تصويرا لعالم الرذيلة أخرجت
السينما الأمريكية عام1981 شريطا يحمل هذا العنوان
BackRoads,
وهو الاسم الذي استهدي به الدكتور عبد الوهاب بكر في اختياره لعنوان عمله
العلمي الصادر مؤخرا.. مجتمع القاهرة السري-1900-1951.
السبب في اختيارنا لهذا الموضوع أنه قد فرض نفسه مرتين علي قراء الأهرام خلال
العشرينات.. مرة في سلسلة من المقالات نشرتها الجريدة عام1923 تحت عنوان
مذابح الأعراض, ومرة أخري عندما عاودت النشر عنه بعد ثلاث سنوات(1926) وإن
كان تحت عنوان مختلف.. البغاء الرسمي في مصر, وفي كلتا المرتين كان وراء
الحملة شخصية معروفة هو الشيخ محمود أبو العيون.
وكان ديوان الحياة المعاصرة قد قدم في إحدي حلقاته هذا الشيخ الثائر, بعد أن
نشرت له الأهرام في مستهل عام1922 سبعة عشر مقالا تحت عنوان الصحيفة
السوداء, عقد فيها مقارنة بين ما كانت عليه أحوال البلاد قبل عام1882, وما
أصبحت عليه بعد ذلك ليخلص إلي نتيجة مفادها أن تلك الأحوال سارت إلي الأسوأ,
وليس إلي الأحسن, كما ادعي الكتاب الإنجليز.
دفع الرجل ثمن مواقفه الوطنية خلال تلك الفترة بأن تعرض للاعتقال أكثر من مرة
كان آخرها في رفح حيث كاد أن يفقد نور عينيه خلالها ليصبح اسما علي غير
مسمي(!), وعندما استكتبه الإنجليز تعهدا بعدم الاشتراك في المظاهرات أو
التحريض علي الثورة, وأفرجوا عنه في أواخر نفس السنة-1922- تصور الكثيرون
أن صفحة الأزهري المتمرد قد طويت, وأنه قد تم استئناسه, وهو ما لم يكن
صحيحا, فقد قرر الشيخ أبو العيون أن ينصرف إلي قضايا الإصلاح الاجتماعي,
واختار منها قضية مكافحة البغاء, الأمر الذي يدعونا إلي إلقاء نظرة علي
تاريخ تلك المهنة السيئة السمعة في مصر.
يعلم المتابعون للأعمال التاريخية أنه قد صدر مؤخرا كتابان تناولا هذه المهنة بالدراسة..
أولهما لباحث مخضرم هو الأستاذ الدكتور عبد الوهاب بكر في عمله السابق الإشارة
إليه, وثانيهما لباحث واعد هو عماد هلال والذي اختار لمؤلفه عنوانا هو
البغايا في مصر- دراسة تاريخية اجتماعية من1834-1949, وقد حفل الكتابان
بمعلومات وفيرة عن تاريخ هذه الحرفة في مصر المحروسة!
من هذه المعلومات أن لتلك المهنة البغيضة جذورا تاريخية في البلاد, ومنها
دراسة لطبيعة القطاعات الاجتماعية التي مارستها; الغوازي: اللاتي كن
ينتمين بالأساس للقبائل الغجرية, والجواري: السود اللاتي كان الغوازي
يتاجرن بأعراضهن, الأجنبيات: خاصة مع تزايد أعداد الأوربيين في المدن
المصرية الكبيرة بعد الاحتلال البريطاني للبلاد, وكان أغلبهن من الإيطاليات
واليونانيات( الروميات) والفرنسيات, ويبدو أنه كان للأوليات النصيب
الأوفر, الأمر الذي يظهر في أن أغلب الاصطلاحات التي استخدمت في المهنة جاءت
من أصل إيطالي, هذه ملاحظة, أما الملاحظة الثانية فتشير إلي أن اللاتي كن
ينتمين منهن إلي دول تتمتع بالامتيازات الأجنبية استخدمنها للخروج عن كل
اللوائح والقوانين التي كانت قد وضعتها الحكومة المصرية لممارسة البغاء,
والملاحظة الأخيرة أن هؤلاء قد انقسمن إلي درجتين.. عاهرة درجة أولي وهي
التي ترتدي زيا نظيفا وقبعة علي الموضة وحذاء شيك وتنزل في بنسيون أو عند
زميلة لها, وعاهرة درجة ثانية وهي التي تنزل في كرخانة من البيوت المعدة
رسميا للبغاء!
