بحيث تبدو دائما وكأنها أقرب إلى التعبير العامي «فالصو» لا تخطئ العين زيفها. فهي مسخ زائف يعلن عن امتساخه وزيفه بكل فخر ودونما خجل. وهي ككل ما هو «فالصو» لا أمل لها أبدا في أن تكون حقيقية، ويرتبط أملها بالفاعلية والاستمرار في تحولها إلى نسق ونظام من العلامات الخاوية التي لا تشير إلى واقع حقيقي، أو أصول من أي نوع. فالسيمولاكرا عند بودريار ليست قاصرة على الصورة وحدها، ولكنها تمتد إلى أنساق كاملة من العمليات أو الأنظمة التي تزعم أنها تحاكي عمليات وأنظمة سياسية أو اجتماعية حقيقية، ثم تتحول إلى اليقين بأن ما تفعله ليس تقليدا أو مسخا لعمليات وأنظمة، ولكنه هو النظام الذي يستحق أن يتبع، وأن يبقى وأن يترسخ. وأن كل ما عداه هو الاستثناء الذي لابد من الإجهاز عليه، كي لا تطرح أي أسئلة حقيقية عن الحقيقة. بالصورة التي تسم عنده السيمولاكرا الوضع ما بعد الحداثي كله، وسيطرة الصورة على عوالمه الافتراضية والواقعية على السواء. حيث ثمة أنظمة حكم تزعم أنها أنظمة حكم وهي في حقيقية الأمر سميولاكرات خاوية، تحكم بشرا يتحولون هم أيضا إلى سميولاكرات لبشر، يعيشون أغلبهم في مناطق عشوائية ليست إلا سيمولاكرات لمدن .. وهكذا.
مسوخ زائفة في صحارى الواقع الرديء:
وتنطوي الرواية، بوعي من الكاتب، أو عبر حدوسه الروائية المبدعة، على لعبتها الخلاقة على المفهوم البودرياري ما بعد الحداثي عن الشخصية/ النظام السياسي/ المسوخ الزائفة، التي تتخلق في واقع تحكمه أنظمة زائفة هي في حقيقة الأمر سميولاكرات لأنظمة. حيث تبدو «لالة درة» أصلا بالنسبة للكثيرات من بنات الرواية، يطمحن في الوصول إلى تحقيق شيء منه، بينما هي نفسها – بالرغم من أنها ملكة النحل التي تستحلب كل الذكور، وتمتص رحيق كل الشغالات – ليست أكثر من صورة زائفة، سيمولاكرا لصورة أكثر منها زيفا، وإن بقيت في عالمها حقيقة، وفي لاوعي الرواية غائبة هي ليلى بن علي/ الحلاقة التي وجدت نفسها سيدة القصر والمصر بأكمله، أو السيمولاكرا الكبرى التي تسعى كل الصور الزائفة الصغرى للحاق بها. هي (للّا درة) قطعا سميولاكرا الملكة ففي «باب العسل» نعرف أنها كالأخريات، حيث يقول أبو شندي عنها «هي عاهرة يا أبا شندي في ثوب ملكة، عاهرة ولو بالحبر السري .. لأنها لم تعشق أبدا كما قالت. العشق يوسع في الروح والبدن طريقا آخر.»(ص 97) «هي عاهرة بالمعنى الحرفي بالتمام والكمال، بالذكاء والفتنة» (ص 220) هذه هي حقيقتها الكاشفة عن انكسارها الداخلي بالرغم من أنها تبدو وكأنها «الملكة»، «الدرة» كما يقول اسمها، ولكنها ملكة على مملكة النحل التي لا يبقى فيها سواها، تمتص رحيق كل البنات/ الشغالات البائسات المسحوقات، وتجهز على كل الذكور المهزومين، ولكنها تكتشف أنها ليست ملكة حينما يقول لها شيخ الأمن «ولكنك نسيت السيدة الأولى» (ص238) أو بالأحرى السميولاكرا الأولى، فندرك أننا في عالم مابعد حداثي بامتياز عالم الصور الزائفة لصور أشد منها زيفا. وتكشف لنا نهاية الرواية عن أن كل ممارساتها، ومواقفها، وعلاقاتها برجال السلطة، ليست إلا قناعا زائفا لمرارتها منهم جميعا، ولضيقها بسطوة الزيف والسيميولاكرا، وحتى بنفسها. «تقع عيناها على صور السيد الرئيس في مكانها من الحمام. لبرهة تنظر إليها، تستدير لتخرج. تغير اتجاهها نحوها مرة ثانية. فجأة تركلها بقدمها، تسّاقط مبعثرة على أرضية الحمام، تحملها بأطراف أصابعها إلى سلة القمامة.»(ص246)
وإذا ما واصلنا تأمل هذا المفهوم البودرياري في الرواية سنجد أننا بإزاء رواية معمورة بشخصيات مابعد حداثية بامتياز. كل منهم Simulacra أي صورة زائفة تتغيا أن تكون حقيقة، لآخر/ لشخص/ لصورة أخرى/ لفكرة / لوهم راسخ ورازح معا. وسنجد بها ثنائيات شيقة من الشخصيات التي يحكمها هذا المفهوم، وتنويعات ثرية على موضوع الانكسار والهزيمة. فكل شخصية سواء أكانت رجالية أو نسائية يحكمها هذا المفهوم ويعزز اغترابها عن ذاتها الحقيقية، وتأكيدها لزيف واقعها، وشوقها الذي يبلغ حد الاستحواذ في أن تكون شيئا عصيا آخر غير ذاتها الحقيقية. سواء أقبع ذلك الشيء في الماضي، كما هو الحال مع جل الشخصيات الفلسطينية، أو ظل خيالا لا أمل إلى الهبوط به من فراديس الخيال إلى كوابيس الواقع كما هو حال الكثير من الشخصيات التونسية والعربية الأخرى. وثنائيات الشخصيات كثيرة: محمد شهريار وباربي/ مجيد وغسان/ نعيمة وألفة/ حلومة ورحمة/ سفيان ومهدي. فمحمد شهريار أو محمد كازانوفا ليس إلا سميولاكرا لكل من الأصلين الغائبين والمستحيلين معا: شهريار وكازانوفا/ وحينما يقابل حلمه الحقيقي لا تلبث دودة الزيف الكامنة في قلب الثمرة أن تجهز علي تحققه بغير رجعة. ومثيلته باربي، أو شهريار الأنثوي المقلوب، هي الأخرى تجري وراء تحقق سرابي زائف تزعم أنها تسيطر عليه، ولكن دودة الزيف تدب في قلب ثمرة تحققها الكاذب ذاك، عندما يعرض كازانوفا عنها، وإن ظل على الدوام أمامها يخايلها، وكأنه يختال بهزيمته عليها.
فلسطين .. أوجاع الهزيمة واستحالة التحقق:
تظل قضية فلسطين هي الوجع العربي الأكبر، وهي التحدي الأكبر الذي يواجه العربي كلما توهم أن باستطاعته التحقق وهي ضائعة. وقد ظلت هذه القضية شارة على ما يواجهه أي مشروع نهضوي عربي منذ زُرِع هذا الكيان الصهيوني الهجين خنجرا مسموما في خاصرة العالم العربي، وفي قلب الإنسان العربي، سواء وعي بنزفه المستمر أم لم يعه. وقد ظلت مصر أكثر البلدان العربية وعيا بأهمية هذا الهم الفلسطيني، وكأنه هم مصري خالص. أو بالأحرى لأنه هم مصري خالص، يلح على العقل المصري وعلى المشاعر الوطنية المصرية على الدوام، مهما حاول الأعداء تنحيته عنهما. ولا أدل على ذلك من اهتمام الرواية المصرية بفلسطين منذ النكبة ورواية يوسف السباعي الباكرة عنها (طريق العودة) وحتى الآن. وفي السنوات الأخيرة وبعد كتابة بهاء طاهر الجميلة لمجزرة صبرا وشاتيلا في (الحب في المنفى) كهم فلسطيني وعربي مقيم، كرست رضوى عاشور روايتها الأخيرة (الطنطورية) بكاملها لها. وكتبت عبرها كيف صمدت فلسطين في وجه المحو، وطرحت نفسها وبلورت هويتها بقدرة الموقف الأخلاقي الأعلى.
وها هو وحيد الطويلة في روايته الجديدة تلك يقدم لنا تنويعاته الخصبة على الوجع الفلسطيني من ناحية، وعلى تسلح هذا الوجع بالموقف الأخلاقي الأعلى أيضا من ناحية أخرى. ليكتب عبر الشخصيات الفلسطينية الثرية في روايته حقيقة الهزيمة التي يعيشها الواقع العربي برمته، ولا يفلت منها حتى أكثر من يتوهمون أنهم أبعد ما يكونون عنها، كما الحال في مجتمع كالمجتمع التونسي الذي تفصله آلاف الكيلومترات عن حدود فسطين المستباحة. وليجعل لحضور هزيمتهم في بقية شخصيات الرواية التي تتوهم عبر سيميولاكرات صورها الزائفة عن نفسها أنها بعيدة عنها، تجسيدا روائيا ملموسا، لتجذر فلسطين فينا، حينما يحولهم إلى مرايا قادرة على الإحساس بأدق تفاصيل الهزائم في البشر. لأن الانكسار أو الهزيمة هو نغمة القرار التي تتخلل الرواية كلها، وهي موضوعها الرئيسي في قراءتي لها.
فـ(باب الليل) رواية سياسية بالمعنى الحقيقي والعميق للرواية السياسية، حيث لا تطفو فيها السياسة على السطح، وإنما تظل أبدا ثاوية في العمق، تتجلى من خلال علاقات الهيمنة المختفية منها والظاهرة. تظل «غاطسة» في قاع العمل تتحكم فيه دون أن تبدو أنها تفعل ذلك على الإطلاق وفق مفهوم الهيمنة الجرامشي العميق. إذ يبدو على السطح أن كثيرا من شخصياتها النسائية التونسية، خاصة «للّا درّة» و«باربي» و«ألفة»، أو حتى الرجالية التونسية مثل «محمد كازانوفا» و«سفيان» و«زوج درّة»، شخصيات متحققة تستمتع بما وفرته الحياة في تونس من حرية، لكن علاقات التجاور والتفاعل بين هذه الشخصيات كلها وبين حفنة الشخصيات الفلسطينية تكشف لنا عن هزيمتها، وعن أنها مجرد صور زائفة لأصول مهزومة أو ممسوخة. ذلك لأن شخصيات النص الفلسطينية هي التي تجسد لنا الهزيمة في كامل صورتها. حيث تعيش كل منها هزيمتها الخاصة بجلد ونبل واضحين، بالصورة التي تكشف لنا بها الرواية كيف تتسلل الهزيمة إلى أدق تفاصيل الحياة الشخصية الخاصة لكل من يستسلم لها، أو يقاومها على السواء.
فالهزائم كالانتصارات، لها تأثيرها الشامل والكاسح على الجميع، لأنهما من الأمور العامة التي يشمل تأثيرها الأمة كلها، ولا يستطيع الفرد التملص كلية من تأثيرهما مهما حاول. وإذا كنت، يا قارئي العزيز، قد عشت سنوات طويلة مثلي بين أمم منتصرة، مثل بريطانيا أو أمريكا، فإنك ستدرك أن الانتصار يعم، تماما كالهزيمة التي تجرعها جيلي الذي عاش هزيمة 1967، ولم تنطل عليه دعايات حرب أكتوبر والعبور أو انتصاراته التي أفضت إلى ما دعاه محمد عفيفي مطر «انتصار الهزيمة»، وانتهت برفع علم العدو الصهيوني في أكبر عاصمة عربية، وبتحرير سيناء المنقوص الذي لازلنا نعاني منه حتى اليوم. بل ستدرك أن إنسان الأمم المنتصرة يختلف عن بشر الأمم المهزومة، لأن الإجابة الوحيدة على الهزيمة هي الانتصار كما قال ونستون تشرشل. وأنه بقدر ما تنعش الانتصارات الروح فإن الهزائم تنهشها وتلوب فيها تدميرا من الداخل. وقد كتب لنا وحيد الطويلة تآكل الروح وضمورها بطريقة تكشف عن أنه لا أمل في أن تنتعش الروح العربية، طالما استمر الجرح الفلسطيني في النزيف.
فتونس التي تبدو أبعد ما تكون عن خط المواجهة مع العدو الصهيوني، نالت هي الأخرى نصيبها مما ألحقه هذا العدو البغيض بالأمة العربية من هزائم. حيث تتجلى الهزيمة في كثير من شخصياتها الحاضرة والغائبة على السواء .. ومن تلك الشخصيات الغائبة زوجة أبي شندي التونسية التي خلعته، والتي لا تقل هزيمة عن «نعيمة» التي آثرته. ناهيك عن أسرة أبي جعفر المهزوم التي أضاعها عند هربه عقب احتلال العراق، «ولا يدري أين أهله، وما إذا كان يكلم أشباحا أم جثثا».(ص213) وأسرة شادي التي تطاردها حماقة تعبير ابنها الصبي عن رغبته في أن يصبح رئيسا حينما يكبر، لأنه لم يعرف بعد أن الرئيس ليس في حقيقة الأمر إلا سميولاكرا رئيس.
والواقع أنني لم أقرأ من قبل هزيمة الشخصية الفلسطينية بعد أوسلو في أي من الأعمال العربية الكثيرة التي جسدت وقع هزيمة فلسطين وما يجري فيها على الروح العربية بهذا القدر من النصاعة والعمق الذي تجسده لنا شخصيات (باب الليل) الفلسطينية. حيث نرى فيها كيف تتآكل الروح وتضمر، بل ويذوي معها الجسد نفسه كما ذوى جسد أبي جعفر المهزوم وظل «يبحث عن خياط يضيق له بذلاته» (136). ففي الرواية شخصيتان فلسطينيتان مهمتان، تجسدان لنا مدى وقع الهزيمة الفلسطينية المسماة باتفاق أوسلو على المناضلين الحقيقيين. لأنها اختارت أولهما «أبوشندي» ممن بقوا بعد رحيل الفلسطينيين من تونس إلى رام الله وغزة، فقد رفضت دولة الاستيطان الصهيوني التصريح له، لأن على يديه دم النضال الحقيقي ضد العدو، بدخول أرض فلسطين مع العائدين لها بعد أوسلو. وقد كان لأبي شندي باع طويل في النضال لعشرين عاما تحت راية الثورة الفلسطينية، حقق في ساحته انتصارات تألق معها الجسد وانتشت الروح. ولكن الضربة المصمية جاءته من القيادة الفلسطينية نفسها، بعد أن فتحت خطا مع الأمريكان، وتوهمت أنها وصلت خط النهاية. (ص44) أمرته أن يبيع كل شيء، ولم يعرف أن هذا البيع هو بداية الدمار، وبداية «حبف»، حركة بيع فلسطين معا.
لكنه برغم هزيمته، يظل بسبب سنوات النضال وتجربة الحب الحقيقي الرائعة في بيروت، وتجربة العشق الأكبر، فلسطين، أحد أقوى شخصيات الرواية وأشدها تماسكا. تشعر بذلك كرة النار المدعوة «ألفة» التي تدرك أنه «يملك شيئا ما داخله يظهر على وجهه يجعله في نظرها أقوى الرجال» (ص 185) هذا الشيء الداخلي هو عدم تفريطه كمن فرطوا في الموقف الأخلاقي الأعلى، موقف المقاوم الذي دافع عن قضيته ولم يساوم عليها أو يبعها. وموقف العاشق الذي عرف الحب الحقيقي مع تلك المسيحية اللبنانية التي تكتب الرواية عبر حكايته معها قصيدة حبها: «جمال العشق أنه يصبح هو الديانة، ينحي كل الديانات أو يجعلها تذوب فيه وتأخذ لونه وطقوسه وصلواته». (ص55) لكن تجربة العشق الاستثنائية تلك لم تدم! لم تدم لمرارة المفارقة ليس بسبب حربه مع العدو الصهيوني، ولكن بسبب الحروب العربية - العربية القميئة التي أطاحت بأجمل ما في حياته. لأن «أم زينة» وقد تعطلت سيارتها يوما، فطلبت من الخادمة أن تنزل لها بمفتاح سيارته، فدته بنفسها وراحت ضحية انفجار سيارته الذي كان مفروضا أن يجهز عليه. وظلت «أم زينة هي تجربتي الحلوة بالحياة، هي قسوتي بالدنيا» (ص60) وظلت هي وجعه المقيم، برغم انتقامه لها، حتى هبط عليه الوجع الأكبر مع تصاريف السَلَطة الفلسطينية التي ينطقها مفتوحة. ففي «باب الأقواس» نعرف مدى عشق الفلسطيني لبلده/ قضيته، وكيف أن عشقا كعشق أبي شندي لن ينهزم مهما تفشت تنظيمات «حبف» حركة بيع فلسطين الخائنة.
أما الشخصية الثانية التي تقدمها الرواية، لدلالة عنوان الفصل في «باب الوجع» الذي يتحول فيه وجع الهزيمة القومي إلى وجع شخصي يأكل الروح والجسد، فهي أبو جعفر المنصور، الذي كان حامي حمى الثورة الفلسطينية في العراق، حتى ضاع العراق الذي كان يلعب فيه دور البطل الثاني والحارس الأول للكفاح الفلسطيني. لذلك لا يصدق ما جرى بالرغم من أنه يدرك مع احتلال العراق أن «أميركا احتلتني وحدي، حبستني وحدي» (ص 129) وأنه أصبح بالفعل أبا جعفر المهزوم، وأن «الأمة انتهت بموت صدام ... ولم يعد هناك سوى تنظيم حبف .. أي حركة بيع فلسطين» (ص 131) فلم يبق له أي أمل بعدما ضاع العراق، وضاعت أسرته معه، أو توزعت في أربعة أرجاء الأرض كجسد الثورة الفلسطينية مقطع الأوصال، مما يجعل أبوشندي يدرك برغم ثقل مأساته مدى فداحة ما جرى له «لا يا أبوشندي، هم أبو جعفر أكبر من همك، على الأقل أنت تعرف أين بناتك، وهو لا يدري إين أهله، وما إذا كان يكلم أشباحا أم جثثا». (ص213) لذلك تجسد لنا الرواية كيف أخذ يذوي أمامنا ويتضاءل داخل بذلاته الأنيقة «وقد مات من الداخل تماما» (ص 209) وتحول إلى «مثال حي على ما جرى لهم  جميعا، تمثال من لحم». (ص212)
وبالرغم من أهمية هاتين الشخصيتين الفلسطينيتين، فإن الرواية لا تنسى البعد العربي للقضية الفلسطينية التي ناضل في صفوفها العرب جميعا. فتمد نطاق الهزيمة واستحالة التحقق، ليس فقط إلى من شارك في الثورة الفلسطينية التي كانت ثورة عربية شاملة شارك فيها المصري «فاروق جعفر» أو «فاروق أنجرام» والسوري «شادي» حيث تجرع كل منهما هزيمتها بطريقته. «شادي» الذي ناضل في الثورة وانتحل من أجلها عشرات الأسماء، وغنى للثورة وكان حاديها وشاديها، «كنت أحلم بدخول فلسطين مع الداخلين، مثلهم أغني لهم أنا الحادي، أدخل لأضع كوابيسي تحت وسادتي وأنام أو أموت سعيدا»(ص 217) اكتشف، بعد واقعة رغبة ابنه الصبي في أن يصبح رئيسا، أنه ينام في سرير واحد مع مخبر في صورة زوجة، لذلك فإنه يصرخ «خدعنا في الثورة، لا يجب أن نخدع في النساء!».(ص148). أما «فاروق انجرام» فإنه لم يستطع القبض على الجمر حتى النهاية وفضل القبض على النقود. «أولاده يتعلمون في أميركا على حساب المنظمة، زوجته فلسطينية، ربما أكثر فلسطينية من شادي، وحسابه في البنك منتفخ» (ص149) لكنها تجعلهم جميعا مرايا تكشف لنا مدى تغلغل الهزيمة في أدق تفاصيل الحياة الشخصية للمهزومين، ومدى استحالة أي تحقق في وجودها، سواء أكانت هزيمتهم مباشرة كهزيمة الفلسطينيين بعد أوسلو، أو غير مباشرة تتجلى في التردد بين باقات الأحلام ومغارات الكوابيس كما هو الحال مع بقية شخصيات الرواية والتونسية منها خاصة. ولا تنسى أيضا أن تربط كل هذه الهزائم بأصلها. فكما تربط الرواية هزيمة أبي شندي، بفتح الخط مع الأمريكان، وأبي جعفر المهزوم باحتلال الأمريكان للعراق، ربطها بين المشروع الصهيوني والأمريكي في المنطقة، فإنها تربط أيضا بين كل هذه الهزائم والخيانات والقضية الفلسطينية الأم. فتؤلف قرب نهايتها بين شخصياتها الثلاثة: «نعيمة» و«أبوشندي» و«أبو جعفر المهزوم»، وهي أكثر شخصيات الرواية ثراءا وتماسكا، وكأنها تؤلف بين القضية الفلسطينية وبعدها العربي التونسي برباط عضوي.
فتح طاقة الأمل في الأفق المسدود:
ولأن الرواية تصدر بعد أن حطم الربيع العربي كل السيمولاكرات الأصلية في واقعنا العربي في الزمن الرديء، وتنتهي بتحطيم «للّا درّة» صورة «بن علي» وإلقائها في مزبلة التاريخ. فإن هذا الفعل التمردي الذي يفتح طاقة للأمل فيها، ليس بأي حال من الأحوال مفروضا على الرواية من خارجها، ولكنه نابع من بنيتها، ومن نسق تتابع فصولها، أو بالأحرى أبوابها. وقد قلت إن دائرة الحركة في الرواية تعتمد على الصعود والهبوط، وكأننا بإزاء حركة حكمت عليها البنية بالسجن في الدائرة، ولكنها لا تني تتملص منها، تسعى للهروب من قدرها الغشوم فمازالت كل شخصياتها المهزومة تواقة للتحقق، لنصر مهما كان صغيرا فإنه قد ينتشلها من قاع الليل البهيم ذاك. فالرواية تتكون من خمسة عشر بابا، تبدأ بـ«باب البنات» وألاعيب البهجة الموقوتة والمأجورة معا، حيث تقدم لنا لعبة الغواية وطقوس الصيد في الحمام «لعبة الحمام» وتبادل أرقام التليفونات وتنظيم المواعيد، أو اقتناص فواتير الحساب لمن يريد أو بالأحرى يستطيع دفع ثمن أكثر من واحدة. ثم ندلف إلى عوالم شخصياتها من «باب الفتح» وقد انفتح على «نعيمة» و«أبي مجيد» اللبناني قناص الفواتير الموعود بمنصب كبير لا يجيء أبدا، والمكتفي بغزواته الليلية أو النهارية لا فرق، فكلها غزوات خائبة لأن أبا جميل إما عليه عفريت أو في إجازة. أما «نعيمة» فهي النموذج الحي لهزيمة البنات، وقد سرقت أختها فرصتها في النجاة إلى إيطاليا. وتركتها قعيدة المقهى وساقيته الدوّارة. وقبل أن تقفل الرواية «باب الفتح» لا تنسى أن تقدم لنا «مهدي» المسيحي الوحيد في المدينة، أو الذي اعتنق المسيحية متوهما أنها ستحرره من سوء حظه التونسي، الذي يدفع الآخرين إلى ألقاء أنفسهم في البحر، وستتيح له أن يعمل في «المارينز» ويكتسب الجنسية الأمريكية، جنسية الجنة الواعدة بأوهام التحقق.
وبالرغم من أن «مهدي» شخصية ثانوية في تلك اللعبة، إلا أنها شديدة الدلالة على ما يدور في اللعبة الأكبر، لعبة الواقع العربي والأفق المسدود. لأنه في عز الشباب «بوجه أحمر مكتنز به وسامة ساذجة. وجسد يشبه جسد مصارع، مترهل قليلا، بقميص مفتوح على صدره العريض، يطل منه صليب كبير ... أنا مسيحي أنا حر»(ص35) هو مسيحي واحد في المدينة التي بها ستة قساوسة. ولكنه برغم عضلاته نصف المفتولة، فقد عمل من قابل حارسا للملاهي الليلية «لكنه لا يقترب من البنات، مدوش، دماغه في دنيا تانية» (ص122) يريد أ يهاجر إلى أميركا ويعمل في المارينز ويحصل على الجنسية. ويلعب مهدي، الذي يسكن النص كشبح لا فكاك منه من بدايته وحتى نهايته، دور المهرج الشكسبيري في التراجيديا التونسية. يجسد بعضلاته المفتولة طاقة شباب تونس المهدرة، وببطاقته الهوية المسحوبة ومنعه من العمل والسفر فقدان الهوية والكرامة، والمنع من الحلم بمستقبل أفضل تحكم آليات الأفق المسدود قبضتها عليه.
كما يجسد حلمه في الهجرة إلى أمريكا والعمل في المارينز – أقصر الطرق للحصول على الجنسية وأشدها مخاطرة في آن – أحلام الشباب التونسيين في الهجرة مهما كانت المخاطرة، حتى لو كانت بإلقاء أنفسهم في البحر، وهو هنا بحر الوهم الأمريكي البشع، واكتساب جنسية أخرى تفتح لهم طاقة نجاة من هذا الأفق المسدود. لذلك ليس غريبا أن يلخص حالته لكل من يحمل كومبيوتر فيطلب منه مساعدته في تقديم طلب للانضمام للمارينز هذا التلخيص الدال: «الحكومة تطاردني، والقساوسة يدعون لي ويمسحون على رأسي بالصبر وأحيانا بالخبز، وأنت، أنت ستساعدني» (ص 208) وكأنه يلخص بذلك أزمة شباب تونس كلهم، حيث تطاردهم حكومتهم الفاسدة، ولا يقدم لهم الدين سوى سلوى فارغة تتمثل في مسح القساوسة على رأسه، وكسرة خبز تقيم الأود بالكاد، كما هي الحال مع الإحسان والزكاة، ولكنها لا تفتح طاقة للكرامة أو الحرية أو التحقق!
لكنه يدرك بحدسه أن كل من معه كومبيوتر، أو من أتيحت له فرصة الاتصال بالعالم الأوسع عبر المعرفة والثقافة – ربما تكون هذه كناية عن مسؤولية المثقفين عن خلاصه – هم القادرون وحدهم على مساعدته. فيطلب من كل منهم مساعدته، بمن فيهم «حلومة» نظيره وصورته الأنثوية، التي تتفاوض هي الأخرى مع الأمل عبر ملفاتها التي تؤرشف فيها كوابيسها في الكومبيوتر، وتحلم بالخروج والخلاص. بين باقة الأحلام ومغارة الكوابيس تتخبط معها الشخصيات جميعا، فتصنع لهم «حلومة» في كومبيوترها ملفات يضمها جميعا «ملف الكوابيس» الذي تدون فيه جرائم «ألفه» و«مجيد» و«غسان»، ولا يني «مهدي» يطالبه بأن تفتح له ملفا للأمل، وتكتب لها طلبا للالتحاق بالمارينز. وحينما يواجهه أبوشندي بأنه لو عمل مع المارينز في العراق، فإنه سيقتل إخوته العرب في العراق، يكون رده مفحما «يقتلونني كل يوم، ولا أحد يدافع عني، ولا واحد! ولا آكل» (ص211).
وكما قدم «باب الفتح» حلم «مهدي» المستحيل بالخلاص، وخيانة أخت «نعيمة» لها، يعود بنا «باب الهوى» إلى بنات الهوى، ورحلة أبي شندي في النضال وماخوره في ألمانيا، الذي يكشف لنا عن أن عاهرات الليل أكثر شرفا من عاهري السياسة. ثم ينقلنا «باب الأقواس» إلى تجربة عشقه لأم زينة، وكيف قضت لا في حربه من الصهاينة الذين انتقم من كثير مما فعلوه بأهله، ولكن في حرب عبثية بين العرب والعرب. وما أن ندلف إلى «باب العسل» حتى نتعرف على ملكة حي النصر «لالّة درّة» وزوجها الضعيف. ثم تتكشف لنا بنية آليات الغواية في «باب النحل» صعودا إلى «باب الوجع» حتى نكتشف أن الرواية تصعد بنا من المواجد والصبوات الصغيرة حتى ذروة الوجع، وجع «أبي جعفر المهزوم» وأوجاع الهزيمة العربية الكبيرة التي تأكد بها ضياع فلسطين للأبد مع احتلال بلد عربي كبير هو العراق. فهو كما يقول له فلسطيني مهزوم آخر هو شندي «أكبر دليل على الهزيمة» (ص135).
من ذروة هذا الوجع ننحدر عبر أبواب الجسد والريح والنار والبحر والرجال وصولا إلى «باب للّا درّة» التي نكتشف أن هزيمتها من جنس هزائم الآخرين، وإن بدت بعيدة عنهم يحميها العسس ولعبة التعامل مع السلطة، والتي تنتهي بالمواجهة السافرة مع «شيخ الأمن» من ناحية وبركل الصورة وإلقائها في مزبلة التاريخ من ناحية أخرى. لكن الرواية وهي تكتب الهزيمة العربية بامتياز، تعي أن الهزائم الكبرى ترتد بنا إلى حالتنا البدئية، حيث تلعب العناصر الأربعة (الأرض والماء والنار والهواء) دورها في تشكيل العالم. ففي أرض المقهى التي تشكل المكان الراسخ، أو الأرض/ التراب التي جئنا منها وإليها نعود، نتعرف على أول العناصر الأربعة. «مقهى يحتضن الجميع، سره داخله، يطوي غرامه في أعمدته وأثدائه المنتصبة اللامعة المدوّرة، يسحب الأرواح قبل الأقدام» (ص244) فوق هذه الأرض تشرع الرواية أبوابها الثلاثة/ العناصر الثلاثة الباقية وعلى التتالي: باب الريح/ باب النار/ باب البحر.  لتكمل بالأبواب الثلاثة بنية العناصر الأربعة.
فليست صدفة أن باب الريح هو باب «حلومة» و«سفيان» وكل من خرج من التجربة المرّة التي بددت الروح والكرامة بقبض الريح، وباب النار هو باب «ألفة» كرة النار التي تلتهم كل شيء في الرواية حتى نفسها، حتى عندما تحجبت بعد غزوات ليبيا المتكررة التي أثقلت ذراعها بالأساور الذهبية، فإنه حجاب من نار أيضا، من النوع الذي تدعوه ساخرة «الحجاب كباب» (ص242). أما باب البحر فهو باب «غسان» الذي آثر أن يكون الماء فتبدد كلية، لا الماء الذي يروى العطش، ولكنه الماء الذي يغرق بالوشايات القذرة كل من يقترب منه في قيعانه، حتى غرق هو نفسه ولم يحقق شيئا من أحلامه التي سفح من أجلها ماء الوجه وماء الكرامة وماء الشرف، وكل المياه التي توفرت له أو لم تتوفر. لم يبق له إلا مقهى جديد استعار له مجاهدات «للّا درّة» القدامى (ص 242) ووضع في صدارته صور السد الرئيس التي انتهت في الحمام (ص 245) تهشمها ركلات «للّا درة» النهائية، كإشارة ختامية لنهاية الكابوس، بعد تحقق أول الأحلام، حلم «حبيبة» بجواز السفر وتذكرة الطائرة! وباستمرار الكابوس في الوقت نفسه في المقهى الجديد، مقهى «غسان». هكذا تكشف لنا البنية الدائرية للرواية، واستراتيجياتها النصية الكاشفة عما تنطوي عليه هذه الرواية من مستويات متعددة للمعنى، وشبكات متراكبة من الشخصيات الكاشفة عن ثقل الواقع العربي الرازح في الزمن الرديء الذي اختارت الرواية أن تجعله زمن السرد فيها، وأن تنتهي ببشارة نهايته.

رضا  عطية


وحيد الطويلة يفتح للسرد باب شعرية اللغة  في رواية "باب الليل"


لئن كانت اللغة هي الوسيلة لأي عملية اتصالية وهي قناة إبلاغ الرسالة في التفاعل القائم في أية فعاليات تواصلية وبالتالي في أي عملية خلق جمالي، فاللغة بما تحمله من شفرات يتطلب حلها وأكواد- تعمل على تفعيل النشاط الترميزي بما يمد جسور الوصل وممرات التلاقي بين المتلقي والنص بما يتيح للمتلقي أن يمتلك أسهمًا في رأسمال النص تتمثل في التأويل القائم على فك شفرات النص باستخدام اللغة وطرق أكوادها وجلاء رموزها، فيكون المتلقي شريكًا للمؤلف في إنتاج النص، كما تمثل اللغة محورًا أوليًّا في بيان كفاءة المؤلف في صياغة نصه وهيكلة معانيه، فهي محك الجدارة ومختبر القدرة على إطلاق المعاني الجمالية المنشودة من الرسالة النصية.
  ورغم أن اللغة تمثل وسيطًا مشتركًا بين صنوف التعبير الجمالي وأجناس الإبداع الأدبي، غير أن مستحقات الأداء اللغوي تتمايز من جنس لآخر، فما يُطالب به الشعر من معطيات لغوية تمنحه رخصة الاستحقاق وتعطيه صك التكريس الشعري يختلف عما يُطلب من الروائي أو القاص، وكذلك الكاتب المسرحي؛ إذ ينتظر من الشاعر قدرًا أكبر من اللغة الشعرية القائمة على ركائز الصور المكثفة والمجاز المشفر، ودعائم الإيقاع الموسيقي كالوزن والتقفية ووسائل التوشية اللفظية، في المقابل يكون للسرد مستلزماته البنائية التي تقوم على الحكي المقتفي أثر الحدث والمعتمد على حركة شخوص الحكاية الممثلين أصوات السرد، بما يخلق حركة درامية تقوم بين عناصر السرد. غير أن ثمة تبادلًا جينيّا يقوم بين الأنواع، فكل جنس كتابي يحمل قدرًا من كرموزمات الأجناس الأخرى مع تميز خريطته الجينية باحتلال الجينات النوعبة للجنس المعين الشطر الأعظم من رقعته التكوينية. فالشعر قد يحمل من الخصائص النوعية للسرد عنصر الحكاية أو القص، مع تميزه بخصائص النوع الشعري من الصور والإيقاع، والعكس وارد كذلك، فإن للسرد أن يعانق بعض مقومات الشعر كالصور والتشبيهات ومجازية لغته وإيقاعية البناء اللغوي.
  وإذا كان لنا أن نُطل بشكل بانورامي على المنجز السردي للرواية العربية أو فيما يُعرف بالرواية الجديدة - لاسيما في العقدين الأخيرين - لنلاحظ أن الغالب على معظم المنتوج الإبداعي في السرديات هو انخفاض شعريتها اللغوية، فتأتي اللغة في الرواية العربية الجديدة – على الأغلب – منزوعة الدسم المجازي، لغة شديدة التقشف في حظوظها الشعرية، وفي ذلك تقوم الدعاوى المبررة حالة الجفاف التي تحل بقنوات اللغة السردية التي تبدو منبتة الصلة عن ينابيع الشعرية، على علل قائلة بحيادية اللغة الكتابية واقتصادها المجازي الموازي للعالم الواقعي المتسم بتقشف موازٍ، وفي مقابل ذلك قد نجد بعض تجارب سردية قد تسرف ببذخ في استعمال لغة شعرية بشكل مكثف وبحضور محتشد على امتداد النص مما يعطّل حركة السرد ويصيب شرايينه بنوع من التجلط الحكائي والتخثر الدرامي، مما يضع المنجز السردي العربي – في معظمه - في العقدين الأخيرين بين شقي رحى: الأنيميا الشعر لغوية في مقابل التجلط الشعري المتخثر المعيق لحركة السرد.
  ونحن إذ نطالع رواية «باب الليل» للكاتب المصري «وحيد الطويلة» التي يفتح فيها باب الحكي على عديد من المأسي تتخذ من تونس أرضًا لها ومن المقهى ركحًا مسرحيًّا لعرضها، فتتصدر المأساة الفلسطينية صف المأسي التي تطل على مسرح الحكاية ومعها المآسي العربية بما لها من أبعاد سياسية وإنسانية، فنجدنا أمام نص روائي يغتسل فيه السرد بأمطار الشعر، وتتعمد حكايته بمعمودية المجاز، دون كفر بحق السرد المشروع في جريان سلس لأحداثه في أنهار الحكي بما يسير تياراته الدرامية، فتنجو من مآل ركود السرد.
  باب المقهى والجسد
  يتخذ السرد في رواية «باب الليل» من عالم المقهى مدارًا مكانيًّا ومجالًا طبوغرافيًّا لمجرى أحداث الحكاية؛ حيث يمثل المقهى تمثيلًا مصغرًا وعينة منتخبة لعالم بات هم معظم أفراده وشاغلهم المقيم اللهاث وراء لذاتهم الجسدية ومطاردة شهواتهم الغريزية وقنص متعهم الجنسية، مما يجعل المقهى مسرحًا دائمًا لمناورات ممتدة وملاحقات دائرة: 
  «كل شيء يحدث في الحمام،
  حمام المقهى بالطبع.
  تتحرك البنات صوبه، واحدة واحدة أو اثنتين اثنتين، في الغالب اثتين، خلفهن بمسافة معقولة رجل أو اثنان، يلجون بابه بدفعه ناعمة لا تحدث صريرًا....
  الواحد والواحدة اللذان في الخلف ينتظران دورهما في الاغتسال كانا قد أنهيا المهمة، تبادلا أرقام التليفونات سريعًا، اخذ رقمها في الغالب، وربما أخذت رقمه أحيانًا»(1)  
  يعمل الوصف المشهدي الذي يلج بالسرد باب السيناريو السينمائي لتناوله المدقق للأحداث الجارية والتقاطه لنثرياته الدقيقة على كشف ما يقع بالمقهى - والذي ينوب عن غيره من مقاهٍ – من مساعي صيد ومحاولات قنص تكشف حقيقة هذا العالم الذي غشاه الهوس الحاد باللهو الشبقي، فبات هذا العالم هو عالم الجسد كما يميط السرد اللثام عن وجه الواقع الذي يقر بذلك:
  «الجسد سيد اللعبة واللون الخمري بوابته، والعجيزات بطاقته، وبنات محتاجات يعملن في مقاهٍ غالبًا، يلقِّطن أرزاقهن، يضغطن على أمعائهن بقسوة، يعصرنها كصائمي الدهر ويدخرن ما استطعن من نقود للمظاهر، يلبسن ويمنحن أنفسهن مظهرًا براقًا وعافية وفيرة.»(2) 
  يبدو من الوصف السابق بذل الجسد الذي بات سلعة في سبيل مواجهة الحاجة، كما تأتي معظم الأفعال بمخرج دلالي مزدوج البعد ( سيكو فزيقي) فأفعال كـ (يضغطن – يعصرن) تجمع بين المدلول المادي الحسي والنفسي الشعوري في عالم بات يقسو أفراده على أنفسهم لأجل مظاهر زائفة تجعل من البشر سلعة، وتجمِّد من مستوى الوجود الإنساني عند مستوى جسداني في حياة أمست لعبة زائفة. 
  وفي عالم تتراجع فيه إنسانية الإنسان لحد يداني الغياب، تحضر الأشياء بقوة في المشهد كما يبدو في وصف باب حمام المقهى:
  «باب لزج متواطىء، يتحرك سريعًا، ثم يرتد بطيئًا كأنه يشارك بدوره في المكيدة.... باب الرجال في الغالب غير مقفل، موارب فحسب، ينظر عبره الواحد إلى الواحدة، يرقبها يترقبها حين تهم بالخروج، يراها في المرآة المتواطئة أيضًا»(3) 
  مع انزواء الوجود الإنساني وتهميش الحضور البشري، تتقدم الأشياء لتضطلع بأدوار فاعلية تتجاوز اعتيادية تعينها الجامد، «فللأشياء سلطة خفية أو سلطة من نوع خاص، وأمام هذه السلطة تبدو الشخصيات الإنسانية باهتة جدًا»(4) ، فتمارس الأشياء في عالم المقهى تواطؤًا نحو الإنسان كالباب والمرآة اللذين يسهلان عمليات الصيد المنهمر التي يقوم بها الناس في المقهى إشباعًا لنداءات غرائزهم، فبات للأشياء قصدية فعلية مع انحسار القصدية الإنسانية لأناس العالم في العدو وراء شهواتهم، فكما نرى عند «ميشال بوتور» أن «عرض سيرة الأشياء والأثاث ومحتويات الأمكنة يأتي بديلًا عن سيرة الأفراد والشخصيات»(5)، ومع تراجع الحضور الإنساني وطغيان الحضور الشيئي، يُفقد الإنسان قيمته البشرية ليمسي حضوره تمثيلًا مجردًا:
  «قد لا يعجبها من منظره، من بدنه المترهل غير المشدود أو وسامته الغائبة، لكنه في مستقره داخل الشريحة وسط غابة من الأرقام، والاحتياط واجب، فمن تعافه اليوم قد تحتاجه غدًا»(6) 
  في هذا العالم الشهواني، مع انحسار القدر الإنساني، يمسي الإنسان مجردًا من قيمته الإنسانية، كما يتحول إلى مجرد حضور مجرد، مجرد رقم وسط زحام رقمي، مما يجعل قانون الحاجة هو المهيمن على قواعد التعامل البيني للبشرية التي جنحت نحو الشهوانية، مما قد يجبر البشر على التسليم المبتذل لسلعة الجسد لمن حتى يعافونهم لمجرد الحاجة، كما أمسى قيمة الإنسان في بقائه مخزونًا احتياطيًّا أو منفعة مؤجلة محتمل اللجوء إليها فقط وقت الحاجة، وعند «درة» صاحبة المقهى، مشعلة حرائق الشهوة لدى الرجال يكتسي العالم ثوبًا رقميًّا:
  «العالم عندها أرقام، لا اسم واحد مكتوبًا في هاتفها، كل واحد برقمه، تحفظ كل رقم وتعرفه بنظرة واحدة»(7) 
  إن الطابع المادي الغالب على تفاعلات البشر، قد جرد العالم، بل أفقد الإنسان هويته الاسمية، لتمحوها الهوية الرقمية المجردة، فإذا كان الاسم هو صك الهوية، وعنوان الوجود الإنساني الخاص لكل فرد دون غيره، فإن سلب الإنسان اسمه يُفقده – بالضروره – وجوده الخاص وكثيرًا من حضوره الماهوي الذاتي، فثمة فاعلية خاصة للأسماء حيث «إن الكلام وإطلاق الأسماء، والخلق من خلال الكلمة، مسألة لها جذورها الضاربة في الأساطير القديمة أيضًا. في الأسطورة، كما يرى أرنست كاسيرر، تصبح الكلمة في حقيقة الأمر نوعًا من القوة الأولية، ومن خلالها تبدأ كل الكائنات وكل الأفعال في كل العوالم الأسطوية التي يمكن أن تتبعها، وهناك استبصار دقيق إلى أسس هذه العلاقة بين الكلمة والخلق، موجود في عديد من الأساطير القديمة، في أسطورة معروفة تُغري إيزيس إله الشمس رع أن يكشف لها عن اسمه السري، ومن خلال معرفتها بالاسم تمتلك قوة تفوق قوته وقوة غيره من الآلهة، وقد كان الفرعون يُمنح عدة أسماء وكل اسم ينقل خاصية خاصة، قوة مقدسة جديدة.... إن الاسم هو قوة واقعية ووسيلة حماية في المسيحية، الكلمة التي كانت في البدء والتي هي الله، والكلمات أعطاها الرب في ديانات الكورا الهندية وسيلة ليتحكم بها في الأشياء، ولدى هيجل كان سلوك الإنسان الأول هو إطلاق الأسماء على الأشياء، ثم من خلال منحه الأشياء أسماءها استطاع أن يمتلك العالم»(8)، فسلب الإنسان اسمه هو محو لهويته وإنكار ضمني لوجوده البشري.
  ولم يفت السرد في تجواله في أرجاء الحكاية أن يمر بباب التحولات الفارقة التي تعصف ريحها بالشخوص كما يحكي السرد عن «نعيمة» تلك الفتاة التي نزحت إلى المدينة التي أخضعتها لقواعدها: 
  «عملت نادلة، والبنت في المقهى مطلوبة تناغي وتناجي.
  في المقاهي تسقط الحواجز، كلمة من هنا، ويد تصدم بعفوية أي جزء بارز أو لين، هدية من هنا وسهرة في علبة ليلية مع الصديقات تريح الأعصاب، والجو العام يسحبها من شواطىء براءتها بقوة.
  في البداية كانت تتفرج، تشاهد ما يجري دون أن تشارك سوى بالضحك الخفيف، كان يكفيها أن تنقل رقم هاتف من زبون لزبونة، وتحاول أن تزيد في إيرادها كي تكفي مؤونة العيش.
  في البداية كانت تخشى أن تخلع سروالها، كله على الناشف وتعود لحجرتها، لكنها بعد أن جرفها التيار وتعرفت على ماء الآخرين ونقودهم صارت تنساه في مكان قد لا تعود إليه»(9)
  ينقل السرد التحولات المفصلية في حيوات الشخوص، وانحراف مساراتهم وخروجهم من باب البراءة ودخولهم عالم الفساد عبر باب الاعتياد على السقوط والاحتكاك بالساقطين وعبر باب المال كذلك، فنعيمة انتقلت تدريجيًّا من مشاهدة اللهو الماجن إلى التورط في ممارسته مع الاعتياد التدريجي والحاجة المادية، فشدها تيار الدنس من شواطىء براءتها ليغرقها في دوامات الفساد، فقد أبدل عالم المقهى طبيعتها الطيبة وفض بكارة نقائها.
  وكما أطل السرد على تحول الشخوص من عالم البراءة إلى دنيا الرذيلة ومن وسط النقاء إلى مستنقع الفساد، كذلك يتتبع السرد تحول الشخصية عن مداها الروحاني إلى عالمها الجسدي تلبية لدعواته كما حدث مع «شادي» الشاعر السوري المنبت، الفلسطيني الجهاد والعروبي التطلع:
  «شاعر، مناضل ووسيم، وصفة سحرية للعشق والصيد، صيد من أول يوم، انخفض سقف الروح قليلًا وارتفع مؤشر الجسد.
  ارتطم بشاعرة من أول ندوة ونام على وعد بالاستقرار، لم يتذكر ما قاله شاعر عن زواج شاعر بشاعرة، أجاب بسرعة: انتحار.
- للجسد نداؤه، رحتُ أتحسسه كأنني أكتشف للمرة الأولى أنه موجود، كأنه كان لواحد غيري، كان يرتخي والأيام ترتخي بمحاذاته، والعمر يهرب منه»(10) 
  إن انتقال الشاعر من عالم الروح إلى عالم الجسد قد جاء عبر باب الحاجة إلى الاستقرار، وإجابة نداءات الجسد الذي بدأ يستكشفه مع تنامي شعور بالارتخاء وتسرب العمر، فكأن ثمة علاقة عكسية بين معامل الزمن وعالم الروح، وكأن دوران الزمن بالعمر يُلزم الذوات بالعناية أكثر بالجسد على حساب الروح والمادة على حساب الجمال والفكر، فمع تقدم العمر تتراجع الروح لتفسح الطريق للجسد ليقود الذات في اختياراتها المصيرية، وهو ما آل بصاحبه فيما بعد إلى التعثر في حياته الزوجية، فقد أضره خضوعه لنزوات الجسد وإعلائه له على حساب الروح.
باب المأساة الفلسطينية 
  تمثل المأساة الفلسطينية بابًا رئيسيًّا في عالم «باب الليل»، فينفتح باب الحكاية على مطالعة حال فلسطينيين بقوا بتونس – دون مواطنيهم - لسنوات رغم اتفاقية «وأسلو» للسلام مع الدولة العبرية، بسبب رفض إسرائيل لمسالة عودتهم لارتكابهم حوادث قتل ضد إسرائيليين، فيصف السرد حال الشراذم التي بقيت عالقة من الفلسطينين بتونس بعد حرمانهم من العودة، بعد اتفاق «أوسلو» كما يصف السرد المقهي:
  «يعج ببقايا فلسطينيين بقوا هنا مرغمين بعد أن غادر الجميع تقريبا إلى رام الله مع ياسر عرفات بعد اتفاقية أوسلو.... بقايا لم يجدوا أسماءهم في كشوف السلطة الفلسطينية. وفي القوائم الإسرائيلية كانوا ومازلوا، ممنوعين من العودة، أياديهم ملطخة بدماء الإسرائيليين، وأرواحهم ملعونة أيضًا، وعليهم إن تنفسوا أن يفعلوا ذلك في مكان آخر يستحسن أن يكون قبرًا سحيقًا في جوف الأرض»(11) 
   توغل الحكاية في مكامن المأساة الفلسطينية بالمرور من باب اتفاقية السلام التي أُبرمت بأوسلو، فتقوم الرؤية السردية بنزع ورقة التوت الذابلة من على عورة اتفاق السلام الهش الذي أبرمته السلطة الفلسطينية بالعبور من باب التنازلات والمضي قسرًا في مضايق الاستسلام لإملاءات الطرف الإسرائيلي، ولو كان هذا على حساب بعض مواطنيهم، بل على حساب نخبة من ثوارهم ومجاهديهم الذين خاطروا بحياتهم وحملوا السلاح وسيلة لمقاومة الاحتلال الصهيوني، مما يجعل السرد يمر بباب المفارقة التي تتفجر في مثل هذا الوضع، فالمفارقة «بدرجاتها المختلفة وشروطها المتعددة من أبرز مظاهر شعرية السرد؛ تعادل في أهميتها وخطورتها الوظيفيِة الدور نفسه الذي يقوم به المجاز في شعرية القصيد، وذلك لاعتمادها على خاصية جوهرية تتفق مع المجاز، وهي أنها: تقول شيئًا وتقصد شيئًا آخر، بالإشارة المرنة إلى الموقف والظروف المحيطة بعملية التواصل اللغوي خارج النص. عندئذٍ لا يُمكن الاكتفاء بالمعنى الحرفي وتصديقه بشكل مباشر»(12)، فتنجلي المفارقة هنا في اتفاق طرفي العداء السابق – بعد توقيع اتفاقية السلام – رغم عدم سابق اتفاقهم على إقصاء بعض المجاهدين الفلسطينيين، الذين خاطروا بحياتهم وجازفوا بأرواحهم بحملهم السلاح أداة لمقاومة الاحتلال الصهيوني، فتلاقي قيادات الدولة الفلسطينية تضحيات مجاهديها بالجحود وتكافىء تقدماتهم العمر قربانًا على مذبح الفداء في هيكل الوطنية بالإقصاء والنكران، مما يفجِّر مفارقة تنضح بالألم وتطفح بالمرارة والأسى.
  غير أن معاناة الفلسطينيين الباقين بتونس لم تقف عند حد أن سلطتهم الوطنية قد أوصدت في وجوههم باب الرجوع إلى الوطن، بل إنها قد ورابت باب المعونات والمرتبات التي ترسلها إليهم كما في شهادة «أبو شندي»:
  «لكن السَلَطة الفلسطينية – ينطقها مفتوحة – يكرمها الله، كسرت الكريستال أو أعطته لونًا آخر وأكملت جميلها: خفضت رواتبنا، أحالتنا إلى التقاعد أحياء بعد أن رمتنا سابقًا على رصيف الموتى الأحياء.. بالكاد نكمل نصف الشهر....من ثار تقاعد، من ثار جاع، من ثار لم يعد يعرف إن كانت فروض الصلاة أربعة أم خمسة، لا شيء مؤكد، الشيء الوحيد الأكيد الذي يعرفه جيدًا أن قبلته أصبحت في اتجاه الغرب، في اتجاه إسرائيل والدول المانحة»(13)
  تتمادى المأساة الفلسطينية بأيدي القيادة الفلسطينية، التي أوصدت باب الحياة الكريمة لأبناء الوطن المنفين في تونس بتخفيض رواتبهم وإحالتهم إلى التقاعد ووأدهم أحياء، فتكون مكافأة الثوار الإقصاء والمعاناة المعيشية، مما يُفقد الذات إيمانها بمطلقاتها، فقد تلاشى الحق وأغلقت أبواب اليقين اللهم إلا باب الائتمام بإسرائيل والغرب والانسحاق أمامهما، والغالب على عديد من مقاطع الخطاب الروائي التي تتناول الأبعاد الأيدلوجية للأوضاع القائمة هو انفتاحها على باب الغنائية في مفارقة لافتة، وهو عكس الاتجاه الطبيعي للأيدلوجيا التي تبعد عن مجال الغنائية، فتلك الغنائية في التناول البوحي للأيدلوجيات إنما يعكس سقوط الأيدلوجيات الكبرى وزوال المطلقات العامة، لتحل محلها الرؤى الذاتية كبدائل فردية للحقائق الكلية الغائبة وهو ما يفتح السبيل للغنائية في طرح الرؤى الشاملة للعالم.
  والرواية التي تجوب في شأن العالم العالم العربي في فترة ما بعد حرب الخليج الثانية واتفاقية أوسلو تدين تخاذلًا قوميًّا بشأن القضية الفلسطينية، ولو من منظور فردي عبر أحد أصواتها وهو «أبو جعفر» الفلسطيني النازح من العراق بعد الغزو الأمريكي له في 2003:
  «بوجه متغضن بالحسرة يقول: الأمة العربية كلها – ما عدا الرفيق صدام – اشتغلت على الثورة الفلسطينية، ورقة التوت التي بها غطوا عوراتهم، ناضلوا بها كذبًا ونافحوا عنها بهتانًا.
  يصمت كدهر ثم ينطق كلحظة:
- كسبوا بها وخسرنا نحن»(14) 
يعمل المنظور الرؤيوي للخطاب السردي على الربط بين القضايا والمساءلة في القضايا الكبرى، ولو حمل بعض شخوص السرد أراء صادمة أو اتخذوا بعض مواقف تتسم بحدة عاطفية أو قدر من المبالغة في تعظيم بعض المواقف أو إدانة مواقف أخرى دونها.
 فيمارس الخطاب الروائي نوعًا من العصف الذهني في متابعة مناظير أصوات السرد حول القضايا الكبرى مما يفتح الباب على رحابة رؤيوية.
باب العنونة والتسمية
  إن للعنوان فاعلية أنطولوجية في النص، فإذا كان «جاك دريدا» يذهب بأن «العنوان يعلو النص ويمنحه النور اللازم لتتبعه»، و»العنوان يعد أخطر البؤر النصيّة التي تحيط بالنص»(15) فبولوجنا باب النص، عنوانه، باب الليل، نجدنا أن مركّبا إضافيا يفتح للمكان باب الزمن، والباب ينفتح على دلالات متقابلة بين الانفتاح والانغلاق، الداخل والخارج، الضيق والاتساع، العبور والمنع، الكشف والحجب، وإذا كان الإنسان «وجود نصف مفتوح»(16)، فالباب هو «كون كامل للنصف مفتوح. الواقع، إنه أحد صور النصف مفتوح الرئيسية، أصل حلم اليقظة بالذات الذي يجمع الرغبات والغوايات: الإغراء بفتح الأعماق القصوى للوجود والرغبة في قهر الوجود المتكتم»(17)، أما الشريك التكويني في العنوان، وهو الليل، فأي ليل؟ هل هو ليل اللهو وملاحقات الشبق التي تدور بالمقهى، أم هو ليل الفقد والألم والضياع الذي هو مصير معظم شخوص الرواية، أم ليل الانتظار لانبثاق النهار المخلص من العتمة؟
   وبالنظر إلى عناوين فصول الرواية وأبوابها البالغة خمسة عشر بابًا: (باب البنات – باب الفتح – باب الهوى – باب الأقواس – باب العسل – باب الملكة – باب النحل – باب الوجع – باب الجسد – باب الريح – باب النار – باب البحر – باب الرجال – باب النساء – باب للّا درة)، يمكننا إعادة تقسيمها وتوزيعها على أربع مجموعات، كلٌ ذات صلات عضوية رابطة بين أبوابها على النحو التالي:
1-  باب (البنات – الفتح – الهوى – الأقواس)، فكأن باب (البنات) هو مفتاح الأبواب وأول الأبواب، وهو الباب المؤدي إلى (الفتح) لعلاقات (الهوى)، غير أن ثمة هوى خليقًا بأن يُوضع بين (الأقواس) لأنه عشق مفارق ومجاوز في جنونه وصفائه، كما كان بين «أبو شندي» المجاهد الفلسطيني ومعشوقته اللبنانية المسيحية، فيقول «أبو شندي»: «جمال العشق أنه يصبح هو الديانة، ينحي كل الديانات أو يجعلها تذوب فيه وتأخذ لونه وطقوسه وصلواته»(18)
2-  باب (العسل – الملكة – النحل – الوجع)، فكأن (العسل) الذي هو إفراز رامز للذة الشبق، إنما له مذاق مختلف حينما يمنح من (الملكة)، ملكة (النحل) «درة» أو «باربي» المتناهيتين الجمال والغواية، واللتين تختاران من يلقحهما كاختيار ملكة النحل لمن يلقحها، غير أن تلك اللذة مشمولة بالوجع ومقرونة بالألم، جراء الغدر وتخلي الملكة لاسيما «باربي» الصحفية الشابة عمن لقّحها ولو لليلة، باحثة عن غيره، في اليوم التالي.
3- باب (الجسد – الريح – النار – البحر)، فنستطيع أن نرى فيها الإسطقسات الأربعة المشكلة للوجود، فالجسد بإعمال المجاز المرسل باعتبار ما كان وما سيكون، يحيل إلى (التراب)، مع (الريح) التي هي بأعمال المجاز المرسل اعتمادًا على علاقة (المسببة) هي نتاج الهواء، وهناك (النار)، أما البحر فهو يحيل بعلاقة المجاز المرسل المكانية إلى (الماء)، فكأن تلك الأبواب التي هي من أبواب الليل، هي منفذ على الوجود.
4-  باب (الرجال – النساء – للّا درة)، فكأن الرواية تنتهي من حيث بدأت، بملاحقة الرجال والنساء عند صاحبة المقهى (درة)، التي هي ست البنات.
  واعتبارًا لما تحمله الأسماء من طاقات موحية، فإن لكل اسم علاقة بمسماه، فثمة ترابط رمزي يجمع الاسم بحامله، فلحامل الاسم نصيب من معنى الاسم؛ فشخصية مثل (درة) يفتح لنا اسمها رمزية الـ(درة) التي هي لؤلؤة عظيمة، فدرة الشخصية كالدرة، اللؤلؤة العظيمة، باهرة الشكل، وباهظة الثمن، غير أنها مجرد جماد، عديم الروح، وهو ما ينطبق على شخصية (درة) المنغمسة في شهواتها الجسدانية، دون أي فاعلية روحانية تمارسها.
  غير أن اللافت هو استعارية أسماء معظم الشخوص، فمعظم الشخصيات تحمل اسمًا لم يكن اسمها الأصلي: «شادي، بالطبع لن تعرف، إن كان اسمه الحقيقي أو واحدًا من أسمائه العديدة التي التصقت به، وتبدلت أسرع من تبديل ملابسه، طوال مدة نضاله في الثورة الفلسطينية متنقلًا بين المنافي بعشرات جوازات السفر»(19)، فإن تبديل الشخص لأسمائه، يعكس حالة من الحصار تؤدي لفرار الشخص من اسمه بالتوازي مع فراره من الأمكنة، فيتنقل الشخص بين الأسماء كما يتنقل – مجبرًا - بين الأماكن. وهناك المصري المشترك في النضال المكافح لتحرير فلسطين: «اسمه فاروق جعفر، على اسم لاعب الكرة المصري الشهير في السبعينيات، استقر عنده هذا الاسم بعد أسماء كثيرة..رويدًا رويدًا تبدّل اسمه إلى فاروق انجرام لأن اللاعب قام بإعلان شهير عن معجون حلاقة اسمه انجرام، مع الوقت اختفى فاروق أيضًا وبقى انجرام مسبوقًا بتبجيل واضح بلقب السيد» (20). إن استعارة بعض الشخوص لأسماء المشاهير، يعكس بقدر تعلقهم بهؤلاء النجوم، إحساسًا مطمورًا بضآلة قيمة الذات، أو العجز عن تحقيق الذات لاسمها شهرة ونجومية خاصة، فتلج باب أسماء النجوم استعارة للمعانهم وشهرتهم.
  وقد يكون الاسم تحريفًا لاسم الشخصية الأصلي؛ كشخصية «أحلام» أو «حلومة»: «اسمها أحلام، صنعت منها درة حلومة بسرعة فائقة، صديقة وعشيرة، حاملة لمفاتيح خزائن حكاياتها والخزائن نفسها»(21)، وإذا كان الاسم المحال نحوه لا يختلف كثيرًا عن الاسم الأصلي، غير أنها دال على تحكم «درة» صاحبة المقهى والسيادة في فتيات مقهاها، فجعلت «أحلام» تتخلى عن «أحلام» اسمها، وصنعت منها «حلومة»، مما يشي بطواعية تلك الشخصية «حلومة» وقابليتها للتشكل والصنع كمادة لينة وطيعة.
   غير أنه – أحيانًا – لا يكون الاسم على وفاق مع مسماه، بل يكون الاسم ضدًا لحامله: «اسمها ألفة، اسم في غير اتجاه، لا تألف أحدًا إلا بصعوبة، حتى لو مازحتك مرة، أو مدت طرف حديث معك، تبدو كأنها لم ترك على الإطلاق من قبل، تتجاهلك ببرود كأنك لست هنا من أصله»(22)، إن تضادية الاسم مع حامله تعكس مفارقة حادة للشخصية، كما تشي بزيفها الخادع، وتناقضاتها المتمادية، مما أفقد الاسم معناه، بعدما انبتت الأواصر بين الشخصية واسمها.
  كما يحمل اسم المقهى «لملمة الأحباب» تناقضًا مع حاله، فهو يمثل عالمًا مفككًا يجمع شتيتًا من الناس، كما يُطلق عليه أيضًا مقهى «الأجانب»، لأن كل من ليس تونسيًّا يعد أجنبيًّا.
باب الهيكل السردي
  يمثل الشكل السردي أو قالب القص في عرضه لأحداث الحكاية مجلى دالًا على منظور الصياغة الفنية في استيعابها للعالم المحكي عنه وتعاطيها لوقائعه، فالقالب السردي هو معرض حركة العالم الموضوعي ترتسم ذبذباته لتخط سير السرد وتقود مساراته، وتُشكِّل أطره الحاوية المواقف ورؤى العالم المتمثلة في وعي أصوات السرد.
  وباستجلاء بنية السرد في «باب الليل» نجدنا إزاء بنية سردية مخاتلة، فرغم سعي حركة السرد بالمضي بالحكاية المروية أمامًا، ورغم الدفع التدريجي بشخوص جدد يظهرون على امتداد الحكاية، فإن حالة الجمود في الواقع والتكرار شبه الرتيب للأحداث والتناسخ المعاد للوقائع يجعل للسرد بنية دائرية يحدها مكانيًّا المقهى بما يجري فيه من مناورات ومحاولات قنص إشباعًا للغرائز أو تربحًا من سلعة الجسد وكذلك من بوح آسيان وسخط هادر لرواده من الفلسطينيين، كما يمثل العقد الأول من القرن الجديد خطًا زمانيًّا لأحداث الحكاية مع بعض الارتدادات استرجاعًا لتاريخ الجهاد الفلسطيني ضد العدو الصهيوني في أوروبا وغيرها من المواقع، غير أن حالة التيبس والجمود الذي ألزم الأفراد مواقعهم المكانية والزمانية دون تقدم جوهري يُذكر يجعل للسرد قوامًا مطاطيًّا يوازي حالة التسرب الزمني ليعيد الأشخاص مهما تقدم بهم العمر ومر عليهم الوقت إلى نقاط سابقة.
  ورغم الترابط الدائري والاتحاد المتضام لفصول الرواية البالغة خمسة عشر فصلًا، غير أن اللافت هو قابلية البنية السردية لإمكانية الانشطار العضوي والتفكيك الفصلي والانسلاخ الوحدوي؛ فلكل وحدة سردية أو فصل من فصول الرواية أن تشكِّل بنية مستقلة بذاتها رغم انضمام كل فصل من الرواية لدونه من الفصول فيما يشبه اتحادًا كونفدراليًّا لوحدات السرد سكون الرابط بينها الشخوص الممتد حضورها بامتداد السرد ووحدة المكان والتشارك في اقتسام هموم جامعة لأصوات السرد، وتشابك مصائر الأفراد. 
باب الشخوص
  يمثل شخوص «باب الليل» نماذج محمَّلة بهموم مؤدلجة، فيتمدد حضور معظم أصوات السرد متجاوزًا مدى الكيان الذاتي والوجود الشخصي والتعين الفردي، ويمثل «أبو شندي» الوجه الأوضح للمأساة الفلسطينية الذي قدَّمَ سيلًا من التضحيات في سبيل تحرير وطنه من الاحتلال الإسرائيلي:
  «عشرون عامًا من النضال تحت راية الثورة الفلسطينية في بلاد الله ومثلها في تونس بعد أن طارت الراية أو تبدلت.
  لم يعرف ألعاب الأطفال، لم ينم ليلة على أغنية مفرحة، لم يعرف سوى أسماء الشهداء، صاحب البندقية، أخذها في حضنه ونام، لم يلعب بها، قسم إيمانه على نصفين، نصف في ظهره ونصف بين عينيه»(23) 
  وفي المقابل لم يلق إلا الخسران الفادح، إذ مُنع من العودة لبلاده مع مواطنيه العائدين من تونس إلى رام الله بعد اتفاقية أوسلو 1993 امتثالًا لرغبة إسرائيل، كما فقد في حادث تفجير حبيبة عمره وزوجه اللبنانية «أم زينة». 
  وفي المقابل يعد «بريجينف» باسمه المستعار مثالًا للمجاهد الحنجوري المتاجر بالثورة دون بذل أية تضحية، فهو نموذج لنوعية من القيادات التي تحصد ثمرات ما غرسه الآخرون بالجهاد وما رووه بالدم، دون تعب، في خلل فاضح لواقع مشوَّه يغيب عنه العدل. 
 أما «أبو جعفر» الفلسطيني الذي لاذ بالعراق، استقواءً به في حشد الدعم للقضية الفلسطينية، فتنهار آخر قلاع الحلم وآخر حصون المقاومة باحتلال أمريكا للعراق في 2003، فهو كما يصفه السرد:
  «مناضل بجناحين، كان على موعد مع المرحلة الذهبية، يقولون إن علاقته بصدام أكسبته القوة وأعطته البوصلة، وصار ذا باع طويل في بلاد الرافدين.
  تحت الجناحين برم الدنيا من بوخارست إلى بون إلى براغ، أماكن النضال ومسرح العمليات، واستطاع التوفيق بين جميع الحبال، طموحات الثورة وأهداف الأخرين.
  لم يكن عميلًا مزدوجًا، كان عميلًا – إن شئت الدقة – لحلمه بوطن واحد كبير.» (24)
  يمثل «أبو جعفر» مثالًا للمناضل القومي أو العروبي المخلص لفكرة القومية المشتركة رغم أفول زمنها، فلم يلق مصيرًا أفضل من زميله في الجهاد «أبو شندي»، فسقط حلمه بالوطن الواحد بسقوط بغداد، وخسر كذلك على صعيد أسري بسفر زوجته بأطفاله للعيش مع أسرتها في المغرب، مع تصميمه على البقاء بتونس استجماعًا لشتات الوجود الفلسطيني هناك.
 ويشيّد «الطويلة» مبناه الروائي على ثلاثة محاور متعادلة من حيث شخصياته الروائية، مرتكزًا على قواعد الجنس والجنسية الوطنية والعمر.
  وفيما يخص محور الجنس بالنسبة لشخوص الرواية نجد في الظاهر أن ثمة ترجيحًا طفيفًا للعنصر الذكوري على حساب الإناث، ففي السرد حوالي عشرة شخصيات ذكورية يتراوح وجودهم من حيث التأثير بين الأصالة والثانوية، في مقابل شخصيات ظلِّية مثل «كسوف» المحتال بالمقهى لنقل أرقام الهواتف إبرامًا لصفقات التواعد الغرائزي، و«سفيان» العامل بالمعمار عشيق «درة» صاحبة المقهى، وزوج «درة» المقاول المعماري. أما العناصر النسائية الرئيسية فتبلغ سبعة عناصر: فشخصية «نعيمة» فتمثل الفتاة التي أودت المدينة ببراءتها وكانت صيدًا للجميع بمن فيهم أختها التي ضحت من أجلها «نعيمة» بتحمل مكابد العمل بالمقهى وتقديم جسدها سلعة مبتذلة للإنفاق علي تلك الأخت الصغرى في تعليمها الجامعي والتي ردت لها الجميل بإقصائها عن رفيقها الإيطالي واقتناصه لنفسها بوشايتها بأختها نعيمة لدى الإيطالي. أما درة تمثل نموذج المرأة اللعوب، التي تستغل الرجال، وأولهم «سفيان» البنّاء المعماري، حبيبها وعشيقها، الذي ما لبثت أن منعته عن جسدها الذي أتاحته لغيره، بعد أن بنى لها المقهى وصاغ ديكوراته. أما «ألفة» فهي نموذج للمرأة اللعوب المحتالة التي تتناقل بين أكبر عدد ممكن من الرجال لقنص متعها الشهوانية والاستيلاء على أقصى ما تستطيع من مقدراتهم، حتى إنها كفرت بنعمتها وتمردت على زوجها الألماني وعلى مجتمع ضاقت بنقائه وغياب الاحتيال عنه. أما «باربي» فهي صحفية بالقطعة تمارس متعتها بانتقاء من تهبهم جسدها من الشباب في أواسط العقد الثالث من العمر، من أجل المتعة لا المال الذي قد تبذله مكافأة لمن يمنح جسدها المتعة.
  أما «رحمة» و«حلومة» فتمثلان شخصيات نسائية غدر بها الزمن: الأولى عن طريق زوجها الذي ذهب ليتزوج عليها، ثم غدر بها ثانية برحيله عن الدنيا وتركها وحيدة في تربية ولديها، والثانية عن طريق صديقتها وعشيقها اللذين ورطاها في إدارة شركة وتوقيع شيكات بدون رصيد فكان مصيرها السجن وممارسة السحاق. أما «حبيبة» فتمثل نموذجًا رمزيًّا للفن الصاعد والحلم بالنجومية والسفر إلى مصر، بما تلاقيه في طريق ذلك من محطات لابد لها من المرور بها.
  أما الشخصيات النسائية الظلِّية والأصوات الأنثوية الصامتة، فتتفوق كما على مقابلاتها من الشخصيات الذكورية بما يحفظ التوازن الكمي بين الشخصيات في محور الجنس ويصل بالفريقين إلى نتيجة التعادل. فهناك شخصيات نسائية شبحية مثل: «أم زينة» اللبنانية زوج «أبو شندي» عشقه الخالد، وهناك أخت «نعيمة» التي غدرت بها وطارت إلى الساحل المقابل، إلى أوروبا، كذلك هناك شخصيات العاهرات اللائي كن يعملن في «ماخور» بألمانيا يُستخدم قاعدة لإدارة عمليات المقاومة وتصفية عملاء العدو بأوربا، وأبرزهن «العاهرة الثانية عشرة» التي يقول عنها «أبو شندي»:
  «العاهرة الثانية عشرة أوقعت صدفة بإسرائيلي كان يريد أن يصطادنا، فاصطدناه في غرفتها بمساعدتها، قتلها فقتلناه، وشيعناهما معًا في تابوت واحد.
- حرقناه حتى لاتنبت منه عظمة واحدة ..
- تصور، المجاهدة الثانية عشرة كانت تعلق في غرفتها وفوق سريرها مباشرة من قبل أن نشتري الماخور – صورة ياسر عرفات»(25) 
  تتلألأ التماعات المفارقة بإخلاص العاهرة/ المجاهدة للقضية الفلسطينية رغم جنسيتها الأجنبية ورغم انغماسها في المتاجرة بجسدها، غير أنها تحلت بفضيلة مناصرة الحق، وبمقارنة موقفها بشخصية مثل برجينيف أو مواقف كثير من العرب الذين لم يخاطروا بأرواحهم مثل تلك العاهرة يتبدى لنا زيف الكثير من مواقف مدعي القومية والنضال.
  أما من حيث محور جنسيات الشخوص، فثمة تنوع متفاوت في أجناس شخصيات الرواية التي تضم في أرجائها عينات متنوعة من بقاع عديدة في الوطن العربي، غير أن هناك ارتفاعًا طفيفًا وتفوقًا محدودًا في نسبة التونسيين لأنهم أصحاب الأرض مدار الحكاية الرئيسية للرواية، لاسيما في العناصر النسائية الرئيسية فهناك سبع شخصيات رئيسية من النساء كلهن تونسيات، أما من الرجال فلا يوجد من الشخصيات ذات الحضور المهم في الرواية من التونسيين سوى «مهدي» التونسي المسيحي الوحيد بالمدينة بالإضافة لستة قساوسة، وهناك «محمد كازنوافا» أكثر الرجال مهارة وجاذبية في اضطياد النساء، بالإضافة إلى «كسوف» الذي يتحايل لكسب رزقه من المقهى، مع وجود لافت لشخصيات فلسطينية على أرض تونس مثل الثلاثي «أبو شندي» و«أبو جعفر» و«برجينيف»، وشخصيات متنوعة من العالم العربي كـ«شادي» السوري الشاعر والمناضل الذي قاتل في صفوف الفلسطينين حتى تنكر بعضهم له، و«غسان» اللجىء السياسي السوري الأصل حسب الأب والتونسي بالحصول على الجنسية، وشخصية «مجيد» من لبنان، و»حسن شحاته» المصري صاحب الاسم المستعار. 
  أما من حيث الشرائح العمرية فالغالب عليها في الرجال لاسيما الفلسطينيين، هو الانتماء لمرحلة الكهولة في مطالع العقد السادس من العمر، ذلك الجيل الذي بذل عمره في خدمة الثورة والنضال، حتى حصد تضحياته خسرانًا وفقدًا وضياعًا، أما الجيل الشاب من شخوص الرواية سواء من الذكور والإناث فقد بدوا من المنغمسين في تتبع شهواتهم دون أي اهتمام بنضال وطني فقد عرضوا عن الدخول بباب الجهاد وأغلقوا باب النضال، وهو ما يعكس – بشكل رمزي – انتكاسة تلم بالجيل الشاب الذي نأى عن مواصلة مسيرة كفاح أسلافهم من الجيل المناضل.
  ومن المشتركات التي تجمع بين شخوص الرواية رغم ما بينها من تمايز  وتفاوت أيدلوجي هو وقوف معظمهم بباب الانتظار، فغالبية أصوات السرد إن لم يكن كلهم، ينتظرون حلًا لأزماتهم وخلاصًا ينتشلهم من حالة ضياع تلم بهم؛ فـ«مهدي» ينتظر مجيء المسيح، وبالتوازي ينتظر فرصة ذهبية بالعمل مع قوات المارينز الأمريكية، أما «أبو جعفر» الفلسطيني الذي عاش بالعراق، فينتظر عودة «صدام» الرئيس العراقي، رافضًا تصديق أمر موته، فيمسي «صدام» أبو جعفر هو مسيحه المنتظر، كما يصف السرد عكوف «مهدي» و«أبو جعفر» على حال انتظار مسيحهما المخلص:
  «يصنعان اللعبة معًا، يغرقان فيها في كل وقت في البيت والمقهى، وصدام مازال موجودًا على ظهر الدنيا، مازال مختبئًا، وسيظهر كالمسيح في أية لحظة، ربما في آخر الرواية، وما إن يسمع مهدي اسم المسيح حتى يقرع نواقيسه، يسحبهما من الوهم اللذيذ ويدخل في الحوار:
- نعم، سيظهر المسيح، وانا في انتظاره.
الذي استفاق يلاعبه:
- أين ستقابله؟
- هنا في المقهى، يمسح دموعي ويلبي طلباتي كلها في غمضة عين، لأرتاح»(26) 
   إن الواقع المأسوي الذي سكر باب الأمل في خلاص عاجل يمكن أن يتحقق بيد الذات أو البشر المحايثين، قد جعل الشخوص يقفون بباب انتظار خلاصٍ استثنائيٍّ خارقٍ، فانتظار المسيح الذي يقترن مجيئه الثاني بنهاية العالم والقيامة لا يعكس رغبة في الخروج من تلك الأزمات التي تعترض الذوات بقدر ما يضمر رغبة دفينة في التخلص من هذا العالم، كذلك فإن انتظار «أبو جعفر» لصدام مسيحه الخاص، بعد أن أبى أن يصدق موته، إنما يجسد مأزق الوعي غير القادر على استيعاب رحيل بطله الأوحد، وفقدانه الثقة في البشر الآنيين في سد فراغ رحيله وتعويض غيابه. 
   أما «أبو شندي» فينتظر الرجوع إلى «فلسطين» أو بلد قريب من الوطن كالأردن، أما «مجيد» اللبناني فهو: «موعود أن يكون سفيرًا في إحدى البلاد قريبًا، ينتظر أن تتبدل الحكومة وتركب جماعته الحكم ليركب هو»(27)، وشخصية مثل «أحلام» أو «حلومة» التي قضت بضع سنوات بالسجن، خرجت لتنتظر انتهاء مدة الربع الباقي من مدة سجنها الذي كان مقررا له عشر سنوات، فخرجت بعد قضائها ثلاثة أرباع المدة؛ حتى تستطيع أن تستخرج بطاقة هوية، «وعلى نار تنتظر أن ينتهي الربع الباقي لتحصل على بطاقة شخصية ومن ثم على جواز سفر وتطير لتقابل أصدقاءها الكثر المتناثرين في أرجاء الإنترنت، على الأقل تخرج من هذه المدينة التي أدمت روحها وبدنها»(28)، أما رحمة فقد كانت تنظر الحب والغرام بعد حياة زوجية حافلة بالمعاناة: «تنتظر الغرام وتحتاجه، تهفو إليه كمراهقة في سنة أولى حب لكنها لاتبوح، كأنها أرض بيضاء لم يخط فيها فلاح خطًا ولا ضرب فأسًا»(29)، وكأن حال شخوص الرواية لا يختلف عن حال رفيقتهم «رحمة»، يشعرون بضياع حياتهم هباءً مما يبقيهم في حالة انتظار لحياة جديدة تعوضهم عن حياتهم المفقودة. غير أن اليأس قد يخامر المنتظرين من بقائهم قيد الانتظار كحال «أبو شندي»: 
  «لا أحد ينتظر أنبياء الآن يا أبو شندي، زمن الرسالات انتهى.
  ملامحه من بلاستيك، كأنه لم يعد ينتظر شيئًا، يعرف أن الثورة راحت من زمان لكن دم الناس الذي سال على الأرض في كل شبر وفي الخنادق هو الذي حافظ على روحها وجعلها تستمر وقتًا إضافيًّا»(30)
  إن الصراع بين الرجاء الذي يدفع الأفراد إلى الوقوف بباب الانتظار، واليأس الذي هو نتيجة لطول الانتظار دون نيل ولو طرف من الحلم، يفضي بالشخوص التي تململت وسُحقت من طول الانتظار إلى التخلي عنه؛ إقرارًا بالهزيمة واعترافًا بالانكسار الذي يفقد البشر ملامحهم الطبيعية، بعد أن طال انتظارهم لحلم دفعوا ثمنه مقدمًا بالدماء التي أطالت أمد الانتظار دون بلوغ نتيجة تعادل كل هذه التضحيات.
باب الصراعات والحيل النفسية
  إن المار بـ«باب الليل» ليجد حصارًا نفسيًّا مطبقًا يلتف بالشخوص الذين يلفهم الشعور بالوحدة مثلما يلاحق «أبو شندي» ورفاقه الفلسطينيين:
  «وحيد غالبًا إلا من بقايا فلسطينين يأتنسون به أو يؤانسونه، يفرغون ما تبقى من شحنات غضبهم أو غيظهم معًا، يلتمون على بعضهم كأنهم اجتمعوا لعزاء»(31) 
  فالشعور بالوحدة يجمع بين بقايا الفلسطنينيين العالقين بتونس، غير أن المدهش هو حالة الغضب المشمول بالانكسار ما جعل غضبهم واهنًا ومجرد بقايا مثلهم، كذلك فإن الوحدة تلاحق اللبناني «مجيد»:
  «وحيدًا إلا من رغبته العارمة في جمع البنات حوله، دائمًا اثنتين أو ثلاث، صباحًا أو مساءً، يغمز بعينيه ويقول كلامًا حارًا، كأنه إعلان مدفوع الأجر عن فحولته.
  وهو ينعتهن بالغزوات، غزوة ألفة، غزوة در صاف، وغزوة مونيا، وأحيانًا غزوة نعيمة.
  في لحظة نادرة أنس لها، قال والأسى يركبه إن الوحدة تكاد تأكله وإنه قارب الستين ولا طفل ولا أنيس، يقضي نصف وقته في المجمعات الاستهلاكية ينفق نقوده ليشتري أشياء لا يحتاجها، ينفق وقته الفائض عن احتياجاته، يشتري الشيكولاته ويوزعها على البنات كيفما اتفق»(32)
  فالوحدة وهي المثير النفسي الضاغط على الشعور، يدفع الأفراد إلى القيام باستجابات رغمًا عن حاجاتهم، محاولةً منهم في التحايل عليها بما يتخذون من حيل نفسية لمدافعة شعورهم بتلك الوحدة، كما تورط هذه الحيل الشخوص إلى فعل ما يفضح ضعفهم، فـ«مجيد» اللبناني يصطحب بنات الهوى لمسكنه دفعًا لوحدة، رغم عجزه الجنسي، فتلك الحيلة بتقديم رشوة للبنات تؤدي لكشف ضعفه، فكأنه يداوي داءً بالاستسلام لداء آخر.
  وقد تؤدي الوحدة بـ«مهدي» المسيحي الوحيد بالمدينة إلى  الانفلات الحاد والهيام الشعوري: «صامت، وجهه بين كفيه، ينظر بغيظ إلى الفراغ أمامه، كأنه يعارك أحدًا داخله»(33) 
  فالوحدة تؤدي بالأفراد إلى الصمت المحتقن، كأنهم براكين مطمورة الحمم، وهو ما يعكس تناقضًا حادًا بين حالة الصمت الخارجي والثورة المعذبة داخليًّا.
   وإزاء ما يواجهه الأفراد من شعور ضاغط وأزمات نفسية، فإنهم قد يتخذون من الوسائل ويلتمسون من الحيل النفسية ما يدافعون به شعورهم بالخواء والفقد النفسي، فأبو شندي يحاول أن يهرب من اختناقاته النفسية بالمشي: 
  «يمشي حتى لا يجلس مع روحه ويكتشفها، يصعب عليه أن يرى نفسه على حقيتها أو يعريها أمامه، يعيش هائمًا في الشوارع والمقاهي، ولولا أنه يريد أن يلوح بذراعيه لجماهيره لكان آخر واحد يخرج من المقهى»(34)
  يبدو أن هناك انشطارًا للذات تعانيه الشخصية، التي تفر من أية مواجهة مع النفس بالمشي حتى لا تنكأ جراحاتها وتقلِّب في دفاتر هزائمها، ولتشبثه بزعامة واهية ورمزية لا يخرج آخر واحد من المقهى لكي يلوح بذراعيه لتحية الجلوس، وأحيانًا ما يهرب «أبو شندي» من مشكلته بالانغماس في محاولات حل مشكلات الآخرين:
  «لكأنك تنسى مشكلتك يا أبو شندي وتحل مشاكل الآخرين، أو تدفنها في حكاياتهم، لا ، أنت لا تفعل ذلك إمعانًا في الهروب، لا تحتاج إليه ولا تقدر حتى عليه، أنت تضع مشوارك بين عينيك تمامًا، وتتذوق لسعته كجرح حي لا يتوقف نزيفه ..أنت الآن أمام الحقيقة كاملة دون رتوش يا أبو شندي، الحكاية كلها أشباح في أشباح»(35)  
  مع وطأة مشكلات الذات الحادة، تقوم بنوع من محاولات الإزاحة النفسية، فكاكًا من آلام الذات بالانغماس في محاولة حل آلام الآخرين، غير أن عملية الإحالة التي تتخذها الذات حيلة دفاعية فرارًا من مواجهة خاسرة مع الذات التي تكتشف شبحية عالمها هذا المفتقد أية يقائن.
  وأحيانًا ما يلجأ الشخوص إلى ممارسة اللعب بالمقاهي كوسيلة نفسية وطريقة للفرار من ضغوط خانقة:
  «الناس كلهم يلعبون الورق، كل الطاولات بوجوه متوترة، يخرجون من أعمالهم منهكين، اليوم طويل ينتهي في السابعة مساء، هدّهم التعب، هدتهم مطالب البيوت والأولاد وأقساط القروض التي أكلت رواتبهم وكسرت ظهورهم، والتسجيل في ملاعب البيوت شحيح، لذا يهرعون للعب الورق يهربون فيه، يغوصون حتى ينسوا، ويسجلون أهدافًا على الطاولة»(36) 
  إن الشعور بالهزيمة والإحساس بالخسارة في الحياة العملية والفشل في الحياة الأسرية، مع تكالب الضغوط يدفع الناس لمحاولة اقتناص فوز وهمي وانتصار رمزي لإزاحة آثار هزيمة واقعية تثقل كاهل إحساسهم، فباتت الحيل الانسحابية والوسائل الرمزية كاللعب هي الباب الذي يطرقه الناس نسيانًا لإخفاقاتهم وتجميدًا لشعورهم بالخسران. فرغم أن القاعدة تذهب بأن ثمة تواشجًا وثيقًا بين (البيتية) والشعور بـ(الألفة)، فعلى العكس في الفضاء المكاني لـ«باب الليل» الذي يستبدل الخارج بالداخل، والمقهى بالبيت بالنسبة للتونسيين، كما يستبدل المقهى بالوطن بالنسبة للفلسطينيين ورفائقهم العرب.
 ولعب الورق هو نفسه حيلة «أحلام» أو «حلومة» في الهروب من واقعها الموسوم بالإخفاق:
  «وأبو شندي يقول:
- لعب الورق هو الميدان الوحيد الذي تنتصر فيه، هو اللعبة اليتيمة التي تصارع بها الحياة، كأنها تريد أن تهزم الحظ السيىء الذي لازمها كظلها، لتكسره.
تنتصر في اللعب لتقاوم الهزائم المتكررة»(37) 
  إن الهروب لعالم الورق واللعب الذي تمارسه «حلومة» لخلق عالم موازٍ لعالمها الواقعي تستغني به عن واقعها الذي تشعر بفداحة خسائرها فيه، وإذا كان العالم التعويضي، عالم الورق، يقوم اللعب فيه على أسس المقامرة والرهان والحظ لا الجداراة أو الكفاءة، فهذا يحيل رمزيًّا إلى العالم المنسحبة الذات منه، عالم الواقع، وكأنه واقع عبثي، تعتمد الحياة فيه على المقامرة، لا الموضوعية، وهو ما يمثل ظلمًا قاسيًّا لأفراده.
  أما «شادي» الشاعر السوري والمجاهد بالسلاح لاستعادة فلسطين، فيحيد عن حلمه بدخول فلسطين بوسيلة أخرى كما يقول:
  «اسمع.. كنت أحلم بدخول فلسطين مع الداخلين، مثلهم، أغني لهم، أنا الحادي، أدخل لأضع كوابيسي تحت وسادتي وأنام أو أموت سعيدًا.
  لم أستطع، نعم لم أستطع، الآن أعتبر كل واحدة فلسطين، أحبها، أسعد بها، أدخلها سعيدًا»(38)
  في ظل ممانعة الواقع الحائل دون بلوغ الشخوص أهدافهم وإدراك أحلامهم التي جاهدوا في سبيلها طويلًا، فيقومون باستبدال الهدف، في عملية إزاحة شعورية تسعى لأن تتعالى على حالات الإخفاق بفتح أبواب لبدائل تعويضية، مما يخلع على موضوعات العالم المعيش حضورًا نفسيًّا مزدوج الدلالة ومضاعف الغاية، فالمرأة – مثلًا - تمسي  مجالًا للإشباع الغريزي والقومي في آنٍ.
باب الضمائر السردية
  لئن كان للضمائر دور هام تضطلع به في الخطاب السردي ونقل مبثوثات الرؤية الدرامية، والبارز في «باب الليل» هو اقتدار الصياغة السردية في استثمار الضمائر والتقافز بينها كمحركات لآلة السرد، فرغم أن السرد في الجنس الروائي يعتمد بالضرورة على أحد ضميرين: الغائب حينما يكون السرد واقفًا خارج دائرة الحركة الدرامية للأحداث، أو ضمير المتكلم حينما يشترك الصوت السارد في الأحداث. وإذا كان الغالب في حركة الضمائر بباب الليل هو استخدام ضمير الغائب الذي يستخدمه الصوت السارد في نقل معظم الأحداث والرؤى، غير أن اللافت هو استخدام الراوي لضمير المخاطب الذي موطنه الشعر والمسرح، بما يتجاوز السائد في طبيعة التضمير السردي، فيبرز وبشكل مكثف وفي غير موضع بالرواية خروج الصوت السارد في الحكاية من باب ضمير المخاطب، فيقول السارد بعد وصفه للهو الدائر في المقهى وعقد صفقات التواعد:
  «لا تقلق.. قلت لك لا تقلق، البنت التي تخرج الآن مع رجل، إن أعجبتك لا تجحظ عينيك، لا تمصمص شفتيك، لا ترخي جفونك، ولا تسمح لضغطك أن ينخفض أكثر من اللازم، ستكون لك غدًا، لا أحد يستقر على عجيزة واحدة أو نصل وحيد في هذا المقهى»(39) 
  إذا كان الغرض الأبرز لاستخدام السارد لضمير المخاطب في السرد هو فتح باب الألفة أمام المتلقي في تفاعله مع المسرود وإشراكه أو توريطه في دائرة الأحداث، فإن مطالبة السارد في تحول مباغت عن الحكاية نحو المتلقي بعدم القلق أو الاضطراب، بعد أن روى طرفًا من أحداث قد تبدو مثيرة للدهشة، إنما يعكس إحساسًا بغرابة الواقع المنقول عبر السرد وتجاوزه لمألوفية المحتمل ما يدفع السارد لمحاولة تخفيف حدة الصدمة المتوقع حدوثها لدى المتلقي، حتى يتمكن من استيعاب ما روي له من الحكاية وكذا حتى يمنح المتلقي قدرًا من التحصن لما يُمكن أن يطرحه السرد على امتداد الحكاية وما تبقى من أحداثها من وقائع غريبة، فما يقوم به الراوي هنا بإشهار الخطاب السردي بضمير المخاطب في وجه المتلقي، يعمل على كسر وهم القص، استشعارًا لثقل ما يحمله القص من غرابة.
  إن استخدام السارد لضمير المخاطب في السرد لم يقتصر على المواضع المفصلية في ثنايا الفصول، بل أحيانًا ما يستهل السارد فصلًا جديدًا ببث رسالة عبر ضمير المخاطب للمتلقي، وكأنه يود تحفيزه من بداية الفصل لوقائعه، كما في الفصل المعنون بـ«باب العسل»:
  «هل رأيت امرأة تسيل الرغبات على جدرانها مثل حبات صغيرة مكتنزة، تنفرط وتنعقد على انحناءة هنا، وبروز هنا أيضًا، وتتوقف، إن توقفت في المكان الذي شدها أو استهواها، تسيل متباطئة على منحدر، تتريث عند زاوية، وقد ترتاح فوق قبة أو تغطس في سرّة أو مأوى؟»(40)
  إن ما يبثه السارد باستخدام ضمير المخاطب من شحنة استفهامية تذهب بالمتلقي إلى التهيؤ لاستقبال ما سوف يطرحه السارد من محمولات إخبارية متجاوزة عن تلك المرأة المسيلة للرغبات، فالسارد يسير بإطلاقه لرسالته الاستفهامية عكس الاتجاه الاعتيادي للخطاب السردي الذي يغلِّب النسق الإخباري لا الانشائي الأنسب للشعر أكثر. 
  وبعد أن يطوف السارد في وصفه لمفاتن تلك الفاتنة «درة» صاحبة المقهى، فاتحًا باب الافتتان بها، بلغة شعرية واصفة تنافس فتنتها فتنة الموصوفة جمالًا وتدفقًا عذبًا، يعود الصوت السارد مرة أخرى ليفتح باب الخطاب نحو المتلقي: 
  «دعك من كل ما سبق، أنا أكذب عليك – يكذب عليك من يكتفي بذلك، هذا الوصف ليس كافيًّا – إن كنت قد رأيت فيلم «وخلق الله المرأة» الذي أخرجه المخرج الفرنسي روجيه فاديم لقطّة السينما الفرنسية وقتها بريجيت باردو والذي قدمها فيه للعالم لأول مرة كقنبلة من لحم ودم، ثم تزوجها بعده، ستعرف قيمة حرف الواو في الجملة، وأنها بدونه لا تعني شيئًا، بل إن الكون دونه لا يعني شيئًا، كأنه كان ينتظرها ليبدأ مسيرته»(41) 
  إن تقافز السارد بين تعبيد أرض التلقي باستخدام ضمير المخاطب الباث الاستفهام، ثم الخوض في الوصف المنساب للمحاسن الباذخة لتلك الفاتنة «درة»، ثم يواصل السارد تصعيده المواجهة مع المتلقي لا بهدف عقد هدنة معه لاستيعاب ما ألقاه له من وصف – كما هو متوقع – إنما يخترق السارد حاجز التوقع، بإطلاق شحنة وصفية إضافية لجمال تلك المرأة الـ«درة»، ولكن هذه المرة بعقد مقارنة تناصية مع فيلم «وخلق الله المرأة»، استحضارًا لبطلته «بريجيت باردو» كنموذج جمالي فائق محال إليه مقارنة «درة» الحكاية بها، ولم يفت السارد أن يستثمر المستدعى التناصي أقصى استثمار وذلك بالإحالة الى عنوانه المفارق (وخلق الله المرأة) بتلك البداية بـ«واو» كان يفترض أن تكون وظيفتها اللغوية وظيفة استئنافية لخطاب سابق، فإذا بها صارت مفتتحًا للخطاب، متجاوزة لما سبق، وكأن تلك المرأة الاستثناء، المتناهية الحسن والفائقة الجمال، بريجيت باردو/ درة، هي حدث استثنائي استئنافي يلغي ويمحو ما سبقه، فتلك المرأة تمنح بجمالها العالم بداية جديدة.
  إن خطاب الصوت السارد لا يشمل فقط المتلقي، بل أحيانُا ما يمتد الخطاب السردي للراوي ليخاطب إحدى شخصيات حكايته بضمير المخاطب، فبعد أن يبوح «أبو شندي» في مداخلة حوارية بجانب من مواجده ومكابداته عن حبيبته القتيلة في لبنان، حتى يتدخل السارد ليوجِّه له خطابًا:
  «قف يا أبو شندي، لا مكان لك هنا، أنت فقط تتمنى لو تستطيع العودة إلى لبنان ساعة واحدة لتزورها. أنت تعرف أن لاقبر لها، هي بلا قبر، تسكن في قلبك ومثواها بين ضلوعك، والذي هناك ليس سوى عظام حبيب تنتظر، تشتاق حبيبًا ينادي عليها لتجمع نفسها بسرعة وتضم نفسها بعجلة الملهوف»(42) 
  إن مخاطبة الرواي لشخوص حكايته أو لمتلقيه يشبه ما يقوم به الرواي المسرحي من تقنية بريختية وهي «كسر الحاجز الرابع المسرحي»، وهنا يمكن أن نعده كسرًا لحاجز التخييل السردي، فكأن السارد الذي يشفق على إحدى شخصيات حكايته «أبو شندي» من استمرار انهماره البوحي، يتولى هو عنه استئناف ما يود قوله لقسوته وحدته العاطفية.
  وفي غير موضع بـ«باب الليل» يقوم السارد بعملية التفات ضمائري بالانتقال من ضمير الغائب إلى ضمير المخاطب في تفاعله مع نفس الشخصية:
  «لماذا يغير الأوربي بوصلته فجأة وهو المعروف عنه أنه لا يكذب مثلنا، ولا يشغل مخه كعادتنا؟
  لماذا غدرت بها أختها، لحمها ودمها وفلوسها، لماذا خطفته منها؟
  يحدث ذلك بين البنات أحيانًا، أما أختها فلا..
  تكاد تُشل.
  لمَ نشلته وهي التي تملك فرصًا أخرى كبيرة.
  لا أحد يملك هنا فرصة يا نعيمة أو نصف فرصة، إنها تأتي بغتة إن أتت والذي يجدها أو تهبط بين يديه ويتركها تمرق ولا يكمشها لم يخلق بعد على هذه الأرض.(43)
  ينتقل السرد من التساؤل حول حال نعيمة وغدر أختها بها عبر ضمير الغائب، إلى مساءلة نعيمة حول تفريطها في الفرصة وتبديدها مكتسباتها، وكأن حركة السرد المروحية بالالتفات الضمائري في التعاطي مع نعيمة من الغائب إلى المخاطب إنما يعكس تراوح شعور السارد نحوها من التعاطف معها والرثاء لحالها عبر ضمير الغائب إلى التوبيخ والمساءلة عبر ضمير المخاطب.
  ولا يقتصر التقافز الضمائري في الخطاب السردي لـ»باب الليل» على تنقل السارد في حكايته من ضمير غائب للوصف ومخاطب لمحاورة المتلقي، أو مخاطبة السارد لإحدى شخصياته، بل إنه يسلم عصا الحكي في مضمار السرد في الفصل الرابع (باب الأقواس) لراوٍ آخر، وهو أبو شندي ليروي شطرًا من الحكاية بضمير المتكلم، ولكأن السارد الرئيسي للحكاية يفتح بابًا أو أقواسًا جديدة لإحدى شخصياته «أبو شندي» ليروي بنفسه جزءًا من الحكاية، إمعانًا في إضفاء قدر افتراضي من المصداقية على الحكاية:
  «عشقتها.
  كانوا مجموعة من المشايخ يرونها لأول مرة، كنت أعرف أنهم يريدونها، أما أنا فعشقتها، حكايتي معها حكاية: ذبنا في بعضنا كعاشقين.
  يودون لو يفهمونها وأنا لا أريد أن أفهم شيئًا.
  تنام عندي مرتاحة هانئة، تسلمني شفرتها بوداعة بمجرد أن أمرر أصابعي عليها، حين تشعر بنبضها أو سخونتها تستعيد وميضها، تبوح بأسرار قلبها.
- البندقية؟
- نعم البندقية»(44) 
  إن ثمة نوعًا من التداول السردي والتوالد الحكائي يُنعِش السرد بتناوب الأصوات الساردة، غير أن هناك استدراجًا وصفيًّا يقوم به السارد في مفتتح فصله بما قد يُوهم المتلقي أن الحديث عن امرأة معشوقة، في حين يتدخل الصوت الأصلي للسرد مستدركًا بسؤال عما إذا كان الصوت الذي أنابه دوره في السرد يتحدث عن البندقية، فرد بالإثبات، في ازدواج صوتي للسرد.
باب الحوار
  يمثل الحوار مع الوصف رئتي الخطاب السردي، وللحوار بما يحتله من مساحة في الفضاء الكتابي دلالة ميتالغوية تتجاوز دلالاته اللغوية المباشرة، وجلي أن الحوار في «باب الليل» يتسم بمرونة تناسب المواقف وأحوال الشخوص والأوضاع الكلية الحاكمة.
  إن الغالب على الحوار هو الميل أكثر إلى القصر، وإن كان هذا لا يمنع من بعض مواضع لمبادلات حوارية ممتدة، ومن المواضع التي يُلاحظ فيها قصر الحوار ما ينضح به شعور «أبو شندي» الأسيف لتخاذل الجماعة الفلسطينية الحاكمة:
  «- سبحان الله جماعتنا يسمعون الكلام والجماعة عندهم لا يرضون بأقل من قتلنا أو دفننا أحياء حيث نكون.» ثم يتدخل الراوي:
  «لا تضغط عليه، لن يحكي لك كثيرًا أو قليلًا! دعه يحكي حسب الحالة»(45)
  إن البارز في مقاطع «أبو شندي» الحوارية هو قصر مساحتها – في أغلبها – بما يعكس اضطرابًا يحد طاقاته الكلامية ويخفض شحنته القولية، مع مجيء حواره من طرف واحد – في معظم المقاطع –دون رد بما يجسد حالة من اللامبالاة بما يقوله وبقضيته، فيما يطلقه من حديث يضيع هباء بلا صدى له، والمقطع الحواري السابق يشكّل طلقة صارخة بالتأسي بالموازنة بين حال جماعتين حاكمتين: الفلسطينية والإسرائيلية، والتي اتفقتا – رغم تاريخ الصراع الدموي الطويل – على القتل المعنوي والنفي لبقايا مجاهدين فلسطينيين بتونس.
  غير أن مقاطع حوارية لـ«أبو شندي» قد تمتد في مواضع يسيرة ، رغم غلبة القصر على مقاطع «أبو شندي»:
  «- تصور، المجاهدة الثانية عشرة كانت تعلق في غرفتها وفوق سريرها مباشرة وقبل أن نشتري الماخور – صورة ياسر عرفات.
- لم نكن نعرف.
- اشترينا سوق المومسات بثمن خمس كيلوات من الهيروين دبرهما أحد مناضلي الثورة المتحصنين في لبنان، تصور!
استلمت الكمية في بون، وباعها العميل المزدوج في برلين، وبجزء من ثمنها اشتريت الماخور، بعد ذلك اشتريت مطعمًا وناديًّا للرقص، نصرف من إيراداتها على العمليات في أوروبا.
يضم ملامحه:
- العدو كان ناجحًا يمتلك أكثر من خمسة وعشرين موقعًا في ألمانيا وحدها.
يكثف ملامحه، تكاد تشعر أنها تتعارك.
- كنت مغتاظًا، قلبي يحترق كل يوم من قدرته وضعفي، من ضيق أفق معظم الذين كنا نعمل تحت قيادتهم حتى استطعت بمساعدة الهيروين أن أقتفي أثر العدو، أحاربه بما يحاربني به وأوجعه حيث يوجعني.»(46) 
   ثم يستمر «أبو شندي» في دفقته الحوارية الممتدة لأكثر من ذلك، وبمقارنة هذا المقطع الحواري الطويل، بسابقه القصير، نجد أن المقطع الحواري الأول يبدو منكمشًا في رقعته انعاكسًا لحالة الضيق النفسي التي تلم بالمتحدث «أبو شندي» حينما يتحدث عن مواقف القيادة المخزية بالخضوع لإملاءات العدو، أما في المقطع الحواري التالي والمنهمر في اندياحاته البوحية، فيتسم بالطول، نظرًا لأنه يستعيد ماضي الجهاد وذكريات البطولة بما تحمله من لذة المغامرة ومساعي المخاطرة وشرف البطولة، وتاريخ المجد وهو ما يمد أوتار الحوار تماشيًا مع حالة البوح النشوان بماضي نضالي، في مقابل قصر الحوار في حالة تناول واقع آني مخزٍ وليس فيه إلا النكران والجحود لأبطال جهدوا في خدمة قضية وطنهم، وهو ما عرقل سير الحوار وأجهض دفقته القولية وأوصد باب الحديث أمام استمراره.
  أما من حيث المبادلات الحوارية بين أصوات السرد، فقد تتفاوت أطوال المقاطع الحوارية من شخصية لأخرى حسب المواقف، كما في الحوار الذي دار بين «شادي» السوري الأصل، عند استدعائه من قبل مدير مدرسة ابنه ومعلمته بشأن استجوابه في رد الابن على سؤال معلمته حول ما يتطلع إليه من عمل حين يكبر، ورد الابن بأنه يريد أن يكون رئيسًا:
  «- كيف يتجرأ ابنك ويقول إنه يفكر – مجرد تفكير – أن يصبح رئيسًا في المستقبل.
- يا سيدتي..
- من الذي أوحى له بهذه الفكرة! لا لا، من الذي وضعها في رأسه؟ من أعطى الإشارة ومنحه الضوء الأخضر وزين له أنها يمكن أن تتحقق؟
- يا سيدي..
- أنت تعيش بعيد عنهم، نعرف، لكنك أنت الأب والكبير، لماذا لم تئد الفكرة في مهدها، لقد تعدى الأمر مجرد فكرة إلى الحلم بها، وتصور أنها يمكن أن تتحقق. ثم كله كوم وأن يكسر الرهبة، ان يصفع الاحترام حتى بكى، ثم يصرح بذلك علنًا.
- يا سيدتي.. يا سيدي..
- الخطوط الحمرا، لقد دستم الخطوط الحمرا.
- إنه طفل صغير، يرى في الرئيس الأمل وهو الكبير القادر على فعل كل شيء، إنه يحب الرئيس ويراه الأعلى، ويريد ان يكون مثله يقتدي به.
- مثله! أنت مخطىء مثله، أنت المخطىء الأكبر.
- إنها أحلام طفل، إنها كوابيسه يا سادتي.» (47) 
  إن التفاوت الحاد بين مساحات مقاطع المعلمة التي تتخذ مركز الهجوم الضاغط، في مقابل الانحسار الواضح لمساحات مقاطع الأب الذي يتخذ مركز الدفاع المنكمش، يعكس تباين وضعي طرفي الحوار، حيث المسؤولة والمعلمة في وضع القوة الممثل مركز الدفاع عن نظام شمولي مستبد يختزل النظام في شخص الرئيس، في مقابل ولي الأمر، الأجنبي في نظر أهل البلد، وهو في مركز ضعف، فتأتي الغالبية العظمى من جمل المعلمة طلقات استفهام استنكاري مصوبة نحو ولي أمر الطفل، كما تأتي معظم جمل ولي الأمر مبتورة، ومرتعشة، كحاله في موقفه الحرج، وحتى فحين طال مقطعه الأخير بعض الشيء، فكان بغرض مهادنة النظام واستدرارًا لعطفه، فجاء رد المعلمة باترًا وقاطعًا بتخطئة الأب.
  وفي بعض الأحيان يتأرجح الحوار بين أكثر مستوى من الدلالة، بين مدلول حقيقي وآخر مجازي؛ كما في حوار «أبو شندي» مع حبيبته اللبنانية:
- هل تؤلمك قدماك؟
- لم أمش بعد كثيرًا.
- لقد جريتِ أمامي طويلًا في الحلم ليلة أمس. (48)
  إن «أبو شندي» يربط زمن الصحو واليقظة بزمن الحلم، فهو بحبه المتمادي يفتح بالحل وللحب ولليقظة باب الحلم، فهو يعتمد في حواره على ما يشبه أسلوب «البارودي» القائم على المفارقة بما يحدثه من تداخل بين مستويات الوعي وأزمنة الأحداث.
باب الصور
  لا مراء أن الصور تمثل بابًا رئيسيًّا لشعرية اللغة ومجازية الأسلوب، وهي بمثابة ترمومتر يمكن استخدامه في قياس شعرية النص وتقدير جمالياته، والعابر من «باب الليل» يستطيع أن يرى ثراءً في حضور الصور في لغة السرد بما يرفع من كثافتها الشعرية، ودونما إعاقة لسيولته الدرامية، كما يتجلى لنا أن الصياغة الفنية تطرق أبوابًا عدة في دخولها لمواضع الصور؛ وإذا يصف لنا السارد تربص «مجيد» اللبناني بالفتيات لاستقطابهن: «يعود في اليوم التالي يخطف فاتورة أخرى كصقر ويدفع الحساب كعصفور»(49)، فهذا التقابل الجامع بين وجهي المشبه به، يعكس مفارقة بين انتهاز الفرصة، وبين ثمن تلك الفرصة المكلف، مما يقوي درامية الصورة ويجلي تناقضات المواقف التي تصنع المفارقة. 
  وقد تأتي الصور لتنسف أنساق العلاقات الراسخة بين الدوال ومدلولاتها بما يدخل بالصورة في تأويلها من باب الجدة التصويرية؛ كما يصف «أبو شندي» حرائق الحب المشتعل الذي جمعه بحبيبته: «صرنا كالعدوى لكل مكان ندخل فيه، لكل الأصدقاء، ولبعض الأعداء، يشار علينا بمجرد أن ندخل ردهة مطعم أو مقهى، عندما نتسكع في سوق أو حانة، كوباء فاخر لا يحتاج مصلًا ضده، مصله من وبائه»(50)، فالعاشقان بعشقهما كالعدوى، في تأثيرهما الملهم الحب للآخرين، وهم ما ينسف الدال المستقر لمدلول العدوى المقترن بنقل المرض بما له من فيروسات دلالية سلبية ومذمومة، كما تمسك الصورة في عنصر المشبه المزدوج بطرفي نقيض، العدوى والمصل، وهو ما يرسخ مبدأ الاكتفاء الشمولي لهذين العاشقين.
  ومع تنويع الصياغة التصويرية لطرائق هيكلة التشبيهات، نجد أحيانًا تشبيهًا معكوسًا يتقدم فيه المشبه به على المشبه؛ مثلما يصف السارد تمارض «أبو جعفر»: «لعبة البازل لم تكتمل بعد، قطعة تدخل في مكانها الصحيح كي تخرج قطعة أخرى، أو تبدل مكانها، تنتقل من طاولة لأخرى كما يفعل أبو جعفر المهزوم، حين يمرض أو يدعي المرض ينتقل إلى طاولة الفلسطينين، أو تنتقل الطاولة بكاملها إلى المستشفى، وحين يبرأ يحوم حول طاولة نعيمة أو ألفة أو أي واحدة أخرى أو يجمعهم معًا على طاولته»(51)، يعمل التشكيل التصويري على قلب عناصر الصورة ليلفت انتباه التلقي إلى المشبه به (لعبة البازل وملابساتها الإجرائية) فيتقدم المشبه به الذي يجيء مركبًا على المشبه، ليسلط الأضواء على المشبه به الذي يتسم بالجدة والرمزية، ويعكس طرفًا من المأساة الفلسطينية، فقد بات الفلسطينيون في الشتات كقطع البازل، في تكنيك تصغيري للمشبه في إلحاقه بالمشبه به، وهو ما يجسد ما يقاسونه من انتهاك وتشرذم وانكسار، فمهما تجمعوا، فهم شتات.  
  وإن من مظاهر البكارة التصويرية في «باب الليل» هو إحلال المشبه محل المشبه به تقوية للمشبه؛ كما في وصف حال الفلسطينيين المتردي: «وجوه ملطخة بالحيرة، بملابس قديمة اقتنصوها، من سوق الملابس المستعملة، وأبو شندي يقول: ملابسنا تشبهنا، تشبه أحلامنا بالتمام والكمال، نعيش بها وقد نموت فيها»(52)، فما تقوم به الصياغة هو رد الفرع على الأصل، فتجعل الفرع أصلًا والأصل فرعًا، في انقلاب تصويري، فبدلًا من تشبيه الذوات بالملابس في التجمد وقدم الحال، فتنعكس الصورة لتصبح الذوات وأحلامهم مآلًا تشبيهيًّا يحال عليه الملابس الرثة المشابهة لحالهم الرث مما يعمِّق الشعور بتفاقم المأساة التي يعيشونها.
  ويتكرر هذا الخلط التشبيهي الإبدالي في غير موضع مما يقلب أوضاع الصور، كما في وصف «أبو شندي» للبندقية: «البندقية مثل المرأة، تشبهها..قال ..الجزء الخلفي فيها اللامع المصقول بعناية، المنتفخ بحساب حتى لتضمه لصدرك جيدًا ليركن ويرتاح فيه – هو المؤخرة. هو باب البدن .. الجزء الممتلىء تحت رأسها الرفيع المدبب هو صدرها»(53)، فتقوم الصورة التي تقلب العلاقة المألوفة بين أركانها وتقلب التوقعات لتجعل البندقية مشبهًا والمراة مشيهًا به على أنسنة الأشياء وتشكيل طبقة من الألفة الحميمة معها.
  غير أن التصوير في «باب الليل» أحيانًا ما يستدعي شخصيات تاريخية ذات بعد أسطوري لتكون طرفًا في الصورة، فتشبه الصياغة التشبيهية «درة» في تنكرها لـ«سفيان» حبيبها السابق بعد أن شيد وأعد لها مقهاها بـ(حتشبسوت): «في النهاية هي أجمل من حتشبسوت، وأكثر إنسانية وحنانًا، حتشبسوت – حسب الرواية الأرجح – قتلت المعماري الفذ الذي شيّد لها معبدها، محته من كشوف الحياة وإن طاردتها أصابعه، أما هي فقد اكتفت فقط بأن تحرمه من سريرها بعد أن أرضعته طويلًا عسلها، هي افضل منها ملكة الفراعنة جلست على عرش شيّده ذكور قبلها، وعلى شعب لا تعرفه، وملكة حي النصر شيّدت مملكة من الذكور صنعتها على يدها وعلى أفخاذها وهي ملكة على شعب تعرفه بالواحد»(54)، فتلك الصورة التي تدخل من باب الأسطورة إلى ردهات التشبيه التمثيلي، لا تكتفي بأن تقيم علاقة مشاكلة مع المشبه به وهو القناع الأسطوري، ولكن تقيم نوعًا من الجدل الذي يطوِّر في ملامح المشبه به ويخرج عنها، فثمة قدر من التماثل وآخر من التخالف القائم بين المشبه به وقناعه الأسطوري، وأحيانًا ما يكون نفي التشابه التام بغرض إبراز المفارقة، فإذا كانت حتشبسوت قد قتلت المهندس الذي شيّد لها معبدها ودرة لم تفعل ذلك حرفيًّا، لكنها قد قتلته بحرمانه من ممارسة متعته النزقة معها، ليكون نوع آخر من القتل. وبالمثل فالتصوير يستحضر «شهريار» ليشبه الصحفية «باربي» به، في استبدالها لعاشقها ليلة بعد أخرى، و«أبو جعفر» في رؤاه الوجودية بـ»سارتر»، و«ألفة» في غزواتها الشهوانية بألمانيا بـ«طارق بن زياد» في فتوحاته.