منها ثالثا أنه قد بدئ في تنظيم البغاء في أعقاب الاحتلال البريطاني للبلاد
عام1882 عندما أصدرت نظارة الداخلية منشورا عاما يضم تسع مواد تنظم علاقة
البغايا بالسلطات, تبعته بعد ثلاث سنوات بإصدار لائحة تنظم العمل في بيوت
العاهرات, لتستكمله في عام1896 بقانون شامل تناول كل صغيرة وكبيرة تخص الدعارة.
غير أن لائحة عام1905 كانت الأكثر شمولا والأطول عمرا أيضا إذ استمر العمل
بها حتي إلغاء البغاء الرسمي عام1949, فقد حددت بيوت العاهرات بأنها كل محل
تجتمع فيه امرأتان أو أكثر من متعاطيات عادة فعل الفحشاء, كما خصصت مناطق
معينة لفتح بيوت العاهرات يعينها المحافظ أو المدير ولا يكون لكل منها سوي باب
واحد, وألا يقل عمر العاملات في تلك البيوت عن الثامنة عشرة, وأن يتم
الكشف الطبي عليهن مرة كل أسبوع بمكتب الكشف الذي كان يقع في القاهرة بالحوض
المرصود.
كل هذا فيما يخص البغاء الرسمي أو العلني, غير أنه كان إلي جانبه البيوت
السرية والفنادق والغرف المفروشة التي تدار لارتكاب الفاحشة تحت ستار أنها
مجرد فنادق أو غرف مفروشة أو بيوت عادية, وهو ما حاولت السلطات أن تمد
إشرافها عليها, ولكن دون جدوي, فقد كان معني ذلك أن تفقد صفتها
الأساسية, وهي أنها سرية!
وبامتداد أربعين عاما بين الاحتلال البريطاني لمصر حين تم تقنين البغاء لأول
مرة مما أضفي عليه الشرعية, وبين استقلال البلاد بعد صدور تصريح28 فبراير
عام1922, لم يحدث أن عرفت هذه المهنة إدانة واضحة من جانب العاملين في
الحركة الوطنية.. أقصي ما عثر عليه الباحثون في هذا الميدان ما جاء في سياق
مقال كتبه الأستاذ عبد الله النديم في مجلة الأستاذ في إبريل عام1893 تحت
عنوان العدوي الأوربية للبلاد الشرقية والذي طالب فيه بإبعاد المومسات والبيوت
السرية عن مساكن الأحرار, والترجمة التي قام بها الأستاذ داود بركات رئيس
تحرير الأهرام عام1907 لكتاب ألفه طبيب يوناني عاش في مصر وتخصص في الأمراض
التناسلية اسمه بورتفاليس بك عن البغاء أو خطر العهارة في القطر المصري!
ويبدو أن الصحافة الوطنية, علي رأسها جريدة اللواء, قد انصرفت خلال تلك
الفترة للشأن السياسي الذي اكتسب أولوية مطلقة عما دونه من الشئون, ثم أنها
تعاملت مع البغاء علي أنه أمر واقع, وكانت لا تتصدي له إلا حين تحصر الكوارث
الاجتماعية التي نزلت بمصر في ظل الاحتلال, وهو الوضع الذي استمر, خاصة مع
الأحداث الجسام التي عرفتها مصر خلال الحرب العالمية الأولي وإعلان الحماية
البريطانية عليها أواخر عام1914, وما تبع ذلك من تدفق قوات الإمبراطورية علي
القطر, هذا من جانب, ومن جانب آخر الرقابة الصارمة التي فرضتها السلطات
العسكرية علي الصحافة بكل ما ترتب عليهامن عدم اقتراب الصحفيين من هذا
الموضوع, حتي لو رغبوا في ذلك.
بقي الحال علي ما هو عليه بعد قيام ثورة1919 وانشغال جموع المصريين بهذا
الحدث الجلل حتي أن الشخصية المحورية في هذه الحلقة من الديوان, الشيخ محمود
أبو العيون, قد انخرط أبانها في التيار العام للحركة الوطنية, وكان من
أبرز خطباء الثورة, ثم أنه كان من أشد الداعين إلي مقاطعة لجنة ملنر, حتي
جاء عام1922 بكل ما له وما عليه, وكان من الطبيعي أن تحتل قضايا الإصلاح
الاجتماعي مكان الذيل في قائمة اهتمامات المصريين خلال تلك الحقبة.