فاطمة عبد الله تقرأ رواية “باب الليل” لـ: وحيد الطويلة


غواية بابٍ مواربٍ على الليل *
بابٌ لا مفتوحٌ يسمح لك بالدخول، أو يمنحك مشهدًا واضحًا، ولا يمنعك أيضا من الرؤية.. بابٌ ليس مغلقًا يقف أمام رغبة الولوج من خلاله، أو يمنعك من استقراء ما خلفه.. بابٌ لا مقفول يحث على الفتح والتساؤل عما خلفه.. إنما هو بابٌ مواربٌ يدفعك للفضول، ويغريك بالولوج الحَذِر لاستكشاف عالم يتوارى خلفه.. بابٌ مواربٌ مُغْرٍ، يفتح طاقةً، قَدْرَ مواربته، للتساؤل: هل كان على وشك الانغلاق؟ أم كان على وشك الانفتاح؟ ولم تكن قوة الدفع كافية في الحالين!! أم أنه يفتح طاقة للبحث عن إجابة تساؤلات مثل: لماذا واربه الكاتب ولم يفتحه تمام الفتح، كما لم يغلقه كذلك؟! وعلى أي شئ واربه، أو أي عالم ذلك القابع خلف باب موارب؟!
بابٌ في لحظة تشويقٍ حذِرة يتحول إلى تلك الحيلة المُستحَبة التي لجأ إليها الكاتب وحيد الطويلة في روايته (باب الليل) ليجذب القارئ بيدٍ حريرية تصطحبه لعالم رسمه بحرفية شديدة، محافظًا على “شعرة الشوق” بينه وبين القارئ، وكأن وحيد الطويلة حوّل شوق القارئ إلى ما يشبه “شعرة معاوية”، ومن ثم تحكم الكاتب إلى حد كبير في المدى الذي يسمح للقارئ بالتحرك فيه داخل عالم الليل.


من العتبة الأولى لنص الرواية نجد الجملة المُحيِّرة المقتبسة من فيلم أسبانى إنجليزى: “القبلة هي النقطة التي توضع فوق حرف الباء في كلمة الغرام”، فتصبح النقطة غائمة غير محددة الهوية أو الماهية، وكأنها متحركةٌ فوق سطحِ التساؤل فاتحةً كلَ بابٍ للتأويل، وكأن الكاتب من البداية يقرر أن يحصُرَ القارئ فى البحث عن تلك النقطةالسحرية!!


هكذا تأتى جملة الشَرَك الثانية فى نفس الصفحة: “أبواب الرواية: بعضها أبواب مدينة تونس، بعضها أبوابك أو أبوابهاليدهشك بهذا الالتفات بضمير الغائبة في “أبوابها” فيأخذك الشوق إلى معرفة من الـ”هي” التي يعود عليها الضمير!!

بعد العنوان والمفتتح يدلف الكاتب إلى الإهداء لصغيرته التي تحبه (مثل) اسبانج بوب، وإلى فيروز الكبيرة التي تحبه (أكثر) من رئيس الجمهورية، ليفتح بابًا آخر للتساؤل: هل هناك تقابل ما بين (مثل) و(أكثر) وبين اسبانج بوب والرئيس؟!! كما يظل نعت فيروز بـ”الكبيرةمثار تساؤل وبحث أثناء القراءة عن فيروز صغيرةٍ مسكوتٍ عنها!! ويفتح (الطويلة) أيضًا نفس هذا الشوق المدهش وراء البحث عن علة ورود رئيس الجمهورية كمُقَارَنٍ في الحب!! أو ليظل القارئ في دائرة السؤال والبحث أثناء قراءة الرواية عن رئيس الجمهورية، أو عن الشخصية التي أحبته، وعن وجه شبه بين فيروز الكبيرة وشخصية (دُرّة).

الباب الموارب سؤالٌ أم إجابة.. إغراء أم غواية.. خلف أم أمام.. وهكذا أيضًا يفتح علينا وحيد الطويلة أبواب التساؤل، وإغراء الكشف، وغواية الاكتشاف، منذ العتبات الأولى لـ(باب الليل).

ثم والقارئ في حيرة التساؤل، غائمًا، يسحبه الكاتب بيد حريرية ليُدْخِلُهُ من باب لباب لثالث إلى رابع، ثم آخر، حتى تنتهي الأبواب الأربعة عشر إلى مختتم، ويظل الكاتب رفيق القارئ طيلة هذه الجولة بين الأبواب، أو أمامها وربما خلفها، راصدًا تساؤلا يطرح نفسه: هل هناك علاقةٌ بين أسماء الأبواب؟ قبل النظر لما خلفها.. هل يكون باب البنات” مفتتحًا للهوى، وما بين الأقواس ثمة تفسير خاص؟ وهل هناك ارتباط بين” “العسل” و”المملكة” و”النحل”؟ وما بين “الجسد” و”الريح” و”النارو”البحر” كمكونات كونية للأرض والإنسان؟ وكذلك بين “النساء” و”الرجال”؟ ليظل التفرد لـ”باب الوجع” و”باب اللادرة”؟!! ومن ثَمَّ يدفعك السؤال من جديد لربط عنوان الباب بما يتضمنه، وكلما قارب القارئ على النهاية يرجع ثانيةً ليتأكد من ارتباط اسم الباب بالمحكيّ عنه. إلى أن يأتي إلى جوهرة العقد (باب الوجع).. باب التفرد.. فهو ليس الباب السابع ليكون منتصفا للأبواب الأربعة عشر لكنه الباب الثامن!! أي بداية المفتتح الثاني للأبواب.

ومن هذا الباب، الثامن، نتعرف كثيرًا على حكاية فلسطين المتوارية خلف أبواب الليل وداخل جدران المقهى، مجتمعة في رباط تجتمع إليه درات إنسانية مشحونة بالوجع والافتقاد، فيجمعها في “لمة الأحباب”، حيث يهرب كل واحد من حكايته في حكاية الآخر.

جوهرة العقد:
تتجلى مهارة الكاتب وحيد الطويلة عبر الرواية جميعِها، ولكنه يبلورها في (باب الوجع) حيث تظهر مهاراته اللغوية والبلاغية في براعة الاستهلال، وحُسن التخلُّص من استاتيكا الذكرى، إلى حسن الدخول في ديناميكية الحدث والشخصية، فى لغة محملة بالتوتر والمفاجأة، لكنها ليست منفرة أو صادمة (ص125+158: سرّحت لزميلاتها فى السجن شعورهن، نهشت أجسادهن الجائعة بأصابع عطشى، وهي التي كانت تحلم بمن يمسِّد بيد طرية جسدها، واختلطت الخطوط في بعضها، وتسللت الأصابع، واشتعل عنبر السجن بآهات مكبوتة تحت وطأة الليل والظلام والحاجة، تمدد سقفه، وما لم تفعله الأصابع فعله اللسان، تكلمت بلسانها كثيرًا، قطعت الصمت بصمت جديد)، مع مزج الأدب الشعبي بالرسمي (اللي يستنى أفضل من اللي يتمنى) + (ص155: لكن لأن الذي ربى خير من الذي اشترى، رفضت الخالات والأخوال) + (ص156: لأن قليل البخت يجد العظم في بطن البقرة) + ( ص194: الدنيا مع الواقف) + (ص244: نجوم الظهر أقرب له) بلغةٍ تقع، أغلبها، في نطاق السهل، مُصَاحَبة بشاعرية الأسلوب في مواضع كثيرة: (الناي الذي لا يعبر عن شجن صاحبه وعن شوقه وصبابته ليس نايا – ص 98) + ص 127(الرقص الناعم يحتاج إلى عاشقين، والرقص الحار يحتاج مجنونين، في السياسة لابد له من داهيتين أو داهية ومجنون على أقل تقدير) + ص155(لم أستطع ساعتها.. المكسور يخشى المغامرة) + ص196 (أكل قلبه في منتصف الليل بعد أن عب من الكونياك ما يكفي لقتل نصفه، وإذابة النصف الآخر، مضغه، لاكه بقوة، وتوكل على الله ليأكل قلوب الآخرين بمنتهى المتعة ودون ذنب).

في (باب الليل) يتحول الكاتب لباحث معملي، فيقدم مقطعًا طوليًا لشريحة وحيدة الخلية تضم مذكرها ومؤنثها، مما يصنع زايجوت” أدبيًا رائعًا، قد لا يجدالقارئ في واقعه القريب أشباهًا له، أو قد يرى بعضًا من أضوائه، لكن الكاتب حريص أن يؤكد لقارئه أنه يصطحبه لزيارة عالم خاص جدًا.. يقدمه للقارئ على شكل مقطع من عالم يتوارى خلف الليل، أو خلف الباب الموارب، شريحة من إنسانيين مهمشين قابعين بوحدتهما المتشابهة، وهي تموج حركةً ووجعًا، يقبعان متجاورين، يظلهما عالمُ مقهى “لمة الأحباب”.

ومن البراعة التي تُحسب للكاتب أنه متمكن من صنع شخصياته بشكل طيّع متنامٍ يجيد التمهيد للحظاتها الدرامية بلغة السهل الممتنع، وبلغة تميل للإيجاز الفني كذكْرِه للتحول الذي حدث لـ(أحلام) وحولها إلى (حلومة) وغيرها من الشخصيات، لكنه أيضا لم يسمح لشخصياته بأن تستقل تمامًا عنه، إذ أنه يقبع خلفها أحيانا ليتخذها وسيلة للتعبير عن رأيه الشخصي، أو حين يستثمر الوصف المُمهِّد للحدث أو الشخصية، ليطل برأسه ككاتب يعبر عن رأيه أو يقدم تفسيرًا خاصًا أو تأويلا، ولعل التفاسير المرتبطة بالقضية الفلسطينية، وكيفية تعامل الحكام العرب معها، خير مثال على حضور الكاتب متلبِّسا الشخصيات في بعض الأحيان، أو مستقلا لسانها وسيلة للتعبير عن رأيه هو على مدار الرواية.

يظل وحيد الطويلة كاتبًا ذا بصمة خاصة.. يمتلك مهارة نسّاجٍ ماهر لحكاية ألّف فيها بين متنافراتٍ، وجاور بين متباعداتٍ، فالمقهى حوى أشتاتًا من الناس.. من جنسيات مختلفة وبلاد متباعدة، وتحملت أجواؤه بذكريات متباينة لشخصيات، ويظل كذلك واضعًا شخصياته وقراءه معًا تحت طائلةِ اللحظةِ المُراوِغة.



المقهى في ‘باب الليل’ لوحيد الطويلة: ذَاكِرَةُ المَنْفِىِّ….والوطن البديل

ممدوح فرَّاج النَّابي


(1) في مروية تتقاطع خيوطها الأساسية مع مرويات المَنْفَى بكافة أشكاله (القهري والاضطراري)، بعد أن صارت الأوطان كلها أشبه بالمنافي، وصار أبناؤها مغتربين سواءً ظَلّوا فيها أم رُحِّلُوا عنها.
يطرحُ وحيد الطويلة في نصه الجديد ‘باب الليل’ الصَّادر عن (دار الأمان، منشورات ضفاف، منشورات الاختلاف 2013)، فكرة استعادة الذَّات المجهَضة بفعل قوى غالبة وقاهِرَة، لا تبدأُ عند سلطة الاستيطان وفقط، التي حالت دون عودة المناضلين بعد اتفاق أوسلو مع أقرانهم بحِجَّة أنّ هؤلاء أياديهم تلطَّخَتْ بالدماء، وإن كانت لا تنتهي عند سُلْطَة القمع السياسي التي مارستها أجهزتها الأيديولوجيَّة بتعبير ألتوسير في فترة حكم بن عليّ الديكتاتورية، ومدى تطاول أذرعتها التي تجاوزت المسجد والمقهى، باعتبارهما فضاءيْن ملائميْن للرصد والتعقُّب، إلى غرفة النوم (كما فعلت زوجة شادي السّوري)، ومن ثمَّ فلم يبقَ مجالٌ إلا التحرُّر من تلك الأغلال، وبما يمتلكه الإنسان أي بالجسد، العجيب أن السُّلطة السِّياسِيّة / القاهِرَة المتمثِّلة في سي المُنْجي (الضابط الشيخ) فشلت في إثبات خصوبتها أمام سلطة الجسد / المستسلمة (لِلَّا درّة، السِّيدة الأولى في المقهى بدلالتها المجازية والحَرْفِيَّة) حتى أنَّها في المرة الثّانية عندما أرادت مساومته بجسدها خشيتْ أن يتكرِّر العجز، في إشارة بالغة لحالة الجدب التي وصلت إليها السُّلطة بعد تراكم السّنين وهي في الحُكْم، فعملت على مُوارة العجز والترهُّل بالقهر والقمع. لذا تتخذُ من الجسد وسيلةً لكسب معركةٍ، الغواية فيها لسلطة الجسد، تكون هي فيها الفاعل والمفعول في ذات الوقت، يتبادلون الأدوار فيما بينهم ما بين الصيَّاد والطريدة، ليتحققَ النَّصْرَ المزعوم، على الجسد ولا شيء إلا الجسد.
(2)
يتجاوزُ العنوان ‘باب الليل’ المعنى السَّطحي الذي تحيل إليها مفردة ‘باب’ بدلالتها المنفتحة التي تشي بمعنى الكشف والمرئي، لتقدِّم لنا بعد إضافتها لمفردة ‘الليل’ وما تحتويه من معانٍ ظاهرية ومجازية، إلى دلالات الأسرار والدخول إلى المُبْهَم والمسكوت عنه، وكأننا مقبلون على ما هو مجهول (مغارة) يأخذ / تأخذ في التكشُّف مع الدخول إلى الأبواب المُخْتَلِفة التي تتشكَّل منها بنية النَّص، ليكشفَ في الأخير عن عالَم الرواية الغائم والكابوسي، وشخصياتها المحبطَة والمهزومة، التي تتوَزَّع على الأبواب حتى صارت كُلُّ شخصيةٍ شبيهة بعنوان الباب المؤطر للسَّرد، على كافة المستويات، السِّياسيَّة والاجتماعيّة وأيضا النَّفْسيّة، من خلال تركيبة فريدة من البشر مختلفي الجنسيات فنرى خليطًا من توانسة ولبنانيين وسودانيين وليبيين وأوروبيين، وإنْ كان ثمَّة فلسطينيون، أو ثوّار متقاعدون حاضرون بفجيعتهم، حتى صاروا بفعل عوامل عِدّة لا تبدأ من الخيانة ولا تنتهي بتبدُّد سراب الأحلام مجرد ‘بقايا بشر بدون أظافر، يلهثون وراء لقمة يومهم يحلمون ـ بيأس وافرـ بأىّ بلدٍ يَقْبَل أن يُرَحَّلُوا إليه ولو فى جزر الكاريبى، أو عن جواز سفر بأىّ اسم كان’ (الرواية ص، 155)

(3)
المقهى الوطن البديل.
ومع هذا التجمُّع البشري باختلاف الهُويَّات وتنوُّع الأحلام، إلا أنَّ المؤلف يوحِّد بينهم في فضاءٍ تخييلي، يُسميِّه مقهى ‘لمَّة الأحباب’، بما تَحْمِله التَّسميِّة من معنىّ مجازيّ مكتنز بضديته أيضًا، ومن ثمَّ يتجاوز المقهى دلالته المتحقِّقة أيضًا داخل النَّص باعتباره فضاءً زمكانيًا، كنقطة اتّصال الخارج بالداخل، أو العكس وهي تلك الصِّفَات اللَّصِيقة بتاريخ المقهى منذ نشأته، وما أضفته عليه النظم الديكتاتورية من وظائف المراقبة والتجسُّس، إلى كونه ‘فاعلية كونيِّة’ باصطلاح غاستون باشلار، تُحقّق التجمُّع واللقاء لأصحاب الهزائم والانتكاسات العربيَّة، وفي ذات الوقت يوحِّدُ مصائرهم بعدما فرقتهم أوطانهم، فيضحي مكانًا بديلاً للبحث عن حلول ووضع الخطط حول قضايا مصيرية، كنوعٍ من السُّخرية من تلك المنظمات الشَّكْلِيَّة (التي تنتهي جميعها بصفة العربيّة) والتي لم تحقِّقْ على مستوى الواقع حلاً لأي مشكلة سياسية، بل زادت الأمور تعقيدًا، فقام المقهى بهذا الدور البديل، حتى غدا لديهم بمثابة الأوطان البديلة يوحِّد ويذيب الهُويّات، وفي ذات الوقت الملجأ برجاله وبائعات الهَوى بعدما أَوْصدت الأوطان الحقيقية الأبواب وبات أمرُ العودة مجرد وَهْم آَل. فحقَّ بهذا أن يكونَ المقهى كما وصفه السَّارد الغائب ‘سِرَّه داخله، يطوي غرامه في أعمدته أو أثدائه المزروعة في كُلِّ مكانٍ، شواهد حيّة، أو في سقفه الذي يدفن الحكايات في ثنايا تموجاته، منطوٍ على نفسه، يكاد لحظةً ينطق بكل الأسرار.’(103). وفي سبيل هذا يَلِحُّ السَّرد على وصف المقهى وصفًا تعبيريًا أي عبر التدقيق في هندسة المكان، وهو ما يرفضه ‘آلان روب غرييه’ بكافة أبعاده الجغرافية تارةً حيث ينتصب ‘على ربوة تصعد ليها عبر سهلٍ، وتهبط منها في أرضٍ منبسطة، ومن أيّة نافذة يمكن لعينيك أن تمتدَ بين ربوة وقبة ومنبسط’ (ص11)، وتارةً أخرى، بتحديد موقعه وتاريخه ‘في شَارع جانبي متفرع من شارع المقاهي، الذي ينتفخ بنحو ستين مقهى آخر، ظلَّ لسنوات بمقهى واحد، وحين ارتفعت المباني وسكن الناس، تناسلت معهم المقاهي في شهور وجيزة، يمتلكها لاعبو كرة القدم وبعض الفنانين وأصحاب الأموال القادمة من مدينة صفاقس تحديدًا’ (ص 11)، وأيضًا بأبعاده النفسية من خلال علاقة رواده به، فهو بالنسبة للّا درَّة ‘ملعبها، فيه ترعرعت وشَبَّتْ، شَاهِدٌ حيّ على جولاتها وصولاتها، تترك نصف روحها فيه قبل أن تغادره ليلاً، لا تستطيع أن تتخيَّل الدُّنيا بدونه، تاريخه وتاريخها مكتوبان بحبر واحد بدم واحد، ستأخذها قدماها إليه دون أن تدري، ولو كانت عمياءً، ستأخذهم أقدامهم إليه وإليها دون أن يدروا، كأنهم عميان مخطوفون بحبل من حرير’ (ص 302)، أما بائعات الهوى فيعتبرن ‘ملح المقهي و(كذلك) الحياة’ (ص53، والتشديد من عندنا)، وببعده الزمني وإيقاعه النفسي الحاد، فيأتي جلوس المنفيين على الطاولات في لعب الأوراق لا لشيء سوى ‘لقتل الوقت المقتول، في انتظار وقت آخر لا يجيء’ (268)
لا تبتعدُ أسماء المقهى وصوره في وعي شخصيات الرواية ـ على الأقل ـ عن سياق المَنْفَى والاغتراب فهو مرَّة ‘لمَّة الأحبَاب’، وتارةً ‘مقهى الأجانب’ في إشارة لهؤلاء اللاجئين، وقد يتداخل المقهى مع المنفَى، ليكونا شيئًا واحدًا كما هو الحال عند أبي شندي فعلى حدِّ قوله ‘إسرائيل حبستني داخل مترين، واحدٌ في الدار وواحدٌ في المقهى’.(ص 55). وفي حضور هؤلاء المنفيين وبفضل مُنَاضِلاته وغزواتهن، يكتسب المقهى دلالة جديدة، فيصبح حائط مبكى للبوح والفضفضة والرِّثَاء لماضٍ تليدٍ ولىّ، وهو ما يجعل لحضور الذَّاكِرة قوَّة السِّحر للتَّشبُّث بالأمجاد والبُعْدِ عن الجنون، فتتوسّد بالاسترجاعات التي تعود إلى أزمنة قديمة حيث ميادين النضال والثوَّرة.
(4)
تتردُّد داخل المتن الحكائي، أصداء زمانية تشير إلى نهاية عصر بن عليّ، وقبلها زمن طرد الفلسطينين من
لبنان إلى تونس عام 1982، ثم اتفاقية الخيبة لا العودة (إن جاز الوصف) دون الموضوعة أسمائهم على قوائم الإبعاد الإسرائيلي، فضلاً عن وحدة مفردة العنوان ‘الليل’ التي تشي بالظلام والسرمدية، إلا أن الملاحظ أن زمنية الرواية تأخذ خطوطًا تارةً متعرجة، باستحضار اسم ‘أبو جعفر المنصور’ الخليفة العباسي في القرن الثاني الهجري بانتصاراته، وإستبداله بالمهزوم بعد ضياع العراق لوصف أبي جعفر الثائر العراقي، وتارةً ثانية متداخلة مع أزمنة الهزائم السياسية الكبرى من فلسطين إلى العراق في العصر الحديث وبينهما هزيمة 67 التي داست على أحلام شادي، وهو ما كان له أثره في إجهاض كافة أحلام الشخصيات التي تتنظر زمنها القادم أو بمعنى أدق غده / ربيعها، بما فيها الرئيس الذي يقرُّ الجميع بلا غضاضة أن مكانه ومقعده محجوزان إلى القرن الحادي والعشرين، فيحل خريفه بربيع مُضبب لم تنقشع غمامته بعد، دون أن يخوض في أحداث الثورة، وإن كان ثمَّة تحقّقات لأسباب الثورة بين ثنايا السَّرد ماثلة في صورة الهجرة إلى الشاطئ الآخر، والحلم بالثراء، بلا تفاصيل أو إسهابات، وهو ما يحسب للمؤلف الذي رصدَ بلغةٍ سلسلة عذبة تمزج بين الوصف والشعر، مُحمَّلة بالمجازات والتشبيهات، الموظفَّة في غير سياقاتها بإضفاء الجمال بل على العكس، تتلاعب بالألفاظ وتنقلها إلى سياقٍ مفارقٍ لدلالتها الأولى في الوعي كنوعٍ من السّخرية ، فتصير فتح (حبف)، والسُلْطة إلى سَلَطة (بفتح السِّين واللام)، ومناضلو الميادين إلى مناضلي السَّرائر، والغزوات الحربيَّة إلى غزوات جنسيّة، وفيها أيضا تصبح الصدور قنابل، والعجيزات قواعد، وبيانات المعارك بيانات لفتح حصون الجسد، في مكر لغوي يُجسِّد مآلنا العربي الذي تقزَّمت أهدافه، وتهاوي انتصاراته لدرجة لم يَعُدْ لها وجود غير الذَّاكِرة والأغاني الوطنيِّة.
كما تصوِّر الرواية حالة القمع والحرمان السياسي في مقابل حالة الحرية اللاخلاقية (إن جاز الوصف)، وتلك الممارسات التي قامت بها أجهزة السلطة في التعقُّب والتجسُّس على المواطنين في مقابل إتاحة كافة الحريات لممارسة الرذيلة والشذوذ، وهو ما بدا واضحًا في مشاهد متفرقة على طول سرد الرواية، وهو ما أنبأ عن حالة التضخم التي عانت منها سلطة الرئيس، التي كادت أن تفرط في البطش لمجرد أمنية عابرة لطفل بأن يكون رئيسًا، فما تغافلت أو قصرت، رغم استحالة تحقُّق الأمر لجنسية الأب السُّوري، وأيضًا حالة العبث التي وصلت إليها أجهزته مِنْ سعيها لتجنيد المهدي ليكون عينها في المسجد، دون الأخذ بهويته الدينية المسيحية، لكن ما حال دون ذلك أن المهدي كان غارقًا في البحث عن مسيحه المُخَلِّص وكيفية العمل مع المارينز الأمريكي.



(5)
هزائم السِّياسة وانتصارات الجسد.
‘خُدِعْنَا في الثَّوْرَةِ، لا يَجِبُ أنْ نُخْدَعَ في النِّسَاء’ (ص 178) عبارة شادي، في سياق رفضه بألا يدفع مالاً لامرأةٍ لينام معها، إلا أنها تعدُّ مُلخصًا لأزمة الشَّخصيات بكافة أطيافها، لذا فالعنوان الأبرز للرواية أنَّها عن هزائم الرِّجال في معاركهم الكبرى، ويأتي حضور الجسد هنا لا بكونه ترفًا أو وصفًا حِسّيًا إيروتيكيًا، وإنما هو انعكاسٌ لواقعٍ قَاهِرٍ تضافرت عوامل كثيرة في تجسيده، فقام أفراده بحيلٍ مُضادة لكسر القيود والتابوهات والمقدسات، بالتبذُّل والفجور تارةً، وبالهروب إلى الشاطئ الآخر من البحر تارةً ثانية. ولا تكتمل أزمة الشخصيات إلا بالخيانة التي تُشكِّل محورًا بارزًا في الرِّوَاية، وهو ما يدفعنا إلى القول بإن تبدُّد الأحلام، نتيجة طبيعية للخيانة، فضياع أحلام العودة إلى الأراضي الفلسطينية كان سببها الخيانة، أو ما أطلق عليه أبو شندي (حبف) أي حركة بيع فلسطين، وهزيمة العراق أمام جحافل الأمريكان جاءت بذات السبب كما يعلن مرارًا وتكرارًا أبو جعفر، مرورًا بأزمة نعيمة التي كان سببها خيانة أختها لها، بالزواج من حبيبها وسفرها بدلا منها إلى إيطاليا، لدرجة أنَّها ضاقت ذرعًا بكل ما يأتي من الخارج بما في ذلك الملابس المستوَّردة خشية أن تكون ارتدتها أختها. مرورًا بخيانات الفراش التي تتقاسمها درّة وألفة وحلومة، وألفة.
لا تنفصل شخصيات الرواية عن سياقاتها (السِّيَّاسيّة والاجتماعيَّة والثقافيَّة) المُنْتَّجَة فيها، فجاءت إشكالية في بعضها عنيدة مُشَبَّعَة بالإصرار على مقاومة فداحة الواقع وابتذاذته كشخصيات (شادي / حبيبة / باربي / دُرَّة (في بعض جوانبها) / المهدي) وفي بعضها الآخر مريضة مشوَّهة خاوية من كُلِّ شيءٍ؛ المال والجنس والأمن والحب، لذا لم يشغلها سوى تحقيق المال وفقط، وفي سبيل ذلك تفعل الشخصيات أي شيء (للّا درَّة، كسوف وأحلام التي تجوب العالم إرضاءً لزبائنها، وغسَّان الذي يتحوَّل من ابن ثائر إلى خائن وفقًا لسياسة الواقع الجديد الذي قاعدته كما تقول نعيمة ‘الدُّنيَا مع الواقف’ (237) فبَحَثَ عن السلطة والمال، وكذلك مجيد وألفة. أما شخصيتا أبو شندي وأبو جعفر فكلتاهما شخصية ضد، فلم يفعلا شيئًا غير اجترار الذكريات والبكاء على مباهجها، وتشاطرهما في الضدية نعيمة التي استسلمت لواقعها بعد أن خذلها الأوروبي وسافر مع أختها، فينتهي بها الحال إلى شبه خادمة وممرضة لأبي جعفر، وقد تسربت أحلامها جميعًا ولم يبق إلا اصطياد أبي شندي.
(6)
في صمت تعود الحركة للمكان من جديد بعد تجديد المقهى وتُغْلق دائرة السّرد بنفس جملة الافتتاح ‘كُلّ شَيءٍ يَحْدثُ في الحَمَّامِ’ في إشارة إلى ديمومة الحياة دون توقفها وإلى بنية الرواية الدائرية، كما يضطلع بالسَّرد راوٍ غائب قريبٌ من الشِّخصيات يرصدُ كُلَّ شيءٍ، ويسمح لنفسه بالتدخُّل بالتعليق السَّاخر على الشخصية حينًا، وبالتعليقات والأوصاف الماكرة على الواقع تارة ثانية، كما يسمح لصورة المروي عليه بالحضور من خلال إشارات يوردها، كما هو الحال في التمهيد الذي يُفسِّرُ الأبواب. هكذا كان المقهى شاهدًا على ولادات قصص حب، وبدايات علاقات، كما كان شاهدًا على خيبات وانتكاسات. جميعها مع الأسف مصدرها واحد، عَطَب وتَكَلُّس سياسات فاشلة أورثت أجيالاً نفس العَطَبِ وتلك الهزائم. فهل نجونا أم صِرْنَا مجرد مُسوخٍ ننتظر مسيحنا المُخلِّص كما فعل المهدي؟!

وحيد الطويلة يرصد مقاهى تونس صلاح فضل

فى روايته الجديدة المثيرة «باب الليل» يعتصر المبدع المصرى المرح وحيد الطويلة خلاصة تجربته الحريفة على مقاهى العاصمة التونسية وفى زوايا أسرارها الحميمة ليقدم رؤية مكثفة مضمخة بروح الدعابة وعشق الجمال الأنثوى، وبطولاته التى تتوازى مع النضال السياسى وتلتحم به، لتعبر بشعرية لاذعة عن مساحة الحرية المحاصرة التى كان يتمتع بها الرجال والنساء فى تونس، قبيل تفتقها لتحتل الفضاء السياسى وتغمره بالقلق فى ثورة الياسمين.
وربما كانت هذه من أولى الإطلالات الإبداعية التى يقوم بها كاتب مصرى - يعتبر نفسه من المركز - على الواقع المغاربى الذى طالما اشتكى من تهميشه - بعد معايشة طويلة امتدت لسنوات عديدة مكثها وحيد الطويلة فى عمله الصحفى بمكتب الجامعة العربية فى تونس، وخبر فيها مذاق الحياة وإيقاعها الباطنى، ودرس الشخصية التونسية بطابعها الطاووس الرزين، وعرف ما اشتهر به أهل «صفاقس» من خواص، وتمرغ طويلاً على عتبات المقاهى التى يعدد منها سبعة ولدت فيها الرواية، مثلما فعل فى بعض رواياته السابقة، لكنه هنا ينتج «بنية سردية» ترتكز بقوة على جماليات المكان فحسب، حيث تقوم بتجميع أشعة الأجساد الأنثوية التى تخطر بخيلاء فى المكان وتصنع منها بؤرة درامية بكل مفاتنها المتنوعة، لتبنى من خلالها أسطورة الغانيات فى عاصمة جربت منذ عقود دخول العصر الحديث بإطلاق العنان للحريات الشخصية وحدها، مع استلاب السلطة الكامل للحقوق السياسية والاجتماعية والإنسانية المتحضرة، ولأن الكاتب يمتلك موهبة شعرية بارزة فى أسلوبه الحيوى المفعم بالصياغات المركزة، فإنه يستهلّ عمله بمشهد سردى لافت، يوجزه فى جملة افتتاحية تصلح لأن تكون عنواناً للرواية - وهى ذاتها التى تختتم بها - إذ يقول «كل شىء يحدث فى الحمام» - يقصد حمام المقهى - حيث تتحرك البنات صوبة واحدة واحدة، أو اثنين اثنتين، خلفهن بمسافة معقولة رجل أو اثنان - كل نوع يدخل إلى بابه الداخلى بعد بهو المرايا المشترك، وسرعان ما يتبادلون الأوراق الصغيرة التى تحمل أرقام الهواتف «كلهم يغشونه، يرمون شباكهم أمام مرآته، يعقدون صفقاتهم، تغمز صنانيرهم ويرتفع خطاف هنا وهلب هناك. وعندما يعودون لمقاعدهم يطلبون بعضهم سريعاً فى الهواتف، يتواعدون على اللقاء خارج المقهى، ينطلقون متعجلين بسياراتهم وصوت العجلات يصل عالياً إلى الداخل لينجزوا المهمة، كل شىء يحدث فى الحمام، كلهم يزورون هذا المشهد التجارى الفج يشى بواقع مشوه لا يجد أفقاً أمامه سوى حرية الجسد يفتقر للعواصف الراقية، تموت فيه الرومانسية على حد ما تلاحظ مغيمة - إحدى نجماته فتقول لجارها على المنضدة المجاورة «لن تجد واحداً يضع يده على كتف واحدة أو يحمل وردة لها، قد يشترى لها عقداً من الفل إن أصر البائع السمج على مطاردته لا ذراع حول خصر، لا غمزة طرية بالعين تحمل وعدا، لا قبلة فى الهواء، ولا كلمة تفوح منها الرومانسية، لذا يحسدون زوجات المصريين واللبنانيين على اللسان المعسول لرفقاتهن، لا غرام فى هذه المدينة، بل لا غرام فى هذه الدنيا.. الفلوس، الفلوس فقط ومهما كانت الصورة كاريكاتيرية مبالغاً فيها، التقطتها عين شاب مصرى مولع بالعواصف متمرس بها، فإنها تشير إلى تطور فعلى ودعت فيه تونس عصر الطرب وأغانى أم كلثوم وعبدالحليم ليحدث كل شىء فى الحمام.
وعندما يشكو جار نعيمة من أن ابنته لا تلتزم بالعودة للمنزل قبل العاشرة مساء، لأنها كبرت وتريد أن تتأخر مع صاحبها تنصحه بأن يتقبل الأمر الواقع ويسلم به، فيرد عليها والغيظ يخنقه «منك لله يا بورقيبة، صحيح عملت الاستقلال والتعليم وتنظيم النسل، محسوب لك، عملت الباهى، لكنك عملت الخائب أيضاً، قويت المرأة على الرجل، مددت الاستقلال، كل حاجة هنا تمتزج اللهجة التونسية بالموقف النقدى للجيل القديم الذى يعترف من التقدم بما يرضيه، ويستنكر ما يصدمه، وتتجلى حينئذ ازدواجية المعايير المبررة فى انتقاء نوع من الحريات ورفض النوع الآخر فى منظومة القيم العربية بصفة عامة حتى اليوم.
تقاعد النضال:
ترتب على البطولة المطلقة للمكان فى رواية «باب الليل» غيبة الحدث الكبير الناظم لجميع التفاصيل فى مدى زمنى ممتد يرصد تحولات الحياة، وحلول مجموعة من الصور اللافتة والنماذج البشرية المجسدة بعناية فائقة مكانه، مما أتاح الفرصة لموهبة الحكى السريع، قصير التيلة، التى يتميز بها وحيد الطويلة، لتجتاح الرواية بأكملها، حيث تترى مجموعة من المشاهد المركزة تحكى قصة شخصية واحدة فى صفحة أو صفحتين على الأكثر، قبل أن تتركها على أحد مقاعد المقهى دون أن تعود إليها إلا نادرا فى سياقات لا تسمح لها بالمشاركة فى الأحداث - لو كانت هناك أحداث - سوى بتعليق عابر، وكأن فصول الرواية التى أطلقها عليها الكاتب أبوانا مجرد تمثيل بصرى لمناضد المقهى يجلس عليها الرواد وتنتقل عين الكاميرا بينهم لتضئ وجوههم برهة من الزمن ثم تتركهم إلى منضدة أخرى، إلى أن يتم إنتاج الفيلم المصور من مجموع هذه اللقطات، على أنها تحتفى فى مجموعها بعرسين لا ثالث لهما، هما الجنس والنضال المتقاعد الملتبس به، والذى تحتكره بعض الشخصيات الفلسطينية التى ترسبت فى قاع المدينة التونسية بعد عودة المنظمة إلى رام الله بالضفة الغربية، فلم يبق لهم سوى حنين الذكريات، وشبق الثورة المنطفئة، واستخدام بقايا معجمها فى التوصيف، حيث يسمى أحدهم فوج الداخلات من بنات الهوى «كتيبة المناضلات» أو يدعو إحداهن للجهاد معه فى المنزل بعد هجرة زوجته يأسا منه، وتتشكل هكذا منضدة المناضلين المتقاعدين المثبتة فى المكان باعتباره الدائرة الوحيدة التى ترسم أفقاً غارباً من الكوميديا السوداء، يتصاعد إيقاعه من فصل إلى آخر، فتتعدد نماذجه بطريقة درامية نامية تعوض خلو الرواية من حدث رئيس جامع، وتوازى فى الآن ذاته مصائر الغوانى البائسة، حتى تلتحم بها فى تعاطف إنسانى ومصيرى فاجع فى ختام صفقات الجسد والثورة إبان وهجمها المشترك.
والطريف أن الكاتب يسمى أول باب يقدم فيه بعض هذه النماذج «باب الهوى» حيث يقول: «عاد الفلسطينيون إلى رام الله وإلى غزة بعد أن قضوا أعواماً فى ضيافة تونس منذ الخروج من بيروت عام 1982 بسرعة لملموا تاريخهم وما اتسعت له حقائبهم وتجمعوا صفوفا ليتأكد من أسمائهم، بضعة أفراد لم يجدوا أسماءهم فى كشوف العائدين، هو واحد منهم، اسمه كان فى كشوف الإسرائيليين، ممنوع من العودة، يده ملطخة بالدماء قضى عشرين عاما من النضال تحت راية الثورة الفلسطينية فى بلاد الله ومثلها فى تونس بعد أن طارت الراية أو تبدلت، يتذكر دائماً طعم العملية الأولى، كانت فى بوخارست ضد واحدة من عصابة الهاجاناة اليهودية التى دبرت مذبحة دير ياسين.
كان يستمتع ببقية عمره سعيداً فى رمانيا.. تقدم منه أبوشندى وأرداه قتيلاً باسم الثورة الفلسطينية ثم رفع يده بعلامة النصر وانتقل للإعداد والتخطيط وتكوين المجموعات، وكان من بين أعماله شراء ماخور فى ألمانيا وتخصيص الدور الأول فيه للقمار، والأعلى للسكنى والمبيت، والأسفل مخزنا للقنابل والخرائط وأجهزة الاتصال، كان يفاخر بأنه حتى الثورة تحتاج للمومسات، نموذج آخر للمناضلين أبوجعفر المنصور حامى الثورة فى العراق الذى وجد نفسه بعد سقوط صدام مهزوما فى أعز ما يفاخر به «الناس هنا تناضل فى كرة القدم وعجيزات النساء، فى لقمة العيش وتفكر بشره شديد فى النقود»، وعلى الرغم من أن العراق ظل يسكنه حتى النخاع فلم يعترف بموت صدام بل ظل يهتف بصدق «صدام لم يمت، إنه قلب الأمة» وبين مناضد البغايا وبقايا المناضلين تتم ألعاب الهوى وحركة الحياة فى هذه البؤرة الساخنة من المجتمع التونسى.
سيدة المقهى:
لكن حفاوة وحيد الطويلة بالجانب الأيروتبكى فى روايته تتجلى فى مشاهد طويلة من أوصاف الجسد الباذخة لنماذجه المتنوعة، نكتفى منها بالإشارة إلى ربة المقهى لتعدد أبعادها فهى «امرأة ذات ثديين سخيين يمكن لطائر صغير أن يحط عليهما، وذات وعود - كما يقول شاعر مصرى اسمه عبدالمنعم رمضان - الإثارة تتقدم إلى الأمام بكامل زينتها وأناقتها كأنها مدعوة إلى حفل على شرفها يؤمه الوزير الأول لا ذاهبة إلى مقهى.. على رأس الطاولة تجلس كطاووس بأبهى الألوان، تبدو كيدة أولى لولا أن سيدة أولى فى المدينة قابعة فى قصرها لن تسمح لها، والمدينة صغيرة، وكل همس فيها تحمله ريح خفية إلى أذن أو سريرة، هى لا تريد أن تصل إلى هذا الحد حتى لا يقام عليها الحد.
لذا تضع صورة الرئيس فى ثلاثة مواضع بارزة من المقهى، لا تكتفى بواحدة معتمدة كبقية المقاهى، تشترى الرضا من بعيد وتوهم الآخرين بقربها وتتفوق عليهم، ما من أسبوع يمر حتى تحكى كيف انفتحت لها طاقة القدر عندما اختار الرئيس أن يجلس إلى طاولتها لدقائق فى سهرة ما، ويبادلها الحديث وتأكل من طبقه، لعل هذا الخيط السياسى الرفيع الذى أدمجه الكاتب بمهارة فائقة فى نسيج الرواية أن يكون العصب الحى الذى أخذ يتعاظم باحتلال رجال الشرطة والأمن والمخابرات، ومن يلوذ بهم منضدة أخرى فى المقهى حتى يكونوا على مقربة من التقاط كل شاردة وواردة فى الشارع العام، وقد تذبذبت علاقات سيدة المقهى بهم فى ظل الخضوع التام والحماية المطلقة، ولكن متابعة مصائر بعض الشخوص الأخرى أبرزت فداحة إدارتهم للحياة فى الدولة البوليسية القامعة، فغسان المنحدر من أب سورى وأم تونسية والذى كون ثروة وجاها أتاحا له أن يطمح إلى لعب دور سياسى بالترشح فى الانتخابات يتم إقصاؤه بقسوة لأن ولاءه غير مضمون للحزب بالرغم من تقديمه جميع القرابين، وعندما تهب رياح التغيير غير المنظورة فى الرواية لا نرى من علاماتها سوى خلو منضدة رجال الأمن، بعد أن ألقوا اللوم بشدة على السيدة درة، لأنها فى فورة حماسها لإظهار تأييدها للنظام علقت يافطة كبيرة لتهنئة الرئيس بقدوم الخريف، وكأن هذا إيذان بخريف البطريرك، وتشرع السيدة فى إعادة هيكلة مقهها ودهانه، فتركن صور الرئيس فى الحمام، وفى لفتة ختامية رمزية دالة تنظر إليها لبرهة قبل أن تستعد للخروج، ثم تعود فى اتجاهها مرة ثانية، وفجأة تركلها بقدمها فتتساقط مبعثرة على أرضية الحمام، فتحمل بأطراف أصابعها بقاياها لتلقيها فى سلة القمامة، وبهذا نرى مرة أخرى أن كل شىء يحدث فى الحمام.

رواية «باب الليل» عمار علي حسن

على النقيض من الأجواء «الغرائبية» التى اتشحت بها روايته «أحمر خفيف» اختار المصرى وحيد الطويلة واقعا قابضا وبائسا ليشكل منه مادة روايته «باب الليل» التى صدرت مؤخرا، دون أن يتخلى عن طريقته المائزة فى الحكى، حيث اللغة الشاعرية، والإغراق فى الوصف، والولوج إلى الأبعاد العميقة للنفس الإنسانية، وتوظيف الخبرة والثقافة الشخصية، والسياق التاريخى ـ السياسى بإفراط، مع تناص واقتطاف مما أورده السابقون، يذوب فى ثنايا السرد، ولا يشكل أى نتوءات أو انقطاعات، تضر بانسياب الكتابة أو الاحتفاء الدائم بالتشويق والإبهار والإثارة.
وكعادته ينبئنا «الطويلة» عن مكان كتابة روايته، وهو عبارة عن سبعة مقاه فى تونس وواحد فى مصر، ويزيد هذه المرة فى جعل المقهى هو المكان الأساسى لروايته تلك، بل يكاد يكون العمود الفقرى أو «البؤرة المركزية» لها، ليبقى رواده هم الأبطال، وما بينهم من علاقات وتفاعلات وحكايات هى لباب العمل وقشرته، وكذلك مضمونه وشكله. ويسيح الأبطال فى الأزمنة والأمكنة لتتناسل الحكايات لكنها لم تلبث أن تتجمع كلها داخل المقهى، الذى يبدو «عدسة لامة» تلتحم على صفحتها كل الأشعة التى تصنعها لحظات البهجة والوجع، والأمل والقنوط، التى تمر بها شخصيات موزعة على جنسيات شتى من توانسة ولبنانيين وسودانيين وليبيين وأوروبيين، وقبلهم فلسطينيون، أو ثوار متقاعدون، «هم بطبيعتهم منكمشون على بعضهم فى حالهم كأنهم يتامى» لأن «الشواطئ التى نزلوا عليها نبتت فيها أحجار كبيرة» ولذا صاروا مع الزمن «بقايا بشر بدون أظافر، يلهثون وراء لقمة يومهم يحلمون ـ بيأس وافرـ بأى بلد يقبل أن يرحلوا إليه ولو فى جزر الكاريبى، أو عن جواز سفر بأى اسم كان».
كل أبطال الرواية، التى اتخذت من أبواب مدينة تونس عناوين لفصولها، قد انهزموا فى «المعارك الكبرى» فراحوا يبحثون، بالغريزة أو بالاحتيال والاحتياج والتعويض، عن «معارك صغيرة» يحققون فيها انتصارا. فبقايا الثورة الفلسطينية الذين انقطعت بهم السبل فى تونس بعد أوسلو، وليبيون هاربون من قمع القذافى، وتونسيون يسكنهم الخوف من حكم بن على، ونساء فشلن فى إقامة حياة أسرية آمنة- لم يجدوا بدا من أن يجعلوا المتعة الجنسية حياة كاملة، فيصيروا مجرد صيادين وطرائد، ويتبادلوا الأدوار، رجالا ونساء، فى لعبة «القنص» التى تبدأ بتبادل أرقام الهواتف سريعا لحظة دخول حمام المقهى المنقسم بين الجنسين، وتنتهى بحروب عزلاء على أسرة لا تكف عن استقبال زبائنها أو فرائسها، لكنها تكون فرصة متجددة للهروب من القهر والاستبداد، فــ«الناس هنا تناضل فى كرة القدم وفى عجيزات النساء، فى لقمة العيش، وتفكر بشره شديد فى النقود». ومن أجل الأخيرة يعج المقهى ويضج بالسيقان الريانة والجيوب الخاوية.
وهنا أيضا يولع المؤلف بالتفاصيل الدقيقة، فلا يكتفى بإعطائنا فكرة عن رحلات هزائم شخصياته المجهدة، بل يغرق فى رسم ملامح أجساد النساء، ليبرز فتنتها، والرجال ليظهر فتوتها، ثم يغوص بمهارة فائقة فى إحاطتنا علما بكل ما يكتنف لحظات الشبق والاشتهاء من أمنيات وتصرفات.
وربما يمنحنا عنوان الرواية مفتاحا لقراءتها، إذ إننا ما إن نفتح «باب الليل» حتى نجد كل ألوان الظلام، ظلام الشهوة الطاغية الذى يعطى العقل والروح والأخلاق إجازة طويلة، وظلام الانسحاق أمام قهر السلطة السياسية المستبدة والتغيرات الكبرى التى يتبدل معها مصير الإنسان دون حول منه ولا قوة، وظلام الانشغال بترويض الوقت والانغماس فى توافه الأمور، بعد أن تتوارى المسائل الكبرى أو تغيب، أو يغيبها الإنسان مرغما ويسقطها من حساباته مضطرا.
وبالطبع ليس كل ما فى الرواية عشقا ولذة وشبقا، كما قد تمنحه النظرة العابرة فى هذا النص الثرىّ، بل وراء الأجساد الساخنة الشرهة هناك مآسٍ حادة، ومواقف إنسانية جارحة، وتجارب حياتية مفعمة بقيم التضحية والفداء والبذل والعطاء.
ويتبدل العالم خارج المقهى، فيسقط بن على، وتتساقط صوره المرشوقة على جدران حمام المقهى، فتركلها صاحبته «للا درة» بقدمها و«تحملها بأطراف أصابعها إلى سلة القمامة»، بعد أن كانت تتزلف لأصغر رجل أمن يدخل إلى المكان، وتعطيه ما يريد من نقود وفروج وأوقات هانئة. ولأن ما جرى فى الخارج هو استبدال استبداد باستبداد آخر، لا تجد صاحبة المقهى نفسها مضطرة إلا لتغيير فى الشكل، فـ«تزيح المجاهدات اللاتى تعبن من النضال» وتأتى ببنات هوى أخريات، وتعطى المقهى اسما جديدا، ويستمر ولاؤها لـ«ثورة الغرام» التى تعيش لها، و«تعرف أن عمرها سيطول حتى تحققها هى»، وتأتيها تلك التى يقولون إنه مقهى كامل من قبل، وإنه الآن فى مفتتح عصر النهضة فى هذا المقهى، لتمضى الدائرة المفرغة فى عهد «الضابط الشيخ أو الشيخ الضابط» الذى يرابط فى المقهى بين الصلوات.
فريد أبو سعدة

الشاعر الكبير فريد أبو سعدة عن رواية وحيد الطويلة " باب الليل

الشاعر الكبير فريد أبو سعدة
رواية وحيد الطويلة "باب الليل" تعيد الاعتبار لما يسمى لذة النص، فعبر طرائق من التشويق والإبهار والإثارة، نرى هذا الحكّاء المصرى، بروحه التى لا تخلو من اللؤم، يمسك بك بفنون من السرد والشعر، مقدما فى إيروتيكيته أوصافا تثير حسد الشعراء، بينما ينزلق بنعومة من تضاريس الجسد المغوية، ليدخل بك إلى باطن شخصياته المعتمة دون جلبة، ودون قسوة، بل برحمة وتعاطف يليق بنفوس مقهورة، مهزومة، وإن بدت متطاوسة أحياناً، أو معتدة بنفسها وتاريخها.

البناء الروائى فى " باب الليل" لا يشبه معماراً عموديا كبرج هائل، بل أشبه بمعمار موتيلات متجاورة، أو بقصيدة تتكون من صور شعرية منفصلة، تعطى الفرصة لقارئها أن يرتبها كموزاييك، بناء على قراءته وحدسه، فيكتشف ما يجعلها وحدة برغم تشظيه!

وهى رواية مكان بامتياز، وتذكر بالنصوص المسرحية الرائعة، مثل "سكة السلامة"، حيث تكون الأزمة الدرامية مناسبة لتعرى الأشخاص.
يتوزّع السرد على عدة أبواب/ فصول، يبدأ بـ"باب البنات" وينتهى بـ"باب لِلاّدرّة"، أى بين باب الغوانى وباب السيدة الرئيسة، مرورا بـباب الهوى، باب العسل، باب الملكة، باب النحل، باب الوجع، باب الجسد، باب الريح، باب النار، باب البحر، باب الرجال، باب النساء، بعض هذه الأبواب هى "أبواب مدينة تونس، وبعضها أبوابك أو أبوابها" ملتفتا إلى القارئ المفترض، ومنتقلا بحكاياته من الأمثولة إلى فضاء متخيل يتقاسمه مع القراء .

نحن هنا فى مقهى "لمّة الأحباب" يا له من اسم مكتنز بالدلالة !، "مقهى سِرّه داخله، يطوى غرامه فى أعمدته ،أو أثدائه المزروعة فى كل مكان، شواهد حيّة، أو فى سقفه، الذى يدفن الحكايات فى ثنايا تموجاته، منطو على نفسه، يكاد فى لحظة أن ينطق بكل الأسرار"!
هنا حيث يرتاد الزبائن /أبطال الرواية عالمهم الذى يشبههم، هنا حيث لكل مجموعة طاولة، وحيث لكل زبون حكاية فريدة، وهزيمة قابعة تحت جلده، هنا حيث كل الأبطال، يبحثون، على سبيل التعويض، عن «معارك صغيرة» يحققون فيها انتصارا.

فلول الثورة الفلسطينية الذين انقطعت بهم السبل فى تونس بعد أوسلو، وليبيون هاربون من قمع القذافى، وتونسيون يسكنهم الخوف من حكم بن على، ونساء فشلن فى إقامة حياة محترمة وآمنة، فلم يجدوا بدا من أن جعل المتعة حياة كاملة، فيصير الجميع، رجالا ونساء، مجرد صيادين وطرائد، يتبادلون الأدوار،، فى لعبة الشغف والقنص، التى يتخففون بها من قسوة جلد الذات، تبدأ اللعبة بتبادل أرقام الهواتف سريعا لحظة دخول الحمام «كلهم يغشونه، يرمون شباكهم أمام مرآته، يعقدون صفقاتهم، تغمز صنانيرهم، ويرتفع خطاف هنا وهلب هناك، وعندما يعودون لمقاعدهم يطلبون بعضهم سريعاً فى الهواتف، يتواعدون على اللقاء خارج المقهى"، وتنتهى اللعبة بحروب عزلاء، على أسرّة لا تكف عن استقبال قناصين وفرائس، إنها اللعبة التى تمنح الغرباء فرصة الهروب من القهر والاستبداد واحتقار الذات.
واحد من انكشاف الموزاييك عن ترابطٍ يجعله أكثر مما يبدو عليه، هو هذا الحبل السرى بين الإيروتيكا الفائحة فى النص، والبوليتيكا التى تطل منكسرة، ومعذَبة بحلم العودة.
كان أبو شندى يتذكر دائماً طعم العملية الأولى، "كانت فى بوخارست ضد واحد من عصابة الهاجاناة اليهودية التى دبرت مذبحة دير ياسين.، كان يستمتع ببقية عمره سعيداً فى رومانيا.. تقدم منه أبو شندى وأرداه قتيلاً باسم الثورة الفلسطينية ثم رفع يده بعلامة النصر وانتقل للإعداد والتخطيط وتكوين المجموعات، وكان من بين أعماله شراء ماخور فى ألمانيا، وتخصيص الدور الأول فيه للقمار، والأعلى للسكنى والمبيت، والأسفل مخزنا للقنابل والخرائط وأجهزة الاتصال، كان يفاخر بأنه حتى الثورة تحتاج للمومسات"، وهو ما يرتب، فى الوقت ذاته، توازيا بين مصائر المناضلين المتقاعدين، الساقطين من ذاكرة منظمة التحرير، ومصائر المومسات البائسة، الساقطة من اعتبار المجتمع، حتى يلتحموا جميعا فى مصير إنسانى فاجع فى ختام صفقات الجسد العبر والثورة المهدرة.