***
ما حدث في مطلع ذلك العام من صدور تصريح28 فبراير وحصول البلاد بمقتضاه علي
نوع من الاستقلال الاسمي, مما أدي إلي درجة من خمول العمل الثوري وليس
خموده, وما حدث قرب آخره من تجسيد الانشقاق عن الوفد بتشكيل حزب الأحرار
الدستوريين, وما استتبع ذلك من خيبة أمل أمسكت بتلابيب عديدا من الوطنيين في
مقدمتهم الشيخ أبو العيون.. كل ذلك أدي إلي أن يصرف قطاع من هؤلاء اهتماماته
إلي القضايا الاجتماعية.
علي جانب آخر فقد شهد نفس العام تفجر قضية من أشهر قضايا البغاء, لرجل اسمه
إبراهيم الغربي, والذي أسماه رسل باشا
Russell
حكمدار بوليس القاهرة بملك الرذيلة, ظلت الأهرام تسوق تفاصيلها في تحقيقات
تحت عنوان الرقيق الأبيض!
ساق لنا الدكتور عبد الوهاب بكر معلومات كافية عن هذا الرجل الذي دخل التاريخ
من أسوأ أبوابه.. جاء الغربي من كروسكو التابعة لمركز الدر بمديرية أسوان,
وقد انحدر من أسرة أصيلة في الأعمال المحرمة إذ كان أبوه تاجرا للرقيق(!),
ولأن الولد سر أبيه فقد بدأ إبراهيم نشاطه عام1896 حين امتلك منزلا كبيرا
لتشغيل المومسات, وهو النشاط الذي اتسع كثيرا حتي أنه كان يدير عام1912
أكثر من15 منزلا يعمل فيها أكثر من150 من العاهرات.
في عام1916 ونتيجة لما سببته الحرب من رواج تجارة الغربي اعتقلته السلطات,
ونفي إلي بلدته, وهو الاعتقال الذي لم يزد عن عام واحد, عاد بعدها إلي
المحروسة يمارس عمله بكفاءة منقطعة النظير, حين أوقعت به إحدي الفتيات
القاصرات عام1922, بعد أن تبينت السلطات من اعترافاتها أن أكثر من400 فتاة
تم بيعهن في أسواق الرقيق الأبيض, وأنه قد نجح في إغراء بعض رجال البوليس
لغض الطرف عن نشاطاته, منهم عدد من كبار الضباط الإنجليز المسئولين عن نظام
العاهرات, أو ما أصبح يسمي بعد ذلك ببوليس الآداب.
وقد أدي كشف حجم الفساد والرذيلة في تلك القضية التي استغرق التحقيق فيها وقتا
غير قصير, إلي أن يحزم الشيخ أبو العيون أمره ويقرر أن يخوض المعركة,
واختار لذلك جريدة الأهرام التي نشر فيها في شتاء عام1923 سلسلة من المقالات
تحت عنوان مذابح الأعراض!
قدم الباحث عماد هلال حصرا لتلك المقالات.. الأولي كانت بتاريخ20 نوفمبر
وقد هاجم فيها الحكومة وحملها مسئولية انتعاش سوق الفجور التي تقام وتنفض علي
مرأي ومسمع من رجالها, وأدان في الثانية ما عمدت إليه السلطات من محاولات
التعتيم علي قضية الغربي, وهو تعتيم نتج في جانب منه عن تورط رجال الإدارة
مع زعيم البغاء, وفي جانب آخر من الحجم الهائل الذي تبينه المحققون من نشاط
الرجل, والذي كان يحمل ضمنا إدانة للحكومة التي تركت له الحبل علي الغارب
حتي تمكن من إقامة تلك الإمبراطورية التي كانت تنخر في عظام الأمة المصرية!
في مقال آخر اتهم شيخنا السلطات صراحة بالتواطؤ, حين خاطبها بقوله: إذا
كنت تجهلين تلك الجرائم فاسألي رئيس الشرطة الذي يعرف تلك المواخير بيتا
بيتا, وذكر بتجاهل المسئولين للشكاوي العديدة من الأهالي الذين أوقعهم حظهم
العاثر بالسكني جوار تلك البيوت المشبوهة.
ونتبين من الأهرام أن أبو العيون قد نجح في تحريك قطاع هام من الرأي العام..