شخصيّات ضائعة بين حلم مستحيل وواقع ككثيبٍ من الرمل يهيل مهددا بالانهيار، تبحث عن سلوى أو تعزية عن هزائمها، وتتماسك فى ما بينها بالونسة، حيث يمكن للبوح والشكوى أن تجعل منهم كتلة فى مهب الأسى: "أبو شندى، "أبو جعفر"، "غسان"، "شادى"، "كسوف" وغيرهم، تقابلها وجوه نساء فاتنات، قاتلات باللذة وقتيلات بالرغبة فى الأمان والوجاهة الاجتماعية، تلك التى حُرمن منها، فأصبحن رهائن لسطوة المال ونفوذ الذهب :"للّا درّة"، "نعيمة"، "حلومة" وغيرهن
يدورون جميعا رجالا ونساء فى فضاء المقهى، أسرى فى فلكه وعالمه.
كثرة من الشخصيات، تصلح كل واحدة منها أن تستقل بعمل روائى، يقبض على غنائها الوجودى، وعذاباتها وطموحاتها ورهاناتها الخاسرة، كائنات تمكن الكاتب فى اصطياد أهم ما تمثله فى الفضاء الإنسانى الباطنى للنص، لكن ببعض التعسف يمكن تصور أنها تدور فى إطار مركزين يمثلان قطبى الرواية هما " لِلاّدرة " و"أبو شندى".

ويؤكد التوازى فى السقوط الأخلاقى والانتهازى بين المناضلين المنسيين، وبين غوانى "لمة الأحباب"، هذا الحس النفعى الانتهازى عند" لِلاّدرة" و"أبو شندى"، فهى " تعرف بخبرتها، باحتكاكها الدائم بهم أن السلطة تأتى فجأة وتذهب فجأة، وعلى قدر ما يتوجب مهادنتها أحياناً يجب مواجهتها حيناً، الفرصة أصبحت سانحة لتنتهى من لعبة شبعت منها ولو مؤقتاً، ثم أن غيابهم وما يصل إليها يؤكد أن الوقت ليس وقتهم وأن عليها أن تذهب فى اتجاه الريح بعدما تأكدت الأنباء المتواترة حول مظاهرات تعم البلاد لم تكن تظهر على قنوات التليفزيون المحلية، وبعدما صار الذى جرى سراً، يظهر علناً على قنوات أخرى.

بينما يستخدم أبو شندى كل خبراته النضالية فى مجرد الحفاظ على وجوده الفيزيقى " أبوشندى المتوجس دائماً من إنهم يحسبون عليه كل حركة، هو يعرف بحسه المخابراتى القديم أن أفضل طريقة للاختباء بعيداً عن أعينهم أن يقترب منهم، أن يعيش بينهم حتى لا يروه ولا يشغلوا بالهم به، يستطيع أن يوسّط درّة لحل مشاكل الإقامات المتأخرة، وفاتورة الكهرباء التى لا يدفعها، وعلى الأقل إذا كان لم يستطع أن ينال درة فليحصل على شيء من منافعها،. . أى حاجة والسلام".
يسقط بن على، وتتساقط صوره فى الحمام، تركلها «لِلاّ درّة» بقدمها و«تحملها بأطراف أصابعها إلى سلة القمامة»، بعد أن كانت تتزلف لأصغر رجل أمن يدخل إلى المكان، وتعطيه ما يريد من نقود وفروج وأوقات هانئة. ولأن ما جرى فى الخارج هو استبدال استبداد باستبداد آخر، لا تجد نفسها مضطرة إلا لتغيير الشكل، فـ«تزيح المجاهدات اللاتى تعبن من النضال» وتأتى ببنات هوى أخريات، وتعطى المقهى اسما جديدا، ويستمر ولاؤها لـ«ثورة الغرام» التى تعيش لها، ولأن كل شيء يبدأ فى الحمام !!، تستمر الدائرة المفرغة فى دورتها بين الضابط الشيخ" و"الشيخ الضابط"


وحيد الطويلة : باب الليل« رواية الانكسارات والهزائم

صدر حديثاً عن منشورات الاختلاف رواية جديدة للروائي وحيد الطويلة، بعنوان "باب الليل". تدور الرواية في تونس، داخل إحد المقاهي التي تستخدم لاصطياد الرجال، حيث العاهرات يبعن المتعة للنفوس المحبطة، وحيث يصير المكان المحدد أرضاً خصبة لكشف المجتمع التونسي والعوار العربي. ينطلق العمل من الحب العابر ليصل إلي القضايا الكبري، فتكون فلسطين قضية معروضة علي لسان الشخصيات، ويشغل الواقع العربي المكان البارز بين الصفحات، وبين هذا وذاك، يقع الإنسان، المهزوم علي الدوام من أنظمة لتحافظ علي بقائها اختارت كسر كل ما يمكن كسره.
صاحب "باب الليل" الذي يكتب علي المقاهي، ويلقبه أصدقاؤه برئيس رابطة المقاهي العربية، يحدثنا عن عمله الجديد في هذا الحوار.
أول ما يلفت الانتباه في الرواية أنها تدور في تونس رغم أنك كاتب مصري.. لماذا اخترت تونس تحديداً لتكون عالماً لروايتك؟
-
ذهبت إلي تونس قسراً ، لم أذهب طواعية ، أخذت شلوتاً متيناً من أحد أعضاء فريق مبارك القومي للفساد والاستبداد، خرجت من بلد يخر الفساد من أنفه إلي بلد يسيل الفساد من عينه. الفارق ربما أن الفساد عندنا طبقات بسبب طبيعة الدولة المصرية وبيروقراطيتها علي مدي أزمنة طويلة، لكن الفساد في تونس مع عدم التبسيط كان في طبقة واحدة .
دعني أحدثك كصغار الفنانات حين تقول إحداهن إنها لم تختر الفن لكن الفن هو الذي اختارها, إقول إنني لم اختر تونس لكنها هي التي اختارتني وكانت رحيمة وفاتنة، هدهدت جروحي بطيبة أهلها وغنائهم، ففي تونس غناء جميل، كل الذين تم نفيهم من بلادهم ذهبوا الي بلاد ترسم وتغني، وأنا ذهبت إلي بلد يغني غناء فاتناً، "من لا يغني لا يقاتل".
لعلك تعرف أكثر مني الشكوي المريرة للمغرب الغربي من انهم يحفظون أغانينا وأفلامنا وأسماء أبطالنا وكتبنا وكتابنا عن ظهر قلب، بينما نحن لا نعرف من كتبهم سوي عبد الفتاح كليطو والجابري، وبعضنا لم يسمع بالمسعدي أو آدم فتحي. دعك من جميلة الماجري. أعرف أننا ربما كنا معذورين في زمن ما كانت فيه مصر حضناً كبيراً للدنيا وللموهوبين في العالم العربي، لكن لا عذر لنا الآن. هل تصدق أننا في مصر لا نعرف السيمفونية الفاتنة في الكون التي يغنيها عبد الوهاب الدوكالي أو نعيمة سميح، إذا سألت مصرياً عن دولة موريتانيا فلن يتذكر إلا اسم مختار ولد داده الذي كان صديقاً لنا أو يعرف جملة واحدة قالها عبد المنعم ابراهيم في أحد أفلامه " يالك من شنقيط!" .
سأسر لك بسر، أنني تركت خلفي راتباً مهولاً في بلد خليجي كان أطفالي يعيشون فيه، وذهبت لتونس لأقتفي أثر كل تفصيلة، لتتسلل روح المدينة في روحي، ركبت الف تاكسي أو طاكسي كما ينطقها ويكتبها أبناء المغرب العربي لأسال عن تفصيلة جوهرية في قلب روايتي، عندما حكيت ذلك للناقد الكبير د. جابر عصفور قال وهو يضحك: "هو كل واحد عاوز يكتب رواية يروح له". خرجت إلي تونس بركلة ماضية، لكنني أحببت البلد ووقعت في غرامه وغرام أهله وأظنني أستطعت أن أغني من هناك.
الكتاب الذين نفيوا في الماضي كانوا في الغالب يكتبون عن بلادهم، يكتبون بالحنين، بعضهم كتب بالمصير الإنساني، وأنا مسكون بهذا المصير الذي يرصد امرأة في تونس تجهز آلة الغزل لتعمل عليها، فتحيك لها في نفس اللحظة امرأة في مصر سجادة يرقدان معاً عليها، ينتصران بها علي عسف الدنيا واستبداد السلطة في البلدين.
في تونس كانوا يسألونني دوماً بصوت خفيض جداً عن المظاهرات في مصر عن حركة كفاية، عن مقاومة السلطة، ثم صعدوا فوق حكاياتنا وأطلقوا ثورتهم قبلنا، مصير إنساني مشترك محمل بكل تفاصيل الثقافي.
تدور الرواية داخل مقهي أو كازينو تتجمّع فيه العاهرات، ومن خلال هذا المكان تُطرح كل الأسئلة الممكنة لتكشف من خلالها المجتمع التونسي بشكل خاص والعربي بشكل عام.. لماذا اخترت مجمّع العاهرات لتكون مسرحاً للأحداث؟
-
بائعات الحب يمتلكن وقاحة وشجاعة أن يقلن ويفعلن ما نقوله أحياناً لأنفسنا في الخفاء خلف أقنعتنا، العاهرات الطيبات أو قل بائعات الحب هن اللواتي نقلن وحولن المقهي من مقهي إلي كازينو كما تقول، إنها عملية جبارة و" تحول تاريخي" لا يقدر عليها إلا صاحبات خيال وإرادة، هن يرين مستقبلهن أمامهن مفعماً وشاقاً ببعض الأمل، لكن بواقي المناضلين شاهدوا نضالهم يحترق أمامهم لكنهم لم يستطيعوا حتي أن يروا دخان احتراقهم ليغمضوا عيونهم حزناً أو رضا. في المراقص والنوادي الليلية كما في المظاهرات تكتشف وتنكشف نفسك علي حقيقتها، تبوح بكل ما حاولت أن تخفيه كما قد تضعك واحداً في قطيع تفعل ما يفعلون مسلوب الارادة .
نظام زين العابدين بن علي كان أحد النماذح الفادحة للدولة البوليسية المصفحة كما قال حسنين هيكل، لا أحد يتحدث في السياسة إطلاقاً، كل المعارضين في المهجر أو السجون أو القبور، الناس تدور كثيران عمياء في فلك لقمة العيش مكبلين بقروض الدولة التي تجعلهم صنفا استهلاكياً ينامون قلقاً وكمداً خوفاً من تداعياتها وسوط نظام أغرقهم فيها، لم يبق لهم إلا كرة القدم، ناضلوا فيها نضالاً فاجعاً، لا تصدق أن الشعب المصري مهووس بكرة القدم، فالشعب التونسي أكثر هوساً، ولم يبق لنا جميعاً بعد الأهداف الضائعة والملغاة في كرة القدم إلا الأهداف الباقية في الجسد فجعلنا منه معركتنا الوحيدة لننتصر في شيء ما.
الأنظمة العربية كلها علي امتداد ثلاثين سنة أو يزيد كانت عاهرة بما يكفي لأن نحتقر حتي أجسادنا، كان لا بد من عاهرات طيبات يخففن جروحنا ويناضلن نضالاً حقيقياً نيابة عنا جمعاً ويحققن الانتصارات التي فشلت أنظمتنا فيها ما عدا الانتصار علينا، كان لا بد أن ننتصر أو ننهزم بصيغة أخري.
هل تعرف أن معسكرات تدريبات الفدائيين الفلسطينيين علي القتال ضد اسرائيل كانت تتم في بلدان عربية شقيقة وغربية شقيقة أيضاً، أحد المعسكرات كان في الجزائر الشقيقة البلدالذي أحبه وبعد الانتهاء من فترة التدريبات العنيفة كان المقاتلون يذهبون الي حارات البغاء ليقضوا وطرهم لمرة أخيرة قبل أن يذهبوا في مهام قد لا يعودون منها. احدهم عندما دخل الي غرفة بائعة الحب وجدها تعلق صورة ياسر عرفات رمز الثورة والنجم الساطع وقتها، بعد أن أخذته الدهشة لا أشك انه ناضل نضالاً عنيفاَ ومجيداً. الغرام وقود الجنود في المعارك يا سيدي وبائعات الحب الحقيقيات يصنعن غراماً حريفاً بمذاق يضمد جراح المذاق المر لنكساتنا المتتالية علي مر أعمارنا، وهذا مختلف بالطبع عن جهاد النكاح.
المشهد الذي لا يمكن أن يغادر ذاكرتي كان ليلة الانتخابات البرلمانية الأولي بعد خلع بن علي، قالت بائعة الحب لزميلتيها: اسهرا كما تحبان لكن يجب أن تكونا جاهزتين لنكون في أول الصف عند السادسة صباحاً، ساشدكن من شعريكما لتستيقظا. أنظمتنا قهرتنا جميعا ًرجالاً ونساء يا سيدي.
"
باب الليل" اذن، ليست رواية عن بائعات الحب ، هي حيلة الروائي كما أحسب وأتمنيذ لكشف عورات مجتمع تحصل فيه عاهرات مغبونات علي بعض الفتات، بينما من ناضل وزرع لم يحصد شيئاً، البعض فقط استطاع أن يربي الأمل كبذرة لثورات هدرت فيما بعد.
نجيب محفوظ لخّص العالم في حارة، فيما تلخصه أنت في مقهي.. كيف تري فكرة تلخيص العالم في مكان؟ وما الجديد الذي قدمته الأجيال الجديدة لفن السرد بعد محفوظ، من وجهة نظرك؟
-
القضية أن تعبر عن حركة الصراع وعن الإنساني بأحلامه وكوابيسه في آن معاً، وهل تستطيع المفردات والرغبات التي تسير في فضائه أن تعبر عن الأشواق والهموم؟ مقهي لعابرين من أمتنا يكشف انكسارات مشاريعهم، ربما يتماهي أو يكشف عن انكساراتنا علي المستوي الجمعي وتظل أسئلة شخصياته هي بالضبط أسئلتنا. انظر إلي طريقة تخطيط منطقة جاردن سيتي وكيف أن الشوارع كلها دائرية! هل يعبر ذلك عن خوف السلطة آنذاك من جمهورها دون إخلال بمعيار البناء الحضاري؟ ليس هنالك شارع مستقيم، صبري حافظ في دراسة فاتنة عن جيل التسعينات كان يقارن بين عشوائية لغة الروايات التي صدرت في تلك الحقبة وبين ظهور العشوائيات في القاهرة، لغة منهارة في موازاة واضحة لانهيار المجتمع في تلك اللحظة، دون بنية محكمة أو حبكة موحدة .
نجيب محفوظ كان شارعاً مستقيماً، أما نحن فلا، ندور في عوالم وجمل دائرية تتشظي منا في منتصف الطريق، هو كقصيدة منتظمة من جميع نواحيها ونحن نعاكس قصيدة النثر بسرد تجريدي غالبا لا يخلو من بعض الضوء، هو حكيم ونحن اطفال شوارع.
تحطم العالم بعد نجيب محفوظ وتحطمت العوالم السردية حيث لا تختلف الكلمات عن العوالم نفسها وظهرت كتابة تستخدم شظايا ومتراكبات سردية ترفض أي إطار جامع- كما أن هناك صفة أخري أساسية لهذه الكتابة حسب حافظ نفسه- هي طريقة التعامل مع الحبكة حيث يتم التخلص من المواضيع المركزية والوسطية في الرواية التقليدية، محطمة أي تطور معياري في الحبكة ما يخلق اضطراباً جديدا داخل عالم السرد.
تشغل القضية الفلسطينية في "باب الليل" مساحة محورية، ومفردة "نضال" تتكرر بشكل ملفت.. كيف تنظر من مكانك كروائي لفكرة القومية العربية؟ وإلي أي حد تشغلك القضية الفلسطينية؟
-
نعود إلي الجملة الأثيرة بأن الإنسان حيوان سياسي، اسمع .. شاهدت أمي وأنا صغير وهي تخلع غوايشها وأقراطها للتبرع بها لمناصرة قضية فلسطين والمساهمة في المجهود العربي بعد هزيمة 67، قضية فلسطين كانت تجري مجري الدم، هل اقول كانت؟ لن أشنف سمعك بمأثورات عن المآسي العربية والصراعات الحقيرة التي أكلت من خبز القضية وتقوتت سنين طويلة عليها من أجل أن تمسك بعصا الحكم في عالمنا العربي، الذي يوجعني في قضية فلسطين أنه تم استخدامها لقمعنا طوال أعمارنا، المثال الأبرز في سوريا، التبجح بالنضال من أجل فلسطين لقمع الشعوب، هل تعرف أن طقوس عبادة الشخصية وصلت في سوريا إلي الحد الذي يقول فيه مثقف كبير لك: سأنتظرك في ساحة السيد الرئيس، ولا يجرؤ أن يقول لك في الهاتف ساحة الرئيس غير مسبوق بلفظ السيد، سوريا حافظ الأسد كانت المثال الأبرز، لعبت بكل الأوراق خارجها من لبنان إلي فلسطين من اجل ان تحكم البشر بالعصا والنار دون ان تقدم شيئاً حقيقياً، ما حدث في بيروت 82 وما فعلته القوات السورية بعد ذلك سيندي له جبين البشرية طوال عمرها، الجيش العربي السوري قتل من الفلسطينيين أضعاف ما قتل الاسرائيليون للأسف، انظر إلي الصراع الفاجر حالياً فيما تبقي من فلسطين لتعرف مآل القضية، أحد أبطال رواية" باب الليل" يقول : في الماضي كانت المشكلة في عدد الأرواح التي استشهدت في سبيل القضية، الآن الهزيمة تعشش في الروح، بالطبع ليس ذنب الفلسطينيين وحدهم، التوانسة يتباهون دوماً بما جادت به قريحة بورقيبة من ضرورة أن نقبل التقسيم لنقف علي أرض كبيرة، ثم بعد ذلك نعمل بالمبدأ الذي طبقه مع الاستعمار الفرنسي لبلاده: خذ وطالب، حتي هيكل كتب ذلك وأن بورقيبة عرضه علي عبد الناصر الذي شاركه في وجهة نظره لكنه أضاف: أنا لا أستطيع أن أقول ذلك للجماهير العربية، اذهب أنت وقلها، وعندما قالها كان البيض والطماطم والاستهزاء نصيبه.
القومية العربية أجمل الأفكار لكنها ربما اصطدمت ذات يوم بأنظمة ثكلي رفضتها تحت الطاولة وعملت ضدها حتي ولو لم تستطع أن تقول ذلك علناً، ربما أحلم بتغيير الاسم ليقبل به البعض وأن تكون هناك قومية عربية حقيقية، لكن ذلك بعيد المنال وسط دول أصبحت قطريتها قوقعتها وحلمها، مصر أولاً، الأردن أولاً وغيره وغيره .
تم ابتذال مفردة نضال بما يكفي ولعلها حين ترد في سياق عمل بائعات الهوي تكشف سخرية الواقع منا، كل تنظيم يلعب علي فكرة ضيقة أو علي فكرة دينية ماضوية أو ضد الحداثة يقول لك أنه يناضل! ناضلنا بالأغاني الوطنية كثيراً في محبة الوطن، لكن الأغاني حتي الأغاني خرجت من القضية الفلسطينية، القضية الفلسطينية الآن في الحمام كما قالت رواية باب الليل.
يري بعض النقاد أن روايتك رواية جسد.. كيف تري أدب الجسد؟ وكيف ترصد مدي حضوره أو غيابه في الأدب العربي؟
-
د. شيرين أبو النجا قالت بالحرف الواحد: إنها كتابة الجسد لا كتابة عن الجسد وامتدحت هذا الجانب بما يكفي، عندما ظهرت هوجة الكتابة عن الجسد كان البساطي رحمه الله يتعجب ويقول من يخاطبون بالضبط؟ هل يخاطبون الغرب؟ الغرب حل مشكلته مع الجسد إلا من تجليات جديدة حقيقية، هل تعرف أنني فكرت ملياً في عنونة الرواية ب: الجسد، لكنني خشيت التأويلات الصفراء، لم أكن شجاعاً بما يكفي، أعترف، إنها ايروتيكا البهجة، الايروتيكا التي تمتنع بل تتأبي ببهجتها ودقة حساسيتها علي البورنو، الذين لا يملكون الخيط الرفيع بين الإيروتيكا والبورنو عليهم ألا يتصدوا لكتابة الجسد، هل قرأت فريد أبو سعده حين قال: إنها حين تخلع سوتيانها في ظلام غرفتها كانت قططاً في مكان آخر تلحس خطامها وتموء.
روايتي رواية الانكسارات والهزائم، كل الشخصيات تقريباً مهزومة مثل مشاريعنا بالضبط، ربما أنا أحكي في لحظة إضاءة عن الجسد: الشيء الوحيد الذي نملكه وكيف انعكست عليه كل هذه الانكسارات والهزائم، وكيف يتجلي كفعل مقاومة وتشبث بحياة جديدة أو هكذا أردته، لكنه لم يستطع ان يغادر تلك المصائر المرسومة التي فرضتها عليها هزائمنا التاريخية.
كتابة الجسد في تاريخنا ربما كانت واقعة بين النفزاوي وأشباهه وابن حزم من جهة أخري كما قال محمد عيد ابراهيم، لعلي حاولت طريقاً آخر أو فتحت سكة أخري كما قال فريد أبو سعده، نظرتنا إلي الجسد في غاية الرداءة رغم كل ما يذخر به تاريخنا، علينا أن نتصالح مع أجسادنا أن نحبها بشكل حقيقي لنعرف معني الحياة .
تتميز لغتك في "باب الليل" بالعبارات القصيرة ذات الإيقاع، المحمّلة بشعرية تقترب للغنائية.. لماذا العبارات القصيرة؟ ولماذا هذه الشعرية بنفس الدرجة علي طول الرواية؟
-
إنها جملة القصة القصيرة أو الجملة قصيرة التيلة كما قال د. صلاح فضل، لعلك لا تعرف أنني عملت كثيراً علي جملة القصة القصيدة التي ابتدعها تورجنيف، وامتطاها الحبر الأعظم إدوار الخراط في وقت كانت عبارة عن صندوق مغلق، لكن لم تظهر نصوص تنقل المصطلح من استاتيكيته إلي مجري النهر القصصي لكنها سقطت في حجري آنذاك، هي جملة متوترة تمتح من الشعر من التكثيف من التوتر من نهايتها "ضربة المرزبة احيانا " أنا ابن حكاءين في الحياة لكنني ابن شعراء داخل النص، لكن لا غنائية إطلاقاً، أكاد أجزم، انا أرقب منذ زمن غنائية محمود درويش وغنائية حلمي سالم احياناً دعك من غنائية التعساء أرقب غنائية آخرين، انظر أيضاً كيف يصنع وديع سعادة وعبد المنعم رمضان قصيدتيهما، أظنني أعرف كيف أخفي هذه الغنائية، ربما في فترة ما كنت ألعب علي إيقاع ما للجملة وألعب أيضاً علي كسر هذا الإيقاع، إنها طرائقي تجاه اللغة ، لكن في المجمل لغتي ليست بيضاء خالية من أي حمولات، ولست مشغولاً ألبتة بتحميلها بأي حمولات أيضاً، لكنني لا يمكن في رواية تمرح فيها كل هؤلاء النسوة المترعات بالشبق وبعض الغرام أن تكون لغتي بيضاء، اللغة البيضاء لا تجلب لك سر النساء.
-
الشعرية في الرواية يمكن النظر اليها بأسباب كثيرة ولا أريد ان أغلق باب التأويل علي ما أعرفه فقط، لكنك في رواية كل أبطالها الرجال وحكاياتهم مغلقة، حكاياتهم خلفهم يجرونها بتعب شديد، الرواية في بعضها تحكي حكايات رجال تمت وانتهت تقريباً إلا من مصير لن يخرج في النهاية عن كابوس من اثنين: كابوس أبيض أو كابوس رمادي، إنها تحكي عما مضي، لعل الشعر كذلك في أبرز وجوهه، ربما من هنا تجلت الشعرية دون غنائية ألبتة.
لا تعتمد "باب الليل" علي التطور الدرامي للحدث، بل إنها ربما لا تتقدم للأمام فيما يسمي بالبنية الأفقية.. حدثني عن رؤيتك للتقنية والبنية الروائية؟
-
أحد الروائيين الفرنسيين كتب ذات مرة رواية قال في مقدمتها مخاطباً القاريء: إنك تستطيع أن تقرأ الرواية من أي فصل وبدون ترتيب ولن تخسر شيئاً، طبعا أنا لا أملك هذه الشجاعة ولا أنت، هناك أبواب في الرواية يمكن أن تقرأها وحدها، لكنك لا تستطيع أن تغير بداية الرواية ولا مشهدها الأخير، لا تستطيع أن تتجاوز حمام المقهي ولا حمام الثورة الفلسطينية ولا حمام الثورة التونسية الذي ينفتح عليك من البداية لتجده متجسداَ أمامك في نهاية العمل.
فريد أبوسعدة قال إنه ليس هناك حدث يصَّعد رأسياً، بل مجموعة من الموتيلات بمسافة محسوبة بينها لتكون لك في النهاية المشهد النهائي. هل كل الانكسارات الشخصية والقومية كانت تستلزم بناء متكسراً متشظياً بهذه الطريقة؟ ربما كان ليكون أسهل لو أنني حكيت الحكاية بلسان ابو شندي الذي حمل ماضيه علي كتفه إلي المقهي ولم يبق له سوي حلم واحد بالخروج والعودة إلي وطنه، حلم حاضر مهما بدت استحالة تحقيقه، لكنه كتب بشكل أو بآخر.
هل كان من الممكن أن يصَّعد العمل عبر أحلام درة التي لا تنتهي، أو حتي بأحلامها التي لا تعرفها؟
لا أعرف الإجابة علي الأسئلة النقدية الكبيرة، البعض يتوسل بمرايا نجيب محفوظ ورواية أخري له، ليصنع رواية علي شاكلتها، سيحدثك البعض بتعال عن رواية أو بناء اللا بناء، ربما حاولت أن أطبخ طبخة مختلفة علي مقاس رؤيتي للانكسارت الشخصية والقومية، ولعلي لم أخفق.
في بعض مناطق الرواية، ذكرت أسماء حقيقية مثل الشاعر عبد المنعم رمضان، ونسبت له عبارة.. إلي أي مدي، في رأيك، يمكن للكاتب أن يكسر الإيهام بذكر تفصيلة غاية في الواقعية؟ وكيف تري الحدود بين الواقع والوهم في الرواية؟
-
نسبت له عبارتين، لو عدت إلي الجملة ستجدها علي النحو التالي " كما يقول شاعر مصري اسمه عبد المنعم رمضان " لو فكرت قليلاً في تقديري لشاعر ومثقف كبير أو محبتي الشخصية له لقلت الشاعر المصري وأكملت، لكنني حذفت الألف واللام إمعاناً في استمرار الايهام، ثم انني نظرت للنص كأن الدنيا كلها ستقرؤه، وكأنني أشير بطرف إلي مكان بعيد عال يقبع فيه هذا الشاعر، فعلت ذلك حتي يستمر ويستقر الايهام، الطريف أن بعض ضعاف النفوس قد يفهم الأمر علي عكس ما قلته أنت وأنني بعدم وضع الألف واللام لم امنح منعم ما يستحق، لكنهم لن يجدوا في شباك وقيعتهم سوي الأشواك. في متاهة الاسكافي درس كبير لناثر فذ في كيف تسرد ماهو ذاتي وما يختلط منك بالماء العام، عبد المنعم أحد منابعي الشخصية هو وجيله كاملاً بكل اخفاقاتهم ونجاحاتهم، لكنهم كلهم يشتركون في سبك النثر الفاتن.
كان حلمي سالم مولعاً بذكر أسماء أصحابه وحبيباته داخل النص وأماكنه، ولم يك يكسر هذا الايهام علي الاطلاق. أنا أكتب بالوهم وحتي لو قاربت واقعاً فإنني أنتظرحصاد فانتازيا الواقع دائماً، الحكاية كلها وهم لذيذ.
رغم جرأة موضوع الرواية، إلا أنها احترمت التابوهات الثلاث.. كيف تنظر لفكرة الرقابة الذاتية؟ أم هي رقابة المجتمع؟
-
لا هذا ولا ذاك، لو تركت للرقابة الذاتية كو ما كتبت بهذا الشكل، الرقابة كانت حاضرة بعد أن انتهيت من العمل، فكرت أن أسمي العمل "بنات الأحد " خشيت من مدارس الأحد لكنني خشيت بحق أن يستغل التيار الديني الإسلامي الرواية ضد المسيحيين الذين أحبهم كشركاء حقيقيين في هذا الوطن، لم تخش الرواية حسب ظني - من الجنس لكنها كانت واعية لأن تتأبي علي البورنو، اقتربت حتي حافة الكأس ومن كل الأبواب التي تدار، غرقت السلطة في قعر درة باترونة الجنس دون خشية، بل وارتد قضيبها لحظة انكسارها. تراقب نفسك لئلا تسقط في الخفة، أو المجانية، أو حتي إعادة تكرار جملة، أزعم أنني أقول أزعم- حاولت ألا أكرر لفظاً أو حرفاً إلا بقصد, اظن ان هذا عمل في الرواية وليس رقابة.

وحيد الطويلة يفتح «باب الليل»


حكواتي الرغبات والأمكنة والأرواح المهزومة

سيد محمود
في روايته الجديدة «باب الليل» (منشورات الاختلاف)، يخوض الكاتب المصري وحيد الطويلة مغامرة الكتابة عن تونس بعد عشر سنوات قضاها هناك، استطاع خلالها أن يؤسّس لمعرفة فريدة بهذا البلد دفعته إلى التقصّي عن حكايات المقاهي والتلصص في ليل ظلّ دوماً ساحة للمسكوت عنه. الطويلة الذي ينتمي إلى جيل الثمانينيات في مصر، تقصّى في روايته خيبات يتعلق بعضها بفكرة الثورة المجهضة كما نلمسها في حكايات الفلسطينيين الذين وصلوا إلى تونس عقب خروجهم من بيروت عام 1982، والذهاب نحو لحظات «طبخ» الثورة التونسية قبل أن يفعلها محمد بوعزيزي ويشعل النار في جسده.
من المقهى، التقط الطويلة أول الحريق، هو الذي كتب قبلاً روايتيه «ألعاب الهوى»، و «أحمر خفيف» التي تقصّت عن الاستبداد في جسد ميت يحكم الجميع في قرية مصرية، لكنّه راح إلى تونس يطرق فيها «أبواب الليل»، وينظر من فتحته الى عالم يحتشد بالرغبة وبالأجساد العارمة والأرواح المهزومة.
لم يكن اللجوء إلى المقهى حلاً جديداً للطويلة، فقد اختبره قبلاً في قصص قصيرة وروايات ذيلّها كلها بتوقيع من مقاه في عواصم عربية عديدة، لكنّ مقهى «لمة الأحباب التونسي» كان خياره هذه المرة، هو الذي يصف نفسه ساخراً برئيس جمهورية المقاهي، مؤكداً أنّ المقاهي كالنساء، لا تتشابه بالروح وبالعمق ولو تشابهت في الشكل، أو قلّ كالمرأة لا تبوح بنصف أسرارها وإلا لهجرها العالم. الطويلة الذي عمل صحافياً داخل مؤسسات عربية ودولية في تونس، يشرح اختياره لنماذج فلسطينية ممن جاؤوا بعد الخروج من بيروت، مشيراً إلى أنّ «جرح فلسطين أصبح في ذاكرة ميتة، كأنّه خرج للأسف من القلب». ويتابع «ليست قضيتي هنا هي القضية السياسية، بل قضيتي البشر الذين أكلتهم القضية ولم تعطهم مخدّات جيدة للنعاس والنسيان». يرى الطويلة أنّ نماذج المثقفين والفلسطينيين في روايته شهادة غير مطلوبة منه على الحبّ: «لعلك حين ترى الفلسطينيين في تونس قد لا تعرف جيداً كيف بدأت ومضت الثورة، لكنك من هذا المكان البعيد قد تستطيع أن ترى نهايتها على وجوههم المتكلسة وأراوحهم المثقوبة، وجيوبهم أيضاً. سترى كيف أضعت عمرك في النضال، بينما المناضلات والمناضلون الجدد يسحبون الحياة من قرونها».
في الراوية اشتغال على الجسد وحلّ تقني يقسم الى أبواب، لا الى فصول، وهو حل استعاره الكاتب مرة من عمارة المدينة التي يكتب عنها وهي مدينة «أبواب»، ومرة من الكتب الايروسية في التراث العربي، التي كانت ترى أبواباً للجسد. وراء أبواب تونس الحقيقية حيوات ايروتيكية تحدث كل يوم. لعلّ الأبواب كما يلحظ، كانت دلالة على ما هو مفتوح وما هو موصد، على المستحيل الفاتن كما يقول حلمي سالم، على الأحلام والكوابيس، عما يقيم خلفها، وعمن يحلم بالانطلاق عبرها.
ينحاز صاحب «ألعاب الهوى» الى تعبير كتابة الجسد، لا الكتابة عن الجسد، فالحواس عنده «هدية العالم إلينا وبواباتنا إلى دواخلنا والآخر، إلى معنى الوجود، إلى أن نعيشه ونفلسفه بأصابعنا وأنفاسنا». يقول: «أكتب عن الجسد الذي لا يقين أنّنا نملك شيئاً سواه في الكون. ربما أكتبه متمعناً في مصيرنا الإنساني، في ذلك الذي يدلنا علينا، وعلى الألوان التي نخترعها كل يوم».
في مقابل هذه الرؤية، ثمة قراءات اعتبرت النصّ ممتلئاً بروح فحولية تهزم الحسّ الأنثوي في لغته المفتوحة على الحواس. وهنا يستدل الطويلة بقراءة شيرين أبو النجا التي قالت «تأتي الذكورية كأنها شبهة، وليست سمة كاملة للنص، ومن ثم يفخر الطويلة بانحيازه للأنوثة قائلاً: البنت الوحيدة التي أحبّتني باحت لي بحبّها وقالت: أنت رجل بقلب امرأة». رغم طغيان هذه الأنوثة، لم تغب فكرة الثورة عن النص، لكنها ظلت كعزف مكتوم ولم تثقل النص بصخب الشعار. الثورة التي اختارتها عين الكاتب كانت في الحلم، وربما كانت بحقّ في الكابوس. إحدى البطلات وضعت الأحلام في ملفّ على جهاز الكومبيوتر، والكوابيس في ملفات أخرى. ثم حين قامت الثورة، حملته على ظهرها وعبرت أحد الأبواب.
بثقة يقول الطويلة «لا أظنني يوماً سأكتب عن اللحظة ذاتها بشكل مباشر». لعلّ أكثر السمات التقنية في النص ترتبط بطغيان نبرة الحكي من دون ولع بالتجريب التقني، فالطويلة موصوم بأنّه حكاء نجح في تحويل الشفهي ـــ بدرجة ما ـــ إلى كتابي.
الى جانب الحكي، تبرز السخرية كوسيلة لاغواء القارئ بالتورّط وتجاوز المسافة، فهي أداة مكّنت الكاتب من الجلوس كطفل يتيم لا يمدّ يده لأحد، لكن يستطيع بها أن يعلّق صورة له من دون خوف على الحائط، «إلى جانب صورة زوجتي وبجوار صورة عزيز نيسين

وحيد الطويلة بعد روايته الثالثة ‘باب الليل’: الكوابيس هنا من الواقع لكن الأحلام من الخيال!

محمود قرني

عن منشورات الاختلاف، وأمان، وضفاف .. صدرت الرواية الثالثة للكاتب والروائي وحيد الطويلة تحت عنوان ‘باب الليل’.
العمل الثالث للطويلة يبدو كمتوالية روائية التي لم تخرق القارب التونسي وجغرافيته الإنسانية فحسب، بل كانت شقا رأسيا في المجتمع العربي كله، عبر تلك النماذج البشرية التي أغنت العمل الروائي وأضفت عليه المزيد من الحيوية والتجدد.
شخوص الرواية بداية من صاحبة المقهى التونسي الفريد والساحر كلها كانت أدوات مجيدة في طرائق صنع الحكاية التي شهدت درجة فريدة من تلقائية الكتابة لدرجة جعلت القارئ جزءا من عالمها وكأنه واحد من شهود أو صناع وقائعها.
لكن شخصيتي صاحبة المقهى وأبو شندي شخصيتان مركزيتان في ذلك العمل المهم، فالأولى بجانب كشفها عن تركيبة أنثوية شديدة الخصوصية والغرابة، تكشف نمطا تونسيا عربيا مختلطا من القيم والتطلعات، ويتأتى خلفها بالطبع عدد من نساء وبنات المقهى غريبات الأطوار، كما تظل شخصية أبو شندي عابرة للأنماط الروائية .. فهي كاشفة للمأساة الإنسانية والسياسية في العالم العربي .. وهاهو الرجل يمضي كواحد من عناوين تلك الثورة المغدورة، بعد أن كان واحدا من أبطالها شأنه شأن أبي جعفر وغيرهم من فلسطينيي الشتات.
لقد كشفت الرواية عن عالم فريد ومتشابك بين المجازات الثقيلة للسلطة وبين مساحات للحرية والجوع والإحباط والرقاعة والألم في مجتمعاتنا المغلوبة. كل ذلك يتم عبر جغرافيا محدودة هي أرض المقهي التونسي ليس أكثر .. فالجغرافيا هنا تحولت في ضيقها الى رمز متسع تجاوزت محدودية مساحته لأنه انبني على سعة التجربة الإنسانية، ومخاضاتها العسيرة.
كل هذا العالم ينبني عبر لغة شديدة الشفافية والدقة، احتفظ الكاتب ببساطتها دون أدني معاظلات. لقد كانت سلامة اللغة وسلاستها مرجعية أدائية عززت مصداقية ذلك العالم المترامي الذي يقوم على تحالفات غريبة وإن كانت متوقعة في مناخات سياسية ومجتمعية مسمومة.
أسرتني شخصية أبو شندي حقا وشعرت أن كياني يروح ويجيء حول مأساته السياسية والإنسانية لاسيما في ذلك الفصل الفريد الذي دون قصة عشقه مع تلك المسيحية اللبنانية التي انتهت كحلم في تفجير غادر كان يقصد القضاء على الرجل وبقيت له طفلتاه لتذكراه بالفيونكة التي فشل في أن يعقدها على رأسيهما.
إن تداعيات تلك الأحداث الروائية تذكرني بتلك العوالم الخربة في الروح التي كانت تخلفها الحروب والصراعات الطويلة والتجارب الإنسانية المأساوية التي بدت كمرجعية زورباوية لا تقنع بما دون المستحيل، في ذلك العالم المتخبط الذي ينتهي بامرأة تعبد السلطة والمال الى ركل صور السيد الرئيس، وإلي إهانة رجل الأمن الذي يتزيا في مسوح شيخ من مشايخهم.
من هنا ولدت مع الرواية العديد من الأسئلة فكان حواري مع الكاتب حول مناخات تلك الكتابة .. دوافعها.. وخلفياتها والتاريخ الذي يكمن وراءها، الجغرافيا التي تتشكل فيها تلك الأحداث الجسام شديدة المحدودية .. وكيف تحولت الجغرافيا الى رمز عابر للمكان .. وهل كان العالم الروائي الغني الذي احتوته الرواية اختيار الواقع وحده أم أن الخيال الروائي هو صانعه؟ و كيف زاوج الطويلة بين النماذج الإنسانية المؤتلفة والمختلفة في تلك الرقعة، وهي شخوص تبدو أحيانا على درجة عالية من التنافر وأحيانا على نفس الدرجة من التآلف؟
حول الكثير من الأسئلة تحدثنا .. وهنا الحوار:
* باب الليل متوالية روائية.. تتواصل أحداثها منفصلة ومتصلة في الوقت نفسه .. حدثني عن مناخات تلك الكتابة .. دوافعها.. وخلفياتها والتاريخ الذي يكمن وراءها؟
*ما رأيك أن أستعمل معك التعبيرات الكبيرة التي يقولها الأستاذ هيكل والكتاب الذين يودون تمجيد شخص ما أو واقعة كبيرة فأقول إنني كنت على موعد مع التاريخ، زرت
تونس عابراً لمرات ووقعت في غرامها، لكنني أخدت شلوتاً متيناً في عهد حسني مبارك، ركلة قوية في لغة القدم يسمونها ‘كرباج ‘أطاحت بي من جهنم القاهرة إلى جهنم تونس، كانت الدولة البوليسية المصفحة ترقص بتناغم رقصة الدم الأخيرة في كلتيهما، البوليس هناك اسمه الحاكم، رجل البوليس كذلك، في مصر لسنوات كان اسمه الحكومة، في تونس كانت الدولة البوليسية تفتش في نوايا الناس وأحلامهم بينما اللافتات التي تصاحبك في كل مكان مكتوب عليها ببراءة شديدة ‘تونس : جودة الحياة.
فكرت بسذاجة كبيرة للحظة أن تكون تونس محطتي وعائلتي – إن استغلقت الأبواب في مصر – لكن قدم النظام كانت تطبق على كوابيس الناس وتنبح في وجوههم ككلاب الجحيم.
السذج الذين يتباكون على ما قبل الثورات لا يعرفون تماماً معنى أن تعيش تجربة في احتمال التوتر، أسوأ شيء فيها لا يقارن بسلطة تضغط على أنفاسك كل ثانية إن لم تتنفس نيابة عنك !!
لا أحد يتكلم في السياسة هناك ولا يجرؤ سقطت من العلوم الإنسانية ومن كتالوج الحياة، الناس مأزومة تئن تحت وطأة قروض أدخلها النظام في مؤخراتهم ليعيشوا كثيران مغماة لتسديد أقساطها، وانفتح مجتمع استهلاكي يفتش آخر الشهر عن دينار طيب في جيبه فلا يجد، كان لابد من ثقب لتفريغ الكبت والخوف، وجدوا في كرة القدم ضالتهم، أفرغوا فيها جل طاقتهم وتباروا في الاستمتاع بالفوز والانتصار على هزائمهم، كانت الحرب في مكان آخر لكن اللقطة الأخيرة كانت بين أقدام اللاعبين، لم يتبق لهم غير ثقوبهم ليملأوها، يملأونها على عجل يدفعون فيها ما تبقى من خوفهم، هل تعرف أن الإحصائيات سجلت أن أعلى معدل لممارسة الجنس في تاريخ أمريكا كان ليلة 11 سبتمبر يوم سقط البرجان في الواقعة إياها.
حتى أجساد الناس الشيء الوحيد الذي يتباهون أنهم يملكونه بخيلاء وجسارة صارت ملعباً لسلطة تدخلت بين العاشق والمعشوق، شاركتهم فيه بنذالة لم يبزها غير نظام الساقط حافظ الأسد وابنه الخرب.
ثم شاهدت الفلسطينيين شاهدت بقاياهم أو بواقيهم لفظ البواقي أكثر ما يدل عليهم يتامى الثورة وشواهد قبورها – نعم يتحركون طوال اليوم كشواهد قبور حفظوها جيدا، تاهت منهم فقط أماكنها ويتمنون أن تأخذهم أقدامهم ليصعدوا فوق قبورهم ويناموا – عشت معهم حتى النخاع جروحنا واحدة عندما كنت أراهم كنت أرى وجه أمي وهي تخلع أقراطها وأساورها لتتبرع دعماً لهم، كنت أرى أبي الذي أيقظني وأنا طفل ليلة عملية عنتيبي التي حرر فيها الإسرائيليون أسراهم وهو ينوح بكل غضب العالم وألمه : تحيا إسرائيل، مناضلون على المعاش وضعوا أرواحهم في مواجهة غطرسة إسرائيل ليوجعوها وأوجعوها يعيشون أيامهم الأخيرة بجيوب شبه خاوية يتفرجون على مصاري النضال العربي وهي تعبر جيوب مناضلي الليل لمناضلات الليل والنهار، (في العلب الليلية يبكون عليك كما قال مظفر النواب).
كنت على موعد مع التاريخ ! وجدت نفسي رغم أنفي هناك لكنني وقعت في غرام المدينة وأهلها الطيبين، ومناضليها الذين بدوا لي كمانيكانات من البلاستيك يتم تغطيتها بأوراق في مواعيد تغيير الملابس لتبدو مانيكانات بائسة لا تستطيع حتى أن تتباهى بلمعة كاذبة لأزيائها ، وجدت الهزيمة أمامي مجسدة في فلسطينيين وعرب أقحاح يتنفسون هواء مسموماً واحداً.
يا لخيبة أمي، لم تستطع أقراطها أن تنقذ القضية من الهزيمة.
إنها رواية الانكسار والهزائم كما أظنها وانتصاب الخيانة من الخارج والداخل من الداخل في الحقيقة، نحن هزمنا من داخلنا ولم يعد لدينا شيء نواجه به العالم غير أجسادنا التي ظننا أنها صالحة ويمكن الاتكاء عليها، لعل هذا ما دفع شادي أحد ‘أبطال’الرواية ليقول حين خانته زوجته وهو يناضل : خدعنا في الثورة، لا يجب أن نخَّدع في النساء !!
في النهاية هي ليست لعبة لتبادل البهجة والحياة لكنها لعبة لتبادل الانكسار.
* الجغرافيا التي تتشكل فيها تلك الأحداث الجسام شديدة المحدودية .. كيف تحولت لديك الجغرافيا الى رمز عابر للمكان .. ؟
*نعم. مقهى في النهاية .. لكن السؤال: هل كانت اللعبة أن تدخل جعرافيا صغيرة لتحكي التاريخ والواقع، مكان تبدأ به لتلعب على الزمن ؟ هل العنوان نفسه باب الليل: باب يفتح على مكان لتدخل منه إلى الليل معادلاً للزمن ؟
الجعرافيا محددة لكن التاريخ واسع قلاب أوجه والمخاض كبير، ياسر عرفات كاد يصاب بلوثة حين هبط أرض
فلسطين وسأل عن المباني المتشابهة، فقيل له إنها المستوطنات، رآها وهي تأكل الجغرافيا، لكنه من المتبقي، وهو ضئيل، حاول أن يلعب على التاريخ، إسرائيل قضمت الجغرافيا لكننا نتشبث بالتاريخ الواسع الممتد، زين العابدين بن على وحافظ الأسد وصدام، أنظمة تشبثت بالتاريخ لتقمعنا جميعاً بدعوى الجغرافيا والأرض السليبة ولو كانت متراً واحداً، قصائد الشعراء تحدثك عن الحوائط التي تسمع، الحوائط التي تتنصت عليك وتطبق على أنفسنا لكننا نشد في يدنا ذيل التاريخ كيلا نضيع، الأسى على الوجوه واحد، هل رأيت أسى متشابهاً في مظهره إلا على وجوهنا العربية؟ الهارب من قمع صدام والأسد ومبارك والبشير وبن علي كلهم متشابهون تقريباً يبحثون عن رقعة جغرافيا صغيرة هي الجسد، لكنه منفتح من جغرافيته الضيقة على تاريخ وأفق واسع.
تاريخنا كان محكوما بالجغرافيا الضيقة طوال عمره تقريباً دعك من الأغاني الوطنية الحركة داخل الأوطان ضئيلة على نفوسنا، هل تتذكر واقعة المخبر الذي كان يراقب نجيب محفوظ حيث كان يجلس أحياناً داخل جغرافيته ويحاصرها لكنه لم يستطع أن يحاصر يد التاريخ في يد محفوظ، الذين كتبوا داخل زنزانتهم الضيقة ما اتسع له الزمن فيما بعد، الجغرافيا الضيقة تصير أحياناً دافعاً لتوسيع الرؤية، عباس كياروستامي المخرج الإيراني الفذ وجعفر بهنامي ومخملباف وغيرهم ضيقوا عليهم جغرافيا الجسد في إيران فصنعوا أجنحة جديدة له تطير به داخل فضاء التاريخ.
حتى جدودي الذي كانوا يعيشون داخل جغرافيا ضيقة وسط براري واسعة لم ينسوا على الإطلاق أن يصنعوا لهم تاريخاً كبيراً رغم أنهم جميعا ولا فخر كانوا من المطاريد واللصوص، صنعوا تاريخاً حتى استطاعوا أن يوسعوا الجغرافيا وهم يسندون ظهورهم لتاريخ صلب من حكايات مزيفة.
المقهى صوت الغريب، صوت من لا صوت له، يصلح هذا كشعار سياسي بالطبع، في العلب الليلة تتسع الجغرافيا أو تكاد حدودها تتلاشى عن بصرك، لكن التاريخ والرقص والغناء يفسحون لك طرق الأحلام والأوهام، رقعة ضيقة لكن الألم كبير والآمال أيضا، تكاد تطير من النوافذ وحتى لو ارتدت وسقطت في حجرك.
في البقعة الصغيرة، واحد يحلم بحرية العودة للوطن وواحد يحلم بحرية الجسد، الغرفة ضيقة والحرية واحدة لكن باب الحرية واسع يحتفي حتى بنضال موءود، قد تؤجل الجغرافيا حلم الحرية لكن التاريخ والتجربة الإنسانية يفتحان لها أبواباً ومنافذ أخرى لتتسع.
بين ظهرانينا شعراء وكتاب عاشوا أربعة في غرفة واحدة ناموا في أوقات مختلفة ليتيحوا لبعضهم مكانا للنوم ومكاناً للعمل، الغرفة ضيقة لكن الأحلام اتسعت وربما الكوابيس أيضاً.
* العالم الروائي الغني الذي احتوته الرواية هل هو اختيار الواقع وحده أم أن الخيال الروائي هو صانعه ؟
*هل هناك خيال كان من الممكن أن يقارب أزماتنا العربية التي نعيشها لترى
العراق وسوريا والصومال والسودان وفلسطين على ما نراه هذه اللحظة، هل كنت تتوقع ان ترى الخريطة العربية التي لا يغلبها غلاب على هذه الشاكلة .
لم اخترع مشكلة فلسطين ولا الفلسطينيين ولا تجاعيد وجوههم، لكنني ربما اخترعت تجاعيد الروح، التجاعيد في الوجوه حين تدخل الكتابة نرى منها تجاعيد الروح.
السلطة تصنع الموت وتتدخل أحياناً في شكل الجنازات لكن الناس يصنعون يختارون – صلبانهم.
هل هو الواقع أم قفا الواقع، هل هو الواقع الذي لا يستطيع أي خيال أن يمتطيه .
تعرف، ليلة الانتخابات البرلمانية في تونس، رأيت بائعة الحب الطيبة تقول لصديقتيها الطيبتين جداً حين هما بالانصراف بحثاً عن رزق في مكان آخر : اسهرا كما تريدان، لكنني سأوقظكما في الخامسة صباحاً لنكون أول من يقف في الطابور صباحا ً، حين سألتها لمن ستصوت: أجابت صوتها سيذهب لمن يعطيها حريتها .. صوتت للحداثيين.
عندما كنت في تونس، كنت أتلقى خفية أسئلة عن المظاهرات التي تقوم بها حركة كفاية، ومتى تقوم الثورة في مصر ليثور العالم العربي في إثرها، كان الواقع يسير في جهة الكابوس لكن خيال الناس هو من خلق الثورة.
هناك شخصيات واقعية كثيرة في الرواية أنتجت كل هذه الانكسارات، وهناك شخصيات من الخيال لا بد أنها موجودة أنتجت الأحلام البسيطة، منها حبيبة المغنية، قد تكون حقيقية فيما تواجهه من ألعاب السلطة، لكن الخيال هو من صنع لها أجنحة لتطير وتغني خارج الرواية.
الواقع كان قاسياً بفجاجة لم تسمح للخيال أن يتقدم إلا في صندوق صغير للأحلام وضعت في نهايته بطلة الرواية صورة الرئيس في صفيحة القمامة .صورة بن على كانت على لافتات الحوانيت والمقاهي عند الافتتاح وعيد الاستقلال وذكرى انقلابه لكنني من اخترعت له صورة في عيد الخريف واخترعت عيد الخريف ذاته ليعصف به فيما بعد.
قال صديقي في المقهى: هذه تأتي لتختار كل يوم واحداً من الشباب، وغيره في اليوم التالي، وهكذا، وأضاف: لا يذهب معها إلا مرة واحدة، زيارة أولى وأخيرة، جملتان، لكن اللحم والدم والموسيقى التصويرية واللوك والملابس من عندنا، إنها شخصية باربي في الرواية.
في رواية كهذه الكوابيس من الواقع، لكن الأحلام من الخيال.
* كيف زاوجت بين النماذج الإنسانية المؤتلفة والمختلفة في تلك الرقعة وهي شخوص تبدو أحيانا على درجة عالية من التنافر وأحيانا على نفس الدرجة من التآلف ؟
*ثمة انكسار يقطع كل شخصيات الرواية، رجال منهزمون دخلوها وحياتهم تقريباً خلفهم، ونساء بلمعة الحضور لكنه بريق سرعان ما ينطفئ، الكوابيس تعتقد الكراسي وتملأ الفضاء ومطرقة الأحلام بطيئة جداً كما يقول جمال القصاص، هل يدفع الانكسار أصحابه للتآلف رغم تنافر نماذجهم، هل الجسد هو المصيدة التي يلتقون عندها أو يظنون ذلك للنجاة من سجونهن الخارجية والداخلية ؟ هل يتجسد الوطن أحياناً في صدر حنون لرجل أو ركبة دافئة لامرأة ولو كانت بائعة الحب، بالمناسبة قد يمنحنك كل ما حرمن هن منه بعد أن يخلعن قشرتهن الخارجية، هل هي مزواجة بالسخرية من القدر وتفاصيل الحياة ؟ مناضلون بالروح ومناضلات بالجسد، هل هو ائتلاف اللحظة فقط بينما التنافر سار بين شخصيات وأخرى، أنت قروي مثلي لا تعرف أنه فيما يشبه ملهى ليلي، حين يقوم الناس للرقص معاً تتكسر كل الحواجز وترتطم النوازع قبل الرغبات وتنداح كل الاختلافات تحت الوطأة الفاتنة للحظة وينكسر التنافر لصالح أفق ليلي أرحب.
هل نحن كعرب المثال الناقح على سؤالك هذا ؟ الخليجيون يعتبرون غالباً أنهم الأخيار واللبنانيون شعب الله المختار / ومصر أم الدنيا وتونس أباها مقاربة لمعنى جنسي فقط والأردن أولاً .
أخذتك بعيداً عن سؤالك، لكنه الوجع الذي يسيل من الجميع، رحمة غنت وصنعت البهجة وداست على مآسيها بهما، لكنها حين بكت كانت تبكي نيابة عن الجميع، تبحث عن روح تلقفها وتربت على ما تبقى من أيامها لكنها حين اصطدمت بواحد يروم جسدها تجاوزته وصنعت الحلوى، أبو شندي الذي يكفي وجعه وجع أبطال روايات كان في قلبه متسع لنعيمة بائعة الحب، في قلبه متسع لمهدي الذي يريد أن يذهب مع المارينز ليقتل أخوته، كنت متعاطفاً مع مأساته رغم وقوفه ضد نوازعه، ولا تنس أن بائعات الحب يملكن في أرواحهن متسعاً لبعضهن، إنها مواجهة لضريبة الاضطهاد العام، نعم تآلف رغم التنافر، الذي يريد أن يكون جيشاً للنضال ضد الأمريكان في المنطقة يكون في النهاية جيشاً من بائعات الحب .. يا للسعادة القصوى .
لكن الجميع في قفص واحد في النهاية .
* ‘باب الليل’ تعبير يبدو قرويا .. لكن ليل روايتك يختلف عن كل ليل .. كيف تقيم ذلك الخيال الروائي المحاصر بين معني الليل البهيم في ريف بلا أضواء وبين ليل روايتك الذي تغمره أضواء المدنية بكل مآسيها ؟
*أنا قادم من بيئة تربت على الخوف، لكنها تربت أيضاً على المخاطرة، كنا نعيش في البراري بلا كهرباء ولا طريق واحد معبد، طقس دامس على طرف بحيرة البرلس حيث يحل الظلام باكراً، منذ الخامسة ترى الناس في أقنتها كدجاج مكسور الأجنحة، وينتشر في فضائها أبناء الليل، كان تعبير ابن ليل حاضراً بقوة، ليل كئيب لولا دفء الأمهات والجدات، كنا ننام من الخامسة، ننام دهراً لنصحو على سباعية مخيفة أيضاً تأتي في التاسعة مساءَ، منطقة موحشة كتبت عنها رواية ألعاب الهوى، كل يوم عراك بالشوم وكل شهر قتيل، وكل أسبوع يداهمنا البوليس بحثاً عن اللصوص والمطاريد والهاربين من خدمة الجيش، كان ابن عمي لصاً ظريفاً وهارباً من الجيش مما جعل صداقتنا لضباط المباحث مسألة بديهية !! .
كان الرجال يقفزون حوائط بيوتهم قيبل الفجر ليرووا غيابهم عن أرض زوجاتهم ويغادروا بعد ذلك، صنع ذلك كثيراً من الأسى والغناء المملوء بالغياب والمكتظ بالحنين، لكن جدتي كانت امرأة مفرحة تزوجت من زوجين عشقتهما على التوالي فبدلاً من قصص الغول والرجول المسلوخة انفتح لنا باب أبوزيد الهلالي والزير سالم، حتى كدنا نعتقد أن أهلينا الغائبون هم كلهم ابوزيد والزير .
كان ليلاً ككابوس رغم براءة الطفولة، لذا تلقفت ليل المدينة بأضوائه كأنه جائزة وحضناً للأحلام وقاتلاً للكوابيس، لا أحب أن أنام في ليل المدينة، أريد أن أعبه كأنني أدفع به وحشة الليالي التي كبلتني صغيراً، فارق كبير بين ليل المواويل وعدودات الفقد والعشق وبين ليل يرقص مهما كان الصباح خانقاً وكئيباً .في ليل القرية كنا صيداً ثميناً للطبيعة والبوليس، لكننا في ليل المدينة صيد ثمين لقلة الحيلة والبوليس أيضاً، لكننا هنا تعلمنا كيف نقاوم.
عندما أكتب عن القرية فإنني أجد نفساً ممتلئاً ومحاصراً بهذا الخيال المتوحش الذي لا أعرف هل أنتجته أم هو الذي صنعني، وعندما أكتب عن المدينة أجد الواقع يتقلب في سريري.
* هل كان المشهد الختامي في روايتك نبوءة بكل ما حدث في العالم العربي.. وهل تحولات صورة الرئيس كانت التعبير الجمعي عن متواليات ما حدث ؟
*لن أدعي ذلك، ليس تواضعاً بل قفلاً لباب المهاترات، فالذين ادعوا أنهم بشروا بثورة يناير يصنعون مظاهرة رغم أنني في أحمر خفيف وضعت النعش على باب المستشفى وجهزت الملائكة لقبض الروح، وفي نهاية الرواية تركت النعش على الباب لكن الملائكة تفرقوا إلى أن يحين الميعاد.
سألني الأبنودي أثناء أحمر خفيف عن الحكاية، تعثرت وترددت وقل له كلمة من الشرق وأخرى من
الغرب لكنه باغتني: هل هو الشعب المصري؟، قلت: نعم.
صورة الرئيس كانت هي المعادل لسطوع وانكسار السلطة، بالطبع ليست حكراُ على تونس، مرة كتبت عن صور حافظ الأسد التي لا تعد ولا تحصى فقلت: إن الصور مكتظة بالشوارع من فرط وجودها ومحاصرتها لك كأنها تطمئن على خنوعك عياناً بياناً.
لو قيض لك أن تسافر بالبر مرة من الأردن إلى
لبنان لطوقتك صور الأسد منذ خروجك من عمان حتى تصل إلى قلب بيروت دون أن تستغرب أن ليس هناك سوى صورة يتيمة لرئيس لبنان وقتها المنكود إميل لحود- وربما لأن لبنان يعج بالرؤساء ومن الممكن أن يجلب ثروة كبيرة من تصديرهم – ، لا تذهب بعيداً: الأمريكان حين غزوا العراق كان عليهم أن يخرجوا المشهد النهائي لاحتلالهم بغداد وإبلاغ العالم به، لم يجدوا أبلغ من إسقاط تمثال حسين أمام كاميرات العالم كله في مسرحية عرفنا أنها معدة سلفاً، الموظفون البائسون القتلة يبتسمون وهم ينزلون صور طاغية ليضعوا صور طاغية جديدا، إسقاط الصور ونزعها عن الحوائط نذير بخروج الطغاة من لحظة الاستبداد والضوء القصوى لمزبلة التاريخ اللهم إلا حالات قليلة مثل ما حدث مع سلفادور الليندي.
صور بن علي كانت هي البضاعة الأولى في كل حانوت، توضع قبل أن توضع البضاعة، منتشرة في كل المقاهي، لكنني وضعت له ثلاث صور في مقهى بطلة الرواية دلالة واضحة على الحضور العنيف للاستبداد والمحبة الفادحة، وحين اقنتصت باترونة الحب التي تمشي في حياتها بثقافة الحياة لحظة انهيار السلطة التي كانت تعوم في بحيرة دمها وأفخاذها، حين أدركت بوعيها اللحظة، كان عليها أن تتقدم بنفس جسارة عهرها لتضع الصورة في سلة القمامة.
فكرت للحظات أن أكتفي بأنها وقفت أمام باب المقهى وفتحته على مصراعيه ثم غمزت بحدة قاطعة لرجل الأمن أن يخرج مطردواً بلا رجعة، دلالة كافية على نهاية حقبة الدولة البوليسية المصفحة التي صنعها نظام بن علي، لكن الصور التي كانت في الحمام تتنظر اتجاه الريح كان عليها أن تجد مصيرها في النهاية علامة أكيدة على التحول الحقيقي، لا ‘التحول الكاذب’الذي صنعه بن علي، كان بن على يسمي عهده بعهد التحول ليقفل وسدنته حركة التاريخ لذا كان يجب أن يكون شاهداً على تحول عهده وصوره إلى القمامة في مشهد أمسكت يدي عن كل حرف زائد أو فكرة مسترخية حتى لا أقع في المباشرة، ولم لا ! نحن واقعون في أسر الرموز والاستعارات طيلة الوقت، نزع أو إسقاط صورة من على جدار تعني انهيار الجدار والنظام كله.
*أنت تقول لحبيبتك أحبك، لكن ذلك لا يعني انك وقعت في المباشرة.
هل فعلتها؟
* خرجت ربما للمرة الأولى على حكايتك القروية وعالمك الأثير الذي أسست له .. هل لذلك علاقة برحلتك التونسية أم علاقته الأكبر بتغير مفاهيمك الروائية ؟
كنت سأكتب رواية عن المدينة، عن القاهرة تحديداً، تنازعتني روايتان، مشيت وراء قلبي فكتبت باب الليل، تعرف في فترة ليست بعيدة صدرت أقوال قاطعة عن أن عالم القرية لا ينتج رواية ربما بسبب أن الصراعات وآلياتها لا تتطور، وأن الأسئلة بها قديمة، ربما أنقذني السؤال الوجودي الذي باحت به ألعاب الهوى، ربما أنقذني القرب من مقارعة عوالم أخرى في أحمر خفيف، لكن الحكم كان عاماً ومن روائيين يبنون روايات مدينية بامتياز، لكن السؤال الذي كان يحكمني دائماً هو سؤال المصير الإنساني، الذي يصدح بالأشواق والكوابيس المعتمة.
قد لا تصدقني حين أقول لك أنني تركت عائلتي خلفي إلا من حنين موجع بالقلب وذهبت لتونس لأكتب هذه الرواية بعد أن قضيت فترة أولى بها، عدت لرحلتي الثانية لدرجة أن الناقد الكبير د. جابر عصفور قال لي: ‘هو كل واحد عاوز يكتب رواية عن مكان يروح له’؟
حيث يقع قلبي أذهب، أنا من تلك الكائنات التي تحدس بالقلب ولو لم يصدقه العقل، لم يتغير مفهومي تماماً، فحيث تجد أسئلتك تضع حمولتك، لكن رحلة تونس كانت قد ملأت القفة بما يكفي ويفيض. في الماضي كنت أكتب في أجواء تونس عن أسئلتي في حكاية عن قريتي / عزت القمحاوي وطلعت الشايب قالا: لو أن من بالمقهى إطلع جيداُ على محتويات القفة لولى جزعاُ، وأظنني لم أكتب بالحنين، لكني وجدت نفسي داخل عالم يموج بالأسئلة ويلوح بخاتمة الانكسارات التي التي قضينا أعمارنا نحلم في أزقة أحلامها، كانت قدم بن على تطبق على رقبة، وثمة عزاء مفتوح يومياً للثورة الفلسطينية، ويتاماها يذرعون المقاهي بحثاً عن جسد يروون له حكايتهم، والأجساد تبحث بدأب عن هزائم جديدة أغرقها فيها طغيان السلطة، وبعض أغنيات مكتومة صدحت في النهاية بثورة علها توقف تدفق الخيبات.
لن أدعي شيئاً، فأنا ابن شعراء، أقرأ الشعر وأرى السينما وأجلس على حافة قريبة من الرواية، دون تورط كبير في الحديث عنها، دون إنكار لما تستطيع أن تحمله من أسئلة العالم وللعالم.
* بناؤك الروائي يقول إن موقفك مما يسمي بالهشاشه والعوالم الروائية التي تكتب من دفتر المحنة الشخصية موقف متجاوز الى بناء عالم روائي موضوعي ومركب في الوقت نفسه. كيف تري الرواية المصرية الآن؟
*سؤال بديع. كتابة المحنة ربما تحتاج للمواويل لمونولوجات قصيرة دون أن أهزأ من غناها أحياناً، محنتنا لسنوات لم تكن لقمة عيشنا وغاب فيها أو توارى سؤال الحرية خلف أسئلة اللحظة وأقنعة الطغاة، كانت فلسطين قضيتنا الكبرى بما تحمله على جسدها من سؤال الحرية، ورغم غرقنا في التفاصيل لسنوات، يبدو أن الهزائم تحيلك للتفاصيل دائماُ، إن على المستوى الشخصي أو الجمعي، أن تكتشف أنك تكتب ولا أحد يقرأ.
لا أخوض في الغالب سؤالاً كهذا، هنالك جيل متقارب في العمر يكتب الرواية بشراهة، يحاول أن يقتل بوعي أو بدونه ما دونه، هل لايدافع عن وجوده بكل هذه الأسنان ؟ ربما.
في الوقت الذي يكتب فيه طارق إمام والفخراني وأحمدعبد اللطيف ونهى محمود وياسر عبد الحافظ ومنصورة عز الدين تجد المنسي قنديل وعزت القمحاوي وصبحي موسى وسهير المصادفة حاضرين بقوة في المشهد، رغم أنهم يكتبون بعيداً عن مركز الدائرة، الرواية أظنها لم تتسع فقط لأشكال كثيرة فقط لكنها استطاعت أن تسمح بهذا التجاور ولو من قريب في شوارع خلفية، ألا ترى معي أنه رغم سؤال الثورة وإدعاء البعض بأنها ليست لحظة كتابة إلا أن عدد الروايات التي صدرت هذا العام تحديداً يفوق الأعوام السابقة، ربما ما يجب أن نتوقف أمامه هو محاولة تدجين شكل الرواية وشكل اللغة تحديداً وووضع معيار محدد للغة بأن تكون بيضاء وإقصاء كل خمشة في أفقها، كأن العالم أبيض أو يجب مقاربته بلغة تبدو محايدة تماماً وغير واقعية البتة في أتون الشكل والمضمون.
في التسعينات كان صبري حافظ يقارب بين الانتشار الفاحش للعشوائية وبين تحطم الشكل الروائي بعد محفوظ وعشوائية البناء وعشوائية اللغة، ورغم تقدم تجارب من لبنان ومن العالم العربي صرنا نعرفها ولو عبر الجوائز وننظر بتمعن لأسئلتها، إلا أننا أمام كل ما حدث في مجتمعنا في شهور قليلة وتوقف البعض لسؤال الواقع الراهن إلا أن الشبكة ملآنة والصيد وفير وجيد، نحن الآن أمام أسئلة كبيرة ولهذا نقاوم أو نسخر بالغناء، لكننا نعود لقواعدنا ونلقي أوهامنا.
نعيش الهشاشة بما يكفي لأن تفيض دموعنا وأن تنطلق صرخاتنا، لكننا في لحظة الكتابة يجب أن نبحث جيداً كيف اصطدمت السيارتان دون أن ننسى الآهة التي انطلقت من داخل واحدة منهما.
العالم المركب قدرنا، أسئلة ربيع جابر وحسن داوود وجبور دويهي في لبنان تجد مكانها بين نصوصنا والقنبلة التي تسمع انفجارها في بيروت قد تجد صداها في رواية في القاهرة، الأشواق بألوان متقاربة والكوابيس أيضا.