فهذا قارئ آثر وصف نفسه بالشيخ الهرم يتقدم بشهادة عن إمبراطورية الغربي وأنه
كان من بين الشهود علي ما يجري فيها ويطالبه بالاستمرار في الكتابة, وهذا
آخر يطالب بتوقيع الكشف الطبي ليس علي العاهرات فحسب وإنما علي الرجال الذين
يترددون عليهن, ومع أن الشيخ عدو الرذيلة قد تحمس للفكرة, غير أنه لم يبين
كيفية تحقيق ذلك(!), وهذا ثالث يبدي دهشته مما تردد عن أن الحكومة تجهل
أماكن بيوت البغاء السرية, وأنه قد قام برفقة عدد من أصدقائه بجولة في بعض
أحياء القاهرة اكتشفوا خلالها عددا كبيرا من تلك البيوت, وأبدي استعداده أن
يقدم عناوينها والشوارع, بل والحارات, التي توجد فيها!
ويؤكد عماد هلال أن تلك المقالات قد أثرت علي جهات التحقيق في قضية الغربي حتي
أن النائب العام قد اضطر إلي التصريح بأنه سوف ينشر تقريرا مفصلا عن تلك
القضية قبل نهاية شهر ديسمبر من ذلك العام-1923-, غير أن ما عرفته تلك
الأسابيع من إجراء أول انتخابات ديموقراطية ومن قيام برلمان عام1924, قد صرف
أنظار المهتمين عن القضية التي تبناها الشيخ.. صحيح أنه قد حاول أن يستثمر
هذا الجو عندما أرسل برقيات إلي رئيسي مجلسي النواب والشيوخ طالب فيها بإلغاء
البغاء الرسمي, ولكن لا حياة لمن تنادي فقد شغلت القضايا السياسية, خاصة
ما اتصل منها بالجلاء والأوضاع في السودان التي اشتعلت في صيف ذلك العام..
شغلت النواب والشيوخ عن برقيات أبو العيون, التي وجدت طريقها إلي
المحفوظات.. لا أكثر, الأمر الذي دفع الرجل إلي أن يعيب علي النواب
والشيوخ قعودهم عن واجبهم, وتغاضيهم عن مسألة اجتماعية خطيرة كمسألة
الدعارة.
وكان علي المحارب من أجل إلغاء البغاء الانتظار إلي حين سنوح الفرصة مرة
أخري, وهو ما حدث بعد نحو عامين.. في إبريل عام1926 علي وجه التحديد.
***
المناسبة كان ما تردد وقتئذ عن أن وزارة الداخلية بصدد تعديل لائحة
العاهرات, وأنها حصلت في سبيل ذلك علي مذكرات تتضمن آراء المحافظين
والمديرين, وتقرير من حكمدار بوليس القاهرة أوصي فيه بمطاردة الذهبيات
والتفتيش علي البيوت السرية.. وكان الشيخ أبو العيون سعيدا عندما طالع في
جريدة المقطم أن قسم اللوائح والرخص قد رأي أنه لا يوجد مسوغ لبقاء البغاء
الرسمي بالقطر, وأشار بإلغاء اللائحة المطلوب تعديلها من أساسها واتخاذ
النظم والاحتياطات التي ألغت البغاء الرسمي للمحافظة علي الأمن والآداب والصحة
كدولة بريطانيا العظمي والولايات المتحدة الأميركية والنرويج وغيرها.
وزادت أسباب سعادته عندما ساق هذا القسم ذرائعه لطلب الإلغاء.. منها: ما
توفر لديه من تقارير تشير إلي قعود الحكومة عن مكافحة الأمراض التناسلية بسبب
عدم وجود مستشفيات خاصة بها, ولقلة الأطباء الأخصائيين بهذه الأمراض,
ومنها أن دين الدولة الرسمي هو الإسلام الذي يحرم الاعتراف بالبغاء وبالتالي
التشريع لتنظيمه.
وبدا أن الظروف مناسبة لشن الشيخ أبو العيون لحملته الثانية في مكافحة
البغاء, فقد ظلت الأهرام تنشر مقالاته لنحو سبعة شهور, تحولت خلالها من
مجرد دعوة إصلاحية إلي معركة تعددت أطرافها مما يشكل صفحة مجهولة في التاريخ
المصري..
وبمقارنة حملة1923 بحملة1926 نلاحظ أنه بينما غلب علي مقالات مذابح
الأعراض طابع الخطابة فقد اتصفت الثانية بقدر كبير من العقلانية نلاحظها في
الحجج المقنعة التي ساقها في المقال المنشور يوم27 إبريل تحت عنوان الزنا
الرسمي- بماذا نعلل موقف الحكومة؟.