القاص والروائي المصري وحيد الطويلة: نحن شعب 'غاوي دين'!
اجرى الحوار عبد المنعم الشنتوف: الكاتب والصحافي المصري وحيد الطويلة صوت متميز في المشهد الأدبي العربي المعاصر. يمكننا أن نتحدث في حالته على مراهنة مقصودة على القيمة الجمالية لما يكتبه وليس على التراكم الاعتباطي المفتقد لتلكم القدرة على إثارة فاعلية القراءة.
ابن الصعيد المصري وسليل عائلة من عتاة الحكائين كما يؤكد ذلك في هذا الحوار، وقد كان لكل ذلك تأثير بارز على كتابته القصصية والروائية والصحافية؛ حيث نلاحظ تلكم القدرة المثيرة على التقاط التفاصيل والوصف وتكثيف الحوار والغوص الذكي في مناطق العتمة في الوجود العربي والدفع بالخيال إلى حدوده القصوى. أبدع الكاتب مجموعتين قصصيتين 'خلف النهاية بقليل' و'كما يليق برجل قصير' علاوة على روايتيه المثيرتين 'ألعاب الهوى' و'أحمر خفيف'. يقيم وحيد الطويلة في العاصمة التونسية حيث يعمل في مقر جامعة الدول العربية. يشكل هذا الحوار فرصة للاقتراب من العوالم الإبداعية لهذا الكاتب العاشق للترحال والسفر والمقاهي والذي كان أول من أعلن على قناة 'الجزيرة' نبأ هروب ديكتاتور تونس السابق...
الحوار:
1
ـ يثيرني في تجربتك هاته المزاوجة بين الكتابة الصحافية والكتابة الإبداعية. وقراءتي لمقالاتك المنشورة في العديد من المنابر تقودني إلى ذلك الحس النقدي اللاذع المشبع بجرعات قوية من السخرية. يكفي أن أشير على سبيل التمثيل إلى نصك الأخير 'أن تأكل من صحن الرئيس'. كيف أفادتك الكتابة الصحفية في صقل تجربتك السردية؟
*
كنت دائماً خائفاً من من الصحافة من جهة تأثيرها على كتابة الأدب بشكل عام، كانت نصيحة صلاح جاهين للشعراء ألا يعملوا بالصحافة حتى لا تأكل لغة الصحافة لغتهم، حتى لا تجور عليها وتسرق منها تلك الشعلة أو ذلك المس الذي يعطي للابداع نكهته ووجوده، ربما كانت هذه النصيحة خاصة بالشعراء فقط، لكنني كنت أعتقد أنها تنطبق على السرد أكثر، كنت وقتها أكتب القصة القصيرة والقصيرة جداً التي تعتمد في الأساس لغة شعرية ملتحفة بالتكثيف والتوتر حتى أن الشاعر آدم فتحي قال لي وقتها لماذا لا تعلن بشجاعة أن بعض القصص هي قصائد نثر، كنت مغرماً وملهماً بتلك القصص التي تحاول أن تصطاد العالم في سطور قليلة، كانت نصيحة جاهين قريبة مني، ولم يغادرني هذا الوهم حتى عند كتابة الرواية، إذ اكتشفت انني أكتب الجملة بايقاع ما ليس متقصداً، ربما هناك موسيقى خفية في روحي ولا أدعي- لكن بقي دائما هناك صوت ما داخل الجملة مع أنني ابن حكائين كبار لكن الحكي عندنا أيضاً كان مسجوعا ومرفوقا بهذا الصوت الذي يوصل لك المعنى بالموسيقى والاختصار وسطوع الأمثال باقتصادها وحزمها في الدلالة على ما تحمله .
أقول: بقي هذا الصوت إلى الحد الذي قال فيه صديقي الشاعر عبد المنعم رمضان: إن رواية 'العاب الهوى' هي رواية صوت، يمكن لك أن تقرأها بصوت عالٍ .
كانت المفارقة في ذهني أنني أكتب بتلك اللغة في اللحظة التي تنحو فيها جارتنا قصيدة النثر اتجاهاً آخر يتمسح بالتجريد .
لم يكن هاجسي اللغة حتى وإن كنت واحداً عتيداً من عشاق اللغة الجميلة، بما هي حفر مختلف داخل اللغة، ربما عندي هاجس واحد فقط أن أكتب بلغة مختلفة من نص لآخر، أظن أحياناً ولا تصدقني، إذ أحاول أقول أحاول أن افعلها دون قصدية لغة تحمل رائحة الشخوص رائحة ملابسهم ووشهم ووشمهن والتفافهن ذات لحظة وأصوات الضحك المتنوعة وأخيرا رائحة الصوت ودرجته إن كان ذلك ممكناً تصور ذلك، لهذا أعتقدت ان النصيحة السالفة لي، لكنك بعد أن تكبر مثلي وتصبح على أعتاب الخمسين تتبدى لك أشياء أخرى، تتجاوز الصحافة بما تعنيه من كتابة وظيفية في تحقيق أو تقرير صحافي، لأكتشف أن المقال الذي الذي يكتبه المبدعون يحمل نفس شرط الكتابة الابداعية - وشرط الحياة - وهو الحرية لأكتب المقال بذات الشرط، أظن أن الكتابة الابداعية هي التي وسمت كتابة الصحافة عندي وليس العكس ،- المثال الأبرز في صحافة لبنان، كنت انتظر مقال جورج سماحة كل صباح -، في الصحف المصرية هناك موهوبون يكتبون تلك المقالات ولا يحصلون على مناصب ولا يجري وراءهم قارىء عادي، لكنني أرفع قبعتي لهم إذ كانوا يكتبون لنا بنفَس مختلف، صدقني أن احدهم أسمه عباس لبيب قد لا يتذكره أحد، كان يكتب مقاله الصحافي بروح المبدع في صفحة الرياضة بجريدة 'الأهرام' ذائعة الصيت والمهمة وقتها، لكن المثال الأبرز يبقى هو الأستاذ هيكل، كتابة صحافية في إهاب رواية، هؤلاء تذكرتهم أو لم يخرجوا من روحي حتى ولم يحملوا ضجيج ولا زعيق الكتابة الصحافية الوظيفية .
كنت خائفاً أو حذراً، لكن كل ذلك كان يذوب لحظة الكتابة، قبلها بقليل،
كنت أرقب اللاذقاني وهو يحاول أن يكتب مقاله في 'الشرق الأوسط' بروح القصة القصيرة، لكن الغريب أن المثال الساطع الذي كنت أرقبه دائما هو كتابة جيل السبيعينات في مصر، وهو الجيل الذي صادقت واقتربت من كل أفراده تقريبا، كانت عوالمهم داخل القصائد مستغلقة في الغالب، أما مقالاتهم فكانت حالات إبداعية صرفة .
نعود للنقد اللاذع أو جرعة السخرية التي تلف الكتابة، إنظر معي: كلما علا صوت معارض في سورية منذ خمسين عاما من القهر، يجد شبيحة الكتابة - والقانون بكل أسف ومرارة - في انتظاره بتهم مدججة ومضحكة في الآن نفسه من عينة: الوهن من نفسية الأمة، إيذاء الشعور القومي، والحط من همة وقامة الشعب، وهذا الكلام الفارغ الذي ينظر إلينا كجرذان كما قال القذافي، وجملة الأخ حسني مبارك حين قالوا له إن الخاسرين في الاتخابات أنشأوا برلمانا موازياً فرد وهو يعلم أنه من صنع التزوير: 'خليهم يتسلوا'، القذافي قال في حوار بعد ثورة تونس إن التونسيين لن يجدوا رئيساً أفضل من بن علي!!!، كان الحسن الثاني وهو صاحب تجربة عتيدة في الحكم يبدأ خطابه بجملته الأثيرة: شعبي العزيز، نحن وأنت، والرئيس المنتخب في موريتانيا إنقلب عليه العسكر فتحول للعمل إماماً لمسجد .. أنت أمام لوحة سريالية باذخة المعنى .
لا أضع إصبعي تماماً على ما منحته لي هذه الكتابة، غير أنني أشعر الأن أن روحا ما متمازجة بينهما تظهر في سطور روايتي التي أكاد أنتهي منها، لكن ثمة جرأة تجتاح اللغة وتكاد تعصف بكل يقين .
2
ـ يحلو لي أن أعود بك إلى بدايات تخلق تجربتك في الكتابة. نشرت عملك الروائي الأول عن دار ميريت بالقاهرة عام 2004 بعنوان 'ألعاب الهوى'. وقد لاحظت من خلل قراءتي للرواية استلهاما قويا لفضاء القرية والصعيد حيث مسقط رأسك واستثمارا مكثفا لموضوعة السخرية في سياق الفعل السردي. لماذا هذا الاختيار الأسلوبي والجمالي من لدنك؟ وهل يعتقد وحيد الطويلة أن الرواية بما هي شكل تعبيري لا يمكنها أن تستقيم إلا بالعودة إلى الجذور؟
*
وأنا أيضاً يحلو لي، صدقني، أن أعود إلى العاب الهوى، تلك الرواية التي أحبها من بين أعمالي القليلة. انا ابن قرية في أقصى بقعة من شمال مصر، في أبعد نقطة، حيث لا آثار تذكر على وجود حياة قبل شهر، لا كهرباء، لا ماء، لا شيء سوى حفنة من المطاريد أو القتلة هربوا من خلف السلطة واختفوا في تلك المنطقة، كانت كلها براري، اختبأوا فيها بعيدا عن عين الحكومة، حيث هي المكان المفضل ليدلل الذئب ابناءه فيه دون أدنى قلق من بشر، كانوا جميعا لصوصا في أحسن التوصيفات، كان بينهم قتلة محترفون، شيئاً فشيئاً دبت الحياة، وصنعوا عالماً، صاغوا قانونه على مقاس نضالهم، هو قانون اللصوص الأول في مصر، غير مكتوب لكنه نافذ وصارم، وصاغوا تاريخاً ليسندوا ظهورهم إليه، نشأوا واستمروا ونسوا جيلاً بعد جيل، نسوا وتفاخروا فيما بعد بالأنساب، كانوا يصنعون شجرة للعائلة يصدقونها ،على رأسها عراب مافيا محلي، لصوص أو قتلة صغار، لكنهم أيضاً وهو الجانب الأهم من اللعبة حاكوا أساطيرهم كأبطال ناضلوا ضد السلطة أو ضد ما اعتقدوا أنه عدو، وهم في النهاية أبطال من ورق صدقوا أن الطائرة تصنع منه، بعضهم راح يضحك من نفسه في نهاية الأمر ومن الآخرين .
هل هناك كتابة حارقة نافذة بلا سخرية؟ أشك .
أناس لا يملكون شيئاً سوى اوهامهم عن انفسهم، وفي آخر الليل يخلعون عباءاتهم ويضحكون من ذواتهم، الشيخ حامد بطل 'ألعاب الهوى' عندما ضج من ملاحقة عزرائيل له ليذهب معه إلى الآخرة، ومن ملاحقة الكوارث التي تتوالى على رأسه قال له: تعال متى تحب !
كتابة البهجة ؟ ليس عندنا كتابة بهجة، نحن وجدنا أنفسنا في أزمة دائمة منذ خرجنا الى الحياة عقب نكسة 67 ومن مات فيها من بشر، وما مات فيها من أحلام .
نحن ابناء العديد (العدودات) والحزن على الغائب والشهداء، لعلنا كنا نسخر ليرقص شهداؤنا ليتأكدوا وهم هناك ان لدينا هذه القدرة على الحياة .
هل هذه السخرية هي لعبة لمقاومة الموت والاصرار على الحياة قبل أن تكون لعبة في الكتابة؟
في مصر كانت هناك بهجة في الموسيقى أطلقها بليغ حمدي، حالة فرح اجتاحت الحياة، لدرجة أنها شدث أم كلثوم من المقام الرصين، من جبلها العاتي حيث يسكن السنباطي إلى أرض أخرى مملوءة بالبهجة، نحن في الغالب نشبه أغانينا، الموسيقى اللبنانية مفرحة فرحة تحتفي بالحياة حتى ولو كانت الأغنية تحكي عن الهجر والعذاب ونحن في مصر موسيقانا مملوءة بالشجن تشبهنا أيضاً .
في فيلم ' نسيم الروح ' للمخرج السوري عبد اللطيف عبد الحميد تسأل البطلة والد حبيبها عنه، وأين أختفى فيقول : ذهب لمصر ليعزي بوفاة بليغ حمدي !!
أنا صعيدي بالتجنس، أحمل الجنسية الصعيدية، أجدادي نزحوا هاربين من هناك، وأصدقائي معظهم من قلبه ايضاً، أنا من الصعيد الشمالي، أتعلق بالصعيد الجنوبي لأن أهله أهل عمل، ساحوا في كل البلاد ليبنوا غداً لهم ولأوطانهم الصغيرة، وتربته تربة أساطير، تحت كل حجر حكاية .
لكنني لست زعيماً لرواية الريف أو الصعيد، ولست مكلفاً في الأخير بالدفاع عنها.
نعود الى الجذور في الموت وفي الكتابة، أرقب فكرة لمارسيل بروست كأنني نائم والعالم يدور من حولي فأعود من جديد لنقطة انطلاق، لكنني وأنا أنظر أمامي أنظر للمستقبل لا أراه واضحاً، أنني أشاهد قريتي تتغير عاماً بعد عام لكنها تعود للوراء، لا تعليم ولا ثقافة إلا في حدود المقدس، قريتي دخل اليها الانترنت والسلفيون في وقت واحد، عاد التفاخر بالأنساب بوجه آخر، الكل يدعي أنه من الأشراف والكل يحمل شجرة يابسة من ورق تقول انه من النسل الصالح، أخاف ان أدفن في قريتي المكتظة بالجهل والسلفيين، أخاف أن أدفن بعيداً عنها فلا يعرفني أحد.
3
ـ هل يمكن تفسير اختيارك لفضاء القرية أو 'الصعيد' باعتباره مراهنة إبداعية على الاختلاف وسعيا إلى تخليص هذا الفضاء من وطأة 'التهميش' وسطوة الأحكام والتصورات المسبقة والجاهزة. أسعفتني مصاحبتي لنصوصك في أن أحيط علما بالتميز الذي يسم استثمارك لهذا الفضاء. ثمة في هذا السياق دينامية قوية تسم حركة الشخوص وقدرة على الفعل واقتراف الحرية. كيف يمكنك أن تسلط الضوء على هذا الاختيار؟
أعود إلى الجملة الحلوة ليوسف القعيد والذي فهم خطأ تعليقاً لي عليها فسبني في مقاله: القرى وضعها الله أما المدينة فصنعها البشر-، ذهب الكثيرون إلى أن الرواية هي بنت المدينة بما تحمله من صراع حاد ومتجدد دوما، أما القرى فظلت على شكلها إلا من تغيرات طفيفة لا تصنع عالما جديدا للكتابة وليست جديرة بها .
ساهم في هذا الاحساس أن هناك رأياً ساد واستقر بأن عبد الحكيم قاسم ويوسف إدريس ومحمد البساطي وسعيد الكفراوي وأحمد الشيخ ويوسف أبوريا قد نهبوا بكتاباتهم كل الكنوز التي وجدوها، وهم من هم، كل واحد باسمه، تم استيطان عالم القرية من قبلهم إن جاز التعبير ولم يتركوا بها ولا لنا شيئاً يذكر، وتم استنزاف (فاتن) له، لكني ربما رأيت ما اعتقدت أنه جدير، ربما رأيت موتاً آخر تنبثق منه حياة تستحق التأمل والفيض بها وعنها، كل واحد منا عنده رواية كما يقول عبد المنعم رمضان، ومنذ الرواية الثانية يظهر المؤلف، نحن نحزن على الموتى بما يكفي لموت الموت ذاته، لا يمكن تجاوز هذه المسألة الوجودية بما تعنيه من فعل آخر مصاحب للحياة، مازال في قريتنا ترعة صغيرة لم يحك حكايتها أحد، أو تحكى ولم يسمعها أحد، وأناس نزحوا للعراق في عزه وبنوا بيوتاً تركوها مشوهة دون طلاء حتى الآن، هناك من يستعمل أدوية العراق حتى الآن، هناك كما قلت سابقاً أساطير يصنعها البشر ويصدقونها.
المسألة كانت صعبة إذا كنت تحكي مراهنة ما على الاختلاف، صدر الفرمان بأن لا رواية يمكن أن تنتج من الريف بعد ما كنس الكبار كل الحكايات وأنهكوا من سيأتي بعدهم، وطلع في البخت شاحنة روائية اسمها خيري شلبي لم يترك تفصيلة في ريف يكاد يكون متشابهاً في شمال مصر إلا وأتى عليها، عندما اشترى عمه بدلة - وهذا كان حدثاً عظيما في قرانا يمكن أن يؤرخ له بعام البدلة -، انطلق نهر حكايات لا ينتهي عن نوعية القماش وكم من مرة سيقوم بأداء بروفة ومن سيصحبه والنساء اللواتي بشغف ينتظرن في الديار ويتهن على العائلات الأخرى، ويذبحن ذكور البط على وقع أغان لم تعد موجودة إلا في ذاكرة واحد مثلي، لم يترك شخصية واحدة في قرانا لم يعرج قلمه عليها، عندما صدرت 'ألعاب الهوى' كأنه فوجىء، كان يسألني بشغف: أين يقع هذا المكان الذي دارت فيه الرواية بالضبط؟ كأنه أفلت منه، كأنه اختبأ منه، أتذكر أنني مازحته وقلت له انه على شمال السماء في الطرف البعيد وأن الله وضعه هنا بعد أن ترك هو المكان بقليل .
أنا | أنت واقع في وهم بقدر الحقيقة وأحلام صغيرة وإحباط كبير، وألم انساني أو بالأحرى مصير انساني مشترك بين عجوز في قريتي وعجوز في قرية موكوندو للزميل العزيز ماركيز، له أساطيره ولنا اساطيرنا .
هل تصدق ان مدينة كوزموبوليتانية مثل الأسكندرية، أجمل مدن الله، أصبحت مدينة سلفية، نزح إليها قرنائي من قريتي ومن قرى تشبهها، نزحزا بما اعتقدوا أنها قيم الحياة، حملوا معهم قففهم، لم يملأوها معرفة بل نثروا ما معهم هم، ريفوا المدينة وطبعوها بطابعهم وما اعتقدوا أنها قيم الحياة، ولم يأخذوا شيئاً منها سوى فرص العمل والرزق، وحين يعودون يعودون بنفس ما خرجوا به بل وأسوأ، قريتي الصغيرة بها ستة جوامع، وكل واحد يصعد للخليج يريد أن يبني جامعاً جديداً، لا أحد يفكر في بناء مدرسة أو يعلم الأولاد شيئا في الكمبيوتر، التنمية في قرانا أصبحت بالدين ونحن كما تعلم شعب (غاوي دين).
يبقى دوماً هؤلاء المارقون الذين يحلمون بصنع عالم جديد، حتى وإن نقصت قدرتهم على الفعل، إنهم الخوارج الذين يدخلون صفحات الكتابة بسعادة وألم معاً، تقلص الفضاء الذي يتسم بالحرية، لكن يبقى هناك دائماً آحاد (يجاهدون) في اتجاه قبلة اخرى .
الروائي اللبناني حسن داوود صاحب 'بناية ماتيلدا' أظن أنه قال في أحد حوارته انه من المستحيل أن تتنج القرية رواية، وجابر عصفور تمسك بمدينية الرواية إلى الحد الذي تبقى فيه رواية القرية (نزعة عرق) في أفضل الأحوال وإن كان قد أبدى إعجابه بروايتي شفاهة، لعلها مازالت تتنظر فرصة للكتابة عنها .
حرية الشخوص كانت مصاحبة لحالة الحرية أو للتوهم بها والذي عشناه في مصر في مرحلة عبد الناصر، لكن الأرض هناك صامتة لا تكاد تسمع صوتها .
قد أدعي أمامك أنني صاحب ذاكرة مرحة، لكنني خائف .
القرية الآن تضع نقاباً على وجهها، لا بد من فعل جديد، لا بد من كتابة جديدة .
ولا تنس أن النعش في 'أحمر خفيف' ظل واقفا طوال الرواية على باب المستشفى.
4
ـ ثمة في نصوصك وأشدد على 'ألعاب الهوى' و'أحمر خفيف' الصادرة عام 2008، حضور قوي للمكون 'الإيروتيكي'. يخيل إلي وأنا أتوغل في طبقات هاته النصوص أن 'الجنس' يحضر باعتباره قرينة على الحياة في صخبها وعنفوانها واكتشافها للجديد والمثير ومضادا للموت وصوره الكريهة. الجنس أيضا صورة للحرية وامتداداتها في غمرة الموت الزاحف. كيف تتمثل اشتغال 'الإيروتيكي' في إبداعك القصصي والروائي؟
سأحكي لك حكاية، كان عندنا ما يعرف بزواج البدل بين أبناء العمومة أو بين العائلات، طلق أبي إبنة عمه قبل أن يدخل بها فصدر فرمان القبيلة والعادات بالطلاق بين الجميع، ونام ثمانية أفراد ليلتها كل في مخدعه وحيداً، تزوج الرجال سريعا في نفس الأسبوع وبقيت النساء يصارعهن مصائرهن مستسلمات، لم تكن واحدة لتجرؤ على مجرد أن تحلم برجل جديد وهي نائمة، ما بالك أن تقول بالتلميح، لم يكن مسموحاً لواحدة أن تتوجع صدقاً أو لعباً، لكن إحدى عماتي أصرت على الفعل، على ألا تظل (هجالة)، لكنها لا تستطيع أن تحدث أحداً في أنها تحتاج الزواج أو تريد رجلاً، تصعد إلى الأسطح، تأخذ البهائم للحقل، تنهك نفسها كي تنام مثل قتيل فقد أحلامه، بكبرياء ناقص وسخرية فائضة تكلم أمي أو إمرأة عمي الآخر، تسأل أمي عن أعواد القصب أو عن فائدة الاستحمام بالماء الساخن، وتضحك بالألم، وحين يجرفها الحنين إلى صدر أو فخذ رجل، حين تتعب من مقاومة لنفسها، تستوقفنا جميعا نحن ابناء أخوتها بعد أن تنتهي من الخبيز تخلع لنا بنطالاتنا إذا توفرت، تربط قضيب كل واحد منا بعود رفيع من القش وتقول لكل واحد منا بصوت مبحوح وشبق مكتنز في العيون: إذهب لأمك .
في الماضي كان الرجال يخرجون للرزق أو هرباً من الحكومة، يدوسون في البراري ،قد يموتون في أية لحظة، لكنهم يتزوجون واحدة ثانية بعيدا في محاولة واضحة لمقارعة الموت والغياب الذي قد يطالهم في أية لحظة، ضد القتل او السجن الذي يلاحقهم، حياة صاخبة على كف عفريت وتبقى النساء وحيدات إلا من الغناء بالوجع، يتقلبن على الصبر والجمر ويحكين بالايماء، بالضجر .
فيما بعد خرج الشباب إلى العراق ودول الخليخ، وراح الذهب الذي يلمع في أياديهن علامة واضحة على غياب ما وأن اللمعة هنا والأصل هناك . وانتشرت في تلك الفترة الأغاني التي تتحدث عن الغائب البعيد الذي سوف يأتي بالكاسيت الجديد والذهب الأصفر من بلاد الذهب الأسود .

لم يكن هناك وجع ظاهر في تلك الأغاني، كان وجعاً يمكن الانتصار عليه بالصبر الخفيف، بالعودة القريبة المتاحة على عكس الأغاني التي كانت في الفترة الأولى مرصوفة بالحنين والشبق الكامن تحت طبقات الجمل ورائحة الشوق واللوعة .
في يوم 11 سبتمبر 2001، سجل أن هذا اليوم هو من أكثر الأيام في تاريخ اميركا ممارسة للجنس، هرع الناس إلى ذواتهم إلى آخرهم ليقاوموا رائحة الموت التي تحوم حول أنوفهم، ليستعيدوا الحياة لينتصروا في معركتها.
في بلادنا يهاجر الرجال، وبعد سنتين أو أكثر تسمع عن واحدة تلد، لتقول واحدة أخرى: طفل راقد في بطنها، أنت امام تواطؤ كبير ومحاولة ولو بطرق أخرى تستجيب لنداء الحياة وتقارع الموت .
الايروتيك يكاد يكون فعل الحرية الوحيد المتاح للجميع، الفعل الذي يشي بأن الروح والجسد مازالا على أتم استعداد، وأن الحياة يجب أن تظل في مرمى اليد، أظنه أنه في كتابتي القليلة يكاد يحضر موازياً لفعل البقاء نفسه، أحدهم في بلادنا اختفى بعيداً عن أعين الحكومة وحين عاد وجد زوجته تزوجت عليه دون طلاق ولا غيره، وحين طلب منها العودة رفضت، لقد أعجبها الرجل الآخر .
في 'أحمر خفيف' هناك المغنية العمشاء التي تحب المقرىء الأسود، تحيك له الحكايا وتحبك له القصص وترفع ذيل ثوبها مرة وتتغنج أمامه ألف مرة ليقع في حبائلها، وفي النهاية وبشجاعة تكاد تلامس شخصية في الحياة لا شخصية في رواية تقول له بكل وضوح رداً على سؤاله : أنها لا تعرف إذا ما كانت جارتهم ساخنة في الفراش أم لا، لكن الذي تثق فيه عين اليقين كما تراه بأم عينها أنها ساخنة حتى لو سقطت في المحيط في عز البرد .
أنت امام تجل واضح لحضور شهوة الجسد وتحدي العطش وألعاب لم تعرفها حتى سالومي نفسها .
5
ـ يحضر الحوار في نصوصك السردية بكثافة وبوصفه كاشفا للأغوار السحيقة للشخصية في ارتباطها بالفضاء والتاريخ، ويعزز ذلك استعمال مكثف للهجات المحلية. يضفي كل ذلك على عوالم رواياتك طابعا سينمائيا. كيف تفسر تقاطع اشتغالك السردي مع تقنية الكتابة السينمائية؟
أنا من عائلة حكائين، يمرعليهم الليل ولا تنتهي حكاياتهم، أبي وأعمامي الأربعة من المحترفين، تاريخ المنطقة صار عجينة بين أياديهم، ربما اللغة كانت ضيقة في أوائل تاريخ المنطقة، هكذا أخمن، الذين جاءوا من الصعيد مع الهاربين من مناطق أخرى، كأن الأمر في ذهني كان يستدعي جملاً قصيرة موحية، من هنا جاءت قوة الأمثال، إنني أرقب ذلك أحيانا عندما أستقر بالمغرب العربي، المثال الساطع في تونس، عندما تتوه بين لغتين تصعد الأمثال من لغتك الأصلية لتكون دالة ومحكمة وواضحة، لا أعرف إذا كنت أهرف أم لا، مع الوقت نما الحوار عندنا واشتعل متماهياً مع التاريخ المغلف بالدم الأحمر والدم الأبيض لمنطقتنا ليصبح البطل الذي يبقى أحياناً في ذهنك من شخصية ما .
السرد يصنع فضاء الحكاية، الأشكال، هل له أسنان ام أنه أدرد، الملامح، لكن الحوار يضع رائحة الشخصية بين يديك تماماً، الكلام المنهمر من فمه أو المقتضب قد يدلك على طبقة الصوت، على تقاسيم الوجه، على تلك السخرية التي قطعت صفحات لتنجزها، انشغلت باللهجات المحلية العامية عندنا والمحكية أحياناً في لبنان، أتصور أن هناك لفظاً عامياً يأخذك تماماً إلى قلب المعنى، ويحمل الدلالة الساخنة، قرأت مرة كتابا لشوقي ضيف عن العامية الفصيحة لكنه لم يشف غليلي، وبقي ريفنا يفيض بخليط لهجات أجدها عند السفر من بلد لآخر .
هناك حوارات بالفصحى البسيطة كحوارات نجيب محفوظ، كنت أرقب كيف يفعل سعد الله ونوس عندما يكتب حواره بالعامية السورية كي يصل إلى الشحنة التي يريد بها أن يشحن النص ويحييه، ثم يعيد ترجمة هذا الحوار إلى فصحى بسيطة، لكنني أعترف انني أكاد أمقت حوار الفصحى مهما كان رأي سالم حميش، ولا أريد أن أغادر حوار العامية إلا مرغماً، ولا أعرف إن كنت قد ارتكبت خطيئة كبرى عندما وضعت بعض الألفاظ العامية أحيانا داخل السرد مما أنتج لغة هجينة التفت اليها الناقد الكبير محمد برادة، لكنه كان خياراً وغراماً لا أعتذر عنه، ربما قلل من مستوى القراءة في بعض البلدان العربية، لكن كل عمل يأتي بلغته التي أتمنى أن تشبه شخصياته .
كأنني في لحظة ما قبل الكتابة كنت أريد أن أجرف هذا الشفاهي معي إلى متن الكتابة .
عندما تفتش عن ما تحت الكتابة، ستجد أنني قد أصبح مغنيأ يوماً ما ولو طلباً للمتعة، أحسد الرسامين، أشعر انهم كائنات الله الأولى، لكنني كنت أحلم دائما بالسينما ذلك العالم السحري للغلابة أمثالنا بما هو أبعد من الحلم، كنت أحلم ربما بسينما المؤلف قبل أن تظهر، أضع الموسيقى، أنسق الأضواء، وأحرك الممثلين .. ديكتاتور طيب يصنع عالماً من فضة ونبيذ، لكنني ربما كنت مشغولاً في الأساس بتقطيع المشاهد، بالصورة البصرية، بوضع الكادر، الأصوات، حساسية الضوء، أحاول أن أكتب بالضوء الهارب من صوت نجاة الصغيرة، وبالطبقة الأجش من صوت زياد رحباني، مازلت احلم أن أكتب كما يغني، الألوان، مازلت أفكر في اختراع ألوان جديدة، الفلاش باك ليس من البداية فقط، بين المشاهد وبعضها، استدعاء الشخصيات بنعومة فائقة مبررة أو صادمة، بتقطيع المشاهد كأنني مونتيرا منذ ولدت، هذا التتالي البصري كأنك ترى، لا يمكنك أن تكتب رواية صوت دون أن تكون واقعاً في غرام السينما .
6
ـ رواية ' أحمر خفيف' تمثيل سردي قوي لصراع الموت والحياة في فضاء الصعيد واحتفاء قوي بالظلال الوارفة للإيروس. كأنني أرى في هذا العمل المثير بخصوبة وسحر وغموض علاقاته ورؤاه تعبيرا عن سيرتك الشخصية وتفاصيل 'ولعها بالحياة ومباهجها'. الرواية أيضا تعبير سردي عن الحب والشهوة باعتبارهما سبيلين تسلكهما الذات في غمرة توحدها بالحياة. هل يمكنك أن تسلط الضوء أكثر على عوالم هاته الرواية الجميلة؟
*
أكاد أدعي أنني شخص مبهج واقع في غرام الحياة مع أن زوجتي تقول غير ذلك وتضيف: إنني أغربل الهم في أيام العطل الأسبوعية تحديداً،
أنا عاشق كبير وقديم يا سيدي، وتؤمّن إحدى صديقاتي على ذلك، إنني أكاد أتشابه مع إحدي شخصيات روايتي القادمة، والذي تتحول حكاية حبه إلى عدوى للآخرين، أنا أحب شخصياتي حتى الأشرار منهم، أكون سعيداً عندما يكتب أحدهم هذه الجملة أو ينتبه لتلك العلاقة بيننا، أنا احياناً أضحك فينبهني احدهم ويسألني : فاقول كما قال أحدهم إن احد الشخصيات في روايتي قال جملة أضحكتني .
اشعر أن الشيخ حامد بطل 'ألعاب الهوى' أخف دما من نجيب الريحاني نفسه، بالمناسبه رسمت ملامحه كذلك أو أكتشفت أنه يشبهه بعد ذلك، صدقني ما من مرة مررت به إلا وضحكت أو ابتسمت، فضحتني عناية جابر حين قالت لا تصدقوا وحيد الطويلة، ليس هناك شخص اسمه الشيخ حامد، وحيد هو الشيح حامد نفسه !!
'
في أحمر خفيف'، محروس بطل الرواية نسخة من أبي، كتبته دون أن يكون في ذهني، وعندما انتهت الرواية صدقت ذلك، عزت العاشق المتعدد صاحب واحدة من الجمل المثيرة(آه يا ملبن، حاشيينك ملبن ) جنات التي تريد أن توقظ حبيبها الباحث عن ملك الموت ليفتك به، ترجه بكل أحابيل الأنثى وعشقها، بكل ما تعنيه كلمة إمرأة، كيان إمرأة عطشى، انصاف ابنة بطل الرواية هي الضمير، نحن عشنا في مصر بلا ضمير لفترة كبيرة، عندما تدخل مبنى التليفزيون المصري ستصدمك لوحة الاعلانات في وجهك: مات فلان، ابنه في القطاع الفلاني وبنته الصغرى مذيعة وبنته الكبرى كبيرة المذيعات، وخالته وعمته، التوريث في مصر بدأ منذ سنين على لوحات ونفوس سوداء، والقهر عم المجتمع، هل هذا هو السبب الذي دفع ناقدا نحريراً كعبد المنعم تليمة ليقول ان الرواية ضد القهر والتوريث في كل العصور، لقد صمتت وقتها حتى لا يأكل السياسي الفني فيها، غزلان العاشقة، أبوالليل الذي أحبه أكثر من كل الشخصيات، صائد الفرح والليل .
رغم الجذام فهو يضحك ويسخر من الحياة، عنيد يقض مضاجع من يقضون مضجعه لكنه في آخر الليل يعود طفلاً يحلم بنجمة عابرة تجري وراء شيطان لتحرقه، وربما تتعطف وتنعطف وتحرق جذامه ليبرأ، يحلم ولا يصدق خزعبلات المتاجرين بالدين، ولا يسمح لسوأته أن تطغى على عقله ولا على حلمه، لا يسمح للقهر أن يتسلل إلى روحه مهما كان .
أنا عاشق كبيروقديم يا سيدي، البنت التي كنت أحبها في مقتبل العمر كانت تلعب معي لعبة أضلاعها الموت والحب والجنس، مرة بعد مرة يدور السهم ليرشق بالحب أو الشهوة، ولم يقترب أبداً من الموت، أكتب عن الموت واخافه لكنني أعشق الحياة، هل أكتب عنه بكل هذه السخرية في العاب الهوى لأهزأ منه، هل أكتب عنه في أحمر خفيف لأواجهه، لا أعرف، لكن ما أعرفه جيداً أن الحياة جميلة ،انها تستحق أن تعاش بكل البهجة رغم مفاجأتها السيئة .هل محروس هو أبي، هل هو القيمة، هل هو المخلص الذي لم يكن أحد في مصر ينتظره بعدما تعب الناس من الحلم وناموا في الفساد، هل هو الوطن؟، الأبنودي في لحظة مكاشفة قال : هل هو الشعب المصري ؟، والنعش تحرك من مكانه أمام المستشفى ليفسح للأمل، والملائكة تفرقت لم تستطع أن تقبض روحه .
بكل نرجسية لم أضبطني متلبساً بها، فإنني أنظر بكثير من الرثاء والشفقة والتسامح أيضاً لهولاء الذين قالوا أن أعمالهم تنبأت بالثورة !!!
أماني فؤاد
7
ـ أنت كاتب عاشق للسفر والانتقال بين الأمكنة ولك ولع خاص بالمقاهي. ذيلت في هذا الصدد روايتك 'أحمر خفيف' بأسماء المقاهي التي كتبت فيها روايتك. تقيم بالإضافة إلى ذلك في تونس وكنت أول من نقل خبر فرار الديكتاتور زين العابدين بن علي إلى السعودية. أنت معروف أيضا بعلاقاتك المتميزة بكتاب ومثقفي المغرب العربي. هل يمكنك أن تحدثنا عن تأثير 'السفر' على تجربتك الإبداعية ومعرفتك القوية بالمنجز الثقافي والإبداعي للمغرب العربي الذي يعاني من تجاهل وسوء فهم في مشرق الوطن العربي؟
*
هذا سؤال يحتاج لحوار وحده، لقد كانت لحظة خروج بن علي هي أكثر اللحظات دراماتيكية، كنا أمام وزارة الداخلية أنا والقاص التونسي سمير بن علي (تشابه أسماء) الذي أكد لي الخبر من عدة مصادر، لم أبك منذ وفاة عفيفي مطر، تحدثت لمدة نصف ساعة متتابعة دون توقف عن الكلام أو البكاء، خروج ديكتاتور من على مقعده في العالم العربي كانت اللحظة الأكبر والأكثر إثارة مهما كان حلمنا بها، لقد نمت في المقهى طيلة أيام الثورة في تونس، أقول كنت أبكي ورغم طغيان وجوده ولحظة خروجه لم أنس ديكتاتور مصر ولا ديكتاتور سورية تحديدا، أشعر الآن أن روحي لن تتحرر حقيقة قبل تفكك النظام في سوريا، البعث السوري هو أقبح الأنظمة في تاريخ الدنيا كلها، إنه لا يقتل الناس فقط، إنه يستغفلنا وينظر إلينا كالهوام، إنه يبحث عن حيوانات مدجنة وببغاوات خائفة مرعوبة لتسبح بحمده أنى أطل بوجه القبيح، تحاذر التليفون وحتى الحيطان وحتى الأطفال كما يقول مظفر النواب !! هل تصدق أن هذا النظام الأبشع هو أكثر من أسدى خدمات لأميركا في حربها المزعومة على الارهاب، وبعد ذلك ينفخنا بالممانعة الفارغة، هذا النظام الذي قتل الناس وقمع المبدعين، هل تصدق أن ممدوح عدوان كان يقول : سأقابلك في ساحة السيد الرئيس، لا يجرؤ أن يقول ساحة الرئيس .
المرأة رئة الكون ووجهه، أنظر لكل هذا الجمال الخارجي في سورية الذي ينبع من جمال داخلي باذخ ونادر، كيف تحب النساء في هذا الجو الملوث بالخوف الأسود !! جفت الأنهار لا العاصي ولا بردى، وديك الجن الحمصي يغني كان وحيداَ ضد النظام في مطعم بائس في حمص، حتى ديك الجن قطعوا حنجرته .
السفرهو المتعة الكبرى بعد معرفة البشر، أنا عاشق للبشر أينما كانوا وباي وجه أطلوا، كل من تعرفه في السفر يضيف لك وتستمتع به بعيداً عن البحث، أنا رحالة كمغني التروبادور، أغني أيضاً أينما حللت للجمال بأي لغة جاء، أحمل قلبي على كفي كنساء طيبات ضاحكات بألفة ناصعة لم يعدن موجودات إلا في حواديت الجدات، ولتمطر متى شاءت .
.
في السفر تقابل نفسك على حقيقتها .
نعم أحب المغرب العربي بأطيافه وأحب سوريا، تربيت فيما تربيت على الوارد من لبنان، لكنني غفوت كثيراً في المغرب العربي، لن اتحدث لك عن عبد الفتاح كليطو أو الحبيب الدايم ربي ولا عن برادة أو ولا انيس الرافعي أو مصطفى ملح والقائمة تطول للصباح، لكنني اتوقف عند عبدالوهاب الدوكالي ونعيمة سميح، كان عفيفي مطر يرمينا بكل الحوشي والغريب من الألفاظ ويقول قولته المشهورة : لو لم استعمله لمات، سيموت جزء من روح الكون، ما ببالك إن كنت لا تعرف الدوكالي ونعيمة، ستكتشف متأخراً أن بهاء فاتناً يصدح بالكون قد فاتك وقلبك مغلق، هل هي الرغبة الجامحة في الانصات الى أصوات أخرى كما يقول لوكليزيو ؟ أصوات لا يدعونها تصل إلينا، أصوات أناس نحن لا نسمعهم، ذلك أنهم اختفوا لفترة طويلة بفعل فاعل، أو لأن عددهم ضئيل، غير أنه بامكانهم أن يقدموا لنا أشياء كثيرة .
اسمع، لا تذهب بي بعيداً، هل تصدق أن مشروعاً كبيرا كمشروع الرحابنة لم يسمع جيداً في مصر وأن فيروز لا يعرف البعض نصف أغانيها، لم تغن فيروز باللهجة المصرية فهجرها المصريون إلا من رحم ربي، الجيل الجديد يحاول، المصريون كانوا معذورين لزمن طويل، عندهم نجيب محفوظ والعقاد وام كلثوم وعبد الوهاب وتوفيق الحكيم وجمال عبد الناصر ومصطفى اسماعيل والأبنودي وفؤاد حداد وجاهين وهيكل، لكنهم كانوا حضناً واسعا وبيئة حنوناً، المشكلة أنه تم تمصير كل شيء ولو دون قصد، يأتي وديع الصافي فيغني بالمصرية ليقبله المصريون، ويفوتك كنز من البهاء حين يغني بلغته هل أتحدث عن الغناء أكثر لأنني أعد نفسي لأكون مطربا؟ - لا تنس أن محمود درويش والطيب صالح تم تعميدهما في مصر، مع الوقت مع هبوط زمن الرداءة علينا من علٍ لم نعد نتذكر حتى مبدعينا، حينما انطلقت كلمة الريادة التافهه في الفضاء كان ذلك النذير الأول بأننا أفلسنا أو أن غثنا أكل سميننا وطغى عليه، عشنا عصراً من الانحطاط رغم وفرة مبدعينا، لعل أعلام الثورات العربية تقرب البعيد .
أكرم المغرب العربي وفادتي، المغرب تحديداً، احتفوا بكتابتي، وجعل بعضهم من مجموعتي القصصية الأولى (خلف النهاية بقليل) باب ضوء حين يشار على القصة القصيرة جداَ، ولا يتردد مبدعوه حين يتجاوزون أنا الكاتب ليشيروا عليً بمحبة وتقدير كبيرين .
أنا كاتب مقاه من الطراز الأول، أقع في اللائحة القصيرة ومكاني محفوظ فيها، وما رئاستي المزعومة لدولة المقاهي إلا أحد تعابير السخرية القصوى من طول جلوس حكامنا العرب على قلوبنا .
أعود لمقعدي في المقهى فأجد شياطين الكتابة تتقافز من الكرسي حتى الباب، لا أستطيع أن أفعل كما يفعل أورهان باموك حين يتوحد بطاولته في غرفة بحيطانها لعشر ساعات، لا أوافق على كلام سليم البيك حين يستغرب الكتابة في المقهى بما هي انتزاع لحالة التوحد مع الذات، يقول آدم فتحي في إحدى قصائده :
وأنا.. مجنونُ الزحْمةِ وابنُ العفّةِ والشهْوَةْ
وحفيدُ ديونيزوسَ وآبولونْ وأبي ذرٍّ وأبِي نوّاسْ
وطني منفايَ وصومعتي مقهايَ وليس لِمِثْلِي خُلْوةْ
إلاَّ بينَ الناسْ...