قدم أبو العيون أربع حجج تدفع السلطات إلي إلغاء الدعارة الرسمية; الأولي:
تتصل بدلالة ما جاء في الدستور من أن الإسلام دين الدولة الرسمي, وإن ذلك لم
يأت عبثا بل للعمل به.. نعم نعم, إن الإسلام يحرم الزنا وتشريعه
وتنظيمه, ويأمر بجلد الزاني والزانية ورجمهما.. إنه ليس والله أقبح ولا
أشنع ولا أذري بمهابة حكومة, وحكومة إسلامية, أن تشرع الزنا وتنظمه.
تذرع في الحجة الثانية بما جاء في المبحث الخاص لقسم اللوائح والرخص بأنه من
المتعذر تنفيذ قوانين وأنظمة البغاء, ونوه في ذلك بكتاب كان قد أصدره
عام1924 طبيب أمراض تناسلية اسمه فخري ميخائيل فرج تحت عنوان:تقرير عن
انتشار البغاء والأمراض التناسلية بالقطر المصري وبعض الطرق الممكن إتباعها
لمحاربته, واقتبس منه قوله: نعم إن الفوضي الأدبية والأمراض التناسلية
سيزيد معدل انتشارهما لزمن وجيز, ولكن بمجهودات الهيئات المختلفة يمكن تحسين
الحالة بسرعة, وبعدئذ ننتفع بوجود نظام المنع!
رد في حجته الثالثة علي ما كان يتقول به البعض من أن الامتيازات الأجنبية,
التي تمنح حرية العمل للمنتفعين بها بما فيها الدعارة, تقف حجر عثرة في سبيل
العمل علي إلغائها, مؤكدا أن لائحة عام1905 لا تكسب الأجانب أي حق من
الامتيازات.. والإدارة كما ملكت المنح تملك المنع, وليس لأي ممثل سياسي
مهما كانت رتبته أن يرخص للرعايا التابعين له بدعوي حق مكتسب.
أما حجته الأخيرة فقد سعي من خلالها إلي إقناع القارئ بأنه لا فائدة من
الإشراف الصحي علي العاهرات مهما بلغ من دقته, واستشهد في هذا بأحد الأطباء
الأوربيين المشهورين الذي تولي عملية الكشف علي هذا النوع من النساء في مدينة
لاهاي في هولندا, وبلغ الأمر من تشدده أنه كان لا يمشي في الشارع إلا ومعه
رجل شرطة لحمايته من هؤلاء, غير أنه يعترف أن عديدا من المريضات بينهن قد
نجحن في إخفاء علامات المرض, وخلص من ذلك إلي القول أن الحكومات باعترافها
بالبغاء رسميا تكون قد حرضت عددا من الرجال علي الزنا وأوردتهم موارد
التهلكة!
وكما حدث في الحملة السابقة فقد تحمس قراء عديدون في تأييد الشيخ أبو
العيون, وهو الحماس الذي ظهر في أن عددا من المجالس المحلية قد اتخذت
القرارات بإلغاء نقط البغاء في بنادرها كان منها بلبيس ودسوق والسنبلاوين في
الوجه البحري وطهطا وملوي في الوجه القبلي.
أكثر من ذلك فقد نجح الشيخ أبو العيون في استقطاب تأييد عدد من الوزراء الذين
كتبوا إليه بما يفيد ذلك.. عبد الخالق ثروت باشا وزير الخارجية رأي أن ترخيص
البغاء في بلاد شرقية إسلامية كمصر لا يتفق وطبيعتها, ومن الخطأ أن يعتقد
أناس منا أن رقابة الكشافين للباغيات مقلل لذيوع الأمراض السرية, واتفق مع
هذا ذكي أبو السعود باشا وزير الحقانية الذي رأي أنه ليس من مبرر لبقاء البغاء
من أية وجهة.. الدينية: فليس من دين يحلل الزنا ويبيحه, الأدبية: هو
تسهيل للزنا وتشجيع علي ارتكاب الفاحشة مع أنه منكر وصفته الحظر والتحريم,
وأخيرا الصحية: ليس هناك ضمان كافي بأن تشريعات البغاء قادرة علي منع انتشار
الأمراض!