لا أفقد قدرتي على الانبهار بالحياة والكائنات، أسافر وأكتب عن قريتي، لكني لا أكتب بالحنين، لم يعد عندي حنين للمكان، ربما مازال منه بعض البراءة والسذاجة والوجع الكبير لهؤلاء الذين يعيشون بلا أمل، وينتظرون المخلص دون كلل، حياتهم بدائية رغم وسائل الإتصال الحديثة، يحكون بالهاتف النقال ويضربون بعضهم بالعصي عند أي خلاف، على أية حال هي مسافة الكتابة دون حنين، أو ربما هو تصيد الحنين، فقلب الطفل مازال في قلب الكاتب .
8
ـ هل تعتقد أن الربيع العربي والحراك الثوري الذي تمخض عنه قد يسهم بطريقة أو بأخرى في تجاوز الأعطاب التي تشل جسد الثقافة العربية وترتقي بها إلى مستوى الحضور الإيجابي والفاعل في العالم؟ كيف يمكن للرواية بما هي شكل تعبيري أن تؤرخ لهاته التحولات؟
*
ما حدث كان رائعاً بالتأكيد، الناس في مصر كانوا قد يئسوا يأساً لا فكاك منه، حتى فكرة البحث عن المخلص كانت قد ماتت من فرط اليأس ومن الشلل الذي ضرب كل شيء بسبب الفساد العارم، قد يكون حظ تونس أفضل منا على سبيل المثال، رغم تدني مستوى التعليم في العالم العربي بشكل عام، فإن تونس والأردن كانتا تجيئان على رأس القائمة الأفضل دائماً، لكي يقف الناس معك فعليك أن تعلمهم، ان تعطيهم الفرص التي يستحقونها، ومهما كانت آراء التونسيين في بورقيبة، فمما لا شك فيه أن محاولات التحديث أسهمت في الوعي العام، لن أنسى مشهد جليلة بكار والجعايبي حين زحفت الثورة للعاصمة والضرب ينهال عليهما لكنهما كانتا في الطليعة مع آخرين، لا تستطيع أن تغفل مغني الراب الذي خرج يواجه بن علي وحده، الأخيركان يهدد في خطابه الأول، يدق الطاوله ويحذر بإصبعه، والمغني رد عليه في اليوم الذي يليه بأغنيته التي قضت مضجع النظام، أطلقها كصرخة : لا تضع إصبعك في أعيننا .
في مصر خرجت الثقافة من التعليم من زمن طويل، لكن أبناء الطبقة الوسطى تحديدا والتي حاول هذا النظام تحطيمها بغباء منقطع النظير دافعت عن وجودها، كان كل هم النظام السلطة، استحوذ عليها ودافع عنها بكل ما امتلك من بطش، ما يحزنك ان قطاعاً كبيراً من المثقفين في مصر دخل الحظيرة بساقيه، الذي يدعو للألم والرثاء أن هناك مثقفين قفزوا في مركب النظام قبل سقوطه بدقائق، قفزوا على دم الشهداء والأنكى أنهم قفزوا على الحقائق التي عاشوا عمراً يبشرون بها .
الذي يغيظك أيضاً أن السياسي لم يأكل دور الثقافي فقط، بل ان الثقافي حاول أن يأخذ دور السياسي تاركاً معقده الحقيقي .
أخذ النظام السلطة وترك للمتطرفين والجهلاء أن يستحوذوا على عقول وأفئدة الجزء الأكبر من الشعب، هل تستطيع أن تناقش مسألة ما من وجهة نظر ثقافية، سيأكلك المقدس بسلاحه الأمضى .
على أية حال لا يمكن أن يكون ما حدث من قبيل العبث، لكن علينا أن نعترف أن جزءاً من ثقافتنا مازال ثقافة ماضوية بكل أسف رغم كل محاولات التحديث، في مصر تباشير رغم كل هذا الجدار القاسي الأحادي، إذا نظرت إلى وثيقة شيخ الأزهر الآن في مصر والتي تتبنى أفكاراً مدنية وتقبل بالحوار قد تشعر ببصيص من الأمل، لكن الأمر يحتاج لسنوات أيضاً، لقد انتفض الجسد بعدما تم نخره وعلينا اصلاح الأعطاب مستمدين قوتنا بثقافة حية تملك اصرارا ً على الفعل والمعرفة، علينا أن نكون بشجاعة الثورات التي شهدناها، لقد عاب عليَ سعيد الكفراوي أني أيقظت محروس بطل 'أحمر خفيف' من موته، لكنني ربما كنت اتجاوز الفني إلى الواقع، لعل محمود درويش كان حاضراً حين قال ان علينا أن نربي الأمل .
هذه الثورات فتحت طاقة أمل في الأفق العربي المسدود، وحطمت يد القهر الغليظة، فانطلقت طاقتها المعدية لتحطم، ولاتزال، بنية القهر والاستبداد في الوطن العربي، لكن علينا أن نواجه الجهل والذين يريدون لنا أن نعيش في الماضي، لا ننتج شيئاً، وندعو على الكفار الذين قدموا لنا الهاتف والحاسوب، ونقول أنهم كفار لكن الله قد سخرهم لنا لينتجوا لنا ما نحتاجه .
لست متفائلاً في المستقبل القريب، هناك من يقول ان الثورة صنعها الله ليجبرك على الصمت، وهناك من يكرة الثورة نفسها وحين حضرت كان أول من اعتلاها وأخذها في وجهة أخرى، أعجبني تعليق على توتير يقول أن محمد عبده كان في الصورة الخلفية لثورة 1919، أما ثورة 2011 فكان هناك الشيخ محمد حسان، لكن هؤلاء الذين تسلحوا بالمعرفة والعلم وآمنوا بالمستقبل واخترعوا ثورة الفيسبوك، لن ينحنوا أمام هؤلاء الذين يريدون لنا أن نعيش في الماضي .
آلمني كثيرا أنه حين احتلت أميركا العراق لم تخرج المظاهرات في عالمنا العربي، خرجت فقط في أوروبا وغيرها لتدافع عن حريتنا، عن الحرية بالمعنى ثم ذهبنا بعد ذلك لنقتلهم في محطات مترو الأنفاق دون مقاربة آنية، فأظن أن الرواية كانت تهجس بالتحولات سواء كنا نرى الواقع أو قفاه، طعم الطبخة مازال على اللسان حار وممتع، وحينما نبتعد عنها قليلاً سنقول رأينا الحقيقي دون مؤثرات اللحظة، عزت القمحاوي الذي ناضل طويلاً ضد ثقافة العبيد التي ابتدعها النظام السابق كان يخرج مع ابنيه معظم الليالي ليبيت في ميدان التحرير، قال لي ليلة موقعة الجمل : لقد عثرت على الرواية في تلك الليلة.


حوار مع الروائي المصري وحيد الطويلة




حكمت الحاج


بعد صدور روايته الأولى "ألعاب الهوى"، الكاتب المصري وحيد الطويلة: "أكتب بين معطف جدتي ومعطف غوغول..."
إلتقاه: حكمت الحاج/ تونس

وحيد الطويلة: كاتب مصري من مواليد 1960، يقيم حاليا في تونس. له في القصة القصيرة مجموعتان هما: "خلف النهاية بقليل" والتي صدرت عن منشورات مركز الحضارة العربية بالقاهرة عام 1997. ومجموعة ثانية بعنوان "كما يليق برجل قصير" وقد صدرت عن الهيئة المصرية العامة للكتاب عام 2000. صدرت له قبل أيام عن دار "ميريت" بالقاهرة وضمن سلسلة تجليات أدبية، روايته الأولى تحت عنوان "ألعاب الهوى". هنا حوار مع الكاتب أجريناه في تونس بهذه المناسبة:
* كيف تنبئنا عن نفسك؟ سيرتك؟ وضعك ككاتب؟
- أعلق على باب روحي كلمة للشاعر "سعدي يوسف" تقول: "عش في الهامش واكتب في الواجهة".. ولكن حتى الواجهة سرقها برابرة العلاقات، والهامش يميد بنا ويتخلى عنا كلما عدنا إليه.. وأمام سؤالك البسيط، ولكن الخبيث أيضا، أكاد أجزم انك تريد أن توقع بيني وبين نجيب محفوظ. فرغم انه حصل على جائزة نوبل للآداب إلا إن مجموعتي القصصية "خلف النهاية بقليل" قد طبعت ثلاثة مرات، وهو ما لم يحدث له، وهو الروائي بامتياز...
* كيف حدث انك ذهبت إلى القص والحكي؟
- كأنه سؤال الوجود، أو دخان الأسئلة التي تنام تحت إبطك.. تفاجئك.. كأنك تراها لأول مرة.. أنا من منطقة فسيحة البر، كانت أرضها قاسية، ورجالها غلاظ، يخرجون ولا احد يعرف متى سيعودون.. هل في منتصفات الليالي، أم تذهب أجسادهم قبض الريح؟ وعلى ضوء لمبة صغيرة بشريط قماش، تخرج جدتي من جرابها الحكايات والبطولات الكاذبة لأجدادي ومن جايلهم، بينما شواربهم تتراقص على الحيطان.. يخرج الرجال ويتركون النسوة بمسافة الشوق والخوف من المجهول.. ومن حيرة أن لا يعود الغائب، أو من أن تصادفه طريدة أخرى في الطريق، ما بين الشوق والخوف، تولد الحكايات.
لأعترف، فأنا ابن حكّائين عظام، لذا فقد يخفي سؤالك عن المسافة بين الشفاهي والمكتوب سؤالا آخر يقول هل أن الحكاية أتت إلي أم أنني أنا الذي ذهبت إلى الحكاية؟ يقول الشاعر عزت الطيري "أحلم أن تحلم فاتنة بي وتقص الحلم علي..". فأينا يقص الآخر؟ أينا يذهب إلى الآخر، أنا أم الحكاية؟ لا أكتمك أنني أعد العدة للحكاية وأقتنصها في الوقت الذي يليق بها وكأنني أقابلها لأول مرة، أو كأنني لم أشاهدها في الحلم ليلة أمس. أجدادي الذين حكيت عنهم في روايتي هذه، كما في قصصي السابقة، يدعي أخوتي أنهم سرقوا النار ليعيشوا، وأنا أؤمن أنهم سرقوا الغناء ونسوا أن يسرقوا حكاياتهم.. مضوا بسيوفهم الخشبية وتركوني أغني وراءهم.
* ما هي مراجعك في الكتابة القصصية؟ هل تركز على "الحياة" أم على "التراث" القصصي المدون؟ إذا كانت الحياة هي المرجع، فكيف تنظر إليها كمادة قصصية؟ وإذا كانت المدونة القصصية هي المرجع، فما هي مصادرك؟
- لا شك أنني اكتشفت الحياة ذات يوم عبر هذا التراث القصصي المدون الذي فتح عيني على عوالم أخرى لم اعرفها، أو كنت اعرفها ولكنني لم أكن اعرف كيف انظر إليها.. نصوص تدفعك لأن تمسك بأطراف حياتك.. لكنني عندما اكتب فإنني أكون على مسافة انزياح حقيقي عن الحياة أو الواقع، بين قوسين.. هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فان بيني وبين التراث القصصي المدون انزياح آخر يؤدي بي إلى إنتاج نص نغل، نص لقيط، لا هو ابن للحياة شرعا، ولا هو ابن للتراث القصصي المدون نسبا. انه نص أب شريد وأم عاهرة. وهكذا أخرج من معطف جدتي، ومن معطف غوغول في نفس الوقت، لأكون نصي وحدي.
* أعتقد انك كقصاص ضائع ما بين الشعر والرواية، فإلى أي مدى يكون هذا الكلام صحيحا؟
- أعتقد كما شئت.. فأنا كما قلت لك سابقا، ابن قبيلة ارتحلت طويلا حتى استقرت في مشوارها الطويل. فكان عليها أن تـَسْرِقَ كي لا تُسْرَقَ، وأن تسقط أعمار أبنائها في الطريق. لذا جاءت حكاياتهم كرواية وجاء سردهم كشعر.. لا تستغرب، إن معظم المواويل التي عشنا عليها جاءت بإيقاع محكم يسكه الرجال ويلوكونه ويتركون الحكاية للنساء بكلمات مسجوعة وسرد متمكن. لقد أخذني هذا السرد المنطوق شعرا لفترة طويلة. في السيرة الهلالية كثيرا ما تتوقف الحكاية ليقول الشاعر.. وجدتي كانت تقول كل صباح "إصح يا بني الشمس يحيي على الحيط.." ويقول الشاعر عبد المنعم رمضان إنني اكتب قصة صوت، يسمعها وهو يقرؤها، وكأن هنالك من يتلو عليه..
يبقى لي القول إنني أرى القصة لحظة عصية على الإمساك بكل ما فيها من توتر وكثافة استخدم فيها طرائقي التي أحبها وإنني أظن أن كل قصة أو رواية إنما تأتي بلغتها معها. قد لا أحب السيرة الهلالية، لكنني أحب الذين أحيوها سردا وشعرا. انظر حولك ترى قصيدة النثر تتلبس بالسرد وتبتعد عن الإيقاع وتروم موسيقى داخلية، رغم اعتراض من يرى إن الإيقاع ضروري لتميز الشعر عن السرد. ربما تفوح من نصوصي رائحة إيقاع ما، كرائحة الإيقاع في الشعر، لكنه ليس هو تماما.. ألم أقل لك إن نصي هو نص لقيط؟
* لماذا الرواية إذن؟ هل ستستقر فيها كنوع أدبي، أم أنها مكان للاستراحة، ومن ثم العودة إلى نوعك الأثير: القصة القصيرة؟
- أكتب القصة القصيرة وأحبها فنا عصيا، رغم إنني اعرف إنها باتت شهيدة هذه الأيام. لكنني أحب السينما والغناء والفن التشكيلي وشموخ أنف "فيروز" ووجوه الغلابة في قريتي.. إن الرواية كما تعرف تسمح بالفنون القولية وغير القولية، وتسمح بلعبة الصراع التي قد أنأى عنها في حياتي قدر ما أستطيع، وأمارسها على الورق.. لذا كتبت هذه الرواية التي لا اعرف إن كانت استراحة أم لا.. أعرف إنني سأعود إلى غرامي الأول، القصة القصيرة، لحظة ما، فإن بيني وبينها غرام متأجج دوما. وهي قد تفسح في المجال لامرأة لعوب أن تسكنني حينا، لكنني سأعود إليها وسأفارقها مرة أخرى.. وهكذا.. ولكنني عندما أعود إليها سأقول لها إن دارها لم تكن لتتسع لكل أولئك الأحبة الأوباش الذين سكنوا دار الرواية، وسأحاول أن أكذب عليها بأنها كانت ستعاني من آلام الولادة كثيرا لو تزوجت شخوص الرواية لذلك فقد أرحتها كي يبقى جسدها دائما كغصن البان ممشوقا كلسعتها الجميلة.
* أخيرا، من تريد أن تذكر من أصحاب التجارب القصصية والروائية التي أَثَّرَتْ فيكَ، وأَثْرَتْكَ أيضا؟
- قد تعرف أنت وغيرك جيدا أنطون تشيخوف، زكريا تامر، يوسف إدريس، بورخس، ماركيز، وإبراهيم عبد المجيد، وإبراهيم أصلان، وجمال ألغيطاني، وإدوار الخراط، لكنكم قد لا تعرفون طاهر الشرقاوي، ونجوى شعبان، وشريف صالح، وأنيس العلوي، وجمال أبو حمدان، ومحمد بركة، وجرابيع آخرين في هذا العالم.. أشتاق كثيرا إلى قصص محمد خضير، ويأخذني عالم زيد مطيع دماج، وخيري عبد الجواد. أحب محمد مستجاب كثيرا وألومه. ولعلك سمعت بعبد الحكيم حيدر أو منال محمد السيد، وربما ياسر عبد اللطيف، بينما يفاجئك حمدي أبو جليل قصا ورواية.
لعلني أحاول أن أقرأ الأدب الكلاسيكي بالمعنى الذي تحدث عنه إيتالو كالفينو وهو انك بصدد إعادة أدب سبق لك وأن قرأته. ولعلك هنا تلاحظ إن هنالك أسماء كثيرة غير معروفة لكنها تحفر بعمق وتملك الموهبة والحلم.. قد تأخذك للحظة خلطة إيزابيل الليندي، لكنها قطعا ليست فتنة ماركيز. هنالك أسماء تبدو فرادى من هنا وهناك، إلا أنها تحفر عميقا في روحك.. ثمة نصوص تأخذك إلى المتعة، وثمة نصوص تدفع بك إلى الكتابة، وكلن تلك مسألة أخرى قد نثيرها معا ذات حوار.

وحيد الطويلة يضفي الواقعية السحرية على أساطير الريف
"أحمر خفيف"..حكايات النهار الأخير


يقدم الروائي وحيد الطويلة في روايته الجديدة "أحمر خفيف" عملاً يجمع بين الواقعية بكل تفاصيلها الدقيقة، والأسطورة بكل غرائبيتها وملامحها التي تثير الدهشة
وما بين الواقعية والأسطورة يولد عملٌ بداعي مهم، يخطو خطوة جيدة فوق أرضٍ بِكر، إذ ينقلنا وحيد الطويلة نقلات متلاحقة ما بين عالم الريف والحضر، ويستدعي حكاياتٍ تتناقلها الأجيال ورموزاً لا تُنسى ويقدم لنا معاني أكثر عمقاً لمفاهيم العائلة، الصراع، النفوذ، الغرام، والرغبة، والأهم: كرامة الإنسان
تبدأ الرواية الصادرة عن "الدار" للنشروغلاف الفنان البارع يوسف ليمود بمنتصف الحكاية أو قرب النهاية بقليل، إذ يرقد البطل "محروس" في المستشفى في حالة خطرة بعد تعرضه لإصابة تكاد تكون مميتة، فيقول وحيد الطويلة:
"النعش على باب المستشفى، والملائكة أيضاً، وإن تجولوا بسرعة في ردهاتها القذرة حين يشعرون بالملل، في انتظار ساعته، وإن بددوا سأمهم أحيانا بقبض روح أو اثنتين".
ومثلما بدأت الرواية بالمستشفى قبل أن ندور في شوارع وأزقة البلدة التي تشهد قسماً كبيراً من الأحداث، ينتهي العمل الروائي بالمستشفى حيث "النعش ليس على باب المستشفى، والملائكة تفرقت".
وما بين المسافتين، ندرك ونحترم كرامة وكبرياء محروس الذي أصبح صوت القرية في وجه قاتل مأجور أو معتدٍ أراد الظفر بما هو ليس من حقه. حتى شخصية أبو الليل فإنها تجذب القارىء بما فيها من متناقضات، فهو " كل ليلة، يخرج، يفرد عباءة الليل، يشمها، يمرح في طياتها حتى تنفرد تماماً، وتشبع من امتداداتها.
يحكي له حكايات النهار الأخير، التي وقعت في غيبته، وحين يشم رائحة النهار الجديد خلفه، يشده من ذيله، يطويه تحت إبطه ويعود، يعود من حارة أخرى، حتى لا يراه محروس، يسمع صوته ، ويشّتم رائحته من حارة بعيدة آخر الدنيا"
شخصيات الرواية منحوتة بإزميل فن الوصف، ولا عجب إذاً أن يستمتع القارىء بمتابعة مواقف وتصرفات محروس، وعزت العايق، والفناجيلي، وأبو الليل، وإنصاف، والشيخ العناني، وفرج، وأوب العشم، وعزيزة العمشة
الصراع على "العهد" و"البشارة" و"السر" للفوز بالوادي والميراث، هو أحد محاور هذا العمل، إذ يقفز الصراع بين أطرافه المختلفة إلى سطح الأحداث، في محاولة من كل طرف للفوز بالوادي الضيق. ولذا ترن في أذني العناني مقولة صاحب العهد "إن غابت الريح ثلاثاً ،عليك أن تسلم السر"، وبعد أن تغيب الريح لمدة يومين نقرأ حاله: " لونه مخطوف، أصفر يابس، مثل حبة ليمون لم يشترها أحد، وبقيت وحيدة، متغضنة، تتفرج على اقتراب نهايتها"
إلا أن للغرام نصيبه الوافر في هذه الرواية، بدءاً من عزت الذي يراقب ابنة الشيخ العناني وهي "تنشر الغسيل، تلعب مع الحمام، يرقبها مختبئاً خلف الأجولة، الخميرة تصعد برأسه، المراقبة تطول، رأسه تصعد والشمس تلطشه . ترفع ذراعيها لأعلى، يتسرب الضوء تحت إبطيها ومن تحتهما، طاقة نور"
الوصف والتعبير عند وحيد الطويلة هما ابنا البيئة، وهو حين يتحدث عن الريف يكون في بساطته، فنجد أن يس العاشق " أخذته حبة طماطم مسمومة وجابت أجله في لمعة عين". أما أرملته غزلان فإنها "هي الآن تخلع، تسحب شبكة صيده من تحت الملاءة، تنام عليها كل ليلة مذ فارقها، وعلى جسدها الحار ترميها، ليصيدها، تتطلع في المرآة، تلف نفسها لترى جسدها، لتراه، حيث سيخرج من المرآة كعادته، يلف ظهرها ويحتويها"
وحين ندرك أنها حكايات النهار الأخير، نصبح متورطين في تلك الحكايات التي لا نتمنى أن ننتهي لفرط صدقها وحميميتها، ولقدرة الكاتب التي لا تخفى على القارىء في اقتياده إلى عوالم مجهولة من الريف الذي أصبح من المناطق المجهولة في الرواية المعاصرة
نقلة جديدة سواء من حيث المكان أو الأسلوب الروائي يرصدها قارىء رواية وحيد الطويلة "أحمر خفيف"، التي تأتي عقب أعمال إبداعية سابقة منها رواية "ألعاب الهوى" والمجموعتان القصصيتان  "خلف النهاية بقليل" و"كما يليق برجل قصير" .

الروائي والقاص المصري وحيد الطويلة
في مكتبتي...
علي عطا - القاهرة



عندما يقع الإنسان في عشق الورق تُصبح العلاقة بينهما ملتبسة، ولا يُمكن لأحد أن يفكّ لغزها إلاّ الإنسان العاشق نفسه، الذي يرى في كتبه ثروته الحقيقية، ولأنّ المكتبة هي الركن الذي يُخبّئ فيه القارئ النهم ثرواته الورقية الثمينة، قمنا بزيارة استكشافية لمكتبة الروائي والقاص المصري وحيد الطويلة أحد «عشاّق الكتب» الخاصّة، وجئنا بالاعترافات الآتية.

علاقتي بمكتبتي هي
تبدو المكتبة بالنسبة إلى الكاتب كما لو كانت ظهره الذي يحميه، عائلته الحقيقية التي يحتمي فيها ويحتمي بها، كما لو كانت أحياناً أخرى دلالة على أنه (مثقف)! الحقيقة أنك جئت بكل أسف لمن لا يملك بضاعة في هذا المجال، فأنا منذ سنوات سائح في أرض الله، أصنع مكتبة ثم أتركها، كمن يترك أيتاماً في كل بلد.
هل تعرف مرارة هذا الشعور الذي يغصك حين تعرف أنك لن تستطيع اصطحاب كل أولادك معك، أضع نسخاً من كتب أحبها، إن توافرت، في المقاهي الجديدة التي يقرأ فيها الشباب على رائحة القهوة وانتظار لحظات الحب، أنا من كتاب «التروبادور»، جوال حيثما تحط بي قدماي، أحمل ما استطعت وأعود به إلى مكتبتي الأم في داري بالقاهرة، متخوفاً من اليوم الذي سوف يطوِّح فيه الورثة بالميراث إلى بائع عابر.
أزور مكتبتي مرّة كلّ
كما أسلفت مكتبتي، حيث أنا، ليست كبيرة، أزورها دوماً، أحياناً مراراً في اليوم، وأحياناً أنقطع لأسبوع، لكنني لا أقدر على الهجران والبعاد، أعود للوصل كي لا تغضب المعشوقة.
أنواع الكتب المفضلّة لديّ (رواية، شعر، خيال علمي، سير ذاتية، مسرح، دين، سياسة...):
كل ما سبق، ربما أقل كثيراً في المسرح أو الخيال العلمي، لكنني ألتهم ما أستطيع، وأنا كاتب مزاجي, أعترف أن انتقاءاتي تخضع أحياناً لهذا الظرف، أقرأ كثيراً في الشعر وأتابع بفضول كبير السير الذاتية التي تكشف لك العوالم التي تخيلتها من قبل، لتفاجأ كثيراً من بذخ المعنى أو رداءته.
أحفل بالكتب الدينية انتقاءً، وأتابع الكتب السياسية بحدسي، أيها يضيف وأيها يعرف طريقه إلى ركن بعيد.
الخيال العلمي عندنا قليل. الخيال نفسه قليل لدينا. نحن من تربى على النقل المميت لحركة الحياة، قد لا يهمك أنني أقرأ مجلة «ميكي» حتى الآن، وصدقت نبوءة زوجتي أنني سوف أتعارك عليها مع أطفالي ذات يوم، أنقذني منهم اختراع الكمبيوتر وقنوات الأطفال والشخصيات الفاتنة التي تضج وتطير بالخيال، هل تعرف «السيد ورطة»، و»كاسكو»، و»سبونج بوب»، أنا أعرفهم وأعشقهم.
كتاب أُعيد قراءته
«
الجريمة والعقاب» لدوستويفسكي، كتب وديع سعادة، عماد أبوصالح، جون كويتزي، «دفاتر دون ريغوبيرتو» رواية يوسا الأخيرة، «إنها تومئ لي» لرفعت سلام، ساعي بريد نيرودا، جنرال ماركيز ومتاهته، «الرهينة» لزيد مطيع دماج، رواية لعلي المقري، وأخرى لعبده وازن وجبور دويهي وخالد خليفة، «الجميلات النائمات» لكاوباتا، «الرواية اليتيمة» لخوان رولفو، «مرايا» نجيب محفوظ، «الصعود إلى المنزل» لعبد المنعم رمضان، «فردوس» للبساطي، «أية حياة هي؟» لعبد الرحمن الربيعي، أوجاع ومسرات فؤاد عالي التكرلي، مختارات الأبنودي وفؤاد حداد، كتب صادق جلال العظم وحسنين هيكل، ولا أحب أورهان باموق.
كتاب لا أعيره
«
متاهة الإسكافي» لعبد المنعم رمضان، يانيس ريتسوس كله.
كاتب قرأت له أكثر من غيره
دوستويفسكي، يوسف إدريس، محمد مستجاب، جون كويتزي، وشريف صالح، وعتيق رحيمي، إن توافر.
آخر كتاب ضممته إلى مكتبتي:
«
نافخ الزجاج الأعمى» لآدم فتحي.
كتاب أنصح بقراءته
رواية «... الأشياء الصغيرة» للروائية الهندية أرونداتي روي، «الغواية»، و«الأيك»، لعزت القمحاوي، و«الشركة المغربية لنقل الأموات» لأنيس الرافعي، و«أحمر خفيف» لوحيد الطويلة.
كتاب لا أنساه أبداً
«
ألف ليلة وليلة»، «الثابت والمتحول» لأدونيس، «مذكرات إيفا» لخليل حنا تادرس.
بين المكتبة والإنترنت أختار
أختار المقهى، أنا كاتب مقاهٍ بالدرجة الأولى، أحد المصنفين العشرة الأوائل، أحمل أبناء مكتبتي فرادى وأحمل معي الإنترنت، لكن القراءة من كتاب متعة لا تطالها ولا تدانيها متعة.