غير أن الشيخ أبو العيون لم يهنأ طويلا بهذا النجاح إذ نشرت الأهرام يوم4
سبتمبر عام1926 مقالا آثر صاحبه ألا يوقع باسمه كاملا.. منير. أ أخذ في
مستهله علي صاحب الحملة محاولته انتزاع تأييد الوزراء له ورأي في ذلك إحراجا
لمقاماتهم, وتبع ذلك بأن وصف الطريقة التي يتبعها الشيخ أبو العيون بأنها
سلبية محضة فهل فكر وقتا فيما ينتج عن إلغاء البغاء الرسمي, وهل رأي بعد
التفكير أن ذلك الإلغاء وسيلة لانتشار الفضيلة؟ لا أظن ذلك ياسيدي بل أخشي أن
يكون ذلك سببا في خروجه من يد الحكومة ومراقبتها وانتشاره بشكل هائل في كل
مكان وكل حي, ثم تساءل عن مصير ثلاثة آلاف بغي موجودات بالعاصمة لن يتسني
لهن الرجوع إلي أسرهن, وأنه لن يكون أمامهن سوي اللجوء إلي العيش في بيوت
بعض من عرفن أثناء ممارستهن للرذيلة, بكل ما يترتب عليه من انتشار العدوي,
وشبه ذلك بالطبيب الذي يبتر الساق بسبب ظهور بعض الطفح عليه!
المفاجأة الثانية أن وزارة الداخلية لم توافق علي قرارات المجالس المحلية
بإلغاء نقاط البغاء, لما سيترتب عليه من عدم تطبيق لائحة البغاء ولا يجوز
للبوليس في هذه الحالة أن يتخذ إجراءات قانونية ضد العاهرات اللائي قد يسكن
بجوار منازل الأحرار ويفتحن بيوتا للدعارة, ويلزم مع ذلك أن يكون البحث
دقيقا لكي لا تكون النتائج مضادة لأغراض المصلحين.
المفاجأة الثالثة أن جريدة كبيرة مثل السياسة الناطقة بلسان الأحرار
الدستوريين قد أخذت علي الشيخ أبو العيون أنه حشر نفسه فيما ليس هو أهلا له,
ورأت أن البغاء شر لا بد منه, وأن كل ما يمكن عمله لمقاومته هو حصر ضرره في
دائرة معينة, والتفكير في خلق عوامل اجتماعية جديدة تحل محل الوسائل المادية
التي وضعها الدين لمقاومة أسباب البغاء, كتقوية الجانب الأدبي في نفوس
النشء, وتوجيه قواه المعنوية والمادية إلي العمل الشريف الذي يلهيه عن كثير
مما في الحياة من أسباب الفساد.
دفع ذلك الأهرام إلي أن تكلف واحدا من أهم محرريها, هو الأستاذ محمود أبو
الفتح, لتدبير مقابلة صحفية مع القيسي باشا مدير الأمن العام للتعرف علي
وجهة نظر الحكومة فيما دعا إليه الشيخ أبو العيون.. وقد سلم الرجل بأن وجود
البغاء في بلد يقول دستورها أن دين الدولة الإسلام أمر غير مرض ولا يغتبط به
أحد, غير أن الواجب يتطلب تبين موضع القدم بأن ننظر في العواقب التي تلي
الإلغاء علي حد قوله.
واستشهد في ذلك بالنتيجة المحزنة المؤلمة التي حدثت في شبين الكوم بسبب إلغاء
نقطة البغاء بها عام1908, وما ترتب علي ذلك من زيادة عدد الإصابات بالأمراض
التناسلية مما دفع الأهالي أنفسهم إلي المكالبة بعودة التصريح بإعادة هذه
النقطة, وأن تلك التجربة هي التي دفعت إدارة الأمن العام إلي عدم قبول طلب
إلغاء نقطة بنها عنها عام1925, مما تكرر بالنسبة لطلبي إلغاء نقطتي ميت غمر
وملوي في العام التالي, غير أنه كعادة المسئولين في هذه المناسبات وعد
القيسي باشا بإعادة النظر في القضية بعد تمحيصها بقدر كاف.
ولم يكن الشيخ أبو العيون في حاجة إلي ذكاء كبير ليدرك أن حملته الثانية قد
دخلت إلي ذمة التاريخ ولحقت بشقيقتها, وكان عليه أن ينتظر لأكثر من عشرين
عاما حتي يتحقق أمله(1949), ليودع بعده بعامين الدنيا بأخيارها وأشرارها!
|
|