ملف عن القاص والروائي المصري وحيد الطويلة


(الى رئيس رابطة المقاهي الكونية وواحد من أساتذة القصة العربية بمناسبة عيد ميلاده )
متضمنات الملف:
1/ حوار مع وحيد الطويلة- حكمت الحاج
2/وحيد الطويلة وممارسة”العاب الهوى”- عبد الرحمان مجيد الربيعي
3/ثلاثية الماء والنار والظل في ” خلف النهاية بقليل” لوحيد الطويلة- حسن حامد
4/حواديث القرية واللصوص والمطاريد في رواية مصرية-جمال القصاص
5/ الخيال المتوحش في الصراع على الثروة عند وحيد الطويلة- فتحي عبد الله
(وحيد الطويلة قاص حداثي لا يعبأ كثيراً بالحبكة التقليدية المتقنة
ولا بالسرد المتسلسل على سننه , بل يلوذ بلقطات سريعة متعاقبة
غير مفسرة وأحياناً غير مبررة وتمتاز نصوصه بالتركيز والتقطير ,
وتسري فيها روح شاعرية مغلفة بالسخرية أو الدعابة السوداء ,
وتستند إلى المفارقة والالتباس والتشويق
وإن كانت مستوحاة من الحياة اليومية الشعبية
نصوص مثيرة للترقب والإهتمام.)
إدوار الخراط
1/حوار مع الروائي المصري وحيد الطويلة
بعد صدور روايته الأولى “ألعاب الهوى”، الكاتب المصري وحيد الطويلة: “أكتب بين معطف جدتي ومعطف غوغول…”
إلتقاه: حكمت الحاج/ تونس
وحيد الطويلة: كاتب مصري من مواليد 1960، يقيم حاليا في تونس. له في القصة القصيرة مجموعتان هما: “خلف النهاية بقليل” والتي صدرت عن منشورات مركز الحضارة العربية بالقاهرة عام 1997. ومجموعة ثانية بعنوان “كما يليق برجل قصير” وقد صدرت عن الهيئة المصرية العامة للكتاب عام 2000. صدرت له قبل أيام عن دار “ميريت” بالقاهرة وضمن سلسلة تجليات أدبية، روايته الأولى تحت عنوان “ألعاب الهوى”. هنا حوار مع الكاتب أجريناه في تونس بهذه المناسبة:
* كيف تنبئنا عن نفسك؟ سيرتك؟ وضعك ككاتب؟
- أعلق على باب روحي كلمة للشاعر “سعدي يوسف” تقول: “عش في الهامش واكتب في الواجهة”.. ولكن حتى الواجهة سرقها برابرة العلاقات، والهامش يميد بنا ويتخلى عنا كلما عدنا إليه.. وأمام سؤالك البسيط، ولكن الخبيث أيضا، أكاد أجزم انك تريد أن توقع بيني وبين نجيب محفوظ. فرغم انه حصل على جائزة نوبل للآداب إلا إن مجموعتي القصصية “خلف النهاية بقليل” قد طبعت ثلاثة مرات، وهو ما لم يحدث له، وهو الروائي بامتياز
* كيف حدث انك ذهبت إلى القص والحكي؟
- كأنه سؤال الوجود، أو دخان الأسئلة التي تنام تحت إبطك.. تفاجئك.. كأنك تراها لأول مرة.. أنا من منطقة فسيحة البر، كانت أرضها قاسية، ورجالها غلاظ، يخرجون ولا احد يعرف متى سيعودون.. هل في منتصفات الليالي، أم تذهب أجسادهم قبض الريح؟ وعلى ضوء لمبة صغيرة بشريط قماش، تخرج جدتي من جرابها الحكايات والبطولات الكاذبة لأجدادي ومن جايلهم، بينما شواربهم تتراقص على الحيطان.. يخرج الرجال ويتركون النسوة بمسافة الشوق والخوف من المجهول.. ومن حيرة أن لا يعود الغائب، أو من أن تصادفه طريدة أخرى في الطريق، ما بين الشوق والخوف، تولد الحكايات.
لأعترف، فأنا ابن حكّائين عظام، لذا فقد يخفي سؤالك عن المسافة بين الشفاهي والمكتوب سؤالا آخر يقول هل أن الحكاية أتت إلي أم أنني أنا الذي ذهبت إلى الحكاية؟ يقول الشاعر عزت الطيري “أحلم أن تحلم فاتنة بي وتقص الحلم علي..”. فأينا يقص الآخر؟ أينا يذهب إلى الآخر، أنا أم الحكاية؟ لا أكتمك أنني أعد العدة للحكاية وأقتنصها في الوقت الذي يليق بها وكأنني أقابلها لأول مرة، أو كأنني لم أشاهدها في الحلم ليلة أمس. أجدادي الذين حكيت عنهم في روايتي هذه، كما في قصصي السابقة، يدعي أخوتي أنهم سرقوا النار ليعيشوا، وأنا أؤمن أنهم سرقوا الغناء ونسوا أن يسرقوا حكاياتهم.. مضوا بسيوفهم الخشبية وتركوني أغني وراءهم.
* ما هي مراجعك في الكتابة القصصية؟ هل تركز على “الحياة” أم على “التراثالقصصي المدون؟ إذا كانت الحياة هي المرجع، فكيف تنظر إليها كمادة قصصية؟ وإذا كانت المدونة القصصية هي المرجع، فما هي مصادرك؟
- لا شك أنني اكتشفت الحياة ذات يوم عبر هذا التراث القصصي المدون الذي فتح عيني على عوالم أخرى لم اعرفها، أو كنت اعرفها ولكنني لم أكن اعرف كيف انظر إليها.. نصوص تدفعك لأن تمسك بأطراف حياتك.. لكنني عندما اكتب فإنني أكون على مسافة انزياح حقيقي عن الحياة أو الواقع، بين قوسين.. هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فان بيني وبين التراث القصصي المدون انزياح آخر يؤدي بي إلى إنتاج نص نغل، نص لقيط، لا هو ابن للحياة شرعا، ولا هو ابن للتراث القصصي المدون نسبا. انه نص أب شريد وأم عاهرة. وهكذا أخرج من معطف جدتي، ومن معطف غوغول في نفس الوقت، لأكون نصي وحدي.
* أعتقد انك كقصاص ضائع ما بين الشعر والرواية، فإلى أي مدى يكون هذا الكلام صحيحا؟
- أعتقد كما شئت.. فأنا كما قلت لك سابقا، ابن قبيلة ارتحلت طويلا حتى استقرت في مشوارها الطويل. فكان عليها أن تـَسْرِقَ كي لا تُسْرَقَ، وأن تسقط أعمار أبنائها في الطريق. لذا جاءت حكاياتهم كرواية وجاء سردهم كشعر.. لا تستغرب، إن معظم المواويل التي عشنا عليها جاءت بإيقاع محكم يسكه الرجال ويلوكونه ويتركون الحكاية للنساء بكلمات مسجوعة وسرد متمكن. لقد أخذني هذا السرد المنطوق شعرا لفترة طويلة. في السيرة الهلالية كثيرا ما تتوقف الحكاية ليقول الشاعر.. وجدتي كانت تقول كل صباح “إصح يا بني الشمس يحيي على الحيط..” ويقول الشاعر عبد المنعم رمضان إنني اكتب قصة صوت، يسمعها وهو يقرؤها، وكأن هنالك من يتلو عليه..
يبقى لي القول إنني أرى القصة لحظة عصية على الإمساك بكل ما فيها من توتر وكثافة استخدم فيها طرائقي التي أحبها وإنني أظن أن كل قصة أو رواية إنما تأتي بلغتها معها. قد لا أحب السيرة الهلالية، لكنني أحب الذين أحيوها سردا وشعرا. انظر حولك ترى قصيدة النثر تتلبس بالسرد وتبتعد عن الإيقاع وتروم موسيقى داخلية، رغم اعتراض من يرى إن الإيقاع ضروري لتميز الشعر عن السرد. ربما تفوح من نصوصي رائحة إيقاع ما، كرائحة الإيقاع في الشعر، لكنه ليس هو تماما.. ألم أقل لك إن نصي هو نص لقيط؟
* لماذا الرواية إذن؟ هل ستستقر فيها كنوع أدبي، أم أنها مكان للاستراحة، ومن ثم العودة إلى نوعك الأثير: القصة القصيرة؟
- أكتب القصة القصيرة وأحبها فنا عصيا، رغم إنني اعرف إنها باتت شهيدة هذه الأيام. لكنني أحب السينما والغناء والفن التشكيلي وشموخ أنف “فيروز” ووجوه الغلابة في قريتي.. إن الرواية كما تعرف تسمح بالفنون القولية وغير القولية، وتسمح بلعبة الصراع التي قد أنأى عنها في حياتي قدر ما أستطيع، وأمارسها على الورق.. لذا كتبت هذه الرواية التي لا اعرف إن كانت استراحة أم لا.. أعرف إنني سأعود إلى غرامي الأول، القصة القصيرة، لحظة ما، فإن بيني وبينها غرام متأجج دوما. وهي قد تفسح في المجال لامرأة لعوب أن تسكنني حينا، لكنني سأعود إليها وسأفارقها مرة أخرى.. وهكذا.. ولكنني عندما أعود إليها سأقول لها إن دارها لم تكن لتتسع لكل أولئك الأحبة الأوباش الذين سكنوا دار الرواية، وسأحاول أن أكذب عليها بأنها كانت ستعاني من آلام الولادة كثيرا لو تزوجت شخوص الرواية لذلك فقد أرحتها كي يبقى جسدها دائما كغصن البان ممشوقا كلسعتها الجميلة.
* أخيرا، من تريد أن تذكر من أصحاب التجارب القصصية والروائية التي أَثَّرَتْ فيكَ، وأَثْرَتْكَ أيضا؟
- قد تعرف أنت وغيرك جيدا أنطون تشيخوف، زكريا تامر، يوسف إدريس، بورخس، ماركيز، وإبراهيم عبد المجيد، وإبراهيم أصلان، وجمال ألغيطاني، وإدوار الخراط، لكنكم قد لا تعرفون طاهر الشرقاوي، ونجوى شعبان، وشريف صالح، وأنيس العلوي، وجمال أبو حمدان، ومحمد بركة، وجرابيع آخرين في هذا العالم.. أشتاق كثيرا إلى قصص محمد خضير، ويأخذني عالم زيد مطيع دماج، وخيري عبد الجواد. أحب محمد مستجاب كثيرا وألومه. ولعلك سمعت بعبد الحكيم حيدر أو منال محمد السيد، وربما ياسر عبد اللطيف، بينما يفاجئك حمدي أبو جليل قصا ورواية.
لعلني أحاول أن أقرأ الأدب الكلاسيكي بالمعنى الذي تحدث عنه إيتالو كالفينو وهو انك بصدد إعادة أدب سبق لك وأن قرأته. ولعلك هنا تلاحظ إن هنالك أسماء كثيرة غير معروفة لكنها تحفر بعمق وتملك الموهبة والحلم.. قد تأخذك للحظة خلطة إيزابيل الليندي، لكنها قطعا ليست فتنة ماركيز. هنالك أسماء تبدو فرادى من هنا وهناك، إلا أنها تحفر عميقا في روحك.. ثمة نصوص تأخذك إلى المتعة، وثمة نصوص تدفع بك إلى الكتابة، وكلن تلك مسألة أخرى قد نثيرها معا ذات حوار.
2/وحيد الطويلة وممارسة”العاب الهوى
بقلم: عبد الرحمان مجيد الربيعي
رواية الكاتب المصري وحيد الطويلة »ألعاب الهوى«، هي عمله الروائي الأول بعد مران سردي جاد حققه في مجموعتيه القصصيتين الأخاذتين »خلف النهاية بقليل« 1997 (أربع طبعات) و»كما يليق برجل قصير« 2000 (طبعتان).
هذه الرواية ممارسة متقنة لـ»ألعاب الهوى« على الورق بعد أن بنى قرية مقطوعة واختار لها موقعها الجغرافي وأوجد فيها اناسها الذين هم رغم انقطاعهم عن الخارج ولا مبالاتهم به فان لهم (وكيل تموين) معتمد من الحكومة، ولهم ممثل في (الاتحاد الاشتراكي) ولهم أيضاً طموح في أن يصل أحدهم للبرلمان.
من يقرأ هذه الرواية لا يصدق أن القرية لا وجود لها على الخارطة المصرية، وأن الناس النابضين بالحياة أولئك الذين عجّت بهم وضجّت هم توليفة من الكاتب. تشكلوا من ومضات لبشر عرفهم وعاشوا في ذاكرته، في هذه القرية او تلك المدينة من مصر المحروسة.
لا أستطيع أن اصف هذه الرواية الا بالفاتنة، ولقد جعلتني مفتونها لدرجة انني تأنيت في قراءتها رغم قصرها (270 صفحة) حتى استمرئ الاحداث وأتملاها وهذا ما أفعله مع كل عمل إبداعي يأخذني ويفتتني، و»ألعاب الهوى« جعلتنيانا القارئ- لاعبا فيها.
تلك القرية القصيّة، بعيدة عن العاصمة، وعن مركز أي مدينة أخرى، ورغم أنها في بلد اسمه مصر إلا ان لها قانونها، وكبارها ممثل الاتحاد الاشتراكي ووكيل التموين- وهما يمثلان الحكومة- وخطيب الجامع الذي هو بالنسبة للناس المحور والرأس، هو مقصدهم لحل كل اشكال يمرون به، وهو عرّافهم وحكيمهم، وهو أيضا الخبير باللصوص والمطاريد والمطلوبين.
خطيب الجامع اسمه الشيخ حامد بن عروسة ويشكل ثنائياً متآلفاً مع الشيخ الضرير اسماعيل مؤذن الجامع (عفيف إلا في موضوع الأكل، يأكل بقرة بحوائجها، يمشي وراء الشيخ حامد على طول الخط يصدّقه ويصْدقه الا في حكاية الأكل).
ذلك لأن الشيخ حامد لا همّ له الا الأكل فهو لذته ومبتغاه. يستحوذ على (ذكر البط) وملحقاته ويترك أبناءه يتضورون جوعاً هم وأمهم »نميرة« والتي تراقبه وهو يحيط »الطبلية« بساقيه فكأنه يدافع عن الطعام الذي فوقها من هجوم متوقع قد تقوم به زوجته التي تشقى في إعداده ولا تنال منه شيئاً.
يشكل الجامع مركز القرية، والشيخ حامد خطيبه (كبيرهم ومرجعهم) عندما يعتلي المنبر فانه يقول ما يعنّ له، ولا أحد يستوضحه، والجامع هو إذاعة القرية ومن مكبر الصوت المعد لرفع الآذان لا يستغرب المرء انه سمع نداء من أحدهم بأن عشرين ذكر بط سرقت منه. والشيخ حامد يعرف جيداً أن السارق هو ابنه الدمرداش. ويقول في سره: (كيف يقف على المنبر لينهى الناس عن السرقة وابنه سرق ربع بط البرية وحدها؟) وكانت النسوة يعرفن السارق لذا فهن (على باب دار الشيخ حامد كل صباح يشتكين الدمرداش ويطلبن العوض ونميرة تطيب خاطرهن حتى لا يطلع صوتهن في الشارع ومعه الفضيحة). أما (القانون) الذي صار يسود في القرية وبعد ان (أخذت السرقة تفعل فعلها بين العائلات) هو ان الامر (اقتضى ان يكون لكل عائلة حرامي معتمد يدافع عنها ضد حرامية العائلات الاخرى تجاوزت سلطته وصورته صورة كبير العائلة في كثير من الأحيان).
تتكون عائلة الشيخ حامد من زوجته نميرة وولده الدمرداش أما شقيقه الكبير فاسمه النادي وله شقيقان أخوان هما محي الدين وابراهيم. ورغم ان الشيخ حامد قد درس في الازهر الا ان عائلته هذه كلهم من اللصوص وقد لحق بهم ولده الدمرداش في حين ان عمه الشابوري نال سجناً مؤبداً.
تسيطر على أجواء الرواية نغمة واحدة هي السخرّية وهو ما لم نجده في النصوص الروائية الكثيرة الخالية من هذه (الخفّة التي تحتمل) بل وتُستزاد.
حتى اللصوص يمرون في سياق الاحداث بظرفهم غير المحدود. ومن أشهرهم راغب الذي مرّ على الشيخ حامد (وهو يحمل على كتفه جوالاً مكبوساً على آخره) وسلّم على الشيخ حامد (السلام عليك يا عم الشيخ)، ولكن الشيخ حامد انتبه الى (أنات مخنوقة تتسرب من الفتحات الضيقة للجوال) فكان رده: (عليكم السلام يا حرامي يا ابن الحرامي).
وذهب راغب بسرقته من ذكور البط الى (الغبايشة) القرية المجاورة التي دعي الشيخ حامد ليخطب في جامعها الشاغر من أي خطيب، ولكن مؤذن الجامع أفهمه بأن راغباً هذا (فرد جوالاً به عشرون ذكر بط ليبيعها للمصلين) كان يخرجها واحداً واحداً وكلها جثث هامدة مختنقة بالجوال.
أما خطبة الشيخ حامد في قرية (الغبايشة)، فكانت من أظرف الخطب فرّ بعدها هارباً بجثته الضخمة. ومما جاء في خطبته تلك: (ربنا قال يا جبريل هات لي أنظف صّولة طين في المحيط الاطلنطي.. إنتو عارفين المحيط الاطلنطي ده قد إيه يا ولاد؟ هه؟ أكبر من بحر السخاوي الغول ده ميت مرة).
و(انفتحت الافواه على آخرها ولم تعد) واضاف: (بحر السخاوي اذا كان عرضه عشرة أمتار فالاطلنطي ده بيجي أكثر من خمسة ستة كيلو بالعرض).
واستمر هذا الكلام وسط ذهولهم فتحول الى القول: (انتو عارفين المحيط الهندي قد ايه بقه يا جماعة.. علشان تعرفوا انتو غاليين عند ربنا قد ايه يا بتوع الغبايشة يا امراء، أكبر من بحر النحال عشرين مرة أقلّه).
السخرية النادرة في هذه الرواية لا تخفت نبرتها بل هي ماضية نحو التألق كلما أوغلنا في قراءتنا لها.
وتتواصل السخرية في الوصف الطريف مثلا لأبوشبارة (هل هلال أبوشبارة اول مرة يحضر صلاة الجمعة من سنين، رجل تخين فعلاً، بمؤخرة منتفخة كأنما جمع مؤخرات العائلة في مؤخرته، لا ينفع معها كرسي ولا دكة خشبية ولا يحزنون).
وكأن هذا الوصف يعيدنا بشكل ما الى رواية سارتر »الغثيان« اذ وصف رجلاً كبير الأنف بأنه كاف لضخ الهواء لعائلة كاملة. ولكل وصف سياقه بالتأكيد.
ولعل »هرم« السخرية في الرواية هو ذلك الذي ينطق او يقوم به الشيخ حامد، ومع هذا له من يحذو حذوه مثل »وفا زيت حار« ابن عمه الحاج قرد الذي ألصق باسمه »وفا« لقب »زيت حار« لأنه عاد من التحاقه بالازهر مع حامد خالي الوفاض الا من زجاجة »زيت حار« سرقها فأصبحت له لقباً ملتصقاً به »سرقها من المطعم المجاور للمعهد الأزهري، الزيت الذي كان يأبى أن يذوق الفول بدونه. و»وفا زيت حار« لم يعتل منبراً ولذا استغل احدى الفرص و(طلع على المنبر من غير حد ما يدعيه) ولم ينته الامر عند هذا الحد بل انه عندما فعل ذلك كان معه كتاب قديم عن الخطب المنبرية (وبعد أن حمد الله وأثنى عليه، تكلم عن فضائل الصوم مع ان إحنا مش في شهر رمضان).
والأطرف من الخطبة الدعاء القديم الذي قرأه كما هو رغم انه موجه للسلطان (قطز) وعساكره ونصها:
(اللهم عافنا واعف عنا
اللهم ارزقنا واكرم مثوانا
اللهم انصر السلطان قطز وعساكره وامحق بسيفه رقاب الطبقة الكافرة الباغية، يا مالك الدين والدنيا، يا رب العالمين).
فتحول جمع الحاضرين لأداء الصلاة الى حناجر تقهقه.
بين أجمل شخصيات الرواية »الفنجريّة« تلك المرأة الوافدة على القرية منذ عشرين عاماً واقامت ولم تغادر، كانت تكدّ وتكدح فعلّمت الآخرين ان يحترموها بمن فيهم بعض الحرامية التي حاولت ان تصلحهم بعد أن وفرت لهم العمل الحلال. وصفها الروائي بقوله: (طرحتها الشبيكة على رأسها حتى ظهرها، والكحل يلمع في عينيها، عايفه من يومها. لا يدري- المتكلم- متى جاءت الى القرية ولماذا حطت في غفلة من الزمن كأن الأرض طرحتْها، لا أحد يسأل عن أصلها وفصلها، كأنها سرقت لسان الناس ورمته في بير، تحيط نفسها بأشباه الهاربين من بلادهم من الثأر ومن الموت).
وهذا الوصف يعمق اغتراب هذه المرأة المعلومة في عالم القرية التي أصبحت فيها لا بائعة فقط بل وتقوم بتزيين النساء وأعمال صغيرة اخرى عدا بيع جسدها او ابتذاله.
وكان النادي شقيق الشيخ حامد الكبير ملاذها وحاميها، وموته كان خسارة لها وليس لأسرته فقط حيث كان الشيخ حامد الأكثر حزناً عليه فهو الأمين وسط أجيال من الحرامية.
وكان سؤال عروسة أم حامد العجوز الخرفة يلاحقها: (يا بنت يا فنجرية جوزك الأولاني عايش ولا ميت يا بت؟).
ولم ترد على هذا السؤال. لكن الفنجرية وبعد وفاة النادي ظلت قريبة من اسرته وأسر اخوته خاصة الشيخ حامد.
ولكن وفا زيت حار كان يلاحقها، يخاطب المرأة فيها، يوقظ جسدها الملهوف لفحولة الرجل، ولم يستطع الوصول اليها الا بخديعة ومكيدة عندما أسند لها مهمة إعداد الحلوى في حفل أسري. وقدّم لها الحشيش وزاده عليها حتى فقدت وعيها فاغتصبها وعندما استيقظت واكتشفت ذلك ورأته جوارها ممدداً جنّ جنونها وانتهى الأمر بزواجه منها عرفياً رغم كرهها له.
تزوجت مضطرة وبتستّر حيث ان العارفين بالأمر قلة وعلى رأسهم الشيخ حامد، ولذا كان يتسلل الى بيتها ليلاً كاللص، وهو لص حقاً.
كل هذا الفيض الساخر الذي يشكل موسيقى الرواية وعليه ينتظم ايقاعها لم يكن سخرية من أجل السخرية بل كان مقارعة للموت المتربص، وقد وفق الروائي في ايجاد ما يمكن أن أسميها فانتازيا الموت التي عاناها الشيخ حامد منذ بداية الرواية عندما جاءه عزرائيل ليقبض روحه فطلب منه أن يمهله ولكن وفق الايقاع الساخر فكأن الأمر مجرد دعابة ليس إلا. وقد جاءه عندما كان يتناول الطعام هو ومساعده الضرير اسماعيل الذي لم يكن يسمع ما يدور بين الشيخ حامد وعزرائيل الذي يسأله: (انت مين ودخلت هنا إزاي؟) فيرد: (أنا عزرائيل يا شيخ حامد) ويظن الامر مزاحاً فيقول: (مين مين يا خويا؟) فيأتيه الجواب: (عزرائيل).
ثم يستمر الحوار بينهما هكذا:
( – وعايز ايه يا ابن خالي؟
عايزك علشان تيجي معايا
آجي معاك؟ يا داهية دقيّ، ملقيتش غيري ليه؟).
الى آخر هذا الحوار.
كما ان أمه »عروسة«، في آخر أيامها وهي غارقة في تدخين الحشيش ولم تعد تقدر حتى على حبس بولها كانت ترى موتها القريب وتحدثهم عنه فهو الحلم الجميل الذي تحلق في عالمه كل ليلة.
وتأتي نكبة الشيخ حامد بوفاة أخيه النادي. وتذهب الرواية بهذا المنحى الفانتازي في خاتمتها بعد ان عاد الشيخ حامد من المقبرة حيث دفن أمه »عروسة« وقراره في أن يذهب للحج يداعب أحلامه ليغفر الله له ذنوبه.
وكان عزرائيل قد أمهله ثانية رغم انه لم يرد ذلك حيث واجهه بالقول: (إوعى تكون فاكر اني خايف منك، الكفن واضب، الصلاة واضبة، ونميرة- زوجته- في النازعات والمحجّة- هنا يقصد حجة الأرض التي سرقت منه- تعال وقت ما انت عايز يا خويا).
ولذا جاءه وهو يهمّ بمغادرة المقبرة فناداه:
(- على فين يا شيخ حامد؟)
فيرد عليه:
( – حياتك الباقية يا خويا!)
ويعود ليسأله:
(- على فين يا شيخ حامد؟)
فيرد:
(- رايح أفك حسرتي)
ويكون قول عزرائيل: (- ما تيجي تفك حسرتك عندي؟)
خاتمة الرواية.
ويبدو لي ان وحيد الطويلة كانت منتبهاً لهذه المسألة منذ بداية روايته الممتلئة بالشخصيات الضاجة بالحياة واعتمد عليها ليختم بها روايته هذه التي بدأت بالشيخ حامد وانتهت به. وهي نهاية ذكية جداً.
ان قارئ هذه الرواية وخاصة من أهل الشأن – كتاب رواية ونقادها- لن يتساءلوا: لماذا كان حوارها بأكمله دارجاً؟ ولماذا تسربت هذه الدارجة حتى الى متنها؟
والسبب كما أراه هو أن الروائي أقنعنا بأن روايته لا تكتب الا هكذا. ولو انه فصّحها لأصبحت رواية أخرى، وستفقد توهجها حتماً.
ولعلي وأثناء قراءتي لها وجدت أن ثوابتي اللغوية في ضرورة الكتابة بالفصحى متناً وحواراً قد غادرتني حيث شكّلت الدارجة سنداً هاماً في معمار هذا النص الروائي الساحر والشخصيات التي نبضت فيه والمشيَّد كله من خيال الكاتب فصارت حقيقة مثل قرية »ماكوندو« التي شيدها ماركيز العظيم في روايته »مائة عام من العزلة«.
وهناك ملاحظة مهمة انتبهت لها هي ان المناصب الحكومية او الرسمية في هذه القرية هي مناصب من حديث المسميات السياسية مثل »ممثل الاتحاد الاشتراكي« او »وكيل مصلحة التموين« والحلم الذي راود »الحاج قرد« عم حامد بأن يكون نائباً وزيّن له البعض الأمر.
لم نجد التركيبة التقليدية للقرية المصرية حيث العمدة وشيخ المغفر ومأمور المركز… الخ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
٭ صدرت الرواية ضمن منشورات دار ميريت- القاهرة 2004
3/ثلاثية الماء والنار والظل في”خلف النهاية بقليل” لوحيد الطويلة
بقلم:حسن حامد
أي دروب مضيئة تلتحف بك. وأية لغة تبيح لك افتضاضها، وأي عرى وأية ينابيع “.. وكأنه حين أهدى إلي “خلف النهاية.. بقليل ” بهذه الكلمات. كان وحيد الطويلة يلخص لي مفاتيح اكتشاف عالمه.. بل مداخل استكشاف معانيه وأحاسيسه الكامنة خلف ظاهر النص، والتي تعكس الهموم التي تشغله وتشكل محورا لرؤيته ورؤياه.. وكيف عبر عنها وماهية التقنيات الفنية التي ستخدمها للوفاء بحاجات هذا التعبير. فنصل من خلال ذلك الى التعرف على تصورنا لهذه الوظيفة عنده. ونصيبه من الاضاءة والاضافة لحركة القص المعاصر.
أغلب الظن أن وعي وحيد الطويلة بما يقع خلف ظاهر النص. كان الأولى بالعناية دون سواه، يفضحه في ذلك منذ البدء. هذا الرمز المستقل «خلف النهاية.. بقليل » الذي اختاره ليكون عنوانا معبرا عما تضمنته مجموعته القصصية الأولفي تحفظ – لاثنين وثلاثين عنوانا. لم يكن بوسعي تفهم أسباب بعثرته لستة عشر عنوانا منها، وتجميع الباقي تحت ثلاثة عناوين هي “ديفليه. حجر صحي. زيت على توال “.. وبد خول باب التأويل – عنوة – تدرك أن ما ياتي خلف الأشياء دائما هو بداية جديدة لنلك الأشياء. ومن ثم تصبح مناك ضرورة للخروج هن الوجود المادي المجرد. الى تصور اليقين الأوحد لتلك الأشياء بعيدا عن حفرة الايهام بالحقيقة التي يفرض كلينا الابداع الوقوع فيها.. درب عضيء / هم أول لا يلجأ وحيد الطويلة بتشبعه اياه الى التعامل المباشر مع الأشياء نفسها. وانما يطور أفكاره عن هذه الأشياء للدرجة التي قد لا يستطيع معها أن يرى شيئا أو يعرفه الا من خلال نظامه الرمزي مؤكدا قول ابيكيتيوس : «ان ما يقلق الانسان ويخيفه ليست الأشياء. وانما آراؤه وتخيلاته عن الأشياء»(1).
سنواجه – إذن – زحفا وحشيا يغلف نفسه بغلاف من الأشكال اللغوية والصور الفنية والرموز لاسطورية. يسبغ على الوجود بعدا. ربما لا يعرفه سرى وحيد الطويلة.. ولم لا؟ انه يستهل مجموعته،.هو هدرك لذلك. بمقولة كونفوشيوس : “لا يهم من بحكم. طالما أنا الذي أضع الأغاني”. ومتأملا ذاته يما يقدمه من خلال ابيات شعرية أخرى لجمال لقصاص : هل بدأت / هل تأخرت / أعنت أؤجل براءتي كل هذا الوقت ؟!”.. فبدا وكأنه يسوق الينا سحابة صيفية.لا تمطر أبدا. ولا تفرش ظلها فوق لأرصفة المعجونة باللهب. إلا لثوان قليلة. نحترق بهدها ثم نفرق في بحيرات العرق والمللح (2).. هذا بجعلنا ندخل عالمه ونحن أكر حذرا، فما أشد فدفاعه ناحية الجحيم. إنه ببساطة يطرح بكل لأشياء الجميلة التي حملنا بذرتها منذ لحظة الفرح لأولى، يطرح بتلك الأيام التي حاورنا دهشتها أحلامها وحاورتنا. ولا مانع من أن تتداخل الآلات تختلط النغمات. ويصبح كل شيء خاضعا لمزاج لعازف ومدى مهارته. ولا مانع من أن تتهجى لأيام حروف النشيد وهي بلا أبجدية. لتمتص دم لمسلمات الواقفة على مشارف الحياة بخجل وبراءة بدلية تقترب من الشعر.
يسلمنا هذا من التخلي أحيانا عن معايير النقد لمألوفة ونحن نتأمل هذه المجموعة / السيمفونية الى التماس الاحساس بالارتواء من نفس الاحساس بالظمأ عبر النسيج المجدول من الشكل قالبا وأسلوبا وايقاعا. والمضمون فكرا ورؤيا. وهما لديه وحدة واحدة لا تتجزأ. تفجرها الحساسية النفسية والحساسية اللغوية للنص ذاته. فيتشكل لا من تضافر بين الواقع المادي والمتخيل. في جدلية من ثلاثية الزمن الماضي والحاضر والآتي متوغلا في المكان. بل من تضافر غير المرئي وتأمله في جدلية من ثلاثية الماء والنار والظل. بدرجة هي الى الشعر أقرب منها الى النثر. فتصبح أصالة المبدع لا تعني الصدق النفسي والفني. وعدم تقليده لغيره أو تفرده في الرؤية فحسب. بل صعوبة العثور على تصورات له تنتمي في بعض تجلياتها الى حقول دلالية لدى شوامخ المبدعين(3).. كما تصبح أصالة النص لا تعني فقط مجموعة من التجارب الحياتية أو الخبرات الفنية، إنما ما يعمق تلك العناصر ويثريها فيجعل المتلقي بذلك. أكر عراقة في انسانيته. كما يقول المازني بنفس الدرجة التي يتحول فيها النص بين يدي المتلقي الى عبارة احتواء لمشاعره وهواجسه. اذا انساب وادعا رقراقا لا يصخب ولا يثور أو إذا راودته نزوة التمرد والانفجار.
هذه العراقة الانسانية في العلاقة المتشابكة بين النص وقارئه. هي التي فرضت كما ازعم على وحيد الطويلة الا يتكلف النص، ولا يصطنع الاحساس أو الفكرة، بل دفعته الى التمسك بمكانة العاشق الذي يتنفس الوجود. إنسانا وطبيعة. في مسيرة لا يقلد فيها أحدا. بل يطل فيها وفيا لطبعا ولطقوسه لا يبدلهما، في الاطار الذي وجد نفسه ملتزما فيا بالسليقة أكر منا بالاكساب، فجاء صوتا غنائيا بسيطا متوجها بإيقاعه الصافي الى اكثر المشاعر عضوية، فبدا وكانه يساعدنا على احتمال هذا العالم المريض بفرط الحساسية الفكرية ومطاردة المشكلات الزمنية الصارمة بكل تعقيداتها. تلك التي يطرحها الفكر والفن والأدب. من خلال الأداء الفني المسر.
ولا يعني ذلك بالطبع انا لم يفد من حصيلة معارفه وتجاربه-على اتساعها-ومطالعاته لفنون التراث الانساني في شتى انواعا على اختلاف الزمان والمكان إلا صقل ادواتا التي يعبربها من هذا المخزون المتشكل من فيض ما استوعبتا. ولك الطقوس التي تطابق شخصيتا، خاصة اذا التفتنا الى خاصية اعتماده على استدعاء الذاكرة وهو يكتب في أماكن عامة. المقاهي تحديدا، انما يقترب مما دعا اليه هوشي في كلمته المشمورة “من لا يفني لا يقاتل ” ولأن الغنائية سلاحه. وهي لغة شعورية شاعرية. يأتي التوحيد بين أدته والمجوع. فلا يصدر ابداعهن أحلامه وآلامه وهواجسه الفردية. بل من بحر المجموع الصافي فيصبر النص مرآة صادقة للواقع الجمعي. ومقاربة للجو المحلي في عفريته.. مما يدعوه الى الاقتباس أحيانا من قاموس اللهجة العامية في القصص التي استوحاها من شخصيات أو أجواء ثسبية أو ريفية مثل “حمام جدتي يقرأ التشهد. خلاصة كبد النمل، الشيخ بونابرته. وغيرها”. فلا تغريه غنائيته الى المبالغة والغموض إلا في مناطق قليلة ترتضيها أحيانا الحاجة الفنية دون تعتيد. مثلما لا تغريه أيضا الى ايثار سهولة الألفاظ والتراكيب والمعاني التي تشبا محفوظات الأطفال الهادفة الى أغراض تربوية. بل تظل الورود المتوهجة بأنفاس الحياة هي المقصد / الدافع الى مستوى ابداعي يتمثل في تلك الومضات الشعوبية الشاعرية وهذا ما يحتاج منا الى وقفة.
تكوين جمالي متسق
تزخر المجموعة بالمشاعر الجياشة الملكئة بين المرارة التي تكاد تبلغ أحيانا حافة الاكتئاب والسنوية اللاذعة. كنا لا يسقط في مهاوي الاحباط لأنه مدرك دورة الليل والنهار. بصير بحتمية البداية الجديدة التي تختفي فلف النهاية بقليل. وبين ما تمثله هذه البداية فى عناصر مية مضيئة مقطعة الى فرح يراوغ .. ثم تبلغ شحناتا الشعورية ذروتها في بعض القصص التي تجيء بمثابة ثمرة تجربة امتلأت بها الكأس حتى فاضت. فكانت المشاعر أكثر سيطرة من العقل والتخطيط. مما منحها عفوية الحياة ودفئها مثل “فضاء ضيق. السيارة ليست للبين. مضاف ومضاف اليه. برزخ ” وغيرها. في معمار شعري متقن نسيجه مضفور. لغة وتصويرا. جعل للقصة تكوينا جماليا مستقا وبناء هندسيا محكما بخيوط دقيقة. وجعل وحيد الطويلة شاعرا أضل طريقة الى القصة. ولذلك عدة براهين.
أول هذه البراهين التضمين. وهو من أهم الظواهر الفنية التي استحدثتها القصيدة المعاصرة منذ عصر الريادة في أواخر الأربعينات (5).
حيث يتم توظيفه كعامل اثراء وتعميق للرؤية الشعرية وهو ما لم تألفه القصة القصيرة كثيرا. ولا يكتفي وحيد الطويلة بالتضمين كاسلوب فني عرفه الاسلاف من شعراء العصور المختلفة. بل يعتمد تطوره أيضا وتشعب ابقاءه وتعدد الوظائف التي يقوم بها في بناء القصة / القصيدة. بناء موفيا بأغراضها شكلا ومضمونا حتى اتخذ اسما يكاد يبتعد عن الأصل لكثرة ما جد عليه من تفريعا- وتحولات وهو «القناص » في الأمثال أو العبارات الشعبية أو الأقوال والمأثورات الشعرية وحتى من الأساطير – اسطورة الندامة -وهو يلجأ الى ذلك شعوريا أحيانا ولا شعوريا أحيانا أخرى على سبيل التضاد. أو التوازي. لكنه بحساسيته يعي جيدا أهمية الحفاظ على وهج التجربة الفنية مبتدأ عن كثرة الاحالات المقحمة على النص والتي تؤدي الى ضعف استجابة المتلقي. بل ربما نفوره. فيقول في “أطاف” مثلا “العربات على قلق والريح تحتي” وهو تضمين شعري وفي مضاف ومضاف اليه “الحي أبقى من الميت ” وهو تضمين من الحمر الشعبي. وفي برزخ “تغيب فأسرج خيل ظنوني” وفي تواطؤ “ويعرف أن السماء تخبيء أقمارها في قميصه ” وهو تضمين شعري أيضا، وفي لا تكذبوا.. أنتم لا تعرفون عناق «حامل الهوى تعب » وهو تضمين شعري غنائي.
ضفبرة متماوجة الألوان
وثاني هذه البراهين يتجسد في أسلوب التراسل بين الكلمات وفيه يخلع على الأشياء وصفا ليس من شأنها. ونجد ذلك كثيرا في -التسع والعشرين قصة التي تتضمنها المجموعة يقول مثلا في «أنا حزين.. ويخير» : «تتذكر أنه لم يكن من المناسب أن كترش بضفيرتها المتماوجة الألوان ” و”أطلقت البحر في تنهيدتهاو”تنتفض كالسمكة على السطح الساخن أمام التفاصيل الصغيرة ” و«كانت المقاعد قلقة تحتنا» و«غجرية الملامح والتضاريس» الى غير ذلك. هذا أسلوب للشعر في الأساس لا القصة. ثم يأتي البرهان الثالث في اشتعال الختام. والشاعر يعرف بختامه لا باستهلاله. لأن براعة الاستهلال وفقا للمقاييس البلاغية القديمة لم تعد شوطا ملزما للشاعر المبدع. إنما تكمن العبقرية في الختام أو الكريشندو اذا استعرنا لغة السيمفونيات. حيث يركزا لمضمون كله. وكثف التجربة التي فجرت العمل الغني. وإذا عدنا الى خواتيم وحيد الطويلة ستلفت انتباهنا أكثر من بداياته.
ويحقق لنا هذا البرهان الثالث تحديدا خاصية أساسية في لغة وحيد الطويلة. هي التنامي المطرد للعمل فيتشابه بذلك مع الدراما بمعناها الذي يرفض أن تكون دوامة تدور حول نفسها. إنما موجات تتتابع وتكبر وتتسع. موجة بعد موجة. دائرة بعد دائرة. وهي التي تمثل لديه لحفلة التنوير. فلا حبكة تقليدية متقنة ولا سرد متسلسلا. إنما هو يصور وينحت ويعزف ويفني. فتتحول الكلمات الى تماثيل ولوحات ومشاهد ومعزوفات بطريقة يجتمع فيها
الكل في واحد. ثم يأتي رابع البراهين في التكوينات الثنائية القائمة عن المفارقة أو التجانس. والمفارقة لا تقوم على تباين السميات في الشكل أو اللون أو الصوت. إنما على تباين الدلالات والغايات. وهذا التباين -وهو الأكثر – يجعل لتلك التكوينات تنوعا متحركا في إطار معرفي متآلف. حيث تتعدد رؤي الوجه الآخر الذي لم يكشف عنه. وهذا زخم شعري (6) يؤثر فيا الشاعر أن يجعل المألوف مثيرا للدهشة. راصدا غير المتاح ليقع في دائرة المعرفة المتاحة.
وخامسها : ظاهرة تشخيص اللغة وهي طاهرة شعرية تتضمن زاويتي نظر متحالفتين. احداهما تكشف عن جوهر المبدع. بينما تضنيا الثانية تحديقا وتلمسا. فإذا انكشف عنه التحديق والكسر عاوده هم التعبير والتحبير (7)… يقول وحيد الطويلة على سبيل المثال في فضاء ضيق : «وحين ترسل لها مع حمامك الزاجل رسالة الهوى تنفش ريشها وتتول انها مازالت صغيرة. وتريد ممارسة الطيران وحدها فترة أهول قبل أن تسكن القنص. تخبي، أعوامك الستة والثلاثين في حزن عابر اعتدت طيا بقلبك الذهبي. وتتساءل بلفة نحاسية أيضا. لماذا تطن هذه اليمامات أنك بلا أجنحة ؟!» انه ذو فبيعة حسية. يستطيع الاحساس بالأشياء عبر تشخيصها. فيسهل له تبين الألوان والظلال وتشمم الروائح وتلمس الأشكال. فيصل الى مستوى من الرؤية الحيوية للكون الذي يبدو أمامه في تخلق مستمر. صيرورة دائمة. بل ومزاوجة ومقاربة وتوالد. ولذا تتجل الصورة الفنية لديه دائما بالرغم من أن رغبتا في التجريب شديدة الحيوية والتألق في التعبير من واقع اجتماعي. فتجسد -هذه الصورة -ملكة الرؤية الشاملة. ولك تحتاج لبنائها ملكة ادراك المفارقة والمشابهة لا ملكة ادراك التمايز وتوحد الأشياء. والملكة الأول يحتاج اليها الشاعر الحساس الذي وصفه العقا، في مقدمة “وحي الاربعين ” بقوله : “الشاعر الحساس لا ينبغي أن يتقيد إلا بمطب واحد يطوي فيه جميع المطالب. هو التعبير الجميل عن الشعور الصادق “. فهل يخرج عرى وحيد الطويلة في مجموعته عن دائرة “التعبير الجميل عن الشعور الصادق”؟!
قاص مرحلة الانتقال
الحق أن وحيد الطويلة – في رأيي- هو قاص مرحلة الانتقال. الذي أجاد الفكاك من عيوب القص المعاصر. بحكم سيطرة الموروث الأدبي. عبر لغة متميزة لا تعتمد على الايحاء بقدر ما تلجأ الى التحديد. المقيد بالتأمل. ولو لانت الألفاظ رموزا لمرموزات تستعمل لدلالتها الايحائية لا لدلالتها الواقعية. كانت لغته -على اتساع منابعها.لسانا يخلع الشاعرية على فتات الحياة النثرية. ونحن لا نستطيع أن نحاسب مبدعا على اتساع عالمه. فتك ميزة تحسب له لا نقيصة تحصب مليه. لكننا نطالبه حين يتسع عالمه أن تكون زاوية رؤيته لهذا العالم المتسع محدودة. بحيث يصبر لكل موضوع زاوية الرؤية التي تنسجم معه وهو ما يفعلهدون أن نطالبه -به. ولأن المسافة التي يعبرها الفن هي المسافة بين الواقع الواقعي والواقع الفني أو المسافة بين لغة الجمود ولغة الحركة. لا يعبر وحيد اللويلة عن تباين شخصياته بتباين المستويات اللغوية -الايهام الشائع المبتذل -وانما بإثارة المعنى واثارة ظلاله وكشفه وان لم يبق منه بقية لحدس القاريء بعد تأمله. وعلى طريقة أن يوليوس قيصر قد يتحدث الانجليزية في مسرحية شكسبير. وأوديب قد يتحدث الفرنسية في صرح اندريه جيد وكوكتو. وايزيس قد تتحدث العربية في صرح توفيق الحكيم. لا يضير وحيد الطويلة أن تتحدث زوجة الأب الفلاحة في «وصية أخرى للقمان » قائلة : ألم أقل لك لا تتعارك معه ؟ الاتعلم أنه أخوك ؟ لغة تنتسب الى العربية الفصحى بأوثق رباط. حرصا على سلامتها وبعد عن علل الترخيص.
وفضلا عن هذا – بعد الاستطراد -تتمثل الخاصية الشعرية السادسة في قصص وحيد الطويلة في التكرار أو الترديد. وهي خاصية فنية عريقة في الشعر العربي وغيره. نجدها عند مالك بن الريب كما نجدها عند توماس إليوت. ووحيد الطويلة لا يجيد توظيفها فحسب. بل يوفق دائما في هذا التوظيف. فيربأ بها عن استخدامها كمتكأ للاسترسال. بل تصبح في كل مرة مثال انبعاث لنشوة المتلقي. والأمثلة كثيرة. وذلك نجده يعتمدها – كما في الشعر – عاملا لغويا من عوامل تجسيد الاستمرارية للمتحدث عنه أو المحور الذي يدور حوله وان تغير- المواقف وهذا نجده أيضا بكثرة لدى امريء القيس. يقول وحيد الطويلة في مفتت ح فضاء ضيق ” في المقعد المواجه في المقهى المعتاد “. وفي السيارة ليست للبيع “في مقعد ليس بعيدا”. هذا على مستوى القصص المتعددة. أما على مستوى القصة الواحدة فيقول مثلا في كوكتيل “على مقهى يليق بالحدث لا بالحديث. ثم «على مقهى يليق بالحديث لا بالحدث ثم على مقهى يليق بالحدث والحديث ». أما في برزخ فيقول “تغيب فأسرج فيل فنوني ». ثم «تغيب فلا أسرج خيل ظنوني». وفي قصة خلاصة كبد النط يعيد «طق طق » في مواضع مختلفة. وفي أنا حزين ويخير يقول : «ماتت التي كانت سنتف بجانبك » ثم «ماتت تركتنا للعراء». وفي نغمى القصة يقول أيضا >تتذكر. كان وجه الصبي» ثم «تتذكر الآن جيدا » ثم «تتذكرانها أطلقت البحر » ثم «تتذكر عندما كنت في النص سأخذا يؤدي الى الاقلال من الاخبارية( 8) لكننا- مع عدم انكار ذلك – لا نفترض وجوءه عند التعامل مع نصوص وحيد الطويلة، عملا بمبدأ القائلين بترك الأمر لما يسفر عنا التحليل. أو بمينة أخرى. مبدأ الانتقال من التقعيد الى الوصف والتشخيص -وهو ملمح سبقت الاشارة اليه -وهو المبدأ الذي نلمحه لدى ابن الأثير حين تعامل مع التكرار في القرآن الكريم. مؤكدا فاشدته في إهار السياق المقالي والسياق المقامي. وهو ما يدل على احتمالية وجود معنى واحد – كما عند وحيد الطويلة – والمقصود به غرضان مختلفان أو أكثر. وهذا يؤكد -من ثم -اثبات الفارق في المعنى، فضلا عن ميزة التكرار في الربط بين أجزاء الكلام وتنشيط ذاكرة المقلتي. استجابة لمركزية يدور في فلكها الايقاع. والنفس البشرية قد تكون – شيء في فبيعتها – قادرة على الاستجابة لايقاعات تتخذ نواة جذرية مركزا لها. ثم تنشأ حول هذا المركز نواة ثانية أو أكثر(9) بمعنى أن الانسان يتفاعل مع عنصر جذري أساي وحيد. يقع في مداره عنصر أو عناصر أقل جذرية ولا يفوتنا. بالمناسبة -أن بنية القصيدة ير شعر أبي تمام كان تعتمد على ذلك.
التجانس الصوتي وكثافته
هذا يعني – بالتبعية -استفادة مبدعنا عبر هذه الخاصية. من قاعدة ازدواجية اللفظ التي تسمح باستعمال عدد معلق من المدلولات من عدد قليل من المدلولات. وهي قاعدة تقود اللغة الى التجانس الصوتي الذي يقترح قرابة في المعنى. وفي الشعر يتم تقييم كل تشابه في الصوت على أساس علاقته بالتشابه في المعنى. ولذلك عند تطبيق القاعدة التي صاغها بوب بقوله : «هل الصوت أن يبدو كما لو كان صدى المعنى »(10) على الكثافة الصوتية للألفاظ التي يحتويها قاموس وحيد الطويلة في مجموعته. سوف تكتسب أبعادا تؤكد حاميات جوهرية في البنية الايقاعية. أهمها تقسيم الجمل الى وحدات تشطيرية أكثر كلما كان هناك وحدات تنتمي الى بنية تركيبية تهييء لقانون التمانل والتراكم. ومن هنا يبدو تحفني الأولي منعلتيا. فعمل فني يضم كل هذه التقنيات لا يمكن بحال أن يكون باكورة أعمال صاحبه وإن كان افترن كثيرا حتى فاض به الكيل. انظر ماذا يقول مثلا في قمت أر نمول «وأنت لست سوى المماحك المتماحك / بين نني العين وباب الروح / لها أن ترشف الشاي والعاشق رائحة النعناع ” وفي قمته شاي مر «أفلتت نسمة من قبضة الأغنياء / حطه البحر أمامي. أفلق أصواتا عرجا، بما يكفي لتنبيهي ». وفي المدينة «بائع الكتب في الزاوية يبيع الكتب والكتاب.ألخ.. وبالتالي فإنه إذا كان الشعر يستجيب لقاعدة التوازي.الصوت. الالته.. فإن لغه وحيد الطويلة يميل الى تجانس الكلمات التي تنتمي الى قطاع واحد.
انها بعض السمات الاسلوبية التي نلحظ منها حرصا خاصا من جانب مبدعنا تجده الألفاظ التي كانت شاغله الشاقل سواء عل المستوى الفردي أو التركيبي- تركيب الجمل – غير أن هذا المرص تمثل عل المستوى التركيبي بصورة أكبر مما هو عليه عل مستوى اللفظ الفرد. ولذلك تظ الألفاظ في تجاذب ستمر. ومن نتاج هذا التجاذب. تشع قيمتها وتنتظ في الالتها. فلا تتحدد أبعاد اللفظ إلا من خلال علاقات التجاذب مع غيره. ومع هذا الخلق. تكثر ذبذبات الايقاع وتتعدد ألوان الشكل فتظل حساسية النصوص النفسية واللغوية مازجة وفي شاعرية بين الماء والنار والظل. مؤكدة أن الحقائق الصفري. هي تلك التي جاءت نسبتها الى صدقها. فليشر وحيد الطويلة براءته مطمئنا الى حيرته. وليجن من عناقيد القصة لم القصيدة ما ينش به أدته. دون أن يتنازل في المستقبل القرب عن الرواية لم القصيدة أيضا. مع صعوبتها، وليمنح الحياة من المعاني الجميلة ما يلهمها الخيال والحب ولنبتسم محتفلين معه في النهاية. بصدور مجموعته القصصية عن مركز الحضارة العربية. ولنبتسم ثانية. فإن في الأرض من التجهم ما يكفي ليثقل قلوبنا، مصداقا لقول الشاعر الأمريكي ويتمان ه احتفل بنفعي واتفنى بنفسي لم وكل ما أدعيه أنا.. عليك أن تدعيه لم لأن كل ذرة تنتمي إلي.. تنتمي اليك “.
المراجع
ا – محمد محمود بدا لرازق -فن معايشة القصة القصيرة -هيئة الكتاب.
القاهرة 1995.
2-محمد الرفاعي – عربة اسمها المسرح -محطات للانتظار محلات للسفر – هيئة الكتاب -القاهرة.997 ام.
3- د. حسن فتح الباب – سمات الحداثة في الشعر العربي المعاصر – دراسات أدبية – هيئة الكتاب – القاهرة 1997م.
4-د. رشاد رشدي – فن القصة القصيرة -مكتبة الا نجلو المصرية -القاهرة. 1959.
5- هنري ودانالي توماس – اعلام الفن القصصي- ترجمة شار نوبة – دارالكتاب المصري 1956م.
6- سلاح عبدالصبور – نبض الفكر – قراءات في الفن والأدب -د.عزالدين اسماعيل – هيئة الكتاب -القاهرة -1998م.
7- د. جميل عبد المجيد -البديع بين البلاغة العربية والسانيات النصية -دراسات أدبية – هيئة الكتاب.القاهرة -1991م.
8- رونالد دافيد لانج.الحكمة والجنون والحماقة -سيرة طبيب نفسي- الألف كتاب الثاني.هيئة الكتاب 209.
9-د. سيرية يحيى المصري- بنية القصيدة في شعر أبي تمام. دراسات أدبية.العيشة 997ام.
10- مذكرات كازانتزاكي. ترجمة ممدود عدوان. دار ابن الرشيد لطباعة والنشر – بيروت – 1980م.
4/حواديت القرية اللصوص والمطاريد في رواية مصرية
بقلم: جمال القصاص
يلعب وحيد الطويلة في روايته الأولى «ألعاب الهوى» الصادرة حديثاً عن مركز مريت بالقاهرة، على أزمنة الحكي الشفاهية والتي تتمثل في حواديت وطرائف ونوادر القرية المصرية. ويشكل من دلالاتها الفارغة والاعتباطية والساذجة مناورة سردية شيقة، يردفها بخيال جامح، مسكون بمجاز الحكاية، وروح ساردة نزقة، تشيع جواً من المرح والسخرية في تخوم النص، ولغة هجين تمتح من الفصحى والعامية معاً، وتمزج بينهما في تساوق سلس ومحكم، يكثف من حيوية الحوار ويضفي عليه مسحة من الشفافية البصرية والسمعية.
منذ بداية الرواية يطالعنا واقع هزلي لقرية نائية، جهمة، ضاربة في الحلكة والفقر، وشخوص معظمهم من اللصوص والمطاريد والساقطين من غربال الزمن والحياة، لا يحركهم سوى نوازع الجشع والطمع، مفتقدين أدنى إحساس بالنبالة أو الكرم. وفي المقابل يبدو بطل الرواية «الشيخ حامد» ذا نزعة إبيقورية من نوع خاص، فخياله لا يذهب ـ غالباً ـ أبعد من حدود بطنه، وكأن الطعام متعته، بل مرثيته الوحيدة في الحياة.
حامد، خطيب مسجد القرية، المتعلم في الأزهر لا يكره سوى شيئين: الجوع والموت، لذلك يسخر منهما في أعماق نفسه، ويطاردهما حتى في الحلم، وهو يرى أن العالم خلق في لحظة جوع، وأيضاً سيؤول إلى الفناء في لحظة جوع، ثم إن البشر ـ في رأيه ـ لا يعرفون الشبع، بل هم دائماً مفطورون على الجوع. ويضرب الأمثلة على ذلك بشكل طريف ـ أحياناً ـ في خطبه بالمسجد. وعلى نحو خاص في نكاته ومزاحه مع صديقه الشيخ اسماعيل، الكفيف مساعده في المسجد. وعلى العكس من ذلك يبدو «النادي» أخوه الأصغر عادلاً قوياً، صاحب سطوة ومهيبة خاصة، يعمل للصالح العام.. يموت النادي فجأة، في لحظة مصيرية من حياة القرية، وبعد أن اكتمل على يديه مشروع المصنع الجديد، الذي سيقي أهلها الغلابة ويلات العوز والجوع.
وبموت النادي ينكسر الحلم، وينفرط عقد الزعامة الوهمية في القرية، في مكائد وفتن وحروب صغيرة، تُسرق خلالها حجة القرية من حوزة الشيخ حامد، ويغتصب «وفازيت حار» ابن أخيه، «الفنجرية» بائعة الفاكهة الشريدة التي أوتها القرية. وتلمح الرواية إلى علاقة ما غامضة بينها وبين النادي، حيث كان يحوطها بهيبته، ويحميها من غوائل الزمن والبشر. وكما يشير النص.. «جميلة من الغجر، قال النادي وصمت، بدا كما لو كان الوحيد الذي يعرف خبيئتها، ولم يبح لأحد، استطالت جذورها في البرية، وتفتحت مواهبها يوماً بعد آخر، انتقلت من العسل الأسود والليمون إلى الأفراح والمآتم، وهات ياعديد».
في هذا الجو تتسع سطوة اللصوص والمطاريد، بخاصة في لعبة الانتخابات التي يزج فيها الشيخ حامد عنوة، وبعد أن يحال إلى التقاعد تاركاً مهمته في المسجد لواعظ آخر.. وتسود حالة من الاضطراب والتشرذم القرية فلا أحد يستطيع أن يملأ فراغ النادي أو يعوض وجوده الذي أضحى بمثابة ايدلوجيا شعبية، وهو ما يرشح شخصية النادي لأن تتماثل رمزياً مع شخصية جمال عبد الناصر.
ويثير هذا الالتباس الرمزي العابر في طوايا الرواية سؤالاً مهماً حول علاقة النموذج بالجماعة، وكيف يتحول كلاهما إلى قناع للآخر، يضمن، أو على الأقل يؤمن حدود وجوده، فإذا انكسر القناع ترتبك الجماعة، حتى تبحث عن قناع آخر. بيد أن هذا الاستيهام السياسي لا يتوقف فحسب عند شخصية «النادي» فثمة استيهامات سياسية أخرى، يمكننا أن نجد تجسدات لها في الوقائع السالفة الذكر.. وغيرها. وهي استيهامات استطاع النص أن يضمرها ويموهها في حركته صعوداً وهبوطاً، وإن ظل بعضها ناتئاً ومقحماً لاصطياد مفارقة خارجية غير مشبعة بروح النص نفسه، أو نابعة منه. وربما يجسد ذلك هذه الممازحة بين «وفا» وعمه حامد بطل الرواية.. «عليّ النعمة من نعمة ربي يابا حامد، انت أحسن من جمال عبد الناصر.. إنت بتتريق عليّ يابن خويا؟! عبد الناصر هو اللي بدع الاشتراكية، وانت اللي طبقتها، والله لو عرف يمسك البلد زي ما انت ما مسكت العيلة لحل مشاكله، لكنه ساب كلابها على ديابها».
وعلى ذلك، ففي مناورة السرد يفضح الطويلة الحكاية، يعري منطقها وتواطؤها ويرميها على قارعة الطريق كمحض واقعة، شائعة ومبتذلة، وكأنه هنا يذكرنا بحس السامر الشعبي، الذي يمزج الراوي فيه ايقاع السرد، بلطشاته المطولة والخاطفة والمتقاطعة بمتعة الفرجة، ليفض في النهاية مكنون الحدوتة، أو الأمثولة، أو المروية، ويتحول الجمهور ـ من ثم ـ إلى شهود عيان، ليس فقط تحت تأثير لحظة الاستماع، بل بما يضفيه على الحدوتة نفسها من طلاءات تشارف روح الحكمة أحياناً، والفانتازيا والقداسة أحياناً أخرى.
وبرغم إن الراوي أو «الكاتب» نفسه متورط ضمنياً في النص، إلا إنه يحتفظ دائماً بمساحة ما محايدة، تتيح له حرية الترقب، والوصل والقطع لخطوط الزمان والمكان، سواء في النسيج الداخلي للنص، أو في محيطه الخارجي والذي يراوح ما بين حقبتي الستينيات والسبعينيات في مصر. وهو راوٍ حذر، شديد الحيلة والتيقظ، يشبه ـ بلغة الطويلة نفسه ـ الذئب الذي يغمض جفنيه مدعياً النعاس، ليهب الفريسة نوعاً من الأمان الزائف.
يتحرك هذا الراوي في النص على مستويين أحدهما علوي، والآخر سفلي، فهو لا يختلط بحوارات الشخوص، ولا يتدخل في حيواتهم ومصائرهم، بل يعلو على ذلك في لحظات. وفي لحظات أخرى يبدو وكأنه يحرك كل الخيوط، لكن بشكل شفيف غير مرئي. وقد أتاح هذا للنص القدرة على أن يتحول بتلقائية من الداخل إلى الخارج والعكس في الوقت نفسه، كما ساهم في خلق نوع من الذبذبة الدرامية في حركة ضمائر السرد وهي تنتقل بين الأنا، والنحن، والهم، وصيغ النفي والاثبات، والاستهلال والوصف، وسط سطوة الفعل المضارع ظاهرياً، والذي يشي بكثافة زمانية ما، لها امتداد تاريخي قائم ومتحقق بالفعل، يتجاوز الحدود أو الحرية المتوهمة للنص.
يخرج الشيخ حامد من عباءة الميثولوجيا الدينية بشكلها التقليدي، لكنه يحولها في الحلم إلى طقس شعبي، مخفوق بروح مُفَارَقةٍ حريفةٍ، وتوترات منولوج داخلي متقطع، تختلط فيه الرؤى الحلمية والمشاعر الكابوسية، ومحفوف في الوقت نفسه بنبرة سخرية من الموت والذات والآخر، تظللها نوازع وهواجس مرحة، تغيم فيها الحدود بين الجد والهزل، بين الواقعي والمتخيل.. فالشيخ حامد التقي الورع الذي لم يشتهِ في حياته سوى لذة الطعام، ها هو يوشك أن يخسر آخرته بسبب حسنة وحيدة، لا يعرف كيف يعوضها، أو حتى يستدينها من أحد أقاربه أو معارفه، ولا ينسيه جو الحلم المفعم بالمفارقات تاريخه الشخصي ولذته الأسيرة، لذلك يخاطب نفسه.. «حسنة بمليم يا حامد، حسنة واحدة وتصل للبريمو، وتأكل الديك الرومي وحدك، والنساء مثل لهطة القشطة حولك، فلتبحث عن أبيك رغم أنك كنت تخاف منه خوف العمى».. وحين يصحو من حلمه يصرخ في وجه زوجته.. «هما ولاد الكلب دول يا نميرة كانت عندهم حسنات من أصله».
ومن ثم تفكك طاقة الحلم الترسيمات والأدغال التقليدية للشخوص، وتمنحهم خيالاً مؤثراً، ولحظات خاصة من النشوة والسمو النفسي على واقعهم المادي، فصدمة الخبرة الدينية لدى الشيخ حامد تحولها طاقة الحلم إلى فعل تطهير، يصطدم في مرآته بحيواته الهاربة ونواقصه الدفينة. وبآليات هذه الطاقة نفسها يتحول مشهد موت زوجته «نميرة» الانسانة البسيطة العادية، ولحظة دفنها في آخر الرواية إلى محفة روحية، تحلِّق في أجوائها وكأنها احدى القديسات. وفي تلك اللحظة نفسها تحرك طاقة الحلم آلية التذكر، فيخايل الشيخ حامد في ظلال موت «نميرة» طيف أمه «عروسه» وكأن الموت طاقة أخرى للتفتح على الحياة.. تجسد الرواية هذا المشهد في نجوى حلمية على هذا النحو.. «قالت نميرة إنها رأت كوكباً في قلب السماء ليلة وفاة عروسه راح يدور ويدور حول البرية، يغيب ثم يظهر ثانية، واختفى قبل طلوع الفجر».
إن الجوع يبرز في الرواية كـ«تيمة» أساسية وفارقة، بل محرضة أحياناً على التمرد ضد المفهوم الفارغ والهزلي للحكاية أو الحدوتة، بل ضد مفهوم الشبع نفسه، والحلم المتواتر فيه. فالشبع كما تصوره الرواية ـ حالة مؤقتة طارئة سيعقبها جوع أشد، بخاصة في واقع يعيش معظم ناسه على حافة الرغيف ـ لكن هل يمكن أن يندرج هذا النص ضمن ما يمكن أن أسميه «كتابة الجوع» وفي ظل فانتازيا الجوع والشبع بايقاعاتها اللدنة، الساخرة والمباغتة التي تلون سياقات السرد، ومسارات الحوار، وتشكل ـ إلى حد كبير ـ قسمات وملامح الشخوص، وصراعاتهم مع بعضهم بعضاً، أو مع واقعهم الذي أدمنوا عطبه وحلكته.. أتصور أن الرواية تقع في معظم فصولها على قدر من تخوم هذه الكتابة.. فعلى الرغم من أنها ركزت على الشبع كمظهر فيزيقي نقيض للجوع، إلا أنها استطاعت أن تحقق من خلال أمثولات التشابه في بنية المشاهد والرؤى والحالات صيرورة روائية مسكونة بشهوة أعلى مما هو أرضي أو حسي في البشر والناس والأشياء.
5/الخيال المتوحش في الصراع على الثروة عند
وحيد الطويلة
فتحي عبدالله : بقلم
الشفاهي ممثلا في خيري شلبي أو الأداء الكتابي المتقاطع مع السرد العالمي ممثلا في إبراهيم أصلان ليقترح شكلا جديدا متجاوزا كل هذه الأداءات بما فيها من هشاشة تصل إلي حد التفكك وانتفاء البناء وتحول النص إلي وثيقة اجتماعية كما في النموذج الأول شلبي أو التشيؤ والموضوعية كما في النموذج الثاني أصلان‏.‏ وقد اعتمد وحيد الطويلة في هذه التجربة علي الخيال البدائي المتوحش‏,‏ الذي تم استثناؤه في العلاقات الاجتماعية التي تخلقت مع ظهور العمران وتكون المجتمعات في أشكالها الأولي‏,‏ وما يصاحب ذلك من عواطف وانفعالات حادة ومتناقضة‏,‏ تدفع جميع أطراف الصراع إلي ذروة الفعل الإنساني وهو الاستقرار‏.‏
إن أهمية المكان في هذا النوع من السرد لابد أن يشكل جزءا من الرؤية الكلية للنص‏,‏ ولابد أن يكون بدائيا وكأننا أمام أسطورة جديدة للخلق‏.‏ ولهذا فقد اختار الروائي الطويلة المكان الخام أرض الهيش لتكون مولدا لجميع شخوص الرواية‏,‏ أما أفعالهم وسلوكهم البشري فكان بالقرى المجاورة لأرض الهيش ولابد أيضا أن تكون شخوصه حادة وصارمة وممثلة للسلوك الفطري سواء في الخير أم الشر‏.‏
إن البناء الروائي الذي قدمه الطويلة محكما لأنه اعتمد منذ البداية علي رؤية واضحة في الصراع بين الشخصيات الرئيسية‏,‏ فجميعهم نازحون ويعتمدون علي العنف والقوة في السيطرة علي الثروة وإدارة شئونهم اليومية وتلعب علاقات القرابة أي منظومة العائلة المصرية وما بينها من ترابط حتمي وصراعات ضرورية الدور الرئيسي في نمو وتطور الأحداث‏.‏ وتكاد تخلو الرواية من الحدث الكبير‏,‏ لأن الحدث المؤثر والفعلي هو الذي دفع بهم جميعا إلي الإقامة في هذه القرية‏,‏ وهم جميعا كانوا لا يملكون شيئا ويمارسون النهب واللصوصية‏,‏ فهم مطاريد المجتمعات المستقرة‏,‏ وتحركهم جميعا في هذه القرية الرغبة في الاستقرار والعمران‏,‏ وعدم التصادم مع سلطة التقاليد الجديدة التي لم يتعودوا عليها وكذلك السلطة المركزية ممثلة في رجال البوليس والقضاء‏.‏
فالشخصية المحورية في هذه الرواية الشيخ حامد المتعلم في الأزهر وخطيب الجامع‏.‏ الذي لا يمارس الزراعة أو التجارة وإنما يستخدم المعرفة لخلق نوع من التناغم بين المتناقضات أو تأويلها بطريقة تسمح بالنقد أحيانا إلا أنه لا ينفي ما هو قائم طالما يحقق مصلحة الجميع‏.‏ وهو لا يشارك في الصراع علي السلطة وإنما الصراع كان محصورا بعد موت أبيه بين أخيه النادي وعمه الشيخ قرد‏,‏ النادي الذي يمثل طموحات وأشواق الغالبية العظمي من أهل القرية ورغبتهم في التطور والتعليم والاندماج في المجتمع الكبير‏.‏ والشيخ قرد يمثل امتدادا طبيعيا للجماعة المنبوذة‏,‏ التي تستخدم العنف والنهب في إدارة صراعها مع الآخرين‏,‏ ويرمز إلي الأشكال البدائية في العمل والفعل‏,‏ التي تهمل القانون ويحتكم إلي الانفعال الذي يعلي من الذات في مواجهة الجماعة التي ينتمي إليها‏.‏
والصراع دائما ما يحسم لصالح النادي لحسه الاجتماعي المتطور ولعلاقاته الكثيرة برموز المجتمع المدني ولإنسانيته الشديدة تجاه أفراد الجماعة‏.‏
ولقد استخدم الروائي في سرده الجديد تقنيات تكاد تكون مبتكرة أو جديدة منها‏:‏
‏1‏ اللغة الحية أو العضوية‏:‏ وهي اللغة التي تخلو من التشيؤ أو النزعة الفوقية للروائي وإنما تكشف عن الشخصية في كل أفعالها اليومية المعيشة‏,‏ ولم يتحقق ذلك في السرد المصري إلا علي يد القاص يوسف إدريس وظلت تجربته رائدة لم تتكرر ولم تتطور إلا في رواية الطويلة فقد استطاع أن يمزج بين العامية والفصحى في نسق لغوي فريد لا نفور فيه ولا ابتذال‏,‏ وإنما استطاع أن يكشف عن لغة جديدة‏,‏ روحها عالية ومتسعة للجميع من جميع الطبقات والشرائح الاجتماعية حتي الدنيا منها‏.‏ إن هذه اللغة استطاعت أن تنقل الرؤية كاملة إن لم تكن جزءا من هذه الرؤية‏,‏ وفي ذلك إشارة إلي إمكانية اللغة العربية في الوصول إلي مناطق روحية جديدة‏,‏ شرط أن يتخلص الروائيون من أعباء اللغات الميتة كما هو قائم في تجربة إدوارد الخراط أو اللغات المصنوعة عند معظم الروائيين خاصة الجدد منهم وأن يسمعوا إيقاعهم الشخصي أو إيقاع تجاربهم‏,‏ كما حدث مع الطويلة‏.‏
‏2‏ السرد الأسطوري‏,‏ إن السرد الأسطوري هو أقرب السرديات إلي الإبداع لاعتماده أساسا علي التخييل والمشافهة والحكاية الشعبية ولقد استطاع الروائي أن يفكك كل هذه الأساطير الكبيرة ويعيد إنتاجها بما يتناسب مع تجربته الإنسانية‏,‏ فالرواية تدور حول توطين مجموعة من البشر في مكان ما وما بينهم من صراعات وما هي القيم التي تحكمهم وما هي أشواقهم وطموحاتهم البشرية وكأنها أسطورة جديدة وصغيرة تحاكي أسطورة الخلق كما وردت في الكتب المقدسة وكذلك صراع الأخوة علي السلطة وكأنه استمرار لأسطورة هابيل وقابيل‏.‏
أما بقية الشخصيات فهي صناعة أسطورية ذاتية لا تحاكي أساطير قديمة‏,‏ وإنما تخلقها بنفس آليات الخيال المتوحش والظروف الاجتماعية المناسبة لتخليق هذه الأساطير الصغيرة مثل شخصية الفنجرية التي تركت قريتها بعد أن قتلت وهربت وتعيش بمفردها كأنثى في مجتمع ذكوري عنيف‏.‏ ثم تحب النادي الذي يرعاها وتعيش في كنفه وتحفظ أسراره وتساعده في السيطرة علي العائلات المقيمة في القرية وتأوي في بيتها اثنين من المطاريد يساعدانها في التجارة نظير النوم والحراسة‏.‏ وبعد موت النادي يسيطر عليها ابن الشيخ قرد وفازيت حار الذي تكرهه وعندما يغتصبها بعد جلسة من جلسات الحشيش تتأزم الفنجرية وتعاني من أزمة وجود وتحديد المصير حتي تقوم بفضح المؤامرة التي يعدها الشيخ قرد وابنه ضد الشيخ حامد‏.‏
‏3‏ التهكم والسخرية‏:‏ إن مجتمعا من اللصوص والقتلة لابد أن يخلق حالة من العنف البدائي‏,‏ من خلال بعض الطقوس والممارسات اليومية‏,‏ إلا أن الروائي خلق حالة من المفارقة الحياتية التي تسعي إلي تخفيض العنف وتخفيفه من خلال جماعة الفقهاء حامد إسماعيل التي تعرف ولا تملك السلطة فجاء خطابها لفظيا غير فاعل مما أحدث نوعا من السخرية السوداء‏,‏ وقد ظهر هذا في خطب الشيخ حامد التي تنقد الواقع بطريقة كاريكاتورية تثير الضحك أحيانا والألم أحيانا كثيرة‏.‏ هذا إلي جوار عالم الفقهاء المليء بالتناقضات واللذائذ الشخصية والرغبات الدفينة‏,‏ فالشيخ حامد عالم الدين لا يهتم بشيء في الدنيا أكثر من الطعام‏,‏ وخطابه الفقهي يحث علي الكرم إلا أنه بخيل علي الآخرين حتي الشيخ إسماعيل‏,‏ ويدعي الترفع إلا أنه يحسد أخاه النادي في مركزه رغم أنه لم يتعلم‏,‏ يدعو الناس في كل جمعة إلا أنه لا يشارك في شيء ولا يهمه إلا مصلحته الشخصية وتصل المأساة إلي ذروتها في رغبته الجنسية غير المعلنة في فنجرية‏.‏ كل هذه المفارقات الحياتية رغم قسوة المجتمع تدفع للسخرية والتطهر‏,‏ مما أحدث توازنا اجتماعيا في العلاقات بين أبناء القرية‏.‏
ومما دفع بهذه السخرية إلي ذروتها اختيار الروائي للغة بسيطة شفافة ناعمة وتثير الفرح والبهجة في التعبير عن مجتمع المنبوذين والقتلة مما خفف وخفض من قسوة وعنف الأفعال الإنسانية لتلك الجماعة‏.‏
‏4‏ الطقوس اليومية‏:‏ إن الطقوس والاحتفالات اليومية قادرة دائما علي خلق المعني الروائي دون مجاز لغوي وإن اعتمدت علي فكرة الأداء الحركي والمشهدي لإنتاج الدلالة وتسريب ما يمكن من العواطف والأحاسيس في شكلها الفطري والطبيعي‏.‏ وقد كان أداء الشخوص في رواية ألعاب الهوى طقسيا بامتياز خاصة الشيخ حامد والشيخ إسماعيل والشيخ قرد وربما فنجرية في بعض المشاهد ومن أهم الطقوس طقس الطعام سواء في منزل الشيخ حامد أو المنازل الأخرى وهو يعكس بدرجة ما بدائية هذه الجماعة‏,‏ التي تطابق بين الطعام والحياة‏.‏ أما طقس العبادة فمكانه الطبيعي هو الجامع‏,‏ ولم يكتف الشيخ بتوصيل الخطاب وإنما كان يؤديه بطريقة مسرحية تعتمد الإشارات والإيماءات وربما التلميحات الذكية وأحيانا يعتمد الدلالات الصوتية للمفردات‏,‏ وقد امتد هذا الطقس إلي بعض الجلسات في المنازل عن طريق المحاكاة والتقليد‏,‏ وربما يكون من أهم هذه الطقوس في الرواية طقوس الأفعال السرية كالسرقة والمؤامرات لأنها تعتمد لغة داخلية لا تخضع لأعراف الجماعة وقد كان الشيخ قرد بطل هذه الطقوس هو وجماعته ويظهر ذلك من خلال علاقته بالمطاريد وسكان الجبل وشيخ المنصر‏.‏
إن رواية ألعاب الهوى لوحيد الطويلة تعيد الاعتبار لما يسمي بسرد الجماعة‏,‏ بكل تخيلاتها الشعبية واليومية في شكل جديد‏,‏ يتقاطع مع الاقتراحات الروائية الكبيرة‏,‏ التي تخلصت من عقدة الشكل أو التي تبحث عن دلالة جديدة‏,‏ فقد اكتشف خلال هذه التجربة أن ما يقدمه الواقع المعاش بكل ما فيه من تركيب وتعقيد هو العنصر الأساسي في بناء رواية ما بعد الحداثة‏.

وحيد الطويلة يفتح «باب الليل»


حكواتي الرغبات والأمكنة والأرواح المهزومة

سيد محمود
في روايته الجديدة «باب الليل» (منشورات الاختلاف)، يخوض الكاتب المصري وحيد الطويلة مغامرة الكتابة عن تونس بعد عشر سنوات قضاها هناك، استطاع خلالها أن يؤسّس لمعرفة فريدة بهذا البلد دفعته إلى التقصّي عن حكايات المقاهي والتلصص في ليل ظلّ دوماً ساحة للمسكوت عنه. الطويلة الذي ينتمي إلى جيل الثمانينيات في مصر، تقصّى في روايته خيبات يتعلق بعضها بفكرة الثورة المجهضة كما نلمسها في حكايات الفلسطينيين الذين وصلوا إلى تونس عقب خروجهم من بيروت عام 1982، والذهاب نحو لحظات «طبخ» الثورة التونسية قبل أن يفعلها محمد بوعزيزي ويشعل النار في جسده.
من المقهى، التقط الطويلة أول الحريق، هو الذي كتب قبلاً روايتيه «ألعاب الهوى»، و «أحمر خفيف» التي تقصّت عن الاستبداد في جسد ميت يحكم الجميع في قرية مصرية، لكنّه راح إلى تونس يطرق فيها «أبواب الليل»، وينظر من فتحته الى عالم يحتشد بالرغبة وبالأجساد العارمة والأرواح المهزومة.
لم يكن اللجوء إلى المقهى حلاً جديداً للطويلة، فقد اختبره قبلاً في قصص قصيرة وروايات ذيلّها كلها بتوقيع من مقاه في عواصم عربية عديدة، لكنّ مقهى «لمة الأحباب التونسي» كان خياره هذه المرة، هو الذي يصف نفسه ساخراً برئيس جمهورية المقاهي، مؤكداً أنّ المقاهي كالنساء، لا تتشابه بالروح وبالعمق ولو تشابهت في الشكل، أو قلّ كالمرأة لا تبوح بنصف أسرارها وإلا لهجرها العالم. الطويلة الذي عمل صحافياً داخل مؤسسات عربية ودولية في تونس، يشرح اختياره لنماذج فلسطينية ممن جاؤوا بعد الخروج من بيروت، مشيراً إلى أنّ «جرح فلسطين أصبح في ذاكرة ميتة، كأنّه خرج للأسف من القلب». ويتابع «ليست قضيتي هنا هي القضية السياسية، بل قضيتي البشر الذين أكلتهم القضية ولم تعطهم مخدّات جيدة للنعاس والنسيان». يرى الطويلة أنّ نماذج المثقفين والفلسطينيين في روايته شهادة غير مطلوبة منه على الحبّ: «لعلك حين ترى الفلسطينيين في تونس قد لا تعرف جيداً كيف بدأت ومضت الثورة، لكنك من هذا المكان البعيد قد تستطيع أن ترى نهايتها على وجوههم المتكلسة وأراوحهم المثقوبة، وجيوبهم أيضاً. سترى كيف أضعت عمرك في النضال، بينما المناضلات والمناضلون الجدد يسحبون الحياة من قرونها».
في الراوية اشتغال على الجسد وحلّ تقني يقسم الى أبواب، لا الى فصول، وهو حل استعاره الكاتب مرة من عمارة المدينة التي يكتب عنها وهي مدينة «أبواب»، ومرة من الكتب الايروسية في التراث العربي، التي كانت ترى أبواباً للجسد. وراء أبواب تونس الحقيقية حيوات ايروتيكية تحدث كل يوم. لعلّ الأبواب كما يلحظ، كانت دلالة على ما هو مفتوح وما هو موصد، على المستحيل الفاتن كما يقول حلمي سالم، على الأحلام والكوابيس، عما يقيم خلفها، وعمن يحلم بالانطلاق عبرها.
ينحاز صاحب «ألعاب الهوى» الى تعبير كتابة الجسد، لا الكتابة عن الجسد، فالحواس عنده «هدية العالم إلينا وبواباتنا إلى دواخلنا والآخر، إلى معنى الوجود، إلى أن نعيشه ونفلسفه بأصابعنا وأنفاسنا». يقول: «أكتب عن الجسد الذي لا يقين أنّنا نملك شيئاً سواه في الكون. ربما أكتبه متمعناً في مصيرنا الإنساني، في ذلك الذي يدلنا علينا، وعلى الألوان التي نخترعها كل يوم».
في مقابل هذه الرؤية، ثمة قراءات اعتبرت النصّ ممتلئاً بروح فحولية تهزم الحسّ الأنثوي في لغته المفتوحة على الحواس. وهنا يستدل الطويلة بقراءة شيرين أبو النجا التي قالت «تأتي الذكورية كأنها شبهة، وليست سمة كاملة للنص، ومن ثم يفخر الطويلة بانحيازه للأنوثة قائلاً: البنت الوحيدة التي أحبّتني باحت لي بحبّها وقالت: أنت رجل بقلب امرأة». رغم طغيان هذه الأنوثة، لم تغب فكرة الثورة عن النص، لكنها ظلت كعزف مكتوم ولم تثقل النص بصخب الشعار. الثورة التي اختارتها عين الكاتب كانت في الحلم، وربما كانت بحقّ في الكابوس. إحدى البطلات وضعت الأحلام في ملفّ على جهاز الكومبيوتر، والكوابيس في ملفات أخرى. ثم حين قامت الثورة، حملته على ظهرها وعبرت أحد الأبواب.
بثقة يقول الطويلة «لا أظنني يوماً سأكتب عن اللحظة ذاتها بشكل مباشر». لعلّ أكثر السمات التقنية في النص ترتبط بطغيان نبرة الحكي من دون ولع بالتجريب التقني، فالطويلة موصوم بأنّه حكاء نجح في تحويل الشفهي ـــ بدرجة ما ـــ إلى كتابي.
الى جانب الحكي، تبرز السخرية كوسيلة لاغواء القارئ بالتورّط وتجاوز المسافة، فهي أداة مكّنت الكاتب من الجلوس كطفل يتيم لا يمدّ يده لأحد، لكن يستطيع بها أن يعلّق صورة له من دون خوف على الحائط، «إلى جانب صورة زوجتي وبجوار صورة عزيز نيسين».



وحيد الطويلة: سارد مصري "يلعب" مع الثورات " ألعاب الهوى"



" أنا تخيلتك، إذن أنت موجود "
خوليو كورتاثار

أنيس الرافعي *

في واحد من أفلام إيليا كازان يتحدث البطل مارلون براندو عن بلاد بعيدة يحلق في سمائها طائر غريب  بلا سيقان. لا يكف عن الطيران. ينام في الريح، ولا يُحط سوى مرة واحدة في حياته...مرة واحدة لا غير كي يموت .
هكذا رأيت دائما  القاص الروائي المصري وحيد الطويلة، لأن عشرته تعلمك بأن الأمكنة لا تفي دائما بذريعة المكوث، وبأن عليك أن تمتثل سريعا لوصية الأجنحة .    وبما أنه الكاتب المصري الذي يقيم في كل مكان ، كناية عن كثرة  ترحاله بين الجغرافيات والأفئدة، فمستقر وحيد الطويلة الأثير هو المقهى ، لدرجة أن رهطا من أترابه وخلانه قرّ عزمهم على تنصيبه رئيسا شرفياً لرابطة المقاهي العربية، مع وعد قاطع من لدنه بعدم المكوث في منصبه لأكثر من دورة واحدة، نكاية في حكامنا الطغاة الذين يصير الكرسي جزءا من أطرافهم، ويتحولون إلى جلطة مزمنة في دماغ الديمقراطية .
في انتظار تبلور حلم تأسيس دولة المقاهي، يقيم وحيد الطويلة عرشه فوق ﺃرجيلته. لا يشرب سوى معسل " الجيراك " الهندي الخاص بعتاة المحترفين، ولا يعتمر سوى قبعات مكسيكية، ولا يعلق على باب روحه سوى  قولة سعدي يوسف " عش في الهامش ، واكتب في الواجهة "، ولا يسامر سوى من يضمر له هكتارات فسيحة من المحبة أو الصداقة.
وإذا عزّ الجليس، فإنه ينسحب إلى ﺃبعد نقطة من نفسه الأمارة بالتواري، ليغدو مثل ممثل بدور واحد يقتصر على إلقاء برولوغ قصير في مستهل مسرحية تحت بقعة ضوء حاد، وبمجرد انتهائه يتقهقر إلى الظلام.
الظلام حيث يحلم يقظانا بأن عصفور الجنة سوف يدخل عما قليل، حاملا ابنتيه البعيدتين على جناحيه .  يقول وحيد على لسان ديريك والكوت " شكراً لليد  الكريهة التي لا تنتبه للسرعة الفائقة التي تحطم بها آنية الورد ، شكرا لمقدار الحب الذي تبذله اليد ذاتها لجمع الشظايا " . يقول شكرا للظلام، ويتفتت كبده كمدا ومرارة ، كلّما تذكر الطريقة السريالية التي نفاه بها النظام المصري السابق من وظيفته إلى ما يوازيها في تونس ، بيد أنّه يكون مظفرا في هزيمته ، فكلّما رأى نفسه مشروعا خاسرا في الوجود كلّما ربح نصوصا أجود.
يقول شكرا للكتابة التي تحمل أوجاعه في قلبها، وحيثما مالت به يميل. الكتابة التي كانت دائما بالنسبة له بمثابة اليد الفريدة التي تستقر فوق مفرق الأحزان. وكلّما خرّبه البطش رمّمته الكلمات .
يتمسك بخيار المقهى أكثر من أي وقت مضى، فيجعل  الأنفاس الحارة للملائكة التي تمصلت لتوها من ﺃسر الدخان تطوف حواليه ، ثم ينخرط في عملية احتجاز الحكايات، وتكبيلها بحبال وهمية إلى أرجل  الطاولة كي لا يسمح لها بصقل فكرة الهروب .
هناك كتب وحيد الطويلة مجموعتيه القصصيتين البديعتين " خلف النهاية بقليل " و " كما يليق برجل قصير "  بروح المنصت إلى قراءة الشيخ مصطفى اسماعيل، حيث يتدرج إيقاع السرد ويصعد مباغتا إلى ذروته ، وبعقيدة المغني الذي يتفاعل مع مقامات زياد الرحباني وتمددات الحنجرة الفيروزية التي تصعد إلى أعلى القوس، ثم تهبط حنونة إلى القاع مثل حركة البجع .
ومن لحظتها وهو شاعر القصة وصاحب حرفة مائزة فيها ، شيمتها  أناقة المزجّج ودقة الصائغ كمن  يكتب ليصقل ﺇهاب المرايا، أو ليشحذ الحجر الكريم على ظهر المِسنّ .
" ويتسع جرح الموسيقى " كما قال جمال القصاص، ليلقي وحيد الطويلة بحجره في بركة الرواية . ومن المقهى  ذاتها الذي يقع أينما سقط ياطر الكاتب، يستقر مثل الملاك الصامت لريلكه، ليشكل حيوات ﺃكثر وليشيد عوالم  أفدح في عمليه " ﺃلعاب الهوى " و " ﺃحمر خفيف " ، بلغة حية طازجة، لا مخنوقة ولا مفتعلة، أو متشيئة، بل بنت بيئة الرواية وسليلة تقاليدها الشفوية  العريقة، لدرجة أن  بمقدورك أن تقرﺃها بصوت جهي، أن تغنيها، أن ترتلها ترتيلا، وأن  ترويها كقصّاص الأثر في ساحة شعبية  و تدهش الحاضرين وتضحكهم وتبكيهم في الآن ذاته بالواقعية السحرية لتلك الأرض، التي ملؤها رجال غلاظ يسرقون كي لا يسرقوا ، وصيادون بلا سمك ، وشذاذ آفاق  هربوا من كل الأصقاع سواء بسبب سجن أو ثأر، غير أن الحكومة لم تستطع ولوج منطقتهم،  ولا اختراق قانونهم الخاص الذي أقاموه في غفلة منها، ثم انصاعوا له بحذافيره .


ترى ، هل فعلا يؤمن هذا الصعيدي الأصيل مع أهل قريته الفقيرة، التي تسمى صومال مصر، بأن  على الناس أن يحكوا مصائرهم  بالسجع والتكثيف والموال والجوع  والفظاعة ، كي تسمعهم الملائكة جيدا ؟.
بيد ﺃنه في عمله الروائي الثالث، المرتقب الصدور مطلع العام 2012 ، تحت عنوان " أماكن حساسة " ، سوف يستعير وظيفة المونتير التي طالما تاق لأن يشتغل بها منذ نعومة خياله، وهو يتابع أفلام فلليني وبازوليني وفرانسوا تريفو وجون لوك غودار وصلاح أبو سيف ، فيسلط  نظره عبر كرة بلورية من مختلف الزوايا على  واحد من أشهر مقاهي العاصمة تونس، ليرصد ما يمور بين أوصاله وكواليسه من فساد مزمن يمتد من أسفل الجسد إلى أعلى السلطة. فساد يتم احتجازه داخل الزمن وتحويله إلى سرد بصري مسجل بمختلف الجنسيات ، حيث تدون كاميرا الكاتب البيولوجية سيرورة الأحداث والوقائع في مشاهد متعاقبة ، تثبت تدفق الزمن وسيلانه، ليتحول إلى نقطة تابثة غير أنها لا تني عن توليد دينامية المحكيات الصغرى الموازية، تماما  ككبة من الصوف وقد سحبت منها بالتناوب أياد خفية  خيوطها في شتى اﻹتجاهات .
وحيد الطويلة، أيضا، هو الصوت الرخيم الطروب مثل طائر " الققنس "  الأسطوري، الذي قيل بأنه
يموت كلما انقطع عن التغريد . لذا فهو يغرد بذاكرته إذا ما فاض كرم مزاجه،  قصائد شعرائه المفضلين: محمد عفيفي مطر وعبد المنعم رمضان وعبد الرحمان اﻷبنودي ويانيس ريتسوس وحلمي سالم ، أو اﻹلتمعات السردية  للرواة الأقرب إلى نبضه: خيري شلبي وسعيد الكفراوي وعزت القمحاوي وزيد مطيع دماج  .
أما إذا ناسب الطرب مقتضى الحال، فإنه يتحفك بجولة فنية مشفوعة بالشرح الموسيقي المعمّق لصناعة القصبجي ﻟ " رق الحبيب "، أو  لدور وجيه عزيز في نداوة صوت جوزيف صقر، أو للطيور الحزينة التي تنطلق من حنجرة نبيهة كراولي، أو لحلاوة حرف الحاء في غناء فايزة ﺃحمد،  وللعسل الصوفي  المتقطر من بحّة أخيه الفنان ﺃحمد الطويلة حين يغني لك " قلوب العارفين لها عيون " . وهلم شرحا مستفيضا للمقامات والإيقاعات، وشدوا  لا ينقطع " بحنجرة رائقة ، تزقزق في مسمعك كالوتر الراجف " مع المواويل الشعبية والأغاني  الموريتانية والجزائرية والمغربية والسودانية، حتى يتآكل فحم الليل من كثرة السهر .
وما لا يعرفه الكثيرون، أن وحيد الطويلة هو الرجل الذي عاش ثورتين . فبوصفه المنتمي الأبدي إلى صفوف المقاومة الشعبية  العفوية ، والمثقف الذي أدرك مبكرا أن الثورة ﺃكبر من عقول النخبة، فقد رابض مع شباب الفيس بوك  في شارع الحبيب بورقيبة منذ انطلاقة شرارة عربة البوعزيزي، وكتب بالقلم وبالفعل معا أجمل يوميات الثورة التونسية .
ولما زمجرت إرادة الحياة وفر ذلك البعبع الذي كان وكيلا لشعب بأكمله في الوجود مفسحا الطريق ﻹندلاع الياسمين ، طار في ليلة سقوط قصر قرطاج إلى " الكعكة الحجرية " و طالب من ميدان التحرير بالوطن المؤجل،  وبتنحي ﺃكبر مؤسسة للقهر في عالمنا العربي .
صاحب الفؤاد الوحيد، الغريب المكتظ بالأصدقاء والأماني، استعصت عليه اليمن وسورية ، غير أن كلماته صارت لسان حال " رابطة شباب مستقبل سوريا " لما نسخوا  بأعداد غفيرة مقالتيه  " أن تأكل من صحن السيد الرئيس "  و " النداء الأخير على  بشار الأسد " ، وعلقوها على الجدران ووزعوها سرا ً كالمناشير الممنوعة داخل  ردهات " جمهورية الرعب "، تماما  مثل  نظرية تحقق المتخيل في الواقع ، وكما يحدث بالضبط  لشخصية الكاتب في  واحدة من روايات أميركا اللاتينية  " أنا الأعلى " للباراغواياني ﺃغوستو روا باستوس.
ثمة أبطال كُثر مزيفون لأنهم يخافون أن تسقط نجوميتهم إلى حصى القاع ، وأن  ينتحر مجدهم في الذبول . عدا أن وحيد الطويلة بطل حقيقي لهذا الزمان. بطل سري لا يدعي مزاولة البطولة، ولا يهرع لإنقاذ الأعمال الكاملة لصيته غبّ أي زلّة شاشة. وحيد  أسطورة شخصية لا شاشة لها، غير أن الجميع يراها .
وحيد....كوكب صالح للحياة .
* كاتب وقاص من المغرب.

هيثم حسين : رواية جديدة للمصري وحيد الطويلة -باب الليل-.. ثورات المقاهي وخيبات المنافي

في روايته "باب الليل" يسعى الروائي المصري وحيد الطويلة لتفكيك بنية المقهى كنقطة جذب ومكاشفة وتحرر من القيود، ويتناول بالمقاربة والمعالجة فلسفة المقهى ورواده، فيسبر أغوارهم ويحلل نفسياتهم، كما يستعرض تواريخهم وهزائمهم وخيباتهم.

يقسّم الطويلة عمله السردي الصادر مؤخرا إلى عدة أبواب، يختص كل باب بجانب، لكن الأبواب تتكامل لترسم دائرة الحيرة والاغتراب التي تغلّف أرواح الشخصيات وتقودها في هرب دائم إلى المجهول من خيبات الواقع والمعلوم.

وينوّه الروائي في البداية إلى أن بعض أبواب الرواية هي "أبواب مدينة تونس، وبعضها أبوابك أو أبوابها" وذلك في مخاطبة مباشرة للقارئ الحاضر والغائب، وليكون الإسقاط والتعميم مفعّلا ومتخطّيا لحدود المرسوم والمروي إلى فضاء متخيل مفترَض.

خلف الأبواب

من الأبواب التي تأتي في الرواية "باب البنات"، "باب الفتح"، "باب الهوى"، باب الجسد"، باب الرجال"، و"باب النساء وغيرها. هي أبواب تستجرّ العواصف وتستدرج اليأس وعدم المبالاة وسط كومة من البشر المحبطين حكايات تبدأ وتنتهي على العتبات. أبواب معتمة ومفاتيح ضائعة وأقفال مكسورة ومحطمة، هي صور لأصحابها المرتحلين خلف سراب المتع والأوهام دوما.

مقهى "لمّة الأحباب" عالم مستقلّ بامتياز. عالم ينفتح على الدواخل، يستعرض الطويلة من خلاله علاقة البشر بالأمكنة، وتأثير تلك الأمكنة عليهم. يكون للمقهى تقاليده وطقوسه وأبوابه، وكل باب بدوره يفضي إلى آخر.

 وكأن المرء في متاهة من الأبواب، ما إن يخمن أنها تفتح مصاريعها وتشرعها له حتى تنغلق في وجهه، وتتكتّم على ما يجري خلفها. يذكر الطويلة أنه في المقاهي تسقط الحواجز، وأن هناك فرقا بين ثوار المقاهي وثوار المنافي.

ولا يكتفي صاحب "ألعاب الهوى" بوصف مقهى في مدينة تونس، بل يكون ذاك المقهى مثالا على غرابة المكان، ومركزا يتجمع أبطاله وشخوصه من مختلف الأماكن. كأن المقهى يتحول إلى نقطة جذب واستقطاب، ما إن يعتاد عليه المرتادون حتى يكشف أسرارهم وشخصياتهم ويحتضن آلامهم وأحلامهم ويغدو لهم المقر الدائم، يسحرهم ويغويهم باستمرار.

لكل تفصيل في المقهى حكاية ولكل زبون تاريخ من الهزائم، وهو بتصميمه الغرائبي يسند التهالك البادي لدى مرتاديه، يروّح عنهم ويكون جسرا للتواصل بينهم. يكون مستنقعا وبحرا في الوقت نفسه، يصطاد فيه الرجال النساء وبالعكس. بائعات هوى يتربصن بالرجال من الشرق والغرب، يتوددن إليهم، يكسبن منهم ما يكسبنه ثمّ يرحلن إلى آخرين في دورة لا تتوقّف، ورحلة نحو المال لا تهدأ.

يكون مقهى "لمّة الأحباب" شاهدا على هزائم عدة أجيال، يشهد سقوط منظومات ودول، كما يشهد تنامي قوى ناشئة وتضاربها مع قوى أخرى، ويكون الإطار العام محمّلا بالفجائع الشخصيّة والعامة. من المقهى تنطلق حكايات مناضلين سابقين يجترّون أيّام نضالهم ومغامراتهم وجنونهم، يتحسّرون على شباب ضائع في زحمة الأوهام والكوابيس والخيانات والغدر.

مناضلون فلسطينيون في المقهى على شرفات التيه، عالقون في برزخ المنفى والعودة، عرب على ضفاف الفجيعة، مهاجرون مقيمون على تخوم القهر يغرقون فيه. شخصيّات حائرة تبحث عّمن يستمع لشكاواها.

شرفات التيه

في كل ذلك بوح كأنه أنين مكتوم من جرحى الزمن والهجر والترك والإهمال. رجال ونساء على حافة الهاوية واليأس والجنون، يقودهم الجشع للمال والجنس والابتعاد عن كلّ ما من شأنه أن يذكرهم بأنفسهم. والهروب من المواجهة الواقعيّة يلقي بهم إلى قيعان المقهى وعلى طاولاته، يتبادلون أنخاب الأسى والضياع، ويكشفون زيف العالم وغدر الأصدقاء ومعاندة الظروف لهم.

من تلك الشخصيّات "أبو شندي، "أبو جعفر"، "غسان"، "شادي"، "كسوف" وغيرهم كثيرون. وجوه مضحّى بها على مذبح المقهى وخلف أبوابه المشرعة على السؤال والفضيحة. وهي وجوه تقابلها وجوه نساء قاتلات قتيلات في الوقت نفسه، يرتهنّ لسطوة المال ويضعفن أمام قرقعة الذهب، قوّتهن في إبرازهن التبعيّة والضعف، يتملكن القلوب والعقول، أو يستأجرنها بشكل من الإعارة المرحلية.

"للّا درّة، نعيمة، حلومة وغيرهن" من الشخصيّات النسائيّة التي تدور في فلك المقهى وعالمه.
ومن خلال كل تلك الشخصيات يفكك الكاتب شبكة العلاقات التي تنسجها السلطة الأمنية مع عملائها عبر وسطاء انتهازيّين، وكيف تدفعهم إلى دسّ الفرقة بين الناس عبر سياسات خبيثة تستهدف قتل الأمل فيهم، وبالتالي إلقائهم على قارعة الطريق أسرى أوهام التغيير دون أن يتمكّنوا من التحلّي بروح المسؤولية، ودون أية مقدرة على التفكير في الثورة لتغيير واقع الحال.

سلسلة من العملاء والمأجورين، ابتداء من صاحبة المقهى التي يسمَح لها بما لا يسمَح به لغيرها، إلى الشيخ الأمني إلى أناس ألقت بهم المصادفات والظروف بين براثن المخابرات لتبتزهم وتستغلهم على طريقتها.

في المقهى وفي الرواية يزيح الطويلة النقاب عن الكثير من الأسرار التي تقبع وراء الأبواب، يطلق صيحته المنذرة/ المبشّرة، ويكون التغيير القادم أحد إرهاصات تراكم القهر ونتاج مخاضات ثورات مغتالة. وما الباب عنده إلا أناس في فضاء الزمن، ينتظرون تثبيتا في أمكنة مستلبة ومغرّبة عن هويتها وطبيعتها وكينونتها.

يمتاز سرد الطويلة بكثير من السخرية الممزوجة بالمرارة، يقدّم ذلك بإمتاع ومؤانسة وحيويّة. يحكي الخيبة والهزيمة بصيغ وأساليب مختلفة عن الدارج، ليؤكد بذلك أن الهزيمة تبدأ من الداخل وتتعمّم لتقتل روح المبادرة في المرء، ولا يكون الشجن والدمع وازدراء الواقع والذات والماضي والحاضر والمستقبل بنوع من الرثاء سوى جلد مبالغ للذات ونيل منها وتسخيف لها.

كما يبرز صاحب "أحمر خفيف" أوجه المقارنة بين النضالات التي يخوضها ثوّار الأمس و"نضالات" بائعات الهوى، مشيرا إلى أن كل امرئ يناضل على طريقته وبأدواته، ويخوض حرب الحياة بإستراتيجيّته الخاصة التي تتوافق مع تركيبته النفسية والجسدية.

سهى زكى حوارات
وحيد الطويلة
أنا حكاء بطبعى وكاتب «مقاهى» بامتياز.. وتهمتى أننى كاتب بطىء

جيلى وضعنى على الحافة حتى يدفعنى فى أى لحظة.. لكن ذلك أتاح لى الرؤية بشكل جيد

ما زال وحيد الطويلة رغم كل هذا الصخب من حوله يتمتع بوحدته، وحيد الطويلة الذى قضى فترة بعيدا عن مصر، ما إن تحدثه حتى تلمح طابعه الريفى الأصيل فى كرم الضيافة، والكلام بصدق، وحتى رأيه الصادم يمرره لك بطريقة تحرج من يتشبث برأيه أمامه، وتجبره على الصمت قليلا حتى يسمع رأيا مخالفا بأسلوب يليق بأديب وإنسان يحترم الحريات. بقراءتك لأعمال الكاتب الروائى وحيد الطويلة تعرف أنه مهموم بكل ما هو إنسانى، ومهموم برفع تلك النظرة الدونية عمن تضطهدهم الحياة بوضعهم فى خانات محتقرة اجتماعيا، وهو مهموم برفض تلك الأحكام الأخلاقية المطلقة والموروثة عن ناس لا يشعر بهم وبآلامهم من يجرِّمونهم.

أين يضع وحيد الطويلة نفسه بين كتاب جيله؟

أضع نفسى على مقهى زهرة البستان.. بداية أنا لا أثق كثيرًا فى حكاية الأجيال أو التجييل، ربما سطع اسم جيل الستينيات واستمر عابرا للحقب ناشئا وملازما لحقبة نادت -أقول نادت- بالفرد، ثم جاء جيل السبعينيات بغضبه النبيل راسخا بشكل أو بآخر.

هل نحن الآن جيل مثلا؟ ربما نحن أمام ملامح كتابة لجيل قريب فى العمر قريب فى الهموم، لكن كل واحد يكتب وحده فى شارع ممهور باسمه.. فرضا البهات يكتب نصا جديدا فى الوقت الذى يكتب فيه طارق إمام وأحمد عبد اللطيف ونهى محمود وسيد محمود والفخرانى تسمعين جيدا صوت محمد المنسى قنديل.

فى وقت ليس بعيدا كان البعض يبشر بأننى الزعيم الجديد لكتابة الريف، لكننى الآن أكتب عن عوالم أخرى تتجاوز الحدود الجغرافية لكنها مرتبطة بشرط المصير الإنسانى الذى يجب أن تتوسل به كل كتابة حقيقية.. الذين يكتبون معى أظن أنهم وضعونى على الحافة بما يعنى أنهم قد يدفعوننى فى أى لحظة خارج المشهد، لكنهم من حيث لم يقصدوا وضعونى فى المكان العالى حيث يمكن أن أغنى جيدا وأن يكون غنائى مسموعا.

أنت من الكتاب الذين يسمع القارئ صوتهم وهو يقرأ أعمالهم، كيف تستطيع أن تكتب مثلما تحكى فى الحياة هكذا؟

كنت مأخوذا ربما بالغنائية، لكننى حاولت دوما أن أخفض صوتها أو أمحيها لصالح موسيقى ما، ساعات أتخيل أننى أصنع إيقاعا للجملة السردية دون قصدية، ثم أكسرها بقصد وأحيانا أتركها، أحيانا يأخذنى الوهم فأقول فى حوار ما إننى صاحب براءة الاختراع فى تحويل الشفهى إلى كتابى، لكننى بالطبع لا أنقله، إنه يمر بكل ما مررت به من أشياء بينها الحكى. أن تكتب كما تحكى تمرين عندى على الكتابة، ربما أنا حكاء بطبيعتى، ولا أخشى أبدا أن أحكى الحكاية ثم أكتبها، لا أخاف أن أحكيها فتتسرب الشحنة، لا أعرف تماما لحظة الكتابة عندى، أعرف فقط طقوسها وحركتى المتوترة فى المقهى، هل أكتب كما أحكى حقا؟ لو كان ذلك صحيحا فأنا جدير بصداقة الزميل ماركيز، كما أتيح للكتبة باب شر سهل لينتقدونى بقسوة.
أعرف من خلال سيرتك الذاتية أنك تنتمى إلى أسرة تعرف قيمة الفن والحكى، كيف عرف وحيد الطويلة فى نفسه أنه يستطيع أن يكون حكاؤ العائلة الشهير؟

أبى كان الحكاء الكبير فى عائلة كلها حكائون، لا يسرد كثيرا لكنه يعرف كيف يسرد، عمى الشيخ حامد بطل رواية ألعاب الهوى كان يتمتع بكاريزما غريبة، يدخل إلى قاعة بها خمسين رجلا وبعد خمس دقائق بالضبط يكون قد وضع القاعة كلها فى جيبه.. أنا من أبعد نقطة فى الشمال البعيد لمصر، نحن من البرارى، لا كهرباء عندنا ولا طريق معبدا، والدنيا تمطر فى العام لثلاثة شهور متواصلة بحسب أننا فى طرف بحيرة البرلس، كانت الحياة تختفى تماما بعد الخامسة مساء وتصعد الحكايات.. ريف يموت رجاله فى البرارى بحثا عن الغذاء أو سلطة وهمية، يقتلون بعضهم ويتركوننا للنساء اللواتى يصنعهن شوقهن ويطبخن حزنهن وشبقهن على نار الحكايات.

رواية «ألعاب الهوى» هى عملك الروائى الأول بعد مجموعتين قصصيتين ناجحتين ثم رواية «أحمر خفيف» وأخيرا «باب الليل».. ما رأيك فى الكتاب الذين يحرصون على نشر عمل كل عام على الأقل؟

أنا كاتب بطىء، وهى تهمة تلاحقنى، لكن لا تنسى أننى «صايع» فى الحياة وسائح، أنا قط الشوارع والمقاهى، والكتابة تحتاج إلى من يقتعدون كراسيهم كثيرا، هل تصدقى أن الزميل أورهان باموق يقول إنه يجلس عشر ساعات، ليكتب فى غرفة مغلقة حتى يصبح هو ومكتبه قطعة واحدة، لا أقوى على هذا الجلد ولست من فريقه، أنا مغنٍ والمغنون غير الكتاب يدندنون فى أوقات الفراغ الطويلة لكنهم لا يصعدون المسرح قبل أن يجلوا أصواتهم.. كتبت كل رواياتى فى تونس بعيدا عن الضغوط، إلا من الحنين، وأخاف أن لا أكتب فى القاهرة، مرعوب من هذه الحكاية فأنا كاتب مقاه بامتياز، لا أكتب إلا فى المقهى، وزوجتى الطيبة تريد أن تدخل البريستوريكا على روحى فأكتب فى البيت، وهى ليست مهمة مستحيلة.

لم تتعمد أبدا إظهار القرية بتلك النمطية التى تظهر عليها فى الأفلام والمسلسلات، هل تعتقد أن ما تكتبه عن القرية هو الأقرب للقرية العصرية؟

أنا من منطقة كان أتخن واحد فيها لصا متقاعدا، جلهم لصوص نزحوا من بعيد كل واحد بجريمته وجريرته، وعندما اكتشفوا أنهم متشابهون صكوا صكوك الأصالة وأقاموا مجتمعا، صنعوا حكايات وأساطير ثم صدقوها جيدا، الأرض واسعة لكنها مالحة والحكايات أيضا، أنا أخذت من هذه المنطقة مادة للخيال المتوحش وربما صنعت لهم أساطير تمنوها أو حلموا بها.

قريتى ليست نمطية فى الواقع أو كما رأيتها لحظة الكتابة.. الملمح الواضح أن قريتى ما زالت تخبز، لا لخوفها من اتهامها بالمدنية، لكن خوفا من العار والعار كمال قال بطل ألعاب الهوى: العار أطول من العمر.

كيف استطعت أن تخرج من فخ قولبة الصحافة للمبدعين؟ وكيف استطعت أن تكتب بهذا الإحساس باللغة والكلمة؟

كنت دائما خائفا من الصحافة من جهة تأثيرها على كتابة الأدب بشكل عام، كانت نصيحة صلاح جاهين للشعراء أن لا يعملوا بالصحافة حتى لا تأكلهم لغة الصحافة، ربما كانت هذه النصيحة خاصة بالشعراء فقط، لكننى كنت أعتقد أنها تنطبق على السرد أكثر، كنت وقتها أكتب القصة القصيرة والقصيرة جدا التى تعتمد فى الأساس لغة شعرية. كنت مغرما وملهما بتلك القصص التى تحاول أن تصطاد العالم فى سطور قليلة، كانت نصيحة جاهين قريبة منى، ولم يغادرنى هذا الوهم حتى عند كتابة الرواية، إذ اكتشفت أننى أكتب الجملة بإيقاع.

كانت المفارقة فى ذهنى أننى أكتب بتلك اللغة فى اللحظة التى تنحو فيها جارتنا قصيدة النثر اتجاها آخر يتمسح بالتجريد.. لم يكن هاجسى اللغة حتى وإن كنت واحدا عتيدا من عشاق اللغة الجميلة، ربما عندى هاجس واحد فقط، أن أكتب بلغة مختلفة من نص لآخر، كنت خائفا أو حذرا، لكن كل ذلك كان يذوب لحظة الكتابة، قبلها بقليل.

ألم تفكر بكتابة رواية ساخرة من بدايتها إلى نهايتها، باعتبار أن السخرية من ملامح شخصيتك؟

حقيقة لا أعرف كيف يمكن أن تكتب رواية كهذه حتى لو كتبتها، لا أعرف كيف يمكن التخطيط لذلك، ربما لأن الواقع أكثر سخرية من أية كتابة.

هل على الكاتب أن يشتغل على وجوده فى الأوساط الأدبية بحكم أنها التى تعطى صك الوجود الإبداعى؟

بكل أسف، الجوائز قد تصنع كتابا ونجوما، لكنها لا تصنع كتابة جيدة، وليس مؤشرا دالا فى الغالب عليها، فى السنوات الأخيرة جرى الوجود الجسدى فى جسد مشهد الكتابة وهشيمها، وذهبت الجوائز كلها تقريبا «فى الاتجاه الصحيح»!!، ولم تعرف الجوائز «الطريق الخطأ» إلا فى حالات نادرة انتصرت لنصوص حقيقية تليق بالكتابة.

وحيد طويلة يلملم أصداء الليل التونسي


بقلم: محمد برادة
تشتمل رواية وحيد الطويلة «باب الليل» (دار ضفاف ومنشورات الاختلاف والأمان) على خمسة عشر باباً، يحمل كل واحد عنواناً «باب البنات، باب النار، باب العسل، باب الملكة...). وهي عناوين تلتحف بالليل الذي يحيلنا على رمزية إروس الذي تقول الأسطورة إنه وُلِدَ في الليل. ذلك أن الفضاء الأساس للرواية هو مقهى «لمّة الأحباب» الذي تمتلكه «دُرّة» سيدة الجمال والأناقة والدهاء، وتتخذ منه ملتقى لربط علاقات التواصل والتجاذب بين فتيات ورجال، ينشدون المتعة «الراقية» مستظلّين بمناخ إروسي تُستعرَضُ فيه الأجساد، ويتمّ تبادل الغزَل وأرقام الهواتف الخليوية...
معظمُ البنات المترددات على المقهى تعثّرنَ في حياتهن المهنية والزوجية والعاطفية، وجئن يبحثنَ عن مصدر للعيش والفوز بلحظات تنسيهنّ الهموم. ولكن، في فضاء المقهى نفسه يوجد زبائن فلسطينيون متقاعدون عن النضال، وممنوعون من العودة إلى ما تبقى من وطنهم بعد معاهدة أوسلو. همْ ينتظرون ما لن يأتي، ويتسلّوْن بمشاهدة «الملحمة» اليومية بين الزبائن والنساء المغامرات. وفي الركن الأقصى، تجلس درة ماسكة خيوط اللعبة، تُديرها بذكاء مستفيدة من حاجة رجال السلطة والمخابرات إلى مثل هذا المرصد الذي يوفر لهم عيوناً إضافية ويؤمّن «بضاعة» الجنس اللطيف... هي إذاً بنية روائية مفتوحة تتقاطعُ خيوط نسيجها من حين إلى آخر، لكنها لا تقوم على تبادُل التأثير ولا تُخضع مصائر الشخوص إلى عقدةٍ روائية مُتحكّمة. والمرجع المجتمعي الذي تحيلنا عليه «باب الليل» عبْر إشارات مقتضبة، هو مجتمع أحادي السلطة إبّانَ الحكم البوليسي في تونس، يعيش أزمة الانحصار والانحدار، ويجعل «الرعايا» في حالة انتظار والسلوكيات مُتقلّبة لا تستند إلى قيم مستدامة تحقق التماسك الاجتماعي.
أما فلول الفلسطينيين الذين يلجأون إلى المقهى لتزجية الوقت، فهُم حاضرون عبْر التذكُّر والحس المأسوي. هكذا يغدو المقهى استعارة لمجهر أو «تليسكوب» يرصد عن قرب، عيّنات من حياة المجتمع التونسي ومن «تقاعُد» فدائيي الأمس المحاصرين بالمرارة والانتظار.
ومن هذا الفضاء - الاستعارة، يشتقُّ الكاتب عنصراً شكلياً يشبه رقعة شطرنج يحرك فوقها شخصيات العاهرات والمغامِرات، ورجال السلطة، ونماذج من الفلسطينيين الذين يلعقون جراحاتهم... ولعلّ هذه البنية المفتوحة الأفقية هي التي فتحتْ الفصول على نماذج مختلفة، في استعراض أشبه باللقطات السينمائية المأخوذة بعَدسة الـ «زوم» التي تبدأ بتكبير اللقطة وتبريزها، قبل أن تتباعد قليلاً لاستحضار محطاتٍ من ماضي كل شخصية.
هكذا، نتعرف إلى حلومة ورحمة وحبيبة ونعيمة وباربي وألفة، وعلى سيدة المقام درة، من زوايا متباينة تكشف عن العمق الإنساني الثاوي في الأعماق، على رغم الاعتداد بجمال الجسد: «كلّ يغني على ليلاه. واحدة تضع حلمها أمامها، وأخرى تريد أن تطير في الهواء، وثالثة عبَرتْ خلفه لدولة أخرى، وواحدة لا تحلم لأبعد من غدها، تختار صبياً وعندما يفرغ العالم من الصبيان ستختار حائطاً من الحوائط تريح جسدها المتعب عليه. وواحدات أحلامهن في رسائل التليفون عبر الهواء. وهناك أحلام على مقاس ليلة واحدة أو غزوة واحدة» (ص 230).
وفي توازٍ مع هذا الشكل والبناء، يختار الكاتب أسلوبـــاً مكثــفـــاً، وجُملاً قـصيــرة، ووصفــاً يــضجّ بالصّور والإيحاءات الجريئة. وتكتسي اللغة تنوّعاً ومرونة تجمع بين لغة الكلام وشعرية الإروتيكا التي ترتقي إلى أسْطرَة بنات المقـــهى انــطلاقاً مـــن جمال الـجــسد ولعبــة التفاتُن والغزَل: «على رأس الطاولة تجلس كطـــاووس بــــأبـــهى الألوان، بضاعة فرْز أول. تعرف تماماً لماذا جاؤوا، تملك فِراسة امرأة من نساء ألف ليلة وليلة، تعرف كيف تدير اللعبة...» (ص 73).
على مستوى الدلالة، تتخلّل الرواية بياضات قابلة لأكثر من قراءة وتأويل. وأبرز ما يثير الانتباه، تلك السلطة الناعمة التي تمارسها المرأة على الرجال المُستلبين أمام النساء. إلا أن الكاتب لا يقدم هذه العلاقة في شكل مباشر، بل يتوسل بوساطة تجلياتٍ إيحائية تضفي على فضاء المقهى سمات ملتبسة، يمتزج فيها الغزل بالوصف الحسي، وحوارات التعارف بأمسيات الغناء التي يحييها المقهى مرتين في الأسبوع... من هنا، تنتسج ظلال الشبق عبْر طقوس لعبة الاصطياد وتبادل أرقام الهاتف، والاحتفاء بالجمال الأنثوي. وكل ذلك يحجب الطابع الحسي الاستهلاكي المحض، ويُوهمُ باستدامة الرغبة، بل وبإمكان نشوء علاقات لا تخلو من غرام وتعلُّق وعذاب.
على هذا النحو، تكتسي مشاهد البنات المومسات الجميلات الذكيات، طابعاً مسرحياً مُلتبساً يتجدّد بتجدّد وجوهنّ، وتجدّد العلاقات القصيرة التي تنطفئ بعد حين. بعض تلك النسوة لا يكتفي بفضاء مقهى «لمّة الأحباب»، بل تُتاح له فرصة السفر إلى أوروبا في رفقة أجنبيّ عاشق للسُّمرة، أو الذهاب إلى ليبيا لاقتطاف نصيبه من الأموال...
تجسّد درة صاحبة المقهى الماسكة بدَفّةِ التدبير، وبالخيوط الواصلة إلى أجهزة الحكم، نموذجاً لممارسة تلك السلطة الناعمة المتوسلة بالأنوثة والإغراء. وتحرص درة على حفظ التوازن في تعاملها مع المترددين على المقهى، وفق تراتبية تحمي المجال من الاضطراب والاختلال. ونجد أنها، على رغم انجذابها إلى أبو شندي الفلسطيني، سرعان ما ترتدي القناع الفاصل بينها وبين مَنْ لا سلطة لديه. وحين استشعرتْ بأن نظام الحكم في بلادها سائر إلى زوال، لم تتردد في أن تواجه الضابط وتتمرد على تعليماته، بخاصة أن أصداء الشارع بدأت تنذر بانهيار النظام.
من جانب آخر، تُطالعنا وسط نماذج نساء المقهى، شخصية باربي التي تأتي لتنكبّ على حاسوبها، وتتصيد شباناً أصغر منها، لتحقق من خلالهم متعتها الخاصة.
هناك أيضاً عناصر من الدلالة في وضعية الفلسطينيين المترددين على المقهى (أبو شندي، شادي، أبو جعفر...). إنهم يختزنون ذكريات الثورة أيام انتصاراتها، وصوراً من البطولات الفردية. ولكنهم في حاضر الرواية، يعيشون مرحلة الانحدار والكهولة والمنفى، وهي حالة، على رغم قسوتها، تعانق جوانب إنسانية تفسر التعاطف بين نعيمة وأبو شندي. وذلك الاهتمام المُضمر بقضيّةٍ تشكّل جرحاً لا يبرأ في أعماق الناس على اختلاف أوضاعهم وانتماءاتهم... وحالة الانحدار تغدو أيضاً موضوعاً للسخرية والنبْش في منطقة الحزن الدّفين، على نحو ما يتبدّى من هذا الحوار بين درّة وأبو شندي: «أنتِ أكثر واحدة تشبهنا، أنتِ تناضلين من زمان وهي أيضاً (فلسطين). نحن كلنا قمنا بثورة في المنافي وأنتِ وحدك قمت بثورةٍ في المقاهي. الفارقُ الوحيد أنكِ تربحين، أما نحن فنخسر...» (ص 103).
تكتسب رواية «باب الليل» قيمتها المميّزة من البناء والشكل، ومن اللغة ذات المرجعية المتعددة المستويات، ومن الأسلوب الحادّ المُكثف. وهي عناصر تتلبّس الموضوع الإروتيكي السياسي، بطريقة مُتلاحمة تحقق التلاؤم والتفاعل، وتستنطق المنطقة المُلتبسة التي تُنسج داخلها الأحداث وتُستعادُ الذكريات. علماً أنها رواية يكتبها مصري مُستوحياً فضاءات تونس وتجليات حياتها اليومية، وفي ذلك جرأة وإضافة، إذ قليلاً ما نطالع نصوصاً يتعدى كاتبوها «حدودهم» الإقليمية. وقد استطاع وحيد الطويلة أن يُلملم أصداء الليل في تونس، وأن يعبر بحرية وانطلاق عن الكامن والمُختبئ، ضمْنَ نسيج سرديّ جاذب وممتع، مؤكداً بذلك أن جيلاً روائياً جديداً هو بصدد استكشاف أصقاع مغايرة للتخييل وتوسيع المعنى

وحيد الطويلة : الهذيان ضروري لخلق لغة جديدة

لدى القاص والروائي المصري "وحيد الطويلة" طقوس خاصة في الكتابة، فهو لا يكتب إلا في مقهى، ولا يستمتع بالكتابة إلا في أجواء، يملؤها صوت المقرئ الشيخ "مصطفى إسماعيل".
إرم – (خاص) عزمى عبد الوهاب
عاصر "الطويلة" بدايات اشتعال بركان الغضب التونسي، وهو أول من أذاع نبأ هروب "بن علي" من تونس من خلال اتصال مع إحدى الفضائيات العربية.

أصدر مجموعتين قصصيتين هما: "كما يليق برجل قصير" و"خلف النهاية بقليل" وروايتين هما "ألعاب الهوى" و"أحمر خفيف" ويستعد لإصدار روايته الجديدة "باب الليل" وتدور أحداثها حول التغريبة الفلسطينية في تونس، حيث قضى هناك أغلب سنوات عمره. وكن لــ"إرم" معه هذا اللقاء.

ما علاقتك باللغة كما تتجلى في إبداعك؟
أزعم أنني أحاول أن أكتب كل عمل بلغة جديدة، لغة تستلهم طقساً جديداً وعالماً آخر، ويجب أن تكون الأغنية جديدة تماماً، دون جملة لحنية قديمة، مهما كانت براعتها، هل أهذي! ربما، فالهذيان ضروري لخلق لغة جديدة.

ما الأثر الذي تركه فيك الشيخ مصطفى إسماعيل حتى تتحدث عنه دائما بشغف كبير؟
إنه رجل لم يكن يقرأ جيداً في حالة عدم وجود مستمعين، ما من قراءة جيدة له وهو يقرأ في استوديو أو تسجيل إلا نادراً، لكنه مبدع لا يستجيب لطلبات المستمعين في الوقت عينه، ثم إنني كاتب طقوس، لا أكتب إطلاقاً في الحر الشديد ولا نصف الشديد، وأكتب فقط في المقهى، وسماع الشيخ مصطفى إسماعيل أحد طقوس الكتابة لدي.

كيف جاءت الكتابة؟
جاءت متأخرة، كأنني كنت أحتشد لسنوات، أو أتصور أنني يجب أن أقرأ كل الكتب قبل أن أكتب، كنت أنفق وقتاً طويلاً في الكتابة بالكلام، قلت لأحدهم إنني أتصور أنني أضيع كتابتي في الكلام ولولا ذلك لكتبت، قال لي: لا، لكنه لم يحبطني أكثر من خمس دقائق، كنت أثق في أنني كاتب، وما علي فقط سوى أن أبدأ بالغناء، وفي لحظة - بدت كأنها لحظة الكشف- طاردتني القصة وضغطت فكتبتها، وبدأت الرحلة.

لماذا تأخذ الكتابة حيزاً ضيقاً ضمن نشاطاتك اليومية؟
نعم تأخذ الكتابة حيزاً ضيقاً من نشاطي اليومي، أصابتني لعنة الأخ الأكبر وسط عقيدة عامة وإيمان كامل بأن العناية الإلهية انتدبتني لهذا الأمر الجلل، ثم إنني انتقلت بين وظائف كثيرة لسد رمق أحلام العائلة، لكنني كنت أمارس الكتابة بما هي فعل قراءة وسماع والإنصات للتجارب الإنسانية في كل وقت.

نحن في العالم العربي أسرى لقمة العيش والجهل بقيمة الكاتب والكتابة، وأصبح علينا أن نقاوم المنظومة التي تحارب الكتابة، نقاومها بالكتابة نفسها، في لحظة ما كنت أكتب فيها قصصي القصيرة وأغنيها أحفظها وأقرأها دون عناء كبير.

ألا تزعجك فكرة قلة نصوصك المكتوبة؟
برأيي فإن نصا واحداً لــ"جون كويتزي" يبقى خالداً ومؤثراً وكبيراً، فحكاية الكم ربما ناسبت كاتباً كبيراً مثل نجيب محفوظ، ويبقي الكم أحياناً دلالة سلبية إن كان قليلاً، وإن كنت لا أظنه كذلك، تبقى أسئلة الكاتب المتعلقة بالمصير الإنساني هي غايته التي لا يجب أن يصل إلى نهايتها طالما يتنفس.

وصفك أحد الأصدقاء مداعباً بـ "رئيس رابطة المقاهي العربية " لماذا ترتبط بالمقهى إلى هذه الدرجة؟
أنت تسألني عن نصف حياتي تقريبا، لا أكتب حرفاً واحداً خارج مقهى، لم يحدث أن كتبت قصة في البيت أو في مكتب، ربما فقط أصحو ليلاً من عز النوم لأكتب جملة أو كلمة أو عنوان حكاية مرت في منامي، أحد النقاد قال عن رواية "أحمر خفيف" أنه من المستحيل أن تكتب رواية كهذه في مقهى، الرواية تحتاج لاحتشاد وطقس ومكان مغلق في الغالب، أحياناً أتساءل بيني وبين نفسي، ألا أحتاج لتغيير المكان والطقس بكامله؟ فالفنان عدو الرتابة و التعوّد، لكنني لا أكاد أجد إجابة، أترك شياطين الكتابة على طاولتي في مقهى، وعندما أعود أجدها، بعضها غاضب لغيبتي، وبعضها يتقافز من الفرح لعودتي.

كيف انعكس هذا على إبداعك؟
ذكرياتي مع المقاهي تحتاج كتاباً، روايتي القادمة تحت الطبع كلها عن المقهى، حيطانه ذكرياته عن نفسه، صورته التي تملأ عينه، شخوصه، قصص الغرام العابر والمقيم، الحياة عبر تفاصيل المقهى، السيدة التي كنت أكتب في مقهاها، ولا توجد طاولة فارغة في مقهاها المكتظ، كانت تقول للعمال عندها : ضعوا قارورة ماء على الطاولة، أتى أم لم يأتِ، أنا واثقة أنه سيأتي، لعلها كانت تفكر أنني واقع في غرامهما معا، هي والكتابة.

هل تحب هذا اللقب "رئيس رابطة المقاهي العربية"؟
لا أحب هذا اللقب ولا أنام للتقدير الذي يشي به، كلمة رئيس منعشة للروح أكثر ويمكن للواحد أن يفعل ما يشاء حتى لو جاء بأغلبية بسيطة، هي بالطبع إحدى طرق المقاومة في عالمنا العربي والكوميديا السوداء، حيث لا رئيس يريد أن يترك موقعه مهما حدث.

عايشت الثورتين المصرية والتونسية عن قرب هل توقعت أن تنتقل الحالة التونسية إلى مصر؟
أنا من أخرج الجملة الأولى على الهواء بخروج "بن علي" من تونس، تحدثت لنصف ساعة متواصلة، بحماس لا يمكن وصفه، اللحظة الأولى لخلع ديكتاتور عربي، لحظة درامية بحق، لا يمكن التفكير في شيء آخر خارجها، لكنني لم أنسَ لحظتها أن أندد بنظامي الحكم في مصر وسوريا.

في تونس كانوا يسألونني عندما يرون مظاهرات كفاية والوقفات الأخيرة ضد نظام الحكم: متى تقوم الثورة في مصر؟ كانوا ينتظرون أن تحدث عندنا أولاً، لم تحدث مقاومة كبيرة في تونس إلا في مناسبتين واجههما الحكم بكل بشاعة وقمع ،هذا يفسر لك ما قاله ذات يوم المنصف المرزوقي أثناء الانتخابات الرئاسية المصرية: بأن نتيجة الانتخابات في مصر ستؤثر على العالم العربي، وللأسف الشديد ذهبت في أسوأ اتجاه يمكن أن تذهب إليه ، وصول الإسلاميين إلى الحكم عطل الديمقراطية لوقت بعيد.


بعيداً عن المقالات كيف تستحضر الثورة في أعمالك؟
الثورة ليست فقط ضد نظام الحكم، الثورة ضد الجهل، الثورة مع خلق الجمال والحب، مع عالم أكثر أحلاماً وأقل كوابيساً، مع العدالة والغناء، الثورة من أجل أن نعرف كيف نحب امرأة، ربما تحمل روايتي القادمة "باب الليل" التي كتبتها في أجواء تونس، رائحة الثورة.

هل تابع النقد تجربتك بشكل يرضيك؟
نعم بشكل رائع، المشكلة أحياناً ليست في النقد فقط مع اعترافنا بتأخره عن الإبداع بسنوات، لكن المشكلة في حالة الشلل الثقافية والجوائز المضروبة، والنقص الفادح في الإحساس بتقدير معنى وجود الكتابة والفن عموما،ً في حياة البشر وانعكاساتها الإيجابية على العالم بكل مفرداته.

في رأيك : ما المتطلبات الأساسية التي يحتاجها الكاتب ليحتفظ بدهشة القارئ أطول وقت ممكن؟
أن تكون صادقاً، هذه هي وصفة الفن الحقيقية، كامل الشناوي كان يقول: عبد الحليم حافظ يكذب عندما يتكلم، يصدق عندما يغني.

هل ترى أن الثورات العربية أضافت إلى الكاتب؟
الفنان ثائر دوماً لصالح الجمال.

حكايات مقهى «لمة الأحباب»






د. طلعت شاهين

لعبت المقاهي، ولا تزال، دوراً كبيراً في الحياة الثقافية والسياسية والاجتماعية في الكثير من بلادنا العربية، وبالطبع في غير العالم العربي، بل هناك مقاه تعتبر علامات بارزة مثل “سارة برنارد” في باريس أو “خيخون” في مدريد، أو “مقهى الحافة” في طنجة، وأيضا تحول الكثير من تلك المقاهي إلى مسرح تدب فيه الحياة من خلال أعمال روائية، آخر تلك الأعمال الروائية التي اتخذت من المقهى مسرحا لها رواية “باب الليل” للكاتب المصري وحيد الطويلة، وإن كان قد اختار لمسرح روايته “مقهى لمة الأحباب” كما يسميها، ويحددها جغرافيا في تونس حيث عمل لفترة طويلة ولا يزال يتردد عليها، وربما كانت تلك الفترة جمعته بشخصيات عمله الروائي الجديد، أو أن الأحداث فرضت عليه أن يختار المكان كما سنرى.

تعج رواية “باب الليل” بشخصيات كما هو متوقع مختلفة التوجهات والمشارب، لكنها ليست شخصيات نمطية بقدر ما تعكس ما كانت عليه تونس طوال العقود الأخيرة بعد أن انتقل إليها مقر جامعة الدول العربية بعد اتفاقية كامب ديفيد، وبعد أن تحولت إلى مقر لمنظمة التحرير الفلسطينية بعد طردها من لبنان خلال الاجتياح الإسرائيلي لبيروت عام 1982.

من تلك الشخصيات هناك “أبو جميل” الدبلوماسي اللبناني الثري الذي يعكس نمط التفكير في المجتمع اللبناني فهو يعيش في المقهى على أمل إن تتبدل الأحوال في بلاده وتعلو طائفته كرسي الحكم فيصدر قرار بتعيينه سفيرا في بلد ما ليعيش أحلامه، والى أن تحين تلك اللحظة فهو يتأهب لها بحياة مماثلة وإن كانت أقل فخامة مما يحلم.


وهناك المناضل الذي بقي بعد أن فات زمن النضال أنه “أبو شندي” رمز ما خلفته نضالات الفلسطينيين بعد اتفاقيات اوسلو، لأن من وقعوها قبلوا بشروط ما توقعها عدد كبير من بقايا زمن النضال الفلسطيني، هؤلاء الممنوعون من العودة إلى وطنهم الذي ناضلوا من أجل العودة إليه، إسرائيل أمرت ووثائق اوسلو تضمنت تلك الأوامر، فأصبح المقهى اجترار لزمن فات، “يجلس في المقهى بملامح مكتفية بدون وظيفة ولا عمل ولا نقود تحسب سوى المنحة التي تأتيه من هناك” وحتى طاولته التي يجلس عليها ليست له دائما، يذهب إلى المقهى وحين يجدها مشغولة يجلس بالقرب منها حتى تخلو أو يخرج على أمل العودة ولا يعود تماما كما لم يعد مع العائدين إلى رام الله.


في هذا الإطار لا بد من وجود شخصيات نقية، أو تبدو نقية أو تبدأ نقية ليجبرها الواقع على مغادرة البراءة، تماما مثل “نعيمة” التي احترفت خدمة الزبائن مهنة شريفة لتوفر لنفسها ما تعيش منه بالحلال، ولإعالة شقيقتها التي تدرس وتكفلها حتى تقيها شر عمل مماثل لما تعمل، بعد أن إرهاقها العمل وتاقت إلى الراحة، وجدت ضالتها في إيطالي يمنيها بالزواج في بلاده فتقبله، ولكن سرعان ما تنقلب الأمور فينتهي بها الحال إلى أن يهرب بشقيقتها إلى بلاده، ومع ذلك ورغم كل شيء تغفر لها فهي شقيقتها. وشخصيات كثيرة بعضها نموذج ممتاز لمناضلي المقاهي الكبار، إن لم يجد مناسبة يخترعها، يهبط على أي ندوة أو مناسبة، ينتهز الفرصة ويقبض كثعلب شبعان على الميكرفون ويشبع النضال نضالاً”، وهناك شخصيات أخرى متلونة على استعداد لتغيير الهوية وحتى الدين، ربما بحثا عن مكسب أو لمجرد لفت الأنظار.

كل هذا يجري تحت نظرها “صاحبة المقهى، مولاته، درة، درة الدرر” تجلس على مقعدها عند طاولتها القابعة في نهاية المقهى، في الزاوية الطويلة منه بحيث تستطيع من مقعدها أمام الجدار أن ترى المقهى كاملا بألعابه ومريديه”.

لكن سيدة المقهى لها أحلامها واحباطاتها أيضا مثل كل البنات المارات بمقهاها، في نهاية “باب الليل” تدخل الحمام أيضا، لكنها “تنسى لماذا جاءت. تقع عيناها على صور السيد الرئيس في مكانها من الحمّام… تركلها بقدمها، تسقط مبعثرة على أرضية الحمّام، تحملها بأطراف أصابعها إلى سلة القمامة”.

الرواية تبدأ بأبواب حمّام المقهى وتنتهي في الحمّام ذاته، نهاية الرواية “رؤية” لشيء كان من المنتظر أن يحدث، وقد حدث، إنها رواية قرأت الواقع وانتهت برؤية ما سوف يحدث وقد حدث، وربما كانت نبوءتها شيء كامن في تركيبة عالمها الذي ابتدعه وحيد الطويلة

اللافت في هذه الرواية كما في روايته السابقة “أحمر خفيف” أن الكاتب وحيد الطويلة يتميز بين أبناء جيله في الاستخدام اللغوي الخاص جدا، والذي لم أعثر عليه أنا شخصياً سوى في أعمال الروائي محمد ناجي وبشكل خاص “خافية قمر” و”مقامات عربية”، الروائي وحيد الطويلة لا يحكي في “باب الليل”: حكايات كما في معظم ما نطالعه مؤخراً في روايات عربية كثيرة، بل يصف المشهد بلغة ناعمة أحيانا أو حادة في أحيان أخرى، قد تسرع أو تبطئ حسب دواعي المشهد.


"باب الليل" أعادت الناس للقراءة.. واستبعدها عبدالله إبراهيم من "البوكر"
وحيد الطويلة: كنت سعيداً بتزوير روايتي!


القاهرة ـ خاص
لاقت رواية وحيد الطويلة "باب الليل" احتفاء نقدياً ضخماً، حيث كُتب عنها عدد كبير من الدراسات النقدية، واحتفت بها الصحافة الثقافية في العالم العربي. الكاتب الكبير يتحدث في هذا التقرير حول رؤيته لهذا الاحتفاء، ويكشف عن استبعادها من جائزة "البوكر العربية"، فماذا قال؟

أنا لا أحب الحديث عن روايتي، ولا أريد الحديث عن الفن، بقدر محبتي للحديث عن الحياة.

"باب الليل" أعادت الناس للقراءة، ولا أعلم على وجه التحديد الظروف والملابسات التي جعلت تلك الرواية تلقى هذا الاحتفاء، وربما أقولها بغير تواضع: أن هذا الاحتفاء لم يحدث منذ عشر سنوات، وسأستعين بجملة صديق على شاكلة البرامج التلفزيونية وهي الجملة التي أضعها على رأسي وأمتن لها، أن "باب الليل" أعادت الناس للقراءة مرة أخرى. هل أنا خجل في الاستفاضة؟ ربما ولكنني سعيد.

الرواية طرحت أسئلتها لتأويلات كثيرة. كاتبة مغربية أرسلت منذ أسبوع رسالة إليَّ قالت فيها "ربما تتشابه أفكار الروايات المطروحة، أو طريقة المعالجة، لكنني سعيدة جداً باختلاف تلك الرواية. لقد طرحت سؤالاً مهماً حول مآل الثورة خاصة الفلسطينية". فيروز تميمي كاتبة فلسطينية تعيش في السويد قالت في رسالة أخرى: "أحيي مغامرتك وشجاعتك على أن تكتب عن الفلسطينيين بخصوصيتهم وأنت لست فلسطينياً"، لكنني رددت عليها بأننا جميعاً فلسطينيون بدرجة ما.

ربما لأنها دخلت في منطقة أو أرض جديدة لم يكتب عنها أحد بهذه الكثافة، أو بهذا العمق. دعني من هذه الألفاظ التمجيدية، لأقول بكل العشق: ليست هناك عوامل خارجية، لهذا أنا أسأل نفسي في أيام كثيرة عن السر الذي دفع بـ"باب الليل" أن تنتشر هذا الانتشار السريع وأن يتم تزويرها، وأنا أشتري نسخاً مزورة أهديها للأصدقاء، أكتب عليها أحياناً: "نسخة مزورة ولكنني أتمنى أن تكون الكتابة حقيقية". نعم كنت سعيداً، رغم كل المحاذير، بتزوير روايتي مع رواية الزميلة اليف شافاق "قواعد العشق الأربعون" والتي باعت كثيراً بسبب هذا العنوان الموحي.
على أي حال لعلك تشاركني وتكون سعيداً مثلي أن الرواية رغم أنها لم تحصل على جائزة وتم استبعادها من "البوكر" على يد عبدالله إبراهيم، إلا أنها انتشرت سريعاً في العالم العربي، وتمت قراءتها بشكل جيد جداً، وأظن أنها ستطرح أرضاً أخرى للقراءة. السر الوحيد الذي أستطيع أن أفشيه أمامك هو أنني رجل "مُرزق"، وهكذا أظن أنها رزق أولاً وأخيراً.




 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